يخلص الباحث إلى أن متكآت النص التراثي حي بن يقظان الفكرية تكمن في نزوعه لتدبير رحلة التيه بين المرئي واللامرئي، بين الوحدة والتعددية، بين الجسدي والروحاني، بين الثابت والمتغير، بين السكون والحركة في ثلاثة أبعاد متداخلة ومتكاملة وهي: بعد وجودي فلسفي، وبعد معرفي، وبعد قيمي جمالي.

حي بن يقظان وسؤال من يربي من؟!

محمد قرافـلي

عالم حي يختلف جوهرياً عن عالم اليوم، ما الذي تبدل؟ ما الذي تغير؟ ما الذي بقي؟ كل شئ.. لا شئ، السماء غير السماء، الكائنات غير الكائنات، وحده الحي يغدو ويروح، يندهش، يسأل، ينظر، ينتظر، ويمضي.. مثلما الحال في عالم حي كل شئ في عالمنا يربي، أصوات الآلات تربي، الصور المتناثرة هنا وهناك، صور الأجساد، صور الخراب، صور الليبيدو، صور البؤس بمختلف ألوانه تخترق الوجدان والأذهان، روائح العالم تكيف الذوق وتنمط الإحساس، المقتنيات وعالم الأشياء تسثير غرائز الانسان الراغب، وتلقي به فى بؤر التيه والمجهول. فمن يربي من؟!!

وحده الحي عليه أن يعاني عبء النهوض بمسعاه التدبيري مثلما تجشمه حي من خلال التورط في العالم والفناء فيه إلى حد التلاشي، استغراقا في مختلف صنوف التدبير.

* * *

أ- الحياة تربي الحي:

لم يخطر على حي طرح السؤال من يربي من، بكون سؤال من يربي من، لا معنى له وفق منطق الحي الذي خبره وعاينه قلبا وقالبا. فالحي ابن الحياة، هي وحدها من تتولى مهمة الاعتناء بالحي وتأخذه في لعبتها التي تتكلف بتهيئة شروط ومقتضيات تلك اللعبة وتلف الموجودات وتبث فيها روح الحياة وأسرارها.

بالنسبة لحي السماء تربي الكائنات والموجودات وتحتويها تحت قبتها مثلما تحضن الدجاجة فراخها. مثلما تسري النفخة في عمق الكائنات فإن تلك الروح تحمل معها مقومات وجودها التي من شأنها أن تدفع بتلك الموجودات إلى أقصى الحدود الممكنة لتحقق تلك الروح.

على اعتبار أن التولّد وانبثاق الكائنات لا يخضع لمنطق التبعية أو الترابط العضوي، قد يحدث بالصدفة أو نتيجة للتولد الطبيعي. كما يمكن أن تتحكم فيه نواميس أو شرائع قابلة للتعليل، بل إن كل تعليل يبدو قاصرا عن الإحاطة بفعل التولّد والانبثاق.

عندما يقذف الحي في عالم الشهادة فإن الحياة تحتفي بطريقتها ووفق شروط عملها بذلك الكائن مهيئة الشروط الكفيلة بسريان روحها. ذلك ما تحقق مع حي إذ هب الوجود للاعتناء به، وما الشروط التي سيقت استجابة إلى ذلك النداء إلا لسان حال ذلك الوجود.

لا يحتاج "حي" للقراءة في كتاب الكون لكي يخبر مفاتيح الوجود بل إن لغة الكون وحروفه تنطبع فيه وتنطق لغات متعددة، من لغة الصمت وصمت اللغة إلى صخب الأصوات التي تتردد فيه سيمفونيات.

فالسماء تربي، والأرض تربي، وتعالق السماء بالأرض يربي. مثلما نور الشمس يبعث الحياة في الكائنات كذلك فإنها تجلي حقائق الوجود وما كان على "حي" إلا أن يصير مرآة العالم الكبرى التي تنجلي فيها وعبرها صور الكائنات والموجودات وتنطبع في عالمه الداخلي، لكي تنبسط أمامه شاشات عملاقة يعيد من خلالها ترتيب أبجديات الكون تنضيدا وتبويبا وترتيبا في سلم الحياة.

منها القريب المألوف الذي يشاركه الأنس ويبعث الابتهاج وتلك التي تهدد وجوده وتدفعه إلى التنازع والتدافع وتولد غريزة الحرص والاحتراس. كذلك فإن نظام حركة الشمس يعكس نظام الحي في أحواله ومعاشه من إشراق وتمايل وانعراج وانحراف، من دفء وحرارة واعتدال. على الكائنات عموما و"حي" خاصة، التكيف والملاءمة في حركته وسكونه مع منطق حضورها وغيابها، ووفق احوال تقلبها التي تطال الوجود برمته. لذلك اعتبرت الشمس سيدة الاجرام في علوها وسموها، وكل ما حولها وتحتها يلف لفها ويدور في مداراتها.

كما أن الكائنات التي عاينها "حي" تجلت مدرسة تنثر تعاليمها في ارجاء المعمور، من محرابها قبس "حي" كل صنوف التدبير.

