احتفاءً من (الكلمة) بالعيد الخامس لثورة 25 يناير المجيدة، أهم الثورات المصرية في العصر الحديث برغم تشويهات الثورة المضادة، ننشر دراسة الباحث المصري المرموق عن كيف تخلقت بها عبقرية ميدان التحرير الجغرافي والتاريخي والافتراضي معا عبر العلاقة الجدلية بين الميديا الاجتماعية والفضاءات الحضرية، والثورة.

ميدان التحرير: الميدان الافتراضي

الفضاء الحضري والميديا والانتفاضة المصرية

نـزار السـيد

ترجمة: أسامة الخوّاض

ربما لم يكن بوسع أحد أن يتكهّن بأن انتفاضة وحيدة، بدأتْ في مدينة صغيرة في تونس، يمكن أن تنتشر في مدن رئيسة في مصر واليمن وليبيا والبحرين وسوريا في مدى ثلاثة أشهر فقط. وما كان يمكن أن يكون واضحا أن تضحية محمد بوعزيزي بنفسه أمام مكتب بلدي محلي في سيدي بوزيد، ستشعل الثورة التونسية، والتي أطاحت بالرئيس بن علي في مدى أسبوعين فقط. الثورة في تونس، بالإضافة إلى الصورة اليائسة لتضحية محمد بوعزيزي بنفسه، كانت لهما أصداء في مصر. كثير من المصريين شعروا بالحرج لأن تونس بالغة الصغر قد تصرّفت بشجاعة فائقة، بينما هم ما زالوا غير قادرين على تحدي نظامهم القمعي.

في 25 يناير 2011، عشرة أيام بعد الإطاحة ببن علي، شهد العالم بداية انتفاضة ضخمة في مصر. لكي يحتجوا على وحشية الشرطة المصرية، تمّت الدعوة إلى تظاهرة بواسطة قلة من الناشطين الإسفيريين (أي على الفضاء الرقمي) الذين نظموا تظاهرات صغيرة في السنوات الماضية. تمّ تحديد موعد التظاهرة لتتزامن مع اليوم الوطني للشرطة،25  يناير، وهو عيد حكومي رسمي. وكما وضّح الصحافي أحمد زكي عثمان قبل يوم من الانتفاضات، فإنّ 25 يناير، والذي هو مكرّس للاحتفال بدور الشرطة في الدفاع عن قناة السويس قبل حوالي خمسين سنة، تمَّ إحياؤه، للمفارقة، كيوم وطني في 2009 بواسطة حكومة الرئيس مبارك، لتقدير الجهود الحالية للشرطة المصرية في المحافظة على استتباب الأمن والاستقرار في مصر. واستجابة للدعوات إلى الديمقراطية والعدالة، سار آلاف من المحتجَّين إلى ميدان التحرير في القاهرة، بينما نزل آخرون إلى الشوارع في الاسكندرية وأسوان والإسماعيلية والسويس.

ميدان التحرير والانتفاضة
ميدان التحرير الذي يقع في وسط مدينة بها أكثر من خمسة عشر مليونا من السكان، هو واحد من أقدم الميادين في القاهرة الحديثة. ظهر إلى الوجود قبل 140 عاما في حكم الخديوي اسماعيل، مؤسِّس مصر الحديثة، وسُمِّي باسمه، «ميدان الاسماعيلية»، لما يقارب القرن. الدارسون لتاريخ مصر ،لا يستطيعون مقاومة مقارنة الانتفاضة الراهنة، بحدث آخر حصل قبل ستين عاما وتقريبا في نفس اليوم. في موازاة غريبة، أحدث الاستياء الشعبي من حكومة الملك فاروق، سلسلة أخرى من الاحتجاجات التي تمخضَّت عن حريق القاهرة الكبير في 1952. وفي الحقيقة فإنَّ حريق القاهرة كان نذيراً بالانقلاب العسكري بقيادة جمال عبدالناصر في 23 يوليو، والذي حوَّل مصر من مملكة هادئة إلى جمهورية ثورية.في العقد التالي، أصدرت حكومة الرئيس ناصر مرسوماً بتغيير اسم الميدان إلى "ميدان التحرير"، في إشارة قُصِد منها إحياء ذكرى رحيل القوات البريطانية من مصر. اكتسب الاسم الجديد رواجاً سريعاً، لكن دلالته عند القاهريين لم تكن تعني الكثير. وذلك بالطبع، حتى أحداث 25 يناير 2011.

وبالمناسبة، فإن الشباب الذين بدأوا انتفاضة 2011 باحتلال صينية الحركة في وسط الميدان، ربما لم يكونوا واعين بتاريخه. منذ أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، كانت قاعدة التمثال تجلس في مركز صينية الحركة في انتظار تمثال اسماعيل. لم يتم أبداً وضع التمثال هناك بعد أن وضع انقلاب 1952 نهاية للملكية. ربما أن عبد الناصر ترك قاعدة التمثال خالية، للتذكير بإخفاق النظام المصري السابق. في ميدان التحرير، فإن الخيام التي نُصِبتْ بواسطة المحتجَّين في صينية الحركة، في المحل الذي جلست فيه قاعدة التمثال، ظلت قائمة بعد سنة من الانتفاضة. ذلك الفعل يدلُّ، بالتأكيد، على مرحلة أخرى في التاريخ الطويل للميدان، والتي أصبحت فيها دلالة هذا الفضاء المديني متشكِّلة بأفعال الشعب المصري.

