يقدم الكاتب السوري هنا قراءته لكشوف الباحث الفلسطيني المرموق جوزيف مسعد عن آليات الشهوة الاستعمارية في صراعها مع طهرانية الميراث العربي المضطرب في تعامله مع موضوع الشهوة الجنسية وتجلياتها المختلفة، ويهتم بإضاءاته الخاصة بالمسرحي السوري سعدالله ونوس ونصه المعروف «طقوس الإشارات والتحولات».

جوزيف مسعد والكشف عن سياسات الشهوة الكولونيالية

في الفكر العربي الحديث

محمد تركي الربيعو

في مقاله حول «الكولونيالية والقومية والنساء المستعمَرات» يرى بارثا تشاترجي (المنظّر الهندي في حقل ما بعد الكولونيالية)، أن أحد الركائز التي قام عليها الخطاب القومي هو انفصال حقل الثقافة إلى مجالين: مادي وروحي. فالمجال المادي يفسر بوصفه الموقع الذي يحتاج المشروع القومي إلى عقلنته، ومن ثم إصلاح آثار الثقافة التقليدية، أما المجال الروحي للثقافة فهو المجال الذي يجب أن يبقى غير ملوث من قبل الغرب.
وقد شرح تشاترجي هذا الإسقاط كالتالي «الآن طبِّق التمييز الداخلي/ الخارجي على مسألة الحياة اليومية الملموسة فتحصل على فصل الفضاء الاجتماعي إلى البيت والعالم. العالم الخارجي، مجال المادي، البيت يمثل ذواتنا الروحية الباطنية، هويتنا الحقيقية. العالم هو أرض غادرة لمتابعة المصالح المادية، حيث تسود الاعتبارات العملية. إنه أيضا وبشكل نموذجي حقل الذكر. فالبيت في جوهره يجب أن يظل غير متأثر بالنشاطات الدنسة للعالم المادي–والمرأة هي تمثيله (أي البيت)». ولذلك فقد أخذ الخطاب القومي ينظر للبيت وتوسعا للمرأة بمنزلة الموقع الأساسي للتعبير عن ثقافة الأمة، حيث تشتد الخلافات حول لباس المرأة، سلوكها وطعامها وتعليمها، ودورها في البيت وخارجه.
وعلى الرغم من أن موضوع تحليل تشاترجي كان الهند، فإن رؤيته بالإضافة إلى رؤية إدوارد سعيد حول المشروع الإمبريالي، بوصفه «مشروعا تعاونيا» وإلى جانب تفكيكات دريدا وفوكو وغيرهم، شكلت مدخلا مناسبا لإعادة قراءة التاريخ الفكري والاجتماعي للعديد من بلدان العالم التي كانت قد خضعت للاستعمار. كما في مشروع جوزيف مسعد/ استاذ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا، الذي يظهر اليوم بوصفه واحدا من أهم المشاريع المشغولة بقراءة تاريخ المؤسسات الحديثة لدول ما بعد الكولونيالية في العالم العربي والفكر العربي الحديث من خلال المنظور السابق، وهو ما بدى بشكل جلي من خلال كتابه الأول «تأثيرات كولونيالية: تشكل الهوية الوطنية في الأردن» الذي صدر بالإنكليزية سنة 2001، والذي قام من خلاله بقراءة دور المؤسسات الكولونيالية في صياغة الهوية الوطنية الأردنية، عبر الاشتباك الجزئي مع ملاحظات تشاترجي حول التمييز بين المادي/ الروحي، وهو ما تبدى مثلا من خلال شرحه لمسألة بدوية الأردن، حيث بين كيف بات ينظَر للبدوي بوصفه جزءا أصيلا من تكوين الهوية الوطنية الأردنية الحديثة (الأصلاني). وهذا ما أخذ يؤسس لثنائية التقليد والحداثة في الخطاب الوطني الأردني، عبر النظر إلى سكان الصحراء ومن يسكن الحيّز المنزلي، أي النساء والبدو بمثابة الحاملين للتراث والتقاليد (الداخلي)، بينما نظِر إلى الرجال باعتبارهم مهندسي الحداثة الجديدة (الخارجي)، مما أفرز قناعة جديدة عند الطبقة الوسطى تتمثل بالنظر لبقاء المرأة في المنزل بوصفه المكان الطبيعي لها، بعكس مثلا -البنية البطريركية التقليدية- التي كانت تسمح للنساء بالوجود خارج نطاق الحيز المكاني.
وضمن السياق نفسه، يمكن أن نشير إلى كتاب جوزيف مسعد الآخر «اشتهاء العرب» الصادر بالإنكليزية سنة 2007. حيث جاء مسعد في هذا الكتاب ليقول بأن القراءة المتفحصة للفكر العربي حول تاريخه الجنسي غالباً ما وقعت في فخ البحث عن النقاء والتفوق الأخلاقي للشرق، وهي ملاحظة قريبة (كما نعتقد) من ملاحظات تشاترجي. وقد توضّح هذا الأمر لمسعد من خلال رصده المحاولات الدؤوبة لمحو الأدلة على وجود اللواط وعشق الغلمان وإزالتها نهائياً في الطبعات الجديدة من كتب التراث، فمثلا نجد، أنه بينما كانت الطبعة العربية من «ألف ليلة وليلة» لعام 1836 تتضمن قصصا عن الشواذ، كحكايات الشاعر أبي نواس مع الغلمان الثلاثة، فإن طبعة 1930حذفتها نهائيا. وبأسلوب مماثل، ففي حين كانت الأعمال الشعرية لأبي نواس المطبوعة عام 1898 والمعادة طباعتها عام 1905 تضم غزلياته في الغلمان، فإن طبعة عام 1937 سوف تستبعد معظمها. كما تبين لمسعد أن شخصية الشاعر العباسي أبي نواس وممارساته الإيروتيكية قد شكلت حالة «قلق حضارية» عند المفكرين العرب في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، والذين سعوا من خلال تبرئة ساحة أبي نواس من هذا السلوكيات، أو ربط هذه الممارسات بأصوله الفارسية، إلى الرد على الاستشراق – حالة أحمد أمين– لمصلحة الحضارة العربية الإسلامية عن طريق تصفية إرثها العباسي من أوجه الانحلال تلك.

الفردوس الجنسي المفقود (الأممية المثلية)

بالعودة مرة أخرى إلى تشاترجي، نجده ينبهنا في مكان اخر إلى أنه «ثمة سيرورة تاريخية يؤلف الخطاب القومي ذاته من خلالها… بيد أن التحولات على المستوى الإشكالي (يقصد الأصلاني السلبي) قد يستدعي إعادة اعتبار للمرتكزات المنطقية أو النظرية التي استعارها الفكر القومي من العقلانية الغربية، متخليا عن النظريات الأقدم ومتبنيا، وحتى مستنبطا، نظريات جديدة على مستوى الثيمي (التصور الجوهراني بين الشرق والغرب)، لأن العقلانية الغربية مثل الفكر القومي تمتلك أيضا تاريخا مستمرا (الفكر القومي والعالم الاستعماري ص92-93)
وفي هذا الجانب، نجد أن مسعد قد بدى متيقظا لهذه التحولات من خلال تتبعه لمرحلة صعود خطاب التحرر الجنسي في اواخر ستينيات القرن العشرين وبقدر أكبر في السبعينيات، وتأثيرات ذلك على إعادة توجيه سياسات الشهوة ليس على الصعيد الغربي فحسب، وإنما بشكل متزايد خارجه أيضا. وقد مثلت عولمة «حقوق المثليين» واحدة من أهم هذه السياسات الجنسانية، التي يطلق عليها مسعد صفة «الأممية المثلية»، التي أخذت تدعو لأن يقوم الغرب «الأكثر استنارة» بإعادة توجيه الشهوات الشرقية المقاومة، لنغدو مرة أخرى مع مرحلة جديدة من «المحلي الأوروبي وقد أصبح سائدا» وفق تعبير أرنستو لاكلوا.
وللكشف عن تاثيرات هذا التحول على المستوى الاشكالي، يرصد مسعد واقع الكتابات الأدبية العربية التي أخذت بعد منتصف الثمانينيات تبدي اهتماما بثيمات الحضارة والبدائية، والحقوق الفردية الليبرالية، والمثلية بوصفها مفهوما عنصريا وجنسيا ومناطقيا. وكدليل على هذا التحول في الشهوات يشير مسعد (وبجرأة وعدة معرفية يحسد عليها) مثلا إلى عمل المسرحي السوري سعد الله ونوس «طقوس الإشارات والتحولات» التي نالت شعبية واسعة 1994، حيث تقوم أحداث المسرحية، كما يخبرنا ونوس في المقدمة، على قصة قرأها في مذكرات الناشط القومي السوري الاصل فخري البارودي.

وتدور أحداث القصة في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر حول صراع احتدم بين مفتي المدينة ورئيس الشرطة ونقيب الأشراف. فقد دبر رئيس الشرطة مراقبة نقيب الأشراف والقبض عليه وهو يلاطف خليلته في بستان من بساتين دمشق، وعندما تناهى الخبر إلى مسامع المفتي، وبخ رئيس الشرطة وتآمر مع السجان ومع زوجة نقيب الأشراف ثم ذهب إلى الوالي العثماني لشكاية رئيس الشرطة الذي جعلهم لا يشعرون بالأمان في مدينتهم، بعد أن اعتقل نقيبهم مع زوجته. مثلت تلك الحكاية بالنسبة للبارودي، رمزا للوطنية والصدقية والوفاء، حيث أن التضامنات بين ثلاثة من نخب الدمشقيين، رغم خلافاتهم وعداواتهم العميقة، قد عبرت عن إحساس بالهوية والمصلحة المشتركة ضد الوالي العثماني «الغريب».

بيد أن المفتي في مسرحية ونوس خلاف مفتي البارودي بدى وكأنه يروم إلى تكوين تحالف غير مقدس بين رجال الدين والدولة وارستقراطية الأشراف والتجار، للحفاظ على المسافة الفاصلة بين ما يجب أن يبقى «مخبرا» (داخلي) وما يجب أن يظل «مظهرا» (خارجي) داخل النظام المجتمعي القائم. ولذلك فان مجال الصراع لم يعد كما كان في أعمال ونوس السابقة حول استغلال الطبقات الفقيرة من قبل الطبقات الغنية، وإنما بات المجال هو الجسد وشهواته. وهو ما بدى في قصة «مؤمنة» (وللاسم دلالته) (زوجة نقيب الأشراف) التي يصر ونوس على تقديمها باعتبارها نسخة القرن التاسع عشر من شهرزاد، التي قرأت «الكتب والتواريخ وسير الملوك وأخبار الأمم»، والتي توافق على الدخول في مؤامرة استبدالها بالمومس مقابل أن يضمن لها المفتي الطلاق. وبمجرد طلاقها من زوجها تقوم بزيارة وردة (المومس) وتطلب منها أن تعلمها كيف تصبح غانية. ليأتي تحولها سحريا تقريبا، حيث تتحدث بما يشبه الهذيان عن هذا التحرر «يخيل إليّ أنه وفي لحظة سقوطي، سأحلق في الفضاء كالطيور والنسائم وأشعة الشمس .. أريد أن اعتق جسدي، وأفك عنه هذه الحبال التي تمتص دمه وتقمعه». إلا أن مؤمنة كانت بحاجة إلى اسم يلائم جسدها المنعتق. واذا كانت مؤمنة تؤمن بما هو أثمن للحياة الآخرة، فان اسمها الجديد «الماسة» ينتقل بها إلى أثمن مافي الحياة الدنيا.
