ينشر باب علامات حواراً أجراه الناقد السوري بدر الدين عردوكي مع الشاعر السوداني محمد الفيتوري سنة 1970، ونشر في مجلة الطليعة السورية. وفيه إضاءات دالة على سيرة الشاعر الشاب، وتحولاته اللغوية والشعرية، إضافة لتأثيرات منعطفات الواقع الحياتي والسياسي والروحي على مواقفه الأدبية والأخلاقية وقوله الشعري.

محمد الفيتوري: الدرويش .. الحاج .. المتظاهر .. الشاعر

أجرى الحوار بدرالدين عرودكي

 

محمد الفيتوري؟

هل يمكن أن يكون حقاً ذلك "الدرويش المتجول" في طرقات وشوارع بيروت، يحدث الناس عما كُشف له من أسرار:

"في حضرة من أهوى

عبثت بي الأشواق

حدّقت بلا وجه

ورقصت بلا ساق

وزحمتُ براياتي

وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي

وفنائي استغراق

مملوكك.. لكني

سلطان العشاق!"؟

أم هو ذلك "الحاج" الذي يطوف الكعبة مردِّداً:

"الحمد لك

والشكر لك

والملك لك

يا واهب النعمة يا مليك كل من ملك

لبيك لا شيريك لك

لبيك لا شريك لك"؟

أم تراه ذلك المتظاهر المفعم حماسة، يعلو صوته فوق كل الأصوات، آمِراً، متوعِّداً:

"ليبق كل بطل مكانه

ولتصعق الخيانة

ولتخرس الرجعية الجبانة

فالشعب سوف يغسل الإهانة"؟

وإذا كان الفيتوري كل هؤلاء، أو واحداً من هؤلاء، فهل تراه يكون القائل:

"لماذا مشى قاتلاً ثم عاد قتيلا..

يداه على موضع الجرح، عاد

كأن قد تذكر شيئاً، فعاد

وفي قلبه السيف والجرح

إني أحبك..

جرحي أني أحبك..

لكن قلبك لا يعرف الحب..

قلب صنوبرة.. سلحفاة"؟

* * * *

السؤال، في الحقيقة، يروم البحث عن شخصية الشاعر بين هؤلاء جميعاً، ومن ثم البحث في أي واحد من هؤلاء يشكل الامتداد الطبيعي لشخصية الفيتوري الشاعر في أوائل الخمسينيات؟

لنعد قليلاً مع الفيتوري إلى ما قبل الخمسينيات:

"كنت واحداً من المقلدين، شأن أي شاعر في بداية حياته الشعرية، أقلد كبار الشعراء في الجاهلية وفي الإسلام: زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وطرفة بن العبد وأبو الطيب المتنبي والشريف الرضي ومهيار الديلمي، وأمامي نماذجهم الشعرية الرفيعة التي صمدت لتقلبات الزمان.

وكان شعري في مرحلة التقليد هذه، يسير على هديهم، لا في الصياغة فحسب، وإنما في الموسيقى بل وفي الموضوع أيضاً. ولقد استمرت هذه المرحلة فترة من الوقت كتبتُ أثناءها العديد من القصائد على هذا المنوال".

نحن مع الفيتوري في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كان غارقاً حتى أذنيه في المطولات الشعرية العربية الشهيرة، يبحث فيها عن الأداة ويستعير منها الموضوع ويمشي على ذات الإيقاع الذي سار عليه أصحابها.

وحين يستعيد هو تلك السنوات، لا يستطيع أن يحدد بالضبط ما الذي دفعه للبحث عن ذاته، عن الشاعر في أعماقه. أهو تطوره النفسي والفكري؟ أم أن ثمة أسباباً أخرى تتصل بظروفه الخاصة حدت به لكسر الجدران التي أقامها بنفسه من حوله، وكان قوامها الشعر العربي الكلاسيكي؟

لاشك أن للتطور النفسي والفكري أكبر التأثير على دفع الفيتوري الشاب للبحث عن ذاته الشاعرة. بيد أن علينا أن نذكر ههنا أن ظرفاً سياسياً كان ينسج من طرف خفي تكوين الفيتوري الشاعر الذي سيبرز فيما بعد أكثر وضوحاً وجلاء، وأعني به لون جلدته.

