يتناول الباحث الفلسطيني هنا قضية اللاجئين السوريين ودول الجزيرة العربية والخليج التي تستخدم نظام التضليل الشعبوي للتنصل من مسئولياتها إزاءها، وكيف أن البيروقراطية الأمنية توجه السياسي وتموه عليه، بسبب هيمنة الأمني على السياسي في دول لها دور كبير في تصعيد الأزمة السورية وإشعال حروبها.

اللاجئون السوريون والخليج

لحظة فك السحر

ساري حنـفي

عندما كتب ميشيل فوكو عن علاقة المعرفة بالسلطة ركز على أهمية العلوم الاجتماعية لتقديم المعرفة الدقيقة اللازمة لأي سلطة تريد تنوير أو ترويض رعيتها. فالإحصائيات والأرقام والمسوحات والاستبيانات والمقابلات المعمقة هدفها تقديم حد أدنى من المعلومات التي على ضوئها سيتم تفسيرها من قبل السلطات السياسية، وإنشاء ما يسمى "بنظام الحقيقة". ومع كل أسف ما نجده هذه الأيام من جدل حول لماذا لم تستقبل دول الخليج اللاجئين السوريين هو تتويج لنظام يتناقض كلياً مع "نظام الحقيقة": إنه "نظام الجهل" أو سلطة "الجهل". وكلمة الجهل هنا هي كلمة منمقة لكي لا نقول "نظام التضليل الشعبوي".

فمنذ سنوات عدة، لم أتمكن أبداً، كمتخصص بموضوع الهجرة واللجوء، من الحصول على أية أرقام تفصيلية عن حجم الجاليات المقيمة في دول الخليج. وهذه معلومات نجدها في  أغلب بلدان العالم، حيث تقدم المكاتب الوطنية للإحصاء البيانات الناتجة عن التعدادات السكانية والمسوحات المختلفة حول الكثير من الظواهر الاجتماعية والثقافية، والتي هي ضرورة لأي باحث يريد إنتاج معرفة حول مجتمعات هذه الدول.

بعد اهتزاز الضمير العالمي عندما رأى صورة الطفل آلان مرمياً جثة هامدة على الشاطئ التركي، انتشرت انتقادات لدول الخليج لعدم استقبالها للاجئين السوريين، مما اضطر المسؤولين السياسيين في هذه الدول إلى إعلانهم أنهم استُقبِلوا الكثير بعد عام 2011، حيث أعلنت السعودية أنها استقبلت 500 ألف سوري (ستيفنز 2015) والإمارات 100 ألف سوري (CNN 2015) والكويت 120 ألف سوري (ولكن لانعرف إن كان هذا الرقم منذ بداية الأزمة أو قبلها).. وحتى إن صحت هذه الأرقام فتبقى قليلة مقارنة مع ما استقبلته دول كألمانيا التي قبلت وحدها 450 ألف لاجئ (أغلبهم سوريين) منذ بداية هذه السنة فقط (جريدة اللواء) 2015.

 لقد قضيت هذا الصباح وأنا اتصفح المكاتب الوطنية لدول الخليج والوزارات المعنية بالقوى العاملة والهجرة ولم أجد على الإطلاق أي معلومة عن جنسيات المهاجرين لديهم. كل ما يمكن أن نجده هو عدد السكان الوطنيين والمقيمين الأجانب. ولذا لا يمكن تثبيت صحة الأرقام التي يوردها بعض السياسيين والصحفيين. ولكن ما يثبت بهتان هذه الأرقام هو معلومات اثنوغرافية جمعتها خلال السنوات الثلاثة خلال عملي مع اللاجئين السوريين، والتي تثبت أن هناك "نظاماً أمنياً" قد منع ليس فقط دخول السوريين والفلسطينيين السوريين إلا في حالات استثنائية ولكن أيضاً منع لم شملهم. وأكد ذلك في حالات كثيرة من وجود الزوج في الخليج وعدم قدرته على إحضار عائلته.