أما القصة الثانية الموازية لتحول مؤمنة الجسدي، فهي تتمثل في الخطوة الخطيرة التي يتخذها العفصة (المخبر): يحلق شاربيه وينزع الشعر عن جسده بالكامل، ويبدأ بالتخنث في حركاته وكلامه. وبرأي مسعد، فان ما تصر عليه المسرحية ويصر عليه ونوس، هو ضرورة أن يرى الجميع الشهوة على انها راسخة في الجسد، وانها حقيقة الجسد، وانه لا يمكن تحريرها الا بمشروع فرداني للتحرير من خلال الاقرار والاعتراف الصريح بها على الملأ. بينما امثال عباس (احد شخصيات المسرحية) يعارضون هذا الخلط ويفهمون أن الماسة وسمسم والعفصة يمتلكون اجسادا مختلفة لكنهم يشتركون جميعا في شهوة أن يولج بهم، اما العفصة عندما يدرك أن الاخر يرفض اعتماد منظومته الدلالية الخاصة، يقرر أن يقتل نفسه. وفي وصف لجنازة العفصة يعيد ونوس إلى اذهاننا –بحسب مسعد- جنازة الشاعر القروسطي الشهير بشار بن برد الذي جلد في سن السبعين بامر من الخليفة العباسي المهدي لما روي عنه من إلحاد/ او فجور. وقد قيل أن سكان البصرة تبادلوا التهاني عند موته، وفي هذا السياق يعيد -مسعد- تكرار التعجب الذي اشار اليه محمد النويهي في دراسته حول «بشار بن برد» حول موكب الجنازة: «اين كان هؤلاء الاصدقاء حين مات فلم يتبع جنازته منهم أحد؟ أقعد بهم الجبن؟ أم تراهم ماتوا جميعا قبل موته».

ولعل ونوس -بحسب مسعد- اراد أن يثير ذات التساؤل في رؤوس قرائه عن اصدقاء العفصة. فبالنسبة له، لم يكن العفصة، فيما يبدو، اول شهيد عربي متخيل للفرض الامبريالي الغربي للهويات الجنسية المعولمة وغاياتها الاجتماعية النهائية المتمثلة في الحب والزواج، وانما اول شهيد عربي متخيل لغياب التسامح في مجتمعه الزائف. ان مسرحية ونوس بحسب مسعد- كانت تهدف إلى احراج المجتمع العربي وفضح كبته ونفاقه. غير أن لجوءه لأفكار سطحية استشراقية وغربية عن الفردانية والمجتمعية كموشور يمرر من خلاله مشروعه لم يزعج الكثير من النقاد. ولما كان هو نفسه (شأن الكثير من المثقفين العرب عقب حرب الخليج الثانية 1990-1991) قد تحول من الماركسية القومية إلى الليبرالية الجديدة وشرقنة الذات على الطراز الغربي نجده متراجعاً عن موقفه الماركسي الستاليني السابق الذي كان يتجاهل الفرد لمصلحة المجتمع ليعلن أن «المشروع الوطني لا يمكن أن ينجح ويتحقق الا اذا انفتحت هذه الأنا ومارست حريتها وقالت نفسها دون حياء أو مراءاة أو تعوذ». وبذلك يغدو قمع هذه السلوكيات بمثابة مؤشرعلى عيب عام في الثقافة الشرقية عموما. والنتيجة ليست مجرد تماهي ما هوغربي مع ما هو كوني، بل خلق تايبولوجيا (نمطية) جوهرانية يصور فيها التمييز بين الشرق والغرب كنقيض تكويني ومختلف بعمق (ميديا اوغلو، استيهامات استعمارية ص203).