الفيتوري سوداني. ولد في مرحلة تاريخية كان الاستعمار البريطاني فيها ما يزال يجثم في أرض السودان. ولم يكن القهر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أحد الممارسات اليومية لجنود الاحتلال في الأراضيالتي يحتلها فحسب، وإنما كان إلى جانب ذلك كله، وعلى الأخص في أفريقيا، يمارس قهراً عنصرياً ما تزال آثاره قائمة حتى اليوم في بقعتين من القارة الأفريقية. إنها سلطة الرجل الأبيض على الرجل الأسود. وبأي حق؟ كانت الحجة دوماً، وابتداء من القرون الوسطى، حجة تدعى حقاً إلهياً ورثته من عجرفة اليهود القديمة: شعب الله المختار. كان هذا الشعب يهودياً، ثم غدا صاحب الدماء الزرقاء.

هل كان الفيتوري يواجه هذا القهر بكل عجرفته وعنفوانه وجبروته؟

يبدو أن نعم. وتشهد على ذلك دوواينه الأفريقية.

لكن هذا الظرف الخاص لم يكن كل"الظروف الخاصة" التي اندفع الفيتوري بسببها يبحث عن ذاته الشاعرة.

ومهما يكن من أمر هذه الظروف فقد وجد الفيتوري نفسه وقد وضع يده على مفتاح شخصيته التي تبلورت فيما بعد في القصائد الأفريقية. "لقد كان ذلك ـ سيقول ـ هو الخلاص الوحيد لي من مرحلة التقليد. ومن ثم اهتديت إلى قصيدتي الأولى التي نشرتها مجلة "الرسالة" القديمة في عام 1949 على ما أذكر والتي أعتبرها تحولاً حقيقياً وهاماً في حياتي الشعرية، وأعني بها قصيدة "خطوط". إذ على ضوئها، خطوت خطواتي التالية التي تمثلت في دووايني الشعرية: أغاني أفريقية؛ أذكريني يا أفريقية؛ عاشق من أفريقية".

غير أن ذلك سرعان ما يدفع إلى العديد من التساؤلات عن هذه "النقلة" بالذات. كيف حدثت. يتساءل الفيتوري معي بالحرارة نفسها، وبالقلق نفسه: "كيف خلص ذلك الشاعر الصغير الطموح، المفعم بالمشاكل النفسية والأزمات الفردية والرغبات والأحاسيس، من كل ذلك، واستطاع، من بعد، أن يتحول من شاعر مفرط في الذاتية إلى شاعر رحب النفس رحب الرؤية؟ وكيف استطاع ذلك الشاعر الصغير أن يمازج ما بين موقفه الفردي، مابين أحاسيسه الذاتية، مابين رؤياه الخاصة، وبين مواقف وأحاسيس ورؤيا القارة الأفريقية كلها؟".

تلك أسئلة تتراقص الآن في رأس الفيتوري دون أن يتمكن من الإجابة عنها. كيف؟

"هذا ما حدث بالضبط".

ولكن كيف؟

ينسلخ الفيتوري اليوم عن فيتوري الأمس، ويتحدث كأنما يتحدث عن شخص آخر عاشره معاشرة حميمة:

"وجد الشاعر الصغير نفسه وكأنما توحي إليه قدرة فوق قدراته. وجد نفسه يتكلم ويكتب ويستوحي أصوات أؤلئك الذين يشاركونه في اللون ويشاركونه في العذاب ويشاركونه في الواقع".

وسرعان ما يربط بين الأمس واليوم:

"هل كان ذلك انصرافاً مبكراً مني عن الطريق الصحيح الذي كان ينبغي على موهبتي أن تسير فيه؟ أن تختطه إمكاناتي؟ أن أختطه كشاعر؟ الآن أقف موقف المراجعة لتلك الفترة من حياتي. والحق أني لا أدري جواباً."