لقد تضخمت البيروقراطية الأمنية لدرجة أنها أصبحت توجّه السياسي بدلاً من أن تأخذ توجيهاتها منه. يقوم السياسي بإصدار تشريعات تحاول محاكاة أعراف ومواثيق حقوق الإنسان، بينما يقوم الأمني بخلق حالة استثناء، بالمعنى الذي أعطاه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أجامبين له، أي تلك التي تهدف إلى إقصاء غير المرغوب بهم والذين يشكلون فئة "يحتمل أن تكون خطرة"، وعدم الاستفادة من تشريعات السياسي.

وما يثبت هيمنة الأمني على السياسي في هذه الدول أنه إذا تصفحت المواقع الإلكترونية لوزارات الخارجية هناك فلن تجد أي معلومة تظهر تمييزاً إيجابياً لصالح السوريين، ولا حتى سياسات إجرائية واضحة. وهنا يتبين أن القرار ليس للنخبة السياسية ولكن للنخبة الأمنية. وهنا أتساءل لماذا هناك قرار بدعم الانتفاضة السورية والتخلي عن نتائج هذا القرار عندما يؤدي إلى تهجير الملايين من السوريين (ويشمل هذا التساؤل كلاً من إيران وروسيا اللتان دعمتا النظام السوري في حين لم تستقبلا لاجئين)؟ لماذا لم تتم مناقشة هذا الموضوع في مجلس وزرائهم؟ ولماذا لاينسق وزيرا الداخلية والدفاع مع وزير الخارجية؟ لماذا لم يتم ترجمة ما وصفه الصديق الأكاديمي الإماراتي بـ"اللحظة الخليجية" في عام 2011 إلى سياسات لاستقبال للاجئين؟ عندما يدخل السوري إلى السعودية كزائر ويبقى، تقوم السلطات بتجديد إقامته لمدة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر ويدفع في كل مرة 100 ريال (27 دولار)، ويستحيل تسجيل أبنائهم في المدارس، والاستثناء الوحيد الإيجابي الذي قامت به السعودية هو السماح لأبنائهم بدخول المدارس والجامعات الحكومية. إذاً هناك معاملة تنفي بشكل عام عنهم سمة اللاجئ، وكما يظهر ذلك في تصريح فيصل النواف: "السوريون المقيمون في الكويت ليسوا لاجئين وهم في بلدهم وبين أهلهم وإخوانهم ويساهمون مساهمة فعالة في المجتمع، ويحظون برعاية واهتمام القيادة السياسية".

ما معنى أن هؤلاء في بلدهم؟ هل ساعدتهم على لم شملهم؟ هل هناك معونات لهم حتى يستطيعوا أن يجدوا عملاً هناك؟ يذهلني كيف يقوم الخليج باعتبار نفسه خارج الإنسانية. استقبال اللاجئين هو تتويج لمفهوم الإنسانية. لقد دفع الخليج أموالاً هائلة لدعم لبنان والأردن على استقبال اللاجئين السوريين، تقدر بأقل من مليار دولار، ولكنها قليلة للغاية مقارنة بميزانيتها العسكري (التي تقدر بـ 100 مليار في عام 2012 وحده). ولكن هذا ليس إلا مؤشراً واهياً للتمتع بالقيم الإنسانية. يعرف السياسيون الخليجيون من تاريخهم البعيد قصة الأنصار والمهاجرين. فلماذا لم يتحلوا بسمات الأنصار في استقبالهم "للمهاجرين السوريين"؟ هذا الموقف المتخاذل من اللاجئين السوريون كان موضع استهجان من بعض المشايخ السعوديين (ولعلهم هم ذووا الأصوات العالية في المجتمع المدني في هذه الدول!!) ولكن بدون أن يؤدي ذلك إلى جدل عام مجتمعي أو تعبئة ما يؤثر في قرار السياسي الخليجي.