إنّ فكَّ شفرة قصة الاحتجاجات في القاهرة مهم هنا، ليس فقط لفهم ما يُسمَّى بالربيع العربي، ولكن أيضا لكي نفسِّر التحولات التي حدثت في المدن العربية كنتيجة لهذه الانتفاضات. وعلى سبيل المثال، بعض المجموعات الصغيرة في القاهرة وفي ميدان التحرير نفسه، كانت تحتج لسنوات قبل الانتفاضة، ولكن بتأثير قليل. ولكنْ في 25 يناير 2011 وتقريبا بعدها مباشرة، أصبح واضحا أن الناشطين الإسفيريين قد قرّروا أن يجمِّعوا بعض المحتجَّين من جماعات سياسية متعددة للانضمام إلى الاحتجاج في الميدان. تلك الجماعات ضمّت حركة 6 ابريل والحركة المصرية للتغيير "كفاية" والأخوان المسلمين وأحزاب معارضة قليلة وشخصيات بارزة من رجال الأعمال والفنون والدوائر الأكاديمية. عندما بقيت الاحتجاجات في الشوارع وأصرَّت على احتلال ميدان التحرير، أصبحت المطالبة باستقالة مبارك النقطة الأساسية للوحدة.

الميادين والشوارع: فضاءات الاحتجاج
لتبرير الانتفاضات، التي انتشرت من ميدان إلى آخر في القاهرة، من الضروري أن نفكِّك الدلالة الرمزية لتلك الفضاءات، حيث ظهرت للعيان فعلا تلك الانتفاضات، وأن نرسم كرونولوجيا الاحتجاجات في الفضاءات الحضرية للمدينة. تتضمن تلك الفضاءات كلها، تاريخا حضريا معينا أو جغرافيا اجتماعية، تسمح لنا أن نفهم بشكل أفضل المدينة، والأحداث التي وقعت فيها خلال العام الماضي.
القاهرة مدينة قديمة حيّرت الناس وسحرتهم على مرِّ القرون. في محادثة مع عدد قليل من أصدقاء قاهريين قبل سنوات قليلة، وصف واحد منهم، ربما كان محبطا ممّا كان يرى أنه رضا ذاتي مصري نموذجي، وصف المدينة كقبر مملوء برفات غابرة، لا تتغير بمرور الزمن إلا قليلا. صديق آخر اعتبر المدينة بالغة الهشاشة، وربطها بقنبلة موقوتة. صديق ثالث، كان يسترقّ السمع إلى النقاش، تدخّل مع ضحكة مكتومة، وشبّه القاهرة بقنبلة داخل قبر، ستنفجر في النهاية كاشفةً طبقاتٍ من التاريخ المصري غير معروفة لنا جميعا. الأمر الذي لم يقلق أحدا لكي يتطرق إليه، كان هو متى ستنفجر القنبلة. انفجرت المدينة بأسرع مما كان يتوقع أي أحد، بانتفاضة جعلت من ميدان التحرير اسما ذائع الصيت. لقد بدا أخيرا أن ميدان التحرير قد استحق اسمه.

بروز ميدان التحرير كموقع مركزي للثورة الأخيرة، هو دليل على كيف أن المكان والتاريخ يجتمعان بطرق غير متوقعة. بُثّْتْ صور ميدان التحرير خلال التغطية الإعلامية للانتفاضة الأخيرة، وقد نُقِشت تلك الصور إلى الأبد في عقول البشر حول العالم. تلك الصور التقطت عددا من المباني التي لم تسرد فقط تاريخ القاهرة الحديثة، ولكن أيضا قدَّمتْ استبصارات حول تناقضات التاريخ المصري الحديث عندما قابل الاستعمار والحداثة والقومية العربية والاشتراكية والليبرالية الجديدة.

المُجمَّع، وهو مبنى حكومي مقوّس وضخم بمظهر سوفيتي، والواقع في النهاية الجنوبية للميدان، ظلَّ لفترة طويلة رمزا للبيروقراطية المصرية الهائلة، والتي حكمت في العقود الستة الماضية. ليس مدهشا انه في الحقيقة بُني بدعم من الاتحاد السوفيتي السابق، ويقف شاهدا على تاريخ مصر الاشتراكي. ليس من قاهري بإمكانه تجنب مشوار إلى ذلك المبنى خلال حيواتهم، لأنّ الوحدات الحكومية التي يأويها، كانت تُصْدر كل شيئ من شهادة الميلاد إلى جوازات السفر. في شرق الميدان يوجد مقر الجامعة العربية المبني في أوج القومية العربية، عندما قادت مصر العالم العربي سياسيا وثقافيا. مجاور له يوجد فندق هيلتون السابق، والمبني عندما باشرتْ مصر مرحلتها الصناعية الحديثة، وحاولت أن تموضع نفسها في المجال العالمي، وتجذب السياح. لزمن طويل اُستعمِل بمثابة مكان يأوي كبار الشخصيات الغربية والسياسيين والصحافيين والشخصيات الفنية، وهنا تمَّت كبرى الصفقات الاقليمية والدولية. كان الفندق تحت التجديد ليصبح ريتز كارلتون، عندما تسبّبت أحداث التحرير في التوقف التام لكل المشاريع.