مرة أخرى يرتعش السؤال على شفتيه بعد أن اهتز له قلبه:

"هل كانت وراثاتي هي السبب؟ هل كانت أحاسيسي الشخصية هي السبب؟ ولماذا بدأت بتلك الحوارات النفسية فيما بيني وبين أؤلئك الذين لم يسمعوا صوتي ولا أتصور أن في وسعهم أن يستمعوا إليه؟"

ويسرح الفيتوري:

"خاطبت شعوباً لا تتكلم لغتي ولا تفهمها ولا تتعرف عليَّ إلا من خلال اللون. لقد تصورت حينذاك أنني إنما أعبر عن عذاب مشترك يربطني بها، عن معاناة قاسية: بعضها نفسي وبعضها تاريخي وبعضها وراثي، يشاركني فيها أؤلئك الذين يعيشون احت أسياط العبودية التاريخية، تحت سياط النفوذ الأجنبي، تحت سياط التخلف والقهر الاجتماعي والاقتصادي والإنساني. كانت أولى قصائدي في هذا المجال قصيدة "نشيد أفريقية". أتراني كنتُ أعبر عن نفسي حينما كنت أهتف بتلك القصيدة صارخاً بملء صوتي:

"الملايين أفاقت من كراها

ماتراها ملأ الأفق صداها

خرجت تبحث عن تاريخها

بعد أن تاهت على الأرض وتاها

حمت أفؤسها وانحدرت

من روابيها وأغوار قراها

فانظر الإصرار في أعينها

وصباح البعث يجتاز الجباها

وحينما كنتُ أصرخ في وحدتي، في سكوني، في انعزالي عن هذا العالم:

أفريقيا، أفريقيا استيقظي

استيقظي من حلمك الأسود

طالما نمت..

ألم تسأمي؟.. ألم تملي قدم السيد؟

قد طالما استلقيت تحت الدجى

مجهدة في كوخك المجهد

مصفرة الأشواق، معتوهة

تبني بكفيها ظلام الغد

عريانة الماضي

بلا عزة تتوج الآتي ولا سؤدد.

وعندما كنتُ أصرخ في وجوه تلك الملايين:

أفريقيا أفريقيا النائية

يا وطني يا أرض أجداديه

إني أناديك ألم تسمعي

صراخ آلامي وأحقاديه؟"

* * * *

كانت تلك هي رؤياي، وكان هذا هو صوتي، كنت وحدي مجردا، أعزل حتى من سلاح الوعي السياسي. مجرد شاعر صغير يغني ولا يعرف إلى من يغني وإلى من يتحدث. ولست أجد في نفسي القدرة على القيام بعملية تحليل أو تقييم لإنتاجي في تلك الفترة. وإنما أقول الآن إن مجموعة من أشعاري تلك تكاملت فيما بعد في ديواني الأول الذي صدر في عام 1955 وأعني به "أغاني أفريقية".

نحن مع الفيتوري إذن في عام 1955. في ذلك العام اتضحت معالم صوته الشعري، ويبدو أنه كان وقتئذ مختلفاً عن الأصوات الأخرى التي كانت أصداؤها تتردد في طول العالم العربي وعرضه. ذلك أن النقاد انقسموا حوله بين مشجع ومعترض. قال البعض منهم: إنه صوت جديد لأنه يتناول قضية جديدة لم يسبق لشاعر عربي أن تناولها من قبل أو عاناها. في حين قال آخرون: إنه صوت يقسم الطبقة الواحدة ويفتت التكامل تلإنساني العمالي الذي ينبغي أن يقوم بين العمال المُستَغلين في مواجهة الرأسماليين المُستَغِلين، مهما كان لون هؤلاء العمال وأياً كانت جنسيتهم أو ظروفهم. ذلك أن جانباً من الظلم التاريخي والاجتماعي يقع على كواهلنا جميعاً بوصفنا أبناء طبقة اجتماعية واحدة بصرف النظر عن الاختلافات في ظروفنا المحلية والخاصة.

كان الفيتوري يواجه آراء ناقديه بمعاناته، بعذابه، بآلامه الشخصية، بأحاسيسه القديمة:

"كنتُ أحسُّ بأني أصدقُ مما تراءى لهم، وأنني أؤدي واجباً يقع على عاتق الشاعر العربي، وأني كنتُ ذلك الشاعر الذي أريدَ له أن يقوم بهذا الواجب. لذلك مضيت في طريقي دون أن أعبأ بآراء المعترضين.. وتتالت دووايني.."