من "الظبية-الأم" تولدت بواعث الأنس والألفة وروح الغيرية والتضحية في سبيل الآخر، إذ لم تدخر جهدا في الاعتناء بـ"حي" ومده بكل أسباب الحياة من غداء وحماية ورعاية. كما حملته في رحلة الحياة كاشفة له عن مكنونات وجوده وما يعتريه من مخاض وسط عوالم من الكائنات المتدافعة والمتزاحمة، كل منها تسعى بكيفيتها من أجل بسط النفوذ وترسيم الحدود.

أدرك بأم عينه خطوط التقاطع والتماس بين ماهي عليه الكائنات من حال وأحوال وما تتصف به من مؤهلات تمكنها من كسب عيشها والدفاع عن حقها في الوجود، وبين ما هو فيه وعليه من تميز الهيئة والقوام، ومن عري وضعف ظاهر للعيان.

بالنسبة لـ"حي" حضور الأخر مقوم لا غنى عنه سواء اعتبر نظيرا مألوفا عنده ومشاركا، كقبيل الظباء، التي ألفها وألفته، أو غريبا مهددا لوجوده يتربص به ويؤرقه في وجوده. هما سيان عنده، إذ بقدر ما يستلهمه من الأول من قيم السخاء والعطاء والمشاركة، فإنه يأخذ من الثاني مهارات وفنون الاحتراز والدفاع واستراتيجيات الصد والرد وألاعيب التنكر والخداع.

لذلك أخذت قواه في الانجلاء متوسلا بالروية واليد في تلمس سبل تجاوز مكامن القصور والضعف حتى يتسنى له احتلال مكانة بين مملكة الكائنات.

من يربي من؟!!

لن يخطر على "حي" مجرد التفكير في ذلك السؤال مادام لا يجد فائدة في طرحه، بل أن العالم الذي خبره بكل كائناته وموجوداته يمضي في دوامة الوجود ولا يهمه أن يعرف من يربي من!!

كما أن "حي" قد أدرك من خلال المشاهدة على أن الكون ما يفتأ يربي الكائنات، الأصوات تربي وتبعث برسائلها تتلقفها الكائنات تنفعل بها وتتفاعل معها، تبتهج أحيانا وترقص على إيقاعاتها وأحيانا أخرى تهيجها وتجعلها تتصارع في حلبتها وتتدافع، أخرى تجعلها تلوذ إلى مخادع الصمت والرهبة والانتظارية، كما أن الأصوات تطرد وحوش الظلام وتداعب اطياف النوم وأحلامه.

لذلك تجد "حي" يعتبر سؤال من يربي لا مدخل ولا مخرج له، من يمكنه أن يجرؤ ويدعي أن الصوت لا يربي، من يصوّت يربي من من لا صوت له! لكن "حي" يعرف جيدا أن كل شئ في الكون يصوت، إلى حد أن الليل في صمته الأبدي يدفع بالكائنات إما إلى الخرس والسكون، أو إلى الزحف والانسلال والتيه في جنح الظلام.

من يربي من؟! يمكن لـ"حي" أن يريح ضميره من عبء التفكير مؤكداً أن كل شئ في عالمه مؤهل للنهوض بهذه المهمة الجسيمة من تلقاء ذاته وبذاته بدون الإجهاد في البحث عن إمكانية الصيغة أو الكيفية المثلى للاعتناء بذاته. مادام الصمت يربي والصخب يربي، الشمس تربي، السماء تربي، الكائنات تربي!!

سيتجاهل حي ذلك السؤال، ليمضي في رحلة الوجود مرتميا في المجهول الذي مايفتأ يفتح عوالم تعاليمه ويبسط مفاتيح مكنوناته أمامه. على اعتبار أن نداء المجهول ولغزية الوجود قد أرقتا "حي" منذ البدء ومنذ اللحظات الأولى انتشاء بلحظة اللقاء الأولى بالأم وسريان حليب الحياة في أحشائه، وكذا اندهاشا بصور المخلوقات التي تتزاحم في جغرافية "حي" وتغدو وتروح.

بينما "حي" في كل ذلك لا يجد وجهه بين كل تلك الصور التي ألفها وألفته وتعمره وتتراوح يوما بعد يوم في حضور غيابها من مدونة "حي". لقد عز النظير فما على "حي" إلا أن يهيم في ربوع الكون باحثا عن وجهه وحقيقته ووجهته.

كل تلك العوالم تزلزلت تحت قدمي "حي" لحظة الغياب، غياب الأم الذي ألفه، عندئذ أدرك "حي" أن الموت يمكن أن يصنع ما لا تصنعه الحياة! قد يكون الموت الوجه الآخر للحياة، الذي بدونه يستحيل الحضور والغياب، وبدونه تغدو الصور بدون معنى وبدون حياة.

من يربي من إذن؟!

* * *

ب- الموت يربي الحي:

يحتاج المرء إلى هزات عميقة تزلزل معالم الوجود لكي يسترجع حس الأشياء وتنبعث روح الحياة من جديد، ذلك ما حصل في كيان "حي" لحظة معاينة آثار الكون والفساد تسري في جسد "الأم-الظبية"، الرفيق المؤنس، الذي حمل "حي" في رحلتي الصيف والشتاء. في لحظة انقلاب ادرك حي ما يدين به إلى أمه.

