يقدم القاص المصري المروق قراءته هنا لكتاب ستيفان زفايج عن هذا النموذج الإنساني الأخلاقي الفريد في محنته إزاء غباء الانشقاقات الدينية وعنفها، وترفعه عن الانخراط في معاركها المدمرة، وتجسيده لحساسية الضمير الإنساني في علاقته مع الدافع الديني الذي اندلعت بسببه الحروب، برغم أن غايته هي تقدم البشرية الأخلاقي.

إراسموس .. أو عن النزاهة والتردد

المفكر الذي كانت مأساته من لدن انتصاره

عاطف سليمان

اليوم، قليلون هم الذين لا يزالون يعرفون ويذكرون «إراسموس فون روتردام» وقد كان، في عصره، إحدى الشخصيات المرموقة العائشة على ظهر هذه الأرض. عاش حتى تجاوز السبعين، وبلغ أوج مجده وهو بين الأربعين والخمسين من عمره، وتلألأ اسمُه في أنحاء أوربا بما لم يُتح لغيره من معاصريه أمثال «ليوناردو دا فنشي» و«رافاييل» و«ميكلانجلو» و«بارسيلسوس» و«ألبرشت دورر»، وبلغ مكانةً فائقة عزَّ على «ﭬـولتير» و«جوته» بلوغها.

إننا الآن في أوربا، في خواتيم القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر؛ حين نجح «بارثولوميو دياز» في سنة 1486 في الوصول إلى رأس الرجاء الصالح، وتبعه «فاسكو دا جاما» فوصل إلى الهند عن طريق رأس الرجاء، ثم أبحر «كولومبس» في سنة 1492 حتى وضع مرساته على الأرض التي صارت تُسمى "الجُزر الأمريكية"، وفي سنة 1519 أبحرَ «ماجلَّان» من إسبانيا، ومضى مُبحِراً إلى الأمام فعاد إلى إسبانيا في سنة 1522، وقد أبانَ على الملأ – برحلته الدائرية - كرويةَ الأرض وقتما كانت فكرة "كروية الأرض" بمثابة هرطقة لا تتسامح معها المعتقدات المسيحية. إذ ذاك انطلقت التساؤلات، وتأسست الجامعات في جميع البقاع الأوربية، وبصدد ذلك الأمر بات اليقينُ المسيحي المستقِر عبر القرون الطويلة السابقة يتلقى الاجتراءات الفكرية.

«ستيفان زفايج»، الكاتب القدير والمثقف الحقيقي والإنسان الورع الذي يحقُّ الحقوقَ لأصحابها ويعيدُ الاعتبارَ إلى ذوي الجدارة المنسيين، كتبَ كتاباً عن سيرة حياة «إراسموس فون روتردام»، ناظراً إليه في تفهُّمٍ وتعمُّقٍ واستكناه، معتبراً إياه أستاذه الـمُبجَّل و«الإنساني الكبير» و«المواطن العالمي الأول، عن وعي وقصد» و«مُحِب السلام الأول» و«ضوء ألمانيا»، ومتفقاً معه تماماً في رفض جميع أشكال التسلط والعنف، غيرَ متغافلٍ عن نقائصه التي من بينها التحيُّر والافتقار إلى اليقين، وإنه لذلك كان ينفر من كل أنواع القرارات الحاسمة بما توجبه من التزامات وقيود، ولقد اتُهِم إراسموس، من جرَّاء ذلك، بالجُبن والتردد وبالخمول والبرود وبالتقلُّب، لكن العدالة تقتضي له أن يأخذ سمة «رجل على حدة»، «Homo per se». وقد أفصحَ زفايج بأن "عالَم إراسموس يتمثل في الاتساع لا العُمق".

اسمُ «إراسموس فون روتردام» هو الاسم الذي اتخذه لنفسه، أما اسمه الأصلي فهو «ديزيديريوس» (أي المرغوب فيه). وُلِدَ في سنة 1466 من علاقة غير شرعية لأبٍ يعمل في الكهنوت. مات والداه مبكراً، وانتقلت كفالتُه إلى أقربائه فأدخلوه دير «ستاين» المكرَّس لأتباع القديس أغوسطين، في سنة 1487. وفي سنة 1492 رُسِّمَ إراسموس كاهناً، هو الذي لم يكن مُغرَماً سوى بالأدب اللاتيني والفنون والنبيذ الجيد. كان إراسموس أديباً وباحثاً في فقه اللغة التاريخي المقارَن ولاهوتياً وعالماً في أصول التربية، مُولعاً بالأدب والفلسفة وبالكتب والأعمال الفنية وباللغات والشعوب. كان مغرماً بالبشرية قاطبة، ورسولاً مبعوثاً من لدن «عقل العالَم»، وكان غيرَ قابلٍ للاتساق مع أي انقلابٍ عنيف ولا مع أي اختلاطٍ للأمور ناجمٍ عن صخبٍ ولغطٍ ولا مع أي احتراب أو شجار جماعي ولا مع الكدر. وكان واحداً من المثاليين الواثقين من قدرتهم على إزاحة الوضاعة وعلى بعث النُّبل في الطبائع البشرية، وقد استطاع أن يكون ذلك الشخص الذي آمن بقدرته على الارتقاء بالعالَم البشري وعلى تحفيز الانسجام وكراهة التعصب الفكري والديني والقومي.