لكنه في الحقيقة ما يلبث أن يغيب في ليل الصمت بدءاً من عام 1956، ويستمر هذا الليل سبع سنوات، يتحدث عنها الفيتوري بصوت جريح:

"تلك ثغرة في حياتي الشعرية كنتُ أودّ لو أن بوسعي ردمها. ثغرة دامت سبعة أعوام، خرس خلالها صوتي الشعري وجفت أثناءها موهبتي، وتوقفت فيها نهائياً عن العطاء الشعري. أعوام ضائعة قضيتها في العمل الصحافي والسياسي والحزبي. ولو قدر لي أن أعود مرة أخرى لأحيا من جديد لاخترت بل لناضلت في سبيل أن أبقى شاعراً مهما كانت المغريات وأياً كانت المبررات. لكني استيقظت في أحد أيام عام 1962. في ذلك العام كتب أحد الأصدقاء النقاد في مجلة الآداب البيروتية مقالاً عني كان بمثابة قصيدة يؤبن فيها الفيتوري الشاعر. قرأت المقال، واجتاحتني موجة من الحزن، كأنما أيقظتني من سباتي الطويل: كيف أموت شاعراً وأنا إنسان مايزال يحيا؟

عدت إلى الشعر من جديد. وساعدتني جملة من الظروف العاطفية والاجتماعية والسياسية على العودة إليه أكثر قوة ومضاء وألقاً. وصدر ديواني الثاني "عاشق من أفريقية" ثم تكامل ديواني الثالث "أذكريني يا أفريقية".

وفي عام 1964، حدث تغير سياسي في حياتنا السودانية. تسلم مقاليد الحكم شاب ينتمي إلى الطبقة الرجعية التي كانت صاحبة السيادة والنفوذ في السودان، وكان هذا الشاب قد حمل معه وهو في طريقه إلى الحكم شعارات تقدمية واشتراكية، أحياناً لفتت إليه الأنظار واستقطبت حولها عدداً كبيراً من الناس ومن المثقفين في نطاق السودان. وكنت أرقب صعود هذا الشاب إلى منصة الحكم. أرقب تحركاته ومواقفه وأوازن بين حقيقته التي يخفيها وراء الشعارات الجذابة التي يرفعها وبين هذه الشعارات. كان ثمة تناقض فاضح ما بين موقفه الذي يعلنه للناس وبين سلوكه الحقيقي الذي يسير وفقه دفاعاً عن مصالح طبقته. وكان عليّ، وأنا أعرف كل ذلك، أن أواجه الناس بحقيقته بصوت واضح وحاد. لكن ذلك كان عسيراً عليّ، ولم يكن أمامي سوى الرمز والإشارة وهكذا كتبت قصيدتي الطويلة "سقوط دبشليم". إذ اخترت من قصص كليلة ودمنة شخصيتي بيدبا الحكيم ودبشليم الملك، ومن خلال الصراع والحوار الذي أجريته بين هاتين الشخصيتيْن، استطعت أن أقول كل ما أريد قوله. أن بيدبا هو صوت الفيلسوف أو الفنان أو رجل الفكر، بينما دبشليم هو الحاكم الطاغية المستبد، الذي يريد أن يتلاعب بمصالح الجماهير ومكاسبهم ويوفرها لصالح طبقته.. ومما قلته في هذه القصيدة:

"أرضك ظمأى

والخريف شح هذا العام

والمتسولون يزحفون

والأقزام يعربدون في حطام المملكة

يا ملكاً متوجاً على حطام

يا قائداً بغير معركة

هذا أوان المعركة!

أكتب عن عصرك

كيف انطفأت روعته وكيف

تعرج ساقاه.. وتهومان كل لحظة

تحت ثلوج الزيف

أكتب عن عصرك"

قال بيدبا والسيف يبكي في عناق السيف:

"وباطل عصرك

ناره سجينة وشمسه غريقة

والشعر وحده هو الحقيقة"

* * * *

"أكتب عن عصرك

عصر الغضب الميت

عصر الضحك المقهور

عصرك يا مولاي

حيث تركض الخيول في القماقم

وتسكن الغربان في العمائم

حيث يهب فجأة من ظلمة العصور

الديناصور..."

* * * *

مع الفيتوري الآن، أقصد مع الدرويش المتجول في بيروت، فهذه القصيدة طبعت مع قصائد ديوانه الأخير "معزوفة لدرويش متجول" أوحت بيروت بأكثر قصائده.