غذته بحليبها وفي عروقه تسري روحها، هي من علمته أبجديات تهجي حروف العالم، تسمية اللامسميات وتعيينها وفق جغرافية المكان وبحسب منطق الحي. لقنته مشاعر الحب ومهارات العيش وطرق وأساليب التعامل مع الكون والكائنات. وحده "حي" عاين ويعاني مقاييس المرارة التي أحدثها شرخ الزلزال الذي جعله يتخبط في خط اللاعودة. قد يعتبر البعض أن حدث موت الظبية حدثا عاديا ومألوفا بحسب منطق الحي.

بالنسبة لـ"حي" فإن سؤال الموت رغم مألوفيته في العالم الذي يحتضنه فإنه سؤال ملغز لا يقل لغزية عن سؤال وجوده. إذ ما تفتأ أشكال وصور حضوره تتزاحم أمامه، من أشكال تدافع الكائنات ضد بعضها البعض واقتتالها المرير. قد يفلت البعض منها من تلك المعركة الأبدية بأقل الخسائر كأن تدمى بعض أنحاء جسده أو يفقد بعض أطرافه، وعليه أن يعيد ترميم أعطابه ولملمة جراحه لأجل استئناف رحلة الوجود وتجشم عبء البقاء.

بالمقابل تتمكن بعض الكائنات من التهام الكائنات الأخرى، من خلال التسريع بشل حركتها وتفتيت عناصرها ومحو صورتها واجتثات آثارها من الوجود.

كانت تكفي تلك المشاهد وأخرى كصورة النسر الذي تفسخ وتحلل واعتبرها "حي" مناسبة لانتزاع ريشه سترا لعريه، يستدفئ به، ويتقمص هيئته للتمويه وترهيب الخصوم المتربصين به. علاوة على ذلك أن صور فعل التولّد وانبثاق الحي من الميت، والميت من الحي، تتوإلى في سلسلة مشاهد تستثير غريزة الاندهاش عند "حي" وتدفعه إلى اقتحام المجهول.

يتبن بما لا يدع مجالا للشك أن حدث فقدان "الأم" وإن بدا عرضيا في منطق الحي فإنه سيشكل عند "حي" انقلابا عميقا في صيرورة الزمن وشرخا في كيانه.

كيف سيواجه إذن "حي" سؤال الموت؟ وما هي انعكاساته وآثاره على وجوده؟ وبأي معنى يمكن اعتباره سؤالا مربيا؟

لقد عاين "حي" أطوار الحياة من خلال ملازمته لأمه الظبية. عاش خلالها لحظات العطاء والقوة حينما كانت تمده بأسباب البقاء وتحمله وتحرس أحلامه من المتربصين، ثم لحظات الانكسار حيث أخذ الضعف والوهن ينهشان جسد الظبية. فما كان على "حي"، خاصة بعدما اشتد عوده، إلا أن يرد النزر اليسير من الدين الذي يحمله على عاتقه لأمه. لكن ما حصل الآن للأم لم يألفه حي ولم يطاوعه حسه للتسليم به أو الاستسلام له. قد يكون حدثا عرضيا مثل مختلف أشكال السقم والاعتلال التي تطال الكائنات في رحلتها الوجودية.

لذلك توسل بكل ما اعتاده من أساليب التعبير والحميمية مع عالم الأم.

بدءا من أصوات النداء والرجاء والاستغاثة، حيث يصرخ بكل قواه لعل صدى صوته ينتهي إلى كيانها محركا دواعي الأمومة، مثلما اعتاد حي طيلة سنين ملازمته للأم، لكن صدى صراخه يتيه في ربوع الغابة بدون ان يخترق جسد الأم الذي أضحى كتلة صخرية هامدة.

بعد ذلك عمد إلى تحسس كل مناطق جسدها الأكثر حساسية لعله ينتهي إلى سر هذه الحالة الغريبة، ويهتدي إلى مكامن العطل وبالتالي يرمم ما بوسعه من ان يعيد الأم إلى حالتها الأولى.

هكذا أتبثت المعاينة الأولية أن كل الأطراف والأعضاء على حالتها الطبيعية ولم يلحق بها أي أَذًى أو خراب ظاهر للعيان. إلا أن المدهش الذي يحير "حي" أنها كلها معطلة ولا تقوم بوظائفها، من عادة العين الانفتاح وتتبع مصادر الحركة.. ومن عادة اليد المد والقبض والبسط والبطش والاستجابة لكل المثيرات، كما دٓأْبُ الأطراف وباقي الأعضاء أن تتساند وتتعاضد وتحمل بعضها البعض في القيام والقعود والركض، فما بالها الآن تدخل في ارتخاء مطبق وكأنها لم تعد من هذا العالم، كأن قوة عمياء خارقة اكتسحت الجسد وشلت حركته مثلما تجتاح عاصفة هوجاء ربوع الغابة مبعثرة فيها نظام الحياة، دافعة بالكائنات إلى مخابئها وإلى الخرس الأبدي.