 شمال الفندق يوجد المتحف المصري بلون سمك السلْمون الأحمر، المبُني في مطلع القرن العشرين، عندما كانت مصر ما تزال تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية. هو يأوي واحدة من أغنى مجموعات الآثار في العالم. في الزاوية يقع مبنىً هو الآن هيكل عظمي بعد أن تم حرقه بواسطة المحتجَّين خلال الانتفاضة. مبنىً حديث صُمِّم أساسا ليستعمل كبلدية للقاهرة، خُصِّص في البداية بواسطة نظام ناصر في أوائل الستينيات، كمقر للحزب الوحيد في مصر في ذلك الوقت، الاتحاد الاشتراكي العربي. حزب مبارك الوطني الديمقراطي سيحلُّ لاحقا محل الاتحاد الاشتراكي العربي، وقد أُستولي على المبنى ببساطة ليخدم أسياده الجدد. كل مَعْلمٍ من تلك المعالم، لعب دورا في صُنع مصر الحديثة. المباني المحيطة بميدان التحرير سمحت لنا بقراءة أفضل لكيف نُظِر إلى ميدان التحرير بواسطة المحتجَّين، وبعضهم بدون شك واعٍ بتاريخه.

بعد أن بدأت الاحتجاجات في أرجاء البلاد، شجِّع نجاحها المنظمين على الدعوة إلى مسيرة مليونية في 28 يناير، اليوم الذي لُقِّب ب"يوم الغضب". تلك المسيرة كانت التظاهرة الرئيسة التي طرح فيها المحتجَّون بشكل واضح مطلبهم بنهاية النظام. في الحقيقة، فإن الخيام المنصوبة في ميدان التحرير بعد المعارك الكبرى مع الشرطة، وسمت المرونة الرمزية للمحتجَّين. ستساهم التغطية المكثفة من قِبل الميديا العالمية لاحقا، في إلهام تظاهرات مماثلة ليس في الشرق الأوسط فقط، ولكن حول العالم في ما أصبح يعرف بحركة الاحتلال.

في 28 يناير 2011، خلال يوم الغضب، شهِد كوبري قصر النيل الذي يربط مناطق الدقي والزمالك بوسط القاهرة، ويقود مباشرة إلى ميدان التحرير، صداما دمويا بين المحتجَّين وجهاز الأمن المركزي للنظام. دفع آلاف المحتجَّين قوات الشرطة التي حاولت صدَّ المحتجَّين مستخدمة مدافع الماء والغاز المسيل للدموع. ومن سخرية القدر، أن الاحتجاجات في مكان آخر في ذلك اليوم، بدأت أيضا على بعد أميال من الكوبرى حوالي الظهر، بخطبة الجمعة المُثْنية على المحتجَّين في مسجد مصطفى محمود في المهندسين، المسجد الذي سيستخدمه لاحقا أنصار مبارك. يبدو أن خطة المحتجَّين في كوبري قصر النيل كانت السير إلى ميدان التحرير والالتحام بمجموعات المحتجَّين الأخرى، خاصة أولئك القادمين من كوبري 6 أكتوبر، الطريق السريع المرتفع الذي يقود إلى الجزء الشمالي من ميدان التحرير. بينما كان كوبري 6 أكتوبر محتلّا بواسطة المحتجَّين، كان المتظاهرون في كوبري قصر النيل قد نجحوا في الاندفاع نحو ميدان التحرير. بعض المحتجَّين تسللوا خلال الحواجز المعدنية التي نصبت على عجل قاذفين بها في النيل مع علب الغاز التي ألقتها الشرطة، بينما شقّ محتجَّون آخرون طريقهم عبر عربات الشرطة المعترضة لهم. حوالي وقت متأخر من العصر، تم الاستيلاء على كوبري قصر النيل بواسطة المحتجَّين الذين عبروا إلى ميدان التحرير لينضموا إلى المحتجَّين الآخرين الذين كانوا هنالك. خلال احتلال ميدان التحرير من قِبل المحتجَّين، كانت السيطرة على الفضاء الحضري الضخم والحفاظ على الوضع، حاسمَين في تغيير علاقات القوة خلال المراحل الأولى للانتفاضة.