عمل في مهنة "مصحح" في مطبعة في فينيسيا على الرغم من عظمة العروض التي كان يتلقاها ويأباها من عواهل أوربا وذوي السلطات فيها. ومن بين الكتب التي ألَّفها؛ كتابه الأول «أقوال مأثورة - Adagia»، الذي هو مقتطفات ومقاطع من الآداب اللاتينية القديمة، وكتاب «قراءة من أجل ثلاثة أجيال» المشتمل على محاورات لتسهيل تعلُّم اللغة اللاتينية، وكتاب «المرجع في النزاع المسيحي» الذي استجلى فيه السُّبلَ والمقاصدَ الأخلاقية في "أصول العقيدة المسيحية من أجل ورعٍ إنجيلي جديد"، وكتاب «ثناء على الحماقة»، وقد كتبه في سبعة أيام، ويتبدى الكتاب كموسوعة في مختلف أنواع الحماقات البشرية وكهجاءٍ ساخر ضد جميع السلطات بما فيها سلطة الكنيسة الكاثوليكية، ولم يبق من تراث إراسموس غير هذا الكتاب (تُرجِم إلى اللغة العربية). وقد قام كذلك بإعادة ترجمة الأناجيل من اليونانية إلى اللاتينية بغرض إتاحة الأناجيل لأوسع جمهور ممكن وكذلك بغرض تلافي بعض الأجزاء التي لم تكن دقيقة، في نظره، في الترجمة السابقة المعتمَدة من قِبل الكنيسة الكاثوليكية.

جذبت أفكارُه ومثالياتُه إليه أفضلَ الأشخاص من كافة نواحي الأرض، وإنْ ظلت هذه الأفكار قصيَّة عن عموم الجمهور الذي يضجر من الأفكار المجردة، ويفتر حماسُه من التكليفات الأخلاقية، بينما تشده المحسوساتُ وتستهويه الضغائنُ والخصومات ويرتاح في التعصب. وما كان إراسموس قليل الانتباه إلى ذلك فهو من الخبراء بالطبيعة البشرية والمدركين لطبائع الجماهير وماهية الأفكار ومدى صعوبة رسالته. كان من بين أصدقائه المقربين «توماس مور» و«جون فيشر».

اتسمت «النظرية الإراسمية»، كحركة إنسانية، بأريستوقراطية الفكر إذْ لم يكن يتوفر حولها سوى شعوب متعصبة وأمم غير ذات اتحاد وبلا قدرة على التسامي فوق التعصب لقومياتها، لكن «جمهورية إراسموس» صارت ذات وجود؛ «جمهورية إراسموس» التي هي أخوية الثقافة حيث اللغة اللاتينية تنبعثُ لتكون لغةَ الأخوية. لكن كل الأفكار العظيمة الهادفة إلى الارتقاء بالبشرية وتحقيق خُطى التفاهم والسلام على الأرض كانت عالية وبعيدة عن الأرض ولم تصل إلى الجماهير المقصودة، وظلت تشكِّل طبقة رقيقة هشَّة وزائلة.

تأتَّى انتصار إراسموس من طاقته على الصبر والحلم، ومن طاقته الفكرية، ومما لديه من طاقة العدالة وتجنُّب الانحياز، وطاقة الاستقلال عن كل العقائد والمذاهب والقوميات، وطاقة الأمل في التقدم الأخلاقي للبشرية. وتأتت مأساته من لدن عناصر انتصاره بالذات؛ من عجزه عن الحزم ومن افتقاره إلى التصميم على الفعل. تحقَّق له انتصارُه في إحرازه الاستقلال الشخصي الصعب والحرية في تشكيل حياته، وقد غدا غيرَ مقيَّدٍ إلى شيء وغيرَ مرتبطٍ بأحد وغيرَ مُلزَمٍ بخدمة أي سيدٍ بما في ذلك خدمة الرب. لكنه في سبيل تحقيق ذلك الاستقلال كان مضطراً إلى أن يحتال ويتملق ويخادع ويمكر ويتوسَّل لأجل تلبية الضرورات. وتمثَّلت المأساة الشخصية في حياة إراسموس في سقوطه تحت وطأة اجتياح العاطفة الجماهيرية الدينية القومية التي تأججت في وحشية وجموح، وذلك على الرغم من أن إراسموس كان هو المناوئ الأول للتعصب الديني القومي، وعلى الرغم كذلك من أن فكرة الارتقاء فوق العصبية القومية كانت لأول مرة تحظى بالانتشار والتألق عبر أوربا في تلك الأثناء، غير أن انقسام العالَم كان حاداً وكان الجنون الجماهيري مستطيراً إلى حدٍ لم يكن يسمح لأي فرد باتخاذ موقفٍ خارجٍ عن هذه الطائفة أو تلك، فلم يكن ممكناً أن يقول إنسانٌ: "أقفُ لوحدي، لستُ مع هؤلاء، ولستُ مع أولئك".

بأسلوبه السمح الساخر كتبَ إراسموس منتقداً الكنيسة الكاثوليكية، وتلقَّف الدكتور مارتن لوثر، الثوري، أفكارَ إراسموس وأعاد صياغتها بطرائقه العنيفة التي تستسيغ حتى الكذب والافتراء لنُصرة مواقفه. كان مارتن لوثر وإراسموس يطرحان الأفكارَ الإصلاحية نفسَها، على وجه التقريب، بل يمكن القول إن مارتن لوثر قد استعار أفكار إراسموس، إلا أن الفارقَ كان هائلاً بين الأسلوب الديماجوجي المتعصب المتملق لانفعالات الجماهير، كما هو الحال عند مارتن لوثر، والأسلوب المتواضِع المرهَف الهادئ الوئيد العقلاني، كما هو الحال عند إراسموس. بدا أنهما ليسا في حالة عداء غير أنهما لم يكونا في حالة تحالُف.

انقسم العالَمُ الأوربي في الحرب الكَنسيَّة، وصار من الإجباري على كل شخص أن يكون إمَّا كاثوليكياً أو بروتستانتياً، إما مع البابا أو مع مارتن لوثر. وكان إراسموس يناوئ الشططَ والمبالغة في الجانبيْن، ولم يقبل الانحياز إلى أي جانب، فغدا «مُنشقاً» في نظر الجميع؛ «أنا في نظر الكاثوليك بروتستانتي، وفي نظر البروتستانت كاثوليكي».

في اللحظة الحاسمة، حين كان من المهم للغاية أن يعلن إراسموس موقفاً واضحاً من الصراع المتصاعد بين مارتن لوثر والكنيسة الكاثوليكية، امتنع إراسموس بإصرار عن إعلان موقفه. كان لا يمكنه مؤازرة الكنيسة بينما له عليها انتقادات مُعلَنة هي ذاتها الانتقادات التي جأر بها بعده مارتن لوثر بصوته الصاخب العنيف، كما كان لا يمكنه الوقوف إلى جانب عنف وديماجوجية مارتن لوثر واندفاعاته الخطيرة، ذلك على الرغم من أنه – إراسموس – كان، موضوعياً، هو صاحب الذخيرة التي أطلق منها مارتن لوثر على الكنيسة الكاثوليكية. ولقد انتظر الجميعُ منه إعلانَ موقفه حتى يتسنى حسمُ الأمور والسيطرة على تفاقماتها، بل خاطبَه وطَالَبَه بذلك بابا الكنيسة نفسُه والأساقفة وملكُ إنجلترا وملكُ فرنسا وإمبراطور النمسا وإمبراطور ألمانيا وقادةُ الإصلاح الديني! وقف زعماءُ الدنيا والدين على بابه لكنه ماطلَ كثيراً وطويلاً، وتهرَّب دون إعلان أي موقف واضح وصريح له، قاصداً الحفاظ على حياده وكيلا يفسد علاقاته بأي طرف. الأنكى هو أنه تخلَّى عن تلميذه «أولريش فون هوتن»، وسط تلك الأحداث، تخلِّياً مزريا.

آمن إراسموس بموقفه المحايد إيماناً كاملاً حتى إنه اضطر إلى النزوح من مدينة «لوفن» حين جنحت للتعصُّب للكاثوليكية، مثلما اضطر إلى النزوح من مدينة «بازل» حين جنحت للتعصُّب للبروتستانية، ومع الوقت تجرَّأ مارتن لوثر على مهاجمته وتحقيره والتفتيش في إيمانه: «إنني أعتبر إراسموس هو العدو الأكبر للمسيح؛ العدو الذي لم يسبق له مثيل خلال ألف سنة».

سكتَ إراسموس، حسب دستوره الأخلاقي الشخصي، حين كانت كلمته تكفي لإخماد الشرر ولإبراء الكنيسة سلمياً، ثم مات قبل أن يشهد النتائجَ الرهيبة التي كان منها نشوب حرب «المئة عام» العقائدية والحروب الأهلية التي اندلعت بين الشعوب وكذلك الحروب المختلفة بين الدول.

 

atif_sol@yahoo.com

----------

«انتصار إراسموس ومأساته»، «Triumph und Tragik Des Erasmus von Rotterdam»، تأليف «ستيفان زفايج»، «Stefan Zweig»، ترجمة «محمد جديد»، إصدار «منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية – دمشق - ديسمبر 2006 – سلسلة "آفاق ثقافية"، العدد "44"».