ما يمزق كيان "حي" أنه يعاين نفس الجسد، إلا انه ينطق غرابة ولغزية تقطعان الأكباد مقارنة بالجسد الذي صاحبه وألفه، جسد مغرق في الوحشية، متحلل من جسمانيته المعهودة، ومتجرد من أية دلالة ومعنى! بالرغم من ذلك فإن تلك اللغزية التي تقطع كيانه تدفع به إلى إعادة المحاولة لأجل النفوذ في أعماق ذلك الجسد وسبر مكامن العطل فيه.

مادامت كل الأعضاء الظاهرية سليمة ولا علة بها فإنه قد اهتدى، من خلال المشاهدة وبحسب منطق تعاضد وتساند الأعضاء إلى بعضها على أن تمت تراتب وتفاضل بين تلك الأعضاء، إلى ضرورة سبر ما يقع تحت القفص الصدري لعله يتمكن من الظفر بمطلوبه الذي اليه ترجع روح الحياة. لذلك توسل بكل ما مدته به خبرته من تشريح جسد الأم وفحص كل عضو على حدى ومقارنته بباقي الأعضاء الأخرى لإدراك الاختلاف والتميز، إلى أن انتهى إلى ذلك العضو (القلب) الذي طالما استشعر أهميته في مدافعته للحيوانات.

أُعجِب ايما إعجاب بشكله وجماله وبديع تصميمه إذ بدا له "في غاية القوة، مربوط بعلائق في غاية الوثاقة والرثة، من حسن الوضع وجمال الشكل وقلة التشتت وقوة اللحم، وأنه محجوب بمثل هذا الحجاب الذي لم يرى مثله لشئ من الأعضاء .. فحكم بأن ذلك العضو هو مطلوبه"(1)، إلا أن إقامته بهذا "البيت" المتقن الصنع لم تمكث طويلا بعدما تفحص جانبه الأيسر والأيمن وسبح في تجاويفه، تفطن إلى أنه بالرغم من شرف البيت وبديع صنعه لامحالة أن مطلوبه لم يعد يسكن هذا البيت، وأنه قد ارتحل عنه، خاصة بعدما لحق ذلك العضو الشريف من الخراب فإنه من المحال أن يعود لسابق عمله وينهض بشرف وظيفته، ومن المحال الراسخ أن يرجع ذلك الشئ، المطلوب المفقود الذي هو ليس فقط عماد ذلك البيت وروحه، بل هو قوام الجسد وكيانه، وما الجسد بالنسبة له إلا كالآله، يشبه العصي التي اتخذها "حي" لمقاتلة الوحوش.

لعل مراد "حي" قد تتوج بالظفر بالمطلوب، بعد رحلة مضنية في تضاريس الجسد وعوالمه المرئية واللامرئية الذي يسمح له بأن يعيد مراجعة ما كان وما حصل وما سيحصل. على الأقل سيضع حدا لتلك الوساوس التي تنخر كيانه أمام هول المصاب الذي وحده يدرك خطورته. لم يكن يخطر بباله أن الموت الذي يتربص بالموجودات ويعدمها قد يلتهم عالمه ويأخذ جزءا من كيانه. على اعتبار أن مكانة "الأم الظبية" لا تندرج ضمن نفس السلم القيمي للمخلوقات التي تؤثت عالم "حي" بل تعتبر الأنا الآخر الذي يحمله كيانه، وبالتالي فإن موتها البيولوجي وتلاشي حضورها المادي والجسدي لا يعني غيابها المطلق من عالم كيانهـ بل ترسيخ وتأبيد لحضورها الرمزي وللصور الحية التي ترسخت في أعماق وجود "حي". بالتالي ترسخ عنده أن ذلك الجسد المتفسخ المتحلل الذي تزكم رائحته الأنوف بمثابة عنصر فاسد بالطبيعة وآيل إلى زوال بينما تلك الروح التي تسكنه ذات طبيعة مفارقة، لا تحمل نفس عناصر ومكونات الجسدية التي عاينها، يصعب توصيفها، تحديدها أو الإمساك بها، دائمة الحضور إلا أنها متخفية ومتحجبة، تسكن الأشياء والعالم لكنها ليست من هذا العالم، لا تستقر وفي ترحل مستمر، تشبه الشمس إلى حد ما في شروقها وأفولها، في حركتها ودورانها، في بهائها وتعاليها.

إذ تذكر في هذه اللحظة الحاسمة قوة العلاقة الحميمية التي تربطه بأمه، وجسامة العبء الذي يحمله على عاتقه تجاهها. ذلك ما يفسر سر حيرته من المشهد الذي آلت إليه الأم الظبية، وكذا سر إجهاده المضني وراء التنقيب على العلة الكامنة وراء ذلك المآل!

لا يهمه أن يفهم ويعرف كنه ما حصل بقدر ما ترتسم أمامه مآلات التيه والفراغ التي تلوح في آفاق حيزه الوجودي. كأن المصاب مصابه، لذلك ما يفتأ يغدو ويروح بين الجسدين كأنهما جسدا واحدا، والمتربص واحد!!

همه أن يضع حدا لذلك القلق الذي يحاصره ويجعل أفقه يضيق ويطبق عليه صراع رهيب لم يسبق أن عاناه طيلة رحلته في الوجود. إذ تجشم عناء ابتلاءات متعددة ومتنوعة منذ نشأته الأولى، من صراخ السقطة الأولى حيث ينهشه الجوع والعري، مرورا بوحش الغابة ووحشية الكائنات، إلا أنه كثيرا ما خرج منها غانما وأكثر قوة، سواء بفضل حضن الأم الظبية وعطائها أو بفضل ما ترسخ عنده من فنون وحيل خبرها بنفسه.

لكنه يدرك الآن أنه وحده من عليه استئناف رحلة الوجود بدون سند، ومطالب ان يحسم في مصيره ويعيد ترتيب معالم الوجود من خلال ترميم أعطابه أولا، ثم مراجعة حثيثة ومتأنية لما كان عليه ولما هو عليه وما سيكون عليه. عملية شبه مستحيلة في عالم يعز فيه النظير، موت وولادة في نفس الآن، يحتاج فيهما "حي" إلى قوة مطلقة تسمح له بالارتكاز عليها من أجل ترسيخ وجوده في عالم تلفه الغرابة.

يظهر جليا أن الموت يربي الحي وأن تعاليمه لا تنتهي، بقدر ما يشكل النهاية فإنه يؤشر على البدايات، بداية انكشاف سر الأسرار وانقشاع العالم اللامرئي في كل ابعاده، بداية استحضار الصور، بداية ترسيم الحدود بين المحدود واللامحدود، بين العابر المنفلت والرغبة في التأبيد، بداية التيه والارتماء في المجهول سيحمل الموت "حي" ويقدف به في يم تلك التمزقات تائها خلف غواية صور العالم المتناثرة هنا وهناك، بين جاذبية السر المطلق وروحانيته المطلقة، متعقبا شاشات العالم المرئية وما تثير فيه من أشكال الانفعال والتفاعل.

لعل طيف صور "الأم-الظبية" لن تفارقه، وأن روحها ستظل تحلق في سمائه، خاصة بعد معاينته لفساد جسد الأم الظبية وتفسخه.

كيف إذن سيواجه الوجود بعد الشرخ الذي أحدثه موت "الأم الظبية" في أعماقه؟ وبأي معنى أن أسرار الموت في مختلف ابعاده المرئية واللامرئية، المحدودة واللامحدودة، ستلقي بظلالها على آفاق حي وستقدف به في أعماق المجهول؟

يظهر جليا أن في عالم "حي" الكل مؤهل للنهوض بهاجس التربية، وأن سؤال الموت منغرس في صميم الحياة يعزف سيمفونية الخلود يعدم صورا ويعيد بعث أخرى، يمزج بين العناصر جاذبا بعضها للبعض في حقول مغناطيسية ثم يحللها ويفسخها، جاعلا من لغزيته مركز ثقل الوجود.

مما سيجعل من غريزة الماورائي تلف "حي" في كل حله وترحاله وتصير لسان حاله، تستفزه وتجذبه جاذبية الشمس للكواكب في مداراتها! كيف يمكن للتيه بين المرئي واللامرئي، بين المحدود واللامحدود أن يربي؟ من يربي التيه من إذن يربي من؟

* * *

ج- التيه بين المرئي واللامرئي يربي الحي:

هكذا ستبتدئ رحلة التيه في مناكب الأرض التي احتضنت "حي"، حاملا في أعماقه جراح انكسارات فقدان الأم الظبية التي ألهمته كل قيم الحياة من أنس وعطاء وتضحية ومن مشاعر الحب دافعا بجسده في اتجاه المجهول.

لم يعد امامه سوى الاعتماد على نفسه في تجشم مغامرة الوجود متسلحا بسر الأسرار الذي تشوفه من خلال معاناته مع لحظة الفراق لأمه. إنها تشبه عملية ولادة ثانية لحي، في الولادة الأولى تولت الظبية مسؤولية العناية والحماية حتى يشتد عوده، أما الآن في ولادته الثانية، فإنه يتحمل مسؤولية تكبد ما ينتظره بدون مرشد أو معين، زاده الوحيد في رحلته ما ترسخ من علامات انغرست في ذاكرته خلال السنوات التي قضاها رفقة الأم الظبية.

بالرغم من ذلك فإن "حي" يشعر في أعماقه بذلك السر الأبدي الذي انقشع لحظة الزلزال الذي أحدثه موت "الأم الظبية". انجلت معالم ذلك السر في ذلك العضو الذي افتتن به، أبهره جمال وبديع صنعه، وقوة عضلاته وانقشعت أمامه صور عمله وآثاره على باقي الأعضاء.

فإذا كانت سمات السمو والإتقان حال ذلك العضو (القلب)! فمن يجرؤ على أن يتصور أو يحيط خياله بذلك السر الأعظم الذي يسكن ذلك العضو ويمده بالحياة.