بعد صدامات كوبري قصر النيل، احتشدت المجموعات المناصرة لمبارك في مسجد مصطفى محمود. وكما أبانت رشا صادق في 2012، أطلقت تلك المجموعات المؤيِّدة لمبارك والمناوئة للثوَّار على نفسها اسم أبناء مبارك، وساروا في الثاني من فبراير تجاه ميدان التحرير على الجمال والخيول، مهاجمين للثوار في ما أصبح لاحقا يُسمّى بـ«معركة الجمل». عند الظهر، صُدم متظاهرو التحرير بأن المتظاهرين المؤيدين لمبارك دخلوا الميدان من جهة كوبري 6 أكتوبر المجاورة للمتحف المصري. وقعت المعركة الحضرية الرئيسة في ميدان ثانوي مرتبط بميدان التحرير، بينما استعرت صدامات صغيرة عبر الفضاء. نجح المحتجَّون في آخر الأمر، في دفع المهاجمين إلى حافة الميدان. شهد العاشر من فبراير واحدا من أكثر الأيام درامية في الانتفاضة، عندما كان المحتجَّون منتظرين خطابا من مبارك يُتوقّع أنْ يعلن فيه أنه قد تنحّى. ولكن يا للحسرة، فهو لم يفعل، ورفع المحتجَّون أحذيتهم ولوّحوا بها نحو الكاميرات التلفزيونية، في إشارة مخصَّصة للذين يكنّون لهم اشمئزازا مطلقا.

أخيرا، بعد 18 يوما من الاحتجاج الجماهيري، في الحادي عشر من فبراير، أَعلن عمر سليمان نائب رئيس الجمهورية المعيَّن حديثا- بعد ما يزيد قليلا عن ثلاثين ثانية- أنّ الرئيس مبارك سلّم كل سلطاته إلى المجلس العسكري، مُنهيا بذلك ثلاثين عاما من الحكم الاستبدادي. في الوقت الذي أُجبر فيه مبارك على التنحي وتسليم السلطة لعسكرييه، بقيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، انخفضت بشكل هائل أعداد المحتجَّين من مؤيدي مبارك أو اختفت جميعا، وكذلك الصيحات العالية لمعارضيه الآتية من ميدان التحرير. وتم استبدالها سريعا بمجموعتين أُخريين: أولئك الذين لم تسعدهم وتيرة الإصلاحات والأداء الضعيف للمجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة البلاد، وأولئك المؤيدين للعسكريين وقيادتهم في المجلس الأعلى للقوات المسلحة.

في صيف 2011 ، ابتدأت المجموعة الأخيرة في الاستيلاء على ميادين أخرى في مناطق هليوبوليس والعباسية. طبقا لصادق، في مناسبة في 25 نوفمبر 2011، اشتهرت العباسية بواسطة قناة «الفراعين» الخاصة الموالية لمبارك، كفضاء يمكن المصريين الناشدين للاستقرار أن يتظاهروا فيه. عشرات الآلاف تحوَّلوا لترديد شعارات مؤيدة للمجلس الأعلى للقوات المسلحة، قبل أن يُحْمَل توفيق عكاشة مالك القناة الذي ظهر وسط الحشود، على الأكتاف. بعد شهر جرت تظاهرة ثانية استجابة لمطالب جاءت من التحرير بتنحي المجلس العسكري الحاكم. وأعقبتْ ذلك صدامات دموية بين المحتجَّين المعارضين للمجلس الأعلى للقوات المسلحة من جهة، وقوات الجيش والأمن من جهة أخرى. منطقة العباسية، التي كانت مقرا للقوات المسلحة المصرية في مطلع القرن العشرين، ظهرتْ كبديل لميدان التحرير لأولئك الذين إما أنهم لا يؤيدون سقوط مبارك، أو تكبَّدوا خسارات نتيجةً للانهيار الأمني والاقتصادي الذي أعقبه. ولكن لا يجب استدعاء تلك الأمور، للتقليل من انجازات الانتفاضة المصرية أو أهمية ميدان التحرير.

الميديا الاجتماعية والفضاء الحضري وتغطية الميديا التقليدية
خلال الأحداث الخطيرة للانتفاضة، لعبت شبكات الميديا والاتصالات المتعددة دورا رئيسا في تسهيل وبثّ الانتفاضات إلى بقية العالم. الميديا التقليدية مثل التلفزيون والكيبل ومواقع الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي ممثَّلة في الفيسبوك وتويتر ويوتيوب، ووسائل أخرى للاتصالات الاساسية مثل الهواتف المحمولة والهواتف الأرضية، كلها لعبت أدوارا متبادلة في نجاح حركة الاحتجاج.

استخدام الميديا الاجتماعية للتعبئة الجماعية لم يكن جديدا تماما في مصر. خلال العشر سنوات الماضية، شهدت مصر عديدا من احتجاجات وتظاهرات الشارع المنادية بالديمقراطية والعدالة بواسطة مجموعات مثل كفاية وحركة 6 أبريل. وكما كتبت كاثرين سميث في فبراير 2011، كانت الشرارة الأولى التي عبأت الانتفاضة المصرية في 25 يناير 2011 هي صفحة الفيسبوك المشهورة "كلنا خالد سعيد" التي أدراها الناشط وائل غنيم في يونيو 2010 والتي يبلغ عدد مشتركيها اليوم مليوني مشترك. كُرِّست الصفحة لذي السبعة وعشرين عاما خالد محمود سعيد، والذي قبضت عليه قوات جهاز مباحث أمن الدولة، وضُرب حتى الموت عندما كان في مقهى للانترنت في الاسكندرية في 6 يونيو 2010. صفحة الفيسبوك، المخصصة لموت خالد سعيد، قدَّمت للمصريين منبرا تفاعليا لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، طارحة مطالب ضد الحكومة، وحاشدة للدعم. عندما تكاثرت أعداد المشتركين وتواصلت مع مجموعات معارضة أخرى على الانترنت، تحوّلت صفحة "كلنا خالد سعيد" في الفيسبوك إلى محور منظِّم للانتفاضة المصرية، ناشرة الدعوة إلى الاحتجاج في اليوم الوطني للشرطة في الخامس والعشرين من يناير. أعلنت صفحة الفيسبوك "سنأخذ كل حقوقنا، ولن نسكت بعد اليوم" و"احتجاجنا في 25 يناير سيكون بداية النهاية، نهاية الصمت والاستياء والخنوع وبداية لصفحة جديدة".

بالإضافة إلى ذلك،كان تويتر محورا تنظيميا آخر على الانترنت، حيث استخدم الناشطون ميزة الوسم #Jan25 لدعوة الآخرين لينضموا إلى الحدث، وكذلك لتنظيم أنفسهم. ناقش كثير من الناشطين في تويتر وخطّطوا ليوم الخامس والعشرين من يناير باستعمال الدالة @reply.في الحقيقة، لاحظ ايدل ونن أنَّ كثيرا من مغرِّدي تويتر يعتبرون أنفسهم "مواطنين صحافيين"، وجعلوا الجهر بالكلمة مهمتهم من خلال فيضان من الفيديوهات والصور، والتي خلقت نمطا جديدا من الفعالية العصرية التي تحقَّقت عن طريق وسائل الانترنت والاتصال الجماهيري. ببثِّهم لمطالبهم السياسية، لا يتحدث الناشطون إلى مواطنيهم فقط، وإنما إلى المجتمع الدولي والعالم. حين كان المغرِّدون يراوحون بين الفضائين الافتراضي والفيزيائي، أدامت التحديثات المستمرة من المحتجَّين في مصر، الانتفاضة في مصر.

في يوم الجمعة الثامن والعشرين من فبراير، كان يمكن لإغلاق الحكومة للانترنت أن يُنهي الاحتجاجات أو يقلِّل أعداد الحشود، لكنه لم يؤدِ إلى ذلك. وذلك لأن أعدادا كافية من الناس قد انتقلت إلى الميدان. وباستعمال وسائل أكثر تقليدية للاتصال والتشبيك مثل التحدُّث إلى الاصدقاء والعائلة، تمكّن المحتجَّون من الصمود في الميدان. حتى تعليق كل خدمات الهاتف المحمول لم يوقف الاحتجاج، فكثير من القاهريين ما زالوا يعتمدون على موضة الخطوط الأرضية القديمة. أخيرا سقط النظام، والمصريون بعد الهتاف لأيام "الشعب يريد إسقاط النظام"، احتفلوا بهتافات "ارفع رأسك فوق، أنت مصري" بطريقة لم تشهدها أبدا شوارع القاهرة. بعد ذلك تحوَّل ميدان التحرير إلى أكبر حفلة شهدتها القاهرة، وتمَّ التقاط الاحتفالات وتقديمها إلى الجمهور في منتديات الانترنت حيث بدأت الاحتجاجات أولا. عندما انتهى الاحتفال، نزل جيش من المتطوعين، أكثرهم نساء، إلى الميدان. متسلحات بالمكانس وأكياس القمامة، نزلن من البيوت لينظفن حطام 18 يوما من الاحتجاج والمعارك الحضرية.

أشكال جديدة من التشبيك الاجتماعي
حتى اليوم هنالك قلة من الدراسات ذات العمق، التي تستكشف العلاقة الدورية والمتبادلة بين الميديا الاجتماعية والميديا التقليدية والفضاءات الحضرية، والتي ظهرت من خلالها الانتفاضات إلى الوجود. في الحقيقة، إن من الضروري، لكي نفهم تلك الانتفاضات، أنْ نحلِّل الطرق التي تشكلت بها الشبكات المتمردة في الميديا الاجتماعية وفي المدن معا، وكذلك دور تغطية الميديا للأحداث المتعاقبة، حيث تتجلّى للعيان العلاقة التأسيسية التبادلية بين تلك المكونات الثلاثة.

إن الانتفاضات في مصر وفي أمكنة أخرى من العالم العربي، قد تقود المرء ليقول أن الحركات الاجتماعية قد مرَّت بتغيير مميَّز، إذ أنها الآن تحتوي "ذخيرة" جديدة ظهرت إلى الوجود وغيَّرتْ بطريقة جذرية، طرق العروض المتنازعة كما بيّن أخيرا تشارلز تيلي، واحد من المنظرين الأساسيين للحركات الاجتماعية. إن أحداث 2011 قد غيَّرتْ وأضافت معا، أنماطا جديدة من الفعاليات إلى الذخيرة القديمة للحركات الاجتماعية، والتي تأسَّست على تظاهرات الشوارع والوقفات الاحتجاجية والمسيرات واللقاءات الجماهيرية. هذه الذخيرة متعددة الأوجه يمكن ملاحظتها بشكل أفضل، خلال العلاقات بين الميديا الاجتماعية والفضاء الحضري وتغطية الميديا للاحتجاجات، والتي كانت رسائلها تأسيسية بشكل متبادل.