إلى هنا تبدو لنا شخصية الفيتوري الشاعر واضحة المعالم باررزة القسمات. شاب يبحث عن المجد في المعلقات والمطولات الشعرية الكلاسيكية؛ ثم شاعر ذو صوت نحاسي يخاطب به الملايين الأفريقية؛ ثم شاعر ملتزم سياسياً يقف في وجه الزيف الفكري والعقائدي. ولكن ماذا حدث حتى التجأ شاعرنا إلى أبواب المتصوفين يحاول عبور العتبة إليهم؟

عشقي يغني عشقي

وفنائي استغراق

مملوكك.. لكني

سلطان العشاق؟"

يثير هذا التساؤل، وقد ردده أكثر من ناقد، حماس الفيتوري، فيحاول الإيضاح:

"أريد أن أوضح كيف أتناول هذا الاتجاه، ولماذا؟ إنني في الحقيقة أرى من الصوفية جانبها الإيجابي وأرفض جانبها السلبي الانهزامي البعيد عن حياة الناس. وتاريخ التصوف يبرهن على وجود هذين الجانبين. فثمة بعض المتصوفين الذين كانت لهم مواقف ثورية من أوضاع مجتمعهم، وأذكر منهم أبو يزيد البسطامي ومعروف الكرخي والحلاج.. ولست لأقول إنني واحد من المتصوفين وإنما أنا شاعر يرى في لغة التصوف وإشاراته ورموزه ودلالاته ما يخصب العمل الشعري والفني ويزيده عمقاً وأصالة."

المسألة إذن ليست طرقاً لأبواب الصوفية ولا محاولة لاجتياز العتبة إليهم. ربما كان هذا صحيحاً. ولكن نبرة الشعر، وإيقاعه، وموسيقاه، تنبئ عن شاعر عاش أوعايش الصوفية فترة من الزمانتأثر خلالها بهم وتطبع بأساليبهم. فمن أين للفيتوري ذلك كله، وهو الذي لم يفصح عن هذا الاتجاه في دواوينه وقصائده الأولى؟

"الحقيقة أن هذا الاتجاه وليد ثقافتي الأولى وبيئتي الأولى أيضاً. لقد ترعرعت في بيت صوفي إذ كان أبي أحد كبار الصوفية. وكنت منذ طفولتي محاطاً بأصوات المادحين والذاكرين على أنغام الدفوف وقرع الطبول. وفي هذا المناخ ولدت موهبتي الشعرية، وتفجرت قبل مرحلة التقليد لقصائد كبار الشعراء القدامى. إذ قبل أن أتعرف شعر النابغة الذبياني وأبي الطيب المتنبي، كنت قد عرفت شعر عمر بن الفارض والبوصيري والحلاج. غير أني عندما كتبت الشعر بعد أعوام، أي عندما استطعت أن أمسك بالقلم لأكتب شيئاً يمكن تسميته بالشعر نسيت ذلك المناخ ونسيت تلك الظروف الأولى، واهتممت بالإنسان الأسود كما هو معروف. وعبرت بي أعوام طويلة حتى ذهبت إلى بيروت.. وفيها استيقظ غيَّ هذا المناخ القديم. بيد أن تفهمي لواقعي الإنساني والاجتماعي والتاريخي، ووعيي السياسي الجديد أسهما في تصفية تلك ارلؤية القديمة والأحاسيس القديمة، وفي غربلتهما ليخلص منهما صوت فيه نبرة الصوفي وأداته وإشاراته ورموزه، لكن فيه أيضاً الوعي الأكثر عمقاً بالحياة وبنضال الناس. وهو إضافة إلى ذلك يجانس الواقع الذي نعيشه. ومن هنا فإن الاتجاه الصوفي في شعري إضافة.. أي أنني لا أعيد ما سبق للصوفيين أن قالوه أفضل مني، وإنما أضيف جزءاً إلى الرصيد الشعري المعاصر، لتكون هذه الإضافة نافذة أو أفقاً جديداً من آفاق الشعر العربي يمكن للشاعر من خلالها أن يعطي ويثري ويخصب وجدانه."

بيد أن إيضاحات الفيتوري ههنا تتعارض مع مقال نقدي نشر في آخر ديوانه الأخير، فسر فيه الناقد موقف الفيتوري في هذا الديوان تفسيراً مغايراً كل المغايرة لما قاله قبل قليل. إذ أنه يعتبر السمة الصوفية في ديوان الفيتوري موقفاً اتخذه الشاعر إزاء أحداث معينة.. وبالتالي فإنه يحاول تبرير هذا الموقف بقوله: "إن انسحاب الشاعر من على خشبة المسرح والاكتفاء بالسؤال عن القاتل ووقوفه موقف المتفرج لا يعني انسحابه من الميدان الحقيقي، بل هو على العكس، إنما يريد العودة إلى الميدان ساعة يعرف كل شيء، وساعة يعرف أنه لن يكون في الميدان مجرد فارس وحيد ذي رمح مكسور. إنه إذ يختار طريق الدراويش، فإنما يتنكر لاشعورياً في ثيابهم يبحث عن الحقيقة في الطريق، تلك الحقيقة التي يطمح في ضبطها والتي تحيره"

هل يوافق الفيتوري على تفسير ناقده؟

"في الحقيقة إنني لا أبحث عن الدرويش كما يقول السيد الناقد، ولا أبحث أيضاً عن الحقيقة. إنني أبحث عن الكيفية التي يمكن للشعر بها أن يكون سلاحاً أكثر فعالية. نحن نعرف أسباب تخلفنا وأسباب هزيمتنا أيضاً. ويستطيع كل واحد منا أن يشير إلى تلك الأسباب. وإنما كشاعر، ككاتب، كأديب، كفنان، ليس في قدرتي أن أحدث التغيير المادي في واقعنا الراهن المرفوض. وإنما علي أن أركز كل قدرتي في أن يكون صوتي صوت إدانة لهذا الواقع المخزي، صوت اتهام، وربما صوت شاهد تاريخي، كأي شاعر. إن الجماهير والجماهير وحدها، هي القادرة على أن تحقق التغيير المادي المطلوب".

إن استخدام لغة الصوفية تقودنا مباشرة إلى استخدام اللغة في الشعر بشكل عام. ههنا يحق لنا أن نتساءل عن تجربة الفيتوري اللغوية في شعره؟

"لاجدال أن لكل شاعر تجربته اللغوية الخاصة به كما أن له رؤياه ومواقفه. ومن كلا هاتين الناحيتين تتشكل طبيعة الشاعر ويتفرد موقفه. وربما يصبح له أسلوبه وشخصيته ومدرسته.

والكلمة في تجربتي،الكلمة اللغوية ليست ذات قيمة في حد ذاتها، ليست هي مجرد كلمة مستخرجة من القواميس أو حتى من أفواه الناس لتتخذ مكانها في القصيدة، في نسقها الشعري، في بنيانها الكلي والعام. الكلمة اللغوية لا تكون كلمة شعرية إلا بالاختيار وهذا أمر طبيعي، الكلمة وعلاقتها بالكلمة، وعلاقتها بالبيت، وعلاقتها كموسيقى لفظية بالتيارات الموسيقية النفسية التي تتفجر بها أعماق الشاعر لحظة تبنيه للتجربة الإنسانية أو الاجتماعية المعاشة.

إنها المعادل المادي لبذرة حبة تسقط من أعماق اللاشعور لتأخذ مزاجها الخاص في مناخه. هي البذرة الفكرية إذا صح التعبير، ومن ثم تأتي مرحلة تحول هذه البذرة، مرحلة اخضرارها وتفرعها وامتدادها الكبير الذي هو فيما بعد الشكل اللغوي الكاتمل للقصيدة.

ومن هنا، فأنا على العكس من الكثيرين لا أرى أن هناك كلمة شعرية، شعرية بحد ذاتها، إنما هناك بذرة لغوية جانب بذرة لغوية أخرى، تتولد داخل الذات الشاعرة لتشكل نسقاً أو مزيجاً حاداً ومتوتراً أو عبقاً بأنفاس الحياة وموسيقاها اسمه القصيدة أو العمل الشعري".

هل أجاب الفيتوري على تساؤلاتنا الأولى؟

ربما. ولكن هل يمكن للناقد أن يتخذ من كلام الشاعر عن شعره مادة يعتمد عليها في نقده؟

ومتى حدث ذلك؟

يستطيع الناقد أن يستمع للشاعر. فلربما أفاد قليلاً أوكثيراً من بعض الأضواء التي يلقيها المبدع على موضوع إبداعه. لكن العمل الفني في النهاية هو الأساس الأول لكل عمل نقدي.

أقوال الفيتوري هنا إذن، للنقاد .. مع بعض التحفظات!

(نشر هذا اللقاء في مجلة الطليعة السورية، العدد 214 الصادر بتاريخ 1 آب/ أغسطس 1970، ص. 31-33)