هكذا انجلى الكون برمته آثارا لتلك الروح ومرآة لسر الأسرار وما على حي إلا أن يتلمس تلك الروح في كل الموجودات التي تحولت عند حي إلى شواهد دالة على سريان تلك الروح المطلقة الحضور شريطة أن يحسن الإصغاء اليها.

كل شئ في الكون بالنسبة لحي تحضر فيه تلك الروح التي استمد جزءا منها من الأم، من أنس ودفء وحرارة بحيث تجلت في النار التي تنير ظلمته وتؤنس وحشته وتفتح شهيته، أو من الالتماعات التي قبسها من حدسه لسر الأسرار الذي يلف موت الظبية، والذي يعجز عن وصفه بل فقط يتلمس قوته اللامتناهية وحضوره المطلق.

لذلك عندما عاين حي النار، تجلت فيها تلك الأسرار دفعة واحدة "فلما اشتد شغفه بها لما رأى من حسن آثارها وقوة اقتدارها وقع في نفسه أن الشئ الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي أنشأته كان من جوهر هذا الوجود أو من شئ يجانسه"(2).

لكي يتماهى مع سر الأسرار لزمه أن يقطع مقامات من خلال معاينته لمنظر النار، حيث ابتدأت تلك الرحلة بمقام الاندهاش، مستغرقا في منظر النار، متأملا ومتعجبا، ثم مقام القرب والدنو، لينتقل بعد ذلك إلى مقام المباشرة والحضور مرورا بمقام الأنس وانتهاء بمقام التجلي.

عبر كل تلك المقامات تجلت النار أسرارا والتماعات وصفات يعجز اللسان عن ترجمتها من نور يبدد الظلام يحتاج إليه "حي" في رحلته الطويلة التي وحده يحدس وجهتها ومآلاتها وما ينتظره فيها، حضور مطلق، خفة في الحركة وعروج إلى الأعلى، وقوة لامتناهية على التهام كل ما يلمسها. أضف إلى ذلك صفات الأنس والدفء والحرارة حيث تؤنس وحدته وتدفئ جسده. تلك خصال تذكر حي بحضن أمه الظبية وبروحها المعطاءة الدائمة الحضور من جهة وبسر الروح التي تعقبها خلال تشريح جسد الأم لحظة الزلزال الذي ألم به.

ستشكل تلك المقامات متكأ لحي في رحلة بحته عن وجهه عبر ربوع الكون متعقبا مختلف الموجودات والكائنات ومحاولا السبح في عوالمها، محددا عناصرها وراسما الحدود بين ماهي عليه من أوصاف وعوائد وبين ما يعتريه من أحوال.

بعد مخاض التقصي والمقارنة والقياس تراءى له انه يحمل كل مكونات العالم المرئي، عالم الأشياء وعالم الكائنات، من عناصره، ماء وهواء وتراب ونار، التي هي قوام جسمانيته، ومن الكائنات الحية روحها الحيوانية التي هي مصدر القوى الغاذية والنامية ومبدأ الفعل والانفعال، كما يستمد من العالم اللامرئي روح العالم وأسرار واجب الوجود بحيث يعتبر مصدر خلاصه من رحلة التيه ومبدأ سعادته.

ما يثير الغرابة أنه بالرغم من القصور الذي ينتاب "حي" في قفزته نحو الإمساك بسر الأسرار الذي صار يلازمه ملازمة الظل والنفس لصاحبهما، أو يتمثله في إطلاقيته، فإنه يشعر بقوة خفية تجذبه نحوه.

لذلك صار ديدنه : يكفي ان ينظر فقط ليجد ذلك السر!

ويطلب ليغمره السر الأعظم بلا انقطاع!

يلهمه باستمرار، يملأ وحشته ويسبغ عليه عطاياه بدون انقطاع!

لقد أدرك عين اليقين على ان سعادته وفوزه من الشقاء إنما هي في دوام المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود حتى يكون بحيث لا يعرض بطرفة عين"(3).

بدون حضور أسرار مدبر الوجود لن يتمكن "حي" في رحلة التيه من ترميم أعطابه أولا، ومن اعادة رسم خريطة للوجود ووضع الحدود بين مختلف عوالم الكائنات والموجودات. لكي يعيد التناغم والتوازن في ذاته وفي علاقته بالكون والكائنات لزمه التمرن على أشكال متنوعة من التدبير.

بدءا من تدبير الجسد والاعتناء به، ثم تدبير قوى النفس بحيث أن ذلك التدبير الذي ألزمه حي على نفسه لا ينفصل عن أشكال من التدبير التي يدخل فيها حي في علاقته بالكون والكائنات.

بالرغم ان حي قد استبعد من خلال الروية والاعتبار ان مقوم الجسدية بمثابة عائق بكونه لايختزل جوهريته وإن كان ضروريا لبقاء روحه الحيوانية، فإنه مطالب ان يعمل على تدبيره بالقدر الكافي بحيث "يفرض لنفسه فيها حدودا لايتعداها ومقادير لايتجاوزها"(4)".

إذ يقوم تدبير الجسدية على توفير مقومات سد حاجياتها بما يكفي من الغداء، نباتيا أو حيوانيا، بريا أو مائيا، ثم التوسل بمختلف أشكال العناية بالجسد من تطهير ووقاية ودفع لوجوه الأذى التي يمكن أن تعرض له من الطبيعة أو من أَذى الحيوانات.

