يكتب الباحث المصري هنا عن سر وجود أدب مصري مكتوب باللغة الفرنسية، في زمن كانت فيه مصر مستعمرة بريطانية. ويقدم الخلفيات الثقافية التي أدت إلى انتشار اللغة والثقافة الفرنسية في مصر، ويستعرض بسرعة أسماء بعض الذين شاركوا في انتاج هذا الأدب، ولا يتوقف إلا عند أحد رواده المغمورين.

الأدب المصري المكتوب باللغة الفرنسية

محمـود قاسـم

لماذا نشطت اللغة الفرنسية كلغة تعبير في مصر، رغم أن فرنسا لم تحتل مصر مثلما فعلت في الجزائر؟ وكان الاحتلال بريطانياً لأكثر من سبعين عاماً؟

يرجع الكثيرون من المحللين أن هناك أسباباً عديدة من أبرزها الحملة الفرنسية التي جاءت لمدة ثلاث سنوات في أواخر القرن الثامن عشر، ثم لأن محمد علي قد توجه إلى فرنسا من خلال مشروعه الحضاري، وليس إلى إنجلترا، فقد أرسل البعثات الأولى، خاصة ما يرتبط منها بالتعليم والثقافة، إلى فرنسا.

ورغم أن الحملة الفرنسية التي انتهت عام 1801 قد خلفت في قلوب المصريين المرارة والحزن، إلا أن الفرنسيين بعد أن رحلوا تركوا وراءهم أشياء عديدة لم يكن يمكن تجاهلها، مثل آلات الطباعة ومركز أبحاث  علمي، ومعهد للدراسات، ولم يكن أمام المصريين سوى استغلال هذه الأشياء خاصة أن محمد علي الذي صنع النهضة في مصر قد جاء إلى مقعد الحكم بعد رحيل الفرنسيين بأربع سنوات، فقد راح محمد علي يستعين بالخبرات الأجنبية من أجل تحديث بلاده، خاصة في مجال صناعة الأسلحة، وفكر محمد علي في الفرنسيين في المقام الأول، كما فكر في الإيطاليين، وقد كانت فرنسا أكثر تأثيراً وقوة في تلك السنوات من إيطاليا، على الأقل على المستوى الاقتصادي.

وهكذا بدأت اللغة الفرنسية تدخل بصفة رسمية إلى مصر، فلم يكن للخبراء الفرنسيين أن يتعاملوا مع قوم لا يتكلمون لغتهم، وأحس محمد علي أنه من الأهمية بمكان أن يتعلم المصريون اللغة الفرنسية، فأرسل المبعوثين إلى فرنسا، وكان من بينهم كما هو معروف، رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، وجاء الفرنسيون كي يصنعوا صحافة على شاطئ النيل.

وقد ساعد إحساس المصريين بأنهم في حاجة إلى الفرنسيين على تخفيف أجواء التعصب ضد الأجانب، وقد شجع نجاح المشروعات التي يقوم بها الفرنسيون أبناء الجاليات الأخرى على القدوم إلى مصر مثل اليونانيين والأتراك واللبنانيين والأرمن وغيرهم. وزاد نشاط الأجانب في أوجه الحياة الاجتماعية في مصر، وراجت تجارة الأغذية، وقد جعلت هذه الظاهرة المدن المصرية ساحة جديدة لأبناء الجاليات الذين يتكلمون بلغاتهم الأصلية، على الأقل بشكل شفاهي، ومن هنا بدأ المصريون يتعلمون هذه اللغات، وقد جلب هذا أيضاً إلى المصريين عادات جديدة وشعائر واحتفالات صنعها الأجانب، أو جلبوها من بلادهم.

وشيئاً فشيئاً بدأت هذه الجاليات في النمو عدداً، وبدأوا يفتحون لأبنائهم مدارس خاصة لتعليم اللغات القومية بالإضافة إلى اللغة العامة في البلد . وأصبحت اللغة الفرنسية هي اللغة الأولى، كما أصبح للأجانب دور العلاج الخاصة بهم، ثم نواديهم، وساعد هذا على ارتفاع أهمية رجال الأعمال ودورهم في المجتمع حيث عملوا على جلب عدد آخر من مواطنيهم من أجل مساعدتهم، كما شهدت البلاد ظاهرة الاقتران بين أبناء الجاليات الأوربية والأجنبية. وفي نهاية حكم محمد علي كان بعض الفرنسيين قد وصلوا إلى مناصب إدارية عليا في البلاد، كما كانت مصر دائماً مصدر جذب بمناخها المعتدل للأجانب.

ويقول جان جاك لوتي Jean Jaques Luthie صاحب أشهر كتاب عن "اللغة الفرنسية في مصر"(1)، إن هناك سبباً دينياً كان يحول دون وجود الأجانب في البلاد، حيث أن السلطان العثماني كان يتصرف بصفته المدافع الأول عن الإسلام، ولكن محمد علي قد شجع تواجد الفرنسيين، ولعب أبناؤه دوراً كبيراً في التعاون مع الفرنسيين. ويقول الكاتب أن المدارس الأجنبية قد لعبت دوراً سياسياً في تجميع أبناء الجاليات الأجنبية من ديانات مختلفة ليصبحوا تلاميذ فيها، ومن أهم هذه المدارس: الفرير للأخوة المسيحيين، والآباء اليسوعيين، كما ظهرت بعد ذلك المدارس الإنجليزية مع دخول الاحتلال البريطاني، وبداية القرن الحالي، وكانت هناك لغات أخرى سائدة مثل اليونانية والإيطالية، فقد تم افتتاح أول مدرسة من مدارس الفرير المسيحية في الإسكندرية عام 1847، ثم مدرسة الفرير اللازاريين عام 1852، "مدرسة الآباء لصحبة المسيح" في القاهرة عام 1879، "مدرسة الآباء للمهمات الأفريقية" في طنطا عام 1883، ثم مدرسة "الