في أوقات المحن يكشف المجتمع عن كوامنه الدفينة، سواء منها ما يتسم بالخير أو يكشف عن شر متأصل. من هذا المنطلق تتأمل الكاتبة السورية ما كشفت عنه مسألة النزوح التي تعرض لها قسم كبير من الشعب السوري، وتكشف عن مختلف تجلياتها، ودلالات تلك التجليات السلبية منها والإيجابية.

مسألة النزوح بين التكافل والأنانية

رصد للسلوك الاجتماعي وقت الأزمات، النزوح نموذجاً

رغداء زيدان

ترك كثير من سكان سوريا بيوتهم واضطروا لمغادرتها نتيجة لانعدام الأمن وإغلاق المدن وقصفها. وتحولوا بين ليلة وضحاها إلى نازحين أو لاجئين، فاتجه بعضهم داخل سوريا، ومنهم من هرب خارجها.

هذا النزوح أبرز مظاهر متباينة من السلوكيات المجتمعية، منها ما هو جيد يبعث السرور في النفس، ويشعرنا بوجود الخير بين الناس، ومنها ما هو سيء قبيح، أظهر خبث نفوس بعضهم وحقارة تصرفاتهم.

ولعل النزوح داخل المجتمع نفسه يفرز سلوكيات خاصة تختلف عن تلك السلوكيات التي يفرزها النزوح خارج الوطن تسترعي انتباه الباحث الاجتماعي، وتعطي مؤشراً على حالة المجتمع ككل، يفيده في رصد السلوكيات وتوصيفها، ليس فقط خلال الأزمات، بل بشكل عام. وهذا ما سأحاول رصد بعض ملامحه في هذا المقال:

تكافل وتعاون:

من أهم السلوكيات الجيدة التي برزت خلال السنوات الفائتة بسبب حركة النزوح الداخلي، هذا التكاتف الاجتماعي والمساعدة التي وجدها النازحون ممن استضافهم، حيث وجدنا كثيرين فتحوا بيوتهم للقادمين، وأسكنوهم معهم، وهناك عائلات كثيرة تجمعت مع بعضها وأخلت بيوتها لتسلمها للنازحين دون مقابل، بالإضافة إلى المساعدات الكثيرة، المادية والخدمية، التي قُدمت للمهجرين من الناس الذين تقاسموا معهم طعامهم ولباسهم وسهروا على تلبية طلباتهم، في صورة تكافلية رائعة، ما كنا نتصور حدوثها في مجتمعنا، حيث الشكوى الدائمة من غياب التكافل الاجتماعي، والتعاون الجماعي.

واللافت للنظر أنه رغم ارتفاع حدة النبرة الطائفية والإقليمية في هذه الأوقات، فقد وجدنا نازحين من طوائف مختلفة يلجؤون لبعضهم، ويتم استقبالهم ومساعدتهم، بغض النظر عن اختلاف الطائفة أو المذهب، رغم كل هذا الشحن الطائفي البغيض الذي تعيشه البلاد اليوم.

وإذا رحنا نبحث عن الدوافع التي كانت وراء هذه المواقف، فيمكننا القول إنها دوافع إنسانية بحتة بمعظمها، فمناظر القتل والدم والتدمير والقصف والاعتداء التي تابعها الناس عبر وسائل الإعلام، أو سمعوها من النازحين أنفسهم، أو شاهدوها بأعينهم، أخرجت هذه الكوامن الإنسانية من النفوس، وفعّلتها، ودفعت الناس لتقديم المساعدة للمحتاجين دون حساب.

ومن جهة أخرى فإن هذا التكافل يُبرز بصورة أكيدة انحياز الأكثرية للثورة ضد النظام، والرغبة بالعمل بكل الوسائل لإنجاحها وتحقيق هدفها في إسقاطه وتغييره، حتى لو بذلوا الغالي والنفيس في سبيل ذلك.

الذين قدموا مساعداتهم للنازحين فعلوا ذلك بعفوية، وباندفاع كبير، ورغم مرور السنوات مازال الدعم مستمراً، ومازال الناس يتكاتفون مع بعضهم رغم تدهور الأحوال المعيشية عموماً، ونقص المواد التموينية في بعض المناطق، وهناك من يخاطر بحياته ليوصل الغذاء والدواء لبعض من منعتهم ظروف الحصار والدمار من مغادرة أماكنهم.

لم يكن التكافل الاجتماعي بين مقتدر ومحتاج فقط، بل حصل بين المحتاجين أنفسهم، فقد كان كثير من النازحين يكتفون بالقليل الذي لا يكاد يسد الرمق لإحساسهم بأن هناك من هم بحاجة أكثر منهم، وقد سمعنا قصصاً كثيرة رائعة عن الإيثار، وحتى تغيير بعض العادات المكلفة مادياً، كالتدخين مثلاً، في سبيل توفير نفقتها والحاجة إليها.

وقد كان بعضهم يوفر من حصته التي توزع عليه ليقدمها لمن يعرف أنه مازال هناك، تحت القصف والمعارك، منتظراً الفرصة المناسبة لإرسالها إليه بالطرق التي يعرفها.

أما الأهالي الذين لم يخرجوا من بيوتهم رغم انعدام الأمن والسلامة لأسبابهم الخاصة، فقد كانوا حراساً لبيوت ومحال إخوانهم الذين نزحوا، يحمونها من السرقة والنهب، ويحافظون عليها، ويتواصلون مع أصحابها.

هذه الصور المشرقة للتكافل والتعاون الاجتماعي شجعت كثيرين على البذل بعد الإمساك، وبعثت الأمل في النفوس بأن الغد أفضل، وبأننا نعيش في مجتمع متعاون متكافل يشعر الأخ فيه بمعاناة أخيه، ولا يرضى أن ينام وجاره إلى جانبه جائع وهو يعلم.

استغلال وأنانية وسرقة:

في مقابل تلك السلوكيات الجيدة والتكافل الاجتماعي، وجدنا مظاهر سيئة وقبيحة جداً. فهناك المستغلون الذين استغلوا حاجة الناس واضطرارهم للسكن فرفعوا أسعار الإيجارات لحدود خيالية، وهناك من التجار من احتكر بعض المواد الغذائية والتموينية وتلاعب بأسعارها ووزعها على هواه دون رقيب أو حسيب، غير عابئ بمعاناة الناس وحاجاتهم، مفضلاً نفسه على غيره، مبتغياً الربح الفاحش بغير حق، ولو كان على حساب الناس المحتاجين.

أما البيوت التي غادرها أصحابها مرغمين أو بقرارهم هرباً من الموت، فقد كانت عرضة للسرقة والتخريب، ليس فقط عقاباً لأصحابها، أو لاقتحام قوات النظام لها، بل كنتيجة للفوضى وغياب الأمن الذي استغله كثير من ضعاف النفوس بأبشع صورة، فدخل اللصوص إلى تلك الدور وسرقوها وباعوا مقتنياتها بأبخس الأثمان (وعلى عينك يا تاجر).

وعندما كانت تشتد المعارك وتُحاصر بعض العائلات التي لم تستطع الخروج، كانت بيوت من خرج أو محالهم التجارية مجالاً مباحاً للباقين لتأمين ما يحتاجون من مواد، والحالة هنا تختلف عن السرقة التي يحركها الطمع، فالاضطرار والحصار دفع بهؤلاء لفعل ما فعلوا، إلا أن بعضهم تجاوز حد الاضطرار واستباح كل شيء سواء احتاجه أم لم يحتجه.

وبعض المتاجرين بآلام الناس لبس لبوس الإحسان والعمل الخيري وراح يجمع التبرعات باسم النازحين ويسرقها لنفسه، عدا عن حالات استغلال بعض القائمين على توزيع المعونات العينية في بعض الجمعيات الخيرية للوضع، وتوزيعهم للمعونات بأشكال غير عادلة ولا تراعي ظروف وحاجة الأسر النازحة لغايات في نفوسهم الضعيفة ليس أقلها الرغبة بالتحكم وحب التسلط.

لم تقتصر صور الاستغلال القبيح على هذا، بل إن بعض النازحين أنفسهم لم يحترموا ما قدمه لهم من ساعدهم، فلم يحافظوا على البيوت التي سكنوا فيها، وتعاملوا بعدم مسؤولية، ولم يتعففوا عما لا يحتاجونه، فكانوا يستغلون طيبة وكرم مضيفهم وكأنها فرصة للنهب!.

وهناك حالات من السرقة وانعدام الأمانة برزت معبرة عن صاحبها، ولكن انتشار خبرها جعل آخرين يحجمون عن مساعدة النازحين، ويتوجسون من القادمين الغرباء. وزاد من هذا قيام بعض المتسولين بانتحال صفة النازحين للتسول مما ألحق ضرراً معنوياً كبيراً بمن جار عليهم الزمان واضطرهم لحاجة الآخرين.

وفي التجمعات التي سكن فيها النازحون كالمدارس وأقبية المساجد، ظهرت سلوكيات أكثر قبحاً، مثل التحرش والسرقة والأفعال المنافية للأخلاق، والتي هي بحقيقتها قليلة، ولكن كما نعلم فإن السوء يعم خبره وينتشر، ويصبح بعد مدة حكماً تعميمياً.

تحليل ونظرة:

لو رحنا نحلل المواقف والسلوكيات هذه، سواء الجيد منها والقبيح، فسنرى أنها إفرازات ونتائج لسلوكيات مترسخة في مجتمعاتنا، وهي وإن برزت بصورة قد تكون مختلفة عن حالة بروزها في الأوقات العادية، إلا أنها في مظاهرها العامة هي ردات فعل ناشئة عن سلوك متوقع لوجوده أصلاً في المجتمع، فالمصائب والأزمات تظهر معادن الناس، فالحس الإنساني مازال موجوداً بيننا، والرغبة بالمساعدة وتقديم العون مازالت بارزة، والعمل الخيري مازال منتشراً، رغم كل القيود عليه.

أما سوء التنظيم والفوضى فهي نتيجة لغياب الخبرة في العمل المدني والجماعي، حيث عمل فرط التسيس على وأد المبادرات الأهلية والنشاط المدني الأهلي.

كما أن غياب الإحساس بالمسؤولية، وغياب احترام خصوصية الآخرين، وعدم الخضوع للقانون، وحتى غياب الإحساس بالخطر أفرز سلوكيات قبيحة كالتي تحدثنا عنها سابقاً.

إن هذه الأحداث قدمت صورة واضحة عن مكامن قوة المجتمع، بنفس وضوح الصورة التي قدمتها لمكامن الضعف، وما علينا كمهتمين بالنهضة، راغبين في تحقيقها، ساعين لها، إلا العمل والسعي لتمكين وتعزيز مكامن القوة تلك، وتغيير وترميم مكامن الضعف.

ومن يظن أن المهمة الأساسية للنهوض بعد انتهاء الأزمة ستكون بناء ما دمّر، وتعمير ما خرّب، وتعويض ما خسرناه من أموال ومقدرات، هو مخطئ وقاصر نظر لا محالة، لأن المهمة الأساسية هي في ترسيخ السلوكيات النهضوية، ومحاربة السلوكيات الهادمة، وإلا فإننا لن نحقق شيئاً من تلك الأحلام الوردية التي نرسم بها مجتمع الحرية والقانون والعدل والكرامة والرفاهية.