المثال الأخير المثير للاهتمام والذي يرسم العلاقة الدورية والمتبادلة بين الميديا الاجتماعية والفضاء الحضري، جاء إلينا من أحداث الرابع من فبراير 2012، سنة كاملة بعد الانتفاضة في مصر. في الثالث من فبراير اندلع شغب كروي كبير في مدينة بورسعيد على قناة السويس بعد أن هزم الفريق المحلي فريقا زائرا كبيرا من القاهرة. أكثر من 70 شخصا، وكثير منهم من مشجعي فريق القاهرة، قُتِلوا في الشجارات التي أعقبت المباراة. سرت سريعا إشاعة بأنّ المهاجمين اُستؤجروا بواسطة رجل أعمال ثري من بورسعيد، والذي كان وثيق الصلة بالنظام السابق. بالرغم أنه لم يتم الكشف عن دليل، فإن حزب الحرية والعدالة للإخوان المسلمين، الذي كان وقتها القوة المهيمنة في البرلمان المنتخب الجديد، نشر الإشاعة على موقعه الالكتروني كأنها حقيقة. في اليوم التالي، مدفوعةً بالنشر، قالت النيويورك تايمز، أن مزيدا من التظاهرات العنيفة أعقبت ذلك في شوارع القاهرة واستمرت لعدة أيام. هذه الحادثة توضِّح كيف أن الأحداث في فضاء حضري واحد، تتم تغطيتها بواسطة أكثر الميديا تقليدية مثل التلفزيون القومي، وبعد ذلك تُفسَّر ثم تُنشر بواسطة مواقع الميديا الاجتماعية، مولدِّةً بدورها، احتجاجات جديدة في فضاءات حضرية أخرى. في الحقيقة، فإن واحدة من النتائج المهمة للانتفاضات ليس فقط التقاء أدوار الميديا التقليدية والاجتماعية، ولكن أيضا بروز ذخيرة جديدة من الحركات الجماهيرية في الفضاء الحضري.

حقا، كما جادل جيفري جيريس في 2005، فإن منطق شبكة الناشط ميسَّرا بواسطة تكنولوجيات رقمية جديدة، لا يوفِّر فقط طريقة فعّالة لتنظيم الحركة الاجتماعية، بل أيضا يمثِّل نموذجا عريضا لخلق أشكال بديلة للتنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. يبدو أنّ استخدام الميديا الاجتماعية يفعل أكثر من مجرد أنه يسمح لأصوات الناشطين بأن تُسمع، وهو أيضا يستلزم رابطة بمجال الفضاء الفيزيائي حيث طالبت هذه الأصوات بالتغيير.

في 2009 اقترح مانويل كاستيلس السوسيولوجي البارز منظِّر كلٍّ من الحركات الاجتماعية وتكنلوجيا الاتصالات، في كتابه قوة الاتصالات، أن "شبكات الأفراد أصبحت مجتمعات متمردة"، وأن "الانفجارات الاجتماعية للمقاومة ليست في حاجة إلى قادة واستراتيجيات لأن أي واحد يمكن أن يصل كل شخص لتقاسم غضبهم". بينما يمكن أن يكون صحيحا أنّ الحركة المصرية والأخرى حول العالم العربي بدون قادة، فأيضا صحيح أنّ مثل هذه الحركات يمكن أحيانا الاستحواذ عليها، بواسطة مجموعات سياسية أو اجتماعية على الأرض، حسنة التنظيم وتملك مصداقية من خلال ارتباطاتها بقواعد الجماهير على المستوى الحضري. مجموعات مثل هذي، كما الاخوان المسلمين في مصر أو أحزاب مماثلة في شعوب عربية أخرى، كانت سلفا قد استثمرت مجهوداتها في توفير خدمات اجتماعية لمجتمعات حضرية فقيرة مختلفة. طالما أن هذه المجموعات، بحكم التعريف لها قادة، فإن هؤلاء القادة يميلون للظهور أولا كناطقين باسم حركات الاحتجاج على المستوى العريض، حتى ولو لم يتقاسموا الأهداف الأولية أو مطالب الاحتجاجات. أخيرا، وكما توضِّح الحالة المصرية، فإن حركات الاحتجاج هذي، يمكن أن تُقرصَن بواسطة المجموعات السياسية الموجودة لتحقِّق غايات أخرى، مما يُفرز سياسات تتناقض مع مطالب المحتجَّين الأصليين. ومع ذلك، فمن الضروري الانتباه إلى السيروة التي أعطت وحدة وتماسكا لهذه المجتمعات المتمردة، قائدةً لها للاستيلاء على الميادين والشوارع بطريقة جدّدت أخيرا نشاط الفضاء الحضري الهاجع طويلا، من خلال انتفاضات الربيع العربي.