بل إن تمام تدبيره لجسمانيته لاينفصل عن حسن تدبيره لمصادر معاشه من اعتناء بالمجال وتربية للحيوان وتهذيب للنبات بحيث "ألزم نفسه أن لايرى ذَا حاجة أو عاهة أو مضرة أو ذَا عائق من النبات أو الحيوان وهو يقدر على إزالتها عنه إلا ويزيلها، فمتى وقع بصره على نبات قد حجبه عن الشمس حاجب أو تعلق به نبات آخر يؤذيه أو عطش عطشا يكاد يفسده أزال عنه ذلك الحاجب، ومتى وقع بصره على حيوان قد أرهقه سبع أو نشب به ناشب أو تعلق به شوك أو سقط على عينيه أو أذنيه شئ يؤذيه أو مسّه ظمأ أو جوع تكفل بإزالة كل ذلك عنه"(5)".

لكن المطلب التدبيري عند "حي" لاحدود له إذ يروم الانعتاق من مختلف الصور التي تعلق به من جسمانيته من جهة، ومن الصور التي تنعكس فيه في علاقته بالكائنات والموجودات التي تحجب عنه مشاهدة سر الأسرار. كيف السبيل إذن للتخلص من عبء الجسد ومتطلباته ومن متعلقات الصور الباهتة؟

عليه إعادة صقل مرآته وتخليصها من الشوائب، والعمل على ترويض الروح باتباع ألوان من التدبير التي تنصب على قوى النفس وبواعثها الحيوانية التي ما تفتأ تتولد وتتناسل.

لذا سيلزم نفسه بنظام قليل القليل من ما سيكفي عمل الجسد للنهوض بمهمة نيل المراد. ثم بعد ذلك سينصب جهده على شحذ همته، وصقل مرآته عن طريق التحرر من سلطة الحواس، والتمرن على النفوذ في اعماقها تلمسا لإدراك خباياها ولغاتها السرية، والتي كثيرا ما تتحجب بفعل العادة ونتيجة للاستعمال اليومي، وتصير عرضة للصدأ والتلاشي. إنها تشبه إلى حد ما الآلات التي كان يتوسل بها حي في مواجهته للكائنات الأخرى وفي صراعه من أجل البقاء عليه أن يبردها ويعيد شحذها وتنظيفها ولما لا تطويرها أو استبدالها كلما دعت الضرورة والمناسبة.

"ومازال يقتصر على السكون في قصر مغارته مطرقا غاضا بصره معرضا عن جميع المحسوسات والقوى الجسمانية، مجتمع الفكر والهمة في الموجود الواجب الوجود وحده دون شركة، فمتى سنح بخياله سانح سواه وطرده عن خياله جهده ودافعه وراض نفسه على ذلك ودأب فيه مدة طويلة بحيث تمر عليه عدة أيام لا يتغدى فيها ولايتحرك، ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك وغابت عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية وجميع القوى المفارقة للمواد والتي هي الذوات العارفة بالموجود الحق وغابت ذاته في جملة تلك الذوات وتلاشى الكل واضمحل وصار هباء منثورا ولم يبقى إلا الواحد الحق الموجود التابث الوجود"(6)"٦.

إن هذا المسعى التدبيري الذي التزمه "حي" وألزم نفسه به قد يبدو انه يقتلعه من حميمية العالم الذي ألفه ويجعله غريبا عن جسديته التي تتحول إلى عائق، ومتغربا عن صور الاشياء وصفاتها التي طالما أخذته بسحرها ودفعت به للخرس في محراب آفاقها الاعتبارية، إلا أنه يجسد في عمقه التحاما أبديا بروح تلك العوالم واستغراقا في الوجود بكليته.

فالغياب الذي يلف الوجود مؤشر على الاستغراق في الابدي وملازمة له وانسلاخ عن كل الصور المترسبة الناقصة والمشوهة. يقترب ذلك المسعى التدبيري في دلالته ومآله من لحظة المعاناة التى تخبط فيها حي أثناء الزلزال الذي أحدثه موت الأم الظبية.

حيث تدرج في بحثه عن السر الأعظم من معاينة وملامسة الصفات العينية للجوارح ثم اقتفاء آثارها وأفعالها على الجسد برمته، بعد ذلك سابحا في جوانحها وتجويفاتها الداخلية، لينتهي آخرا إلى سر الأسرار الذي لا يستطيع التعبير عنه وتعجز عنه كل لغات العالم الذي خبره والتي انكشفت امام حي تجليا لذلك السر الأعظم.

هكذا تحول المسعى التدبيري عند حي إلى موقف عام من الوجود ونمط حياة يندرج في شبكة من العلاقات سواء في علاقة الذات بذاتها، أو في علاقتها بعالم الأشياء والموجودات، أو في علاقتها بمدبر الوجود.