لقد أسقطت الأزمة السورية ورقة التوت عن كثير من المفاهيم التي استخدمتها بعض الأدبيات الإسلامية الصفراء التي قسمت العالم بين ثنائيات دار حرب/ دار سلام، خير/ شر، وربطت الفضيلة بالأخلاق الإسلامية فقط، ومبادئ داعش والقاعدة ليست إلا تجسيداً فاقعاً لذلك. إننا امام لحظة فك السحر، فلم يعد يقنع جموع المؤمنين أن "أمراء" المؤمنين هم أكثر فضيلة من أنجيلا ميركل، فلقد سقطوا على مذبح مفهوم اللاإنسانية. ولذا ما أكثر السوريين الذين يغادرون الخليج بهجرة غير شرعية إلى أوربا باحثين عن كرامتهم واستقرارهم بعيداً عن نظام الكفالة والإقامة السنوية التي يمكن ان تجدد أو لا تجدد. وفي حالة عدم التجديد عليهم المغادرة خلال أسبوع.

لم يعد يقنع المؤمنون أن عليهم تقسيم العالم طائفياً أو دينياً. ففي البلاد ذات الأكثرية المسلمة من استقبل اللاجئين (الأردن وتركيا) ومنهم من خذلهم. وفي البلاد ذات الأكثرية المسيحية منهم من استقبلهم (المانيا والدول الاسكندنافية) ومنهم من خذلهم كأكثر دول أوربا الشرقية (وخاصة هنغاريا ذات النظام السياسي المتحالف مع اليمين المتطرف) وكذلك الولايات المتحدة وكندا. التقسيم الذي له معنى هو من هي الدول التي لديها عدالة اجتماعية (شرط أساسي لمفهوم المواطنة) وتضامن مع ضحايا العالم (شرط للقيم الإنسانية) ومن ليس لها.

وهنا سأختم هذه المقالة بالتحدث عن كندا هذا البلد الذي تغنى به العالم بأنه البلد الذي كان في قمة الرقي حسب مؤشر التنمية الإنسانية، كيف أصبح تحت تأثير اليمين السياسي الحاكم ذي الطبيعة المسيانية، بلداً لا يسمح حتى للمرأة أو الرجل الكندي أن يلم شمل عائلته السورية. تابعت بعض الحالات وقد قابلت مسؤولا في السفارة الكندية في لبنان حول حالة تم فيها رفض ملف زوج سوري موجود في مخيم في البقاع لا يستطيع الحركة فهو الهارب من سوريا والمقيم غير الشرعي في لبنان بحجة أن زوجته الكندية لا تستطيع إعالته في كندا، فكان جوابهم أنه يستطيع تقديم الطلب مرة أخرى ولكن الرد يحتاج إلى سنتين. وفعلا من بين الـ 400 حالة لم شمل تقدم لها السوريون في بداية 2012 تم إعطاء 9 حالات فقط حتى آب 2013، حسب المجلس الكندي للاجئين. وكان شعوري في نهاية مقابلته أنني أمام عقلية بيروقراطية (البزنس كالمعتاد) لا تختلف عن تلك التي تتولد من تصريحات أدولف آيخمان النازي الذي دافع عن المساهمة ينقل اليهود إلى معسكرات الموت مدعياً أنه كأي بيروقراطي ينفذ التعليمات بدون أن يفكر بغاية عمله. هذا هو ابتذال وتعميم الشر (Banality of evil) التي تحدثت عنه حنا آرنت في كتابها الرائد (آيخمان في القدس) والذي ينطبق على كثير من البيروقراطيين عرباً كانوا أم أجانب.

 

(عن جدلية)

المراجع

CNN. 2015. “الإمارات: استقبلنا 100 ألف لاجئ سوري وقدمنا 530 مليون دولار منذ بدء الحرب السورية.” 

جريدة اللواء، 2015. “450 ألف مهاجر في المانيا و٥ آلاف على الحدود الصربية المجرية.” 

ستيفنز, مايكل. 2015. “أزمة المهاجرين: لماذا لا تسمح دول الخليج باستقبال السوريين.