في هذا السياق، فإن استخدام الميديا الاجتماعية خلال الاحتجاجات حوَّل الأفراد والجماعات إلى مجتمعات متمردة، وفي نفس الوقت ربط منطق الاحتجاجات مفصليا بمستخدمي تويتر والفيسبوك. ولكن سيكون من الخطأ والبساطة أن نُسمِّي هذه الانتفاضات ثورات للفيسبوك، كما حاول البعض أن يفعل من قبل. في الحقيقة، إن ما حدث في ميدان التحرير أثناء الانتفاضة، يُظهر أنه حتى في القرن الواحد والعشرين، يظل الفضاء الحضري أكثر المجالات أهمية لتغيير اجتماعي معارض. إن الترتيبات الفضائية الجديدة المتمفصلة في مدن العالم العربي خلال الانتفاضات الأخيرة، قد أعادت "المسألة الحضرية"، كما تصورها كاستيلس قبل ثلاثين عاما، مشددا على الحاجة لدراسة النوعيات الحضرية الجديدة التي تؤثر على مظالم المواطنين المتمردين وأشكالهم التنظيمية ووعيهم. إننا نحتاج لأن ننظر إلى الديناميات الحضرية الجديدة التي تنتج عن مُركَّب من العلاقات الاجتماعية والسياسية، حيث، على سبيل المثال، أصبحت الميديا الاجتماعية الجديدة جهازا مخرِّبا في تمفصل السياسة واستعادة الفضاء الحضري.

اليوم يتأمل المنظِّرون السياسيون نهوض مصر الإسلامية عقب الانتفاضة، فالمتفائلون يزعمون أنها يمكن أن تتبع النموذج التركي، والمتشائمون يرون تطورا لثيوقراطية معتدلة مقتفية خطى إيران. لكن الواقع أكثر تعقيدا ولا يمكن التنبؤء به، إذ أن الميديا الاجتماعية والفضاء الحضري هي الآن بشكل تام، خارج سيطرة الحكومة المصرية وشرطتها والبرلمان المنتخب والقوّات المسلحة القوية، والتي تدير جزءا مهما من الاقتصاد. الزمن وحده هو من ينبئ إذا ما كان أن أشكالا جديدة ستنشأ للحدِّ من قوة الميديا الاجتماعية التي انطلقت في الانتفاضة، والحدِّ من إمكانية الوصول إلى الفضاء الحضري، تاركة مصر ليس مثل تركيا أو إيران، وإنما مثل الباكستان بكل مشاكلها المتلازمة التي تأتي من عسكري مختبئ في الخلفية، وباستراتيجيات تحاول أن تحدَّ من قوة كل من المسؤولين المنتخبين والناشطين الحضريين.

بينما استشرت ذخيرة هذه الاحتجاجات دوليا بشكل درامي، فإن أكثر النتائج أهمية، ليس تحوُّل الميديا التقليدية للنظام فقط، ولكن أيضا بروز ذخيرة جديدة من الحركات الجماهيرية في الفضاء الحضري. قبل عشرين عاما جادل الجغرافي ومنظِّر الميديا مكنزي وارك، في كتابة المُعنْون على نحو ملائم بالجغرافيا الافتراضية، بأنَّ تغطية الميديا لأحداث معيَّنة، يعرِّف غالبا الأحداث نفسها ويعيدها إلى الوجود. مستخدما أمثلة من سقوط حائط برلين والاحتجاجات في ميدان تيانانمين في الصين في أوائل التسعينيات، اقترح وارك أنّ تغطية الميديا لهذه الأحداث الحضرية، مبثوثةً إلى العالم من خلال ميديا الكيبل على مدار 24 ساعة، الحديثة حينها، جعلتْ محطات إخبارية تلفزيونية مثل سي ان ان، تحرِّك الأحدث نفسها وأخيرا تحدِّد مصيرها. لقد فعلت أحداث ميدان التحرير بعد عشرين سنة لاحقا، باستخدام ميديا اجتماعية جديدة في هذا الزمن، الشيء نفسه تماما، دافعةً العلاقة بين الميديا والفضاء الحضري إلى قمة جديدة.

في الختام، فإن الثورات –ببساطة- لا تحدث في الإسفير، حتى ولو استمدت بداياتها من هناك. وما خَبِرته القاهرة يُظْهر بوضوح أنّ ميدان التحرير الحقيقي، بكل العرق والدم الذي سال عليه، ونظيره الافتراضي الفوضوي غير المنظَّم والمتغير أبدا، هما وجهان لعملة واحدة. في الحقيقة سأقترح أن ميدان التحرير اليوم لا يمكن أن يستمر في أن يمتلك وجودا ذا معنى، بدون آخره الافتراضي، الذي يمكن شرعيا أن يُسمَّى التحرير2.