كما يتأسس على جملة من الممارسات والطقوس التي منها ما ينصب على الذات، من ترويض للجسد وتحكم في قوى النفس، عبر التوسل بتقنيات من التدبير كالعزلة وتعطيل الحواس، المشاهدة والتأمل، والاستذكار والعروج في مرايا العالم، منها أيضا ما يتجه إلى تدبير العلاقة بالكون والكائنات من اجل التخلص من مختلف أشكال التعلق والتبعية التي تعتري الذات من غواية الصور وتسلطيتها.

أضف إلى ذلك أن مداومة حي في مسعاه قد جعلته أولا يرمم أعطابه ويعثر على ذاته الأصيلة كأنما يحتاج في رحلة التيه إلى أرض صلبة لكي لا تزل قدمه وإلى كوكب منير في بهاء الشمس ينير عالمه الداخلي ويقود بصره، ويجلي أمامه حقيقة الأشياء والموجودات. كما يظفر خلاله بالسكينة والأنس والاستغراق في عوالم البهاء والحسن.

يتبين ان المسعى التدبيري لسر الأسرار الذي انعكست آثاره على وجود "حي" نتاج ومحصلة مسار تدبيري تمثله خلال رحلته الوجودية. بدءا من لحظة الولادة الأولى، والانبثاق الفوري في العالم وما استلهمه من تقنيات وخبرات تمكنه من حفظ البقاء ومن التصدي لمختلف أشكال الابتلاء التي تواجهه في رحلة الوجود.

تمت رافد ثان يتمثل في تلك المعارف التي تعقلها في علاقته بسؤال الموت إلى حد جعلته يتحول إلى خبير بالجسد، بمكوناته من عناصر، وبوظائف أعضائه ومنطق اشتغاله إلى درجة أضحى الكون في منظوره عبارة عن كائن حي تتحكم فيه قوانين الحياة والتي يمكن إدراك كنهها شريطة امتلاك القدرة على السيح والسبح في تضاريس الجسدية، والوقوف عند الأسباب الخفية التي تثوي خلف تعدد واختلاف مظاهرها. أما الثالث الذي يعتبر محور التدبير ونواته فإنه يقوم في الاتصال بسر الأسرار الذي لا يمثل فقط الدافع وراء ذلك المسعى بل المراد الأسمى من معرفة أسرار الحي والذي بدونه لا يمكن للذات أن تدرك هويتها وحقيقة وجودها وكذا الغاية من وجودها.

يمكن تلمس متكآت حي في نزوعه لتدبير رحلة التيه بين المرئي واللامرئي، بين الوحدة والتعددية، بين الجسدي والروحاني، بين الثابت والمتغير، بين السكون والحركة في ثلاث مستويات أو أبعاد:

- بعد وجودي يراهن على تحصيل خصوصية الذات من خلال انتزاع تلك الذاتية من براثن الصور الزائفة والمشوهة التي تتولد إما من داخل الذات وما يطالها من اضطراب في قواها النامية والغاذية، المحركة والانفعالية، أو تلك التي تتهددها من الخارج نتيجة التعلق بمظاهر الصور أو التبعية لعالم الأشياء.

- بعد معرفي يراهن على اعتبار تدبير الذات لاينفصل عن معرفة تدبير الجسد، كما أن تدبير الجسد لا يتم بمعزل عن تدبير النفس ومتطلباتها وقواها، وتدبير النفس رهين بإدراك حقيقتها التي لا تنفصل عن تملك لناصية الصور التي تنجلي خلالها قصد تحقيق الاتصال بالذات الإلهية والاستغراق فيها.

- بعد قيمي جمالي يتمثل في الآثار القيمية لذلك المسعى التدبيري على حي خاصة من حيث تحصيل النفس لصفات التأنيس والسكينة والطمأنينة، وكذا من تجميل للمنظور من خلال تلمس مظاهر البهاء والحسن في مشاهدته لآثار تلك الروح في المخلوقات وما تحمله من أسرار والتماعات. كما انعكس ذلك المنظور في علاقته بالكون إذ حرره من النظرة النفعية الأداتية ومن النزعة التملكية. فلا غرابة أن تحكمت قيم التضحية وتهذبت أشكال الإعتناء بالكائنات، من نبات وحيوان في تناغم مع روح الأكوان مثلما يتناغم الكون مع حركة الشمس ونورها.

بالرغم من الأسرار اللامتناهية التي انجلت خلال استغراقه في العالم الالهي فإن حي ظل مشدودا بين عالمين: عالم "الحياة الدنيا" وعالم "الحياة القصوى"، ديدنه المداومة على رحلة العبور بين العالمين والتمرن باستمرار على طَي المكان واختزال الزمن قصد الظفر بذلك المقام الأسنى. ربما تلهفه ذاك جعله يجهد في التخلص من جسديته ويدفعه إلى العزلة أكثر فأكثر، وإلى الانقطاع عن ملازمة عالم الأشياء والكائنات، وإلى التخلص من كل صنوف التدبير!

* * *

الهوامش

(1) ابن طفيل، "حي بن يقظان"، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، ص13.

(2) نفس المرجع، ص15.

(3) نفس المرجع، ص37.

(4) نفس المرجع، ص38.

(5) نفس المرجع، ص40.