 

تعليق لابد منه:
عن المقال والترجمة:

1 - عن الترجمة:
استعنت بالمورد لمنير البعلبكي، وساعدني قاموس ميريام ويبستر الانجليزي في التعرف على ظلال الكلمات والتعابير. وأبقيت على كلمات انجليزية مثل ميديا وكرونولوجيا لشيوعها. ولأن الترجمة موجهة في الأساس إلى القارئ السوداني، ترجمت بعامية سودانية هي صينية الحركة كلمة roundabout ".كما بدت لي ترجمة كلمة Pan-Arabism محيِّرة، وهي بالفعل كذلك(1). وقد وقع اختياري -من الكلمات التي تستدعيها تلك الكلمة الانجليزية- على "القومية العربية". تتميَّز لغة المقال بجمعها بين اللغة التي تستند على الحقائق، واللغة التي تنحو منحى مجازيا، وكانت الأخيرة هي الأصعب في الترجمة.

حاولت في المراحل الأولى أن أكون أمينا قدر الإمكان للنص الإنجليزي، ثم بعد نهاية الترجمة كنت أحاول أن أفصل نفسي عن النص الأصلي، ومن ثمَّ أعدت صياغة الترجمات التي بدت لي بعيدة عن إيقاع اللغة العربية دون إخلال بمحتوى النص الأصلي. في زعمي المتواضع أنه لا توجد "ترجمة مثالية"، وإنما هنالك ترجمات متفاوتة في درجة اقترابها من الجودة والسوء. وآمل أن تكون ترجمتي سعيدة الحظ عندما يطالعها القارئ الجيِّد.

2 - عن المقال:
صادفتُ المقال المترجَم خلال بحثي عن "حزب الكنبة السوداني" وعلاقته بالربيع العربي في مكتبتي الإسفيرية الانجليزية "Questia".عنوان المقال هو The Virtual Square: Urban Space, Media, and the Egyptian Uprising نشر المقال في .Harvard International Review, Volume34,Issue 1,Summer 2012 والمقال مكتوب بتداخل مناهجيInterdisciplinaryتتداخل فيه العمارة مع الجغرافيا والميديا والتاريخ ودراسة الحركات الاحتجاجية.

يكتسب المقال أهميته من اندراجه ضمن المقالات القلائل المكتوبة بالانجليزية -حسب علمي المتواضع- التي كتبها باحث ينحدر من المنطقة التي شهدت الحدث أو الأحداث المُقارَبة في الدراسة. فكاتبها مصري ينتمي إلى الأكاديميا الأمريكية. وقد بدا لي أيضا، أن المقال يستدعي ضمنا جغرافياً مصرياً آخر هو جمال حمدان في مشروعه البحثي الضخم "شخصية مصر-دراسة في عبقرية المكان". يقول جمال حمدان في "مقدمة في الشخصية الإقليمية"(2)، إنّ قمة الجغرافيا هي التعرّف على شخصيات الأقاليم regional personality ص 11 .ثم يمضي إلى القول بأن الشخصية الإقليمية "تتساءل عما يعطي منطقة تفردها وتميزها بين سائر المناطق، محاولة أن تنفذ إلى "روح المكان" لتستشفّ عبقريته الذاتية، التي تحدّد شخصيته الكامنة. وهذا هو فكرة الهيكل المركب  compageعند بعض الجغرافيين الأمريكيين أو ما يعرف كاصطلاح عام "بعبقرية المكان genius loci". يرى في ص 12 أن "روح المكان" هو "أكثر من أي شيء آخر روح الجغرافيا". ثم يتحدث في ص 12 عن الحاجة إلى سوبر-جغرافيا "لا تقف عند حدود وصف المكان بل تتعداه إلى فلسفة المكان". ثم يربط في ص 13 بين "الجغرافيا " و"التاريخ" قائلا "إن دراسة الشخصية الإقليمية لا تقتصر على الحاضر وإنما هي تترامى بعيدا عبر الماضي وخلال التاريخ".

كاتب المقال أكاديمي مصري هو نزار السيَّد، وهو بروفيسور في التخطيط والعمارة والتاريخ الحضري، وهو رئيس مركز الدراسات الشرق أوسطية في جامعة كاليفورنيا، بركلي.

 

هامشان:

(1)يقول Adeed Dawisha في كتابه:  Arab Nationalism in the Twentieth Century: From Triumph to Despair, Princeton University Press , Princeton, NJ, 2005,p 11

“What is rather baffling about all this is the glaring paucity in the use of the term pan-Arabism in Arabic texts. There are authentic Arabic equivalents for a number of terms that are of significance for our subject: al-qawmiya al- Arabiya (Arab nationalism), al- Uruba (Arabism), al-Wuhda al- Arabiya (Arab unity), al-Ittihad al- Arabi (Arab union), al-Iqlimiya (regionalism), and al-Wataniya (state patriotism). These terms appear constantly in Arabic texts as speeches of leaders, radio and newspaper editorials, and political books and pamphlets. But one is hard put to find the literal Arabic translation of pan-Arabism (presumably, al- Uruba al-Shamila) in any of these texts”.

(2) جمال حمدان "شخصية مصر-دراسة في عبقرية المكان"،الجزء الأول،دار الهلال،بدون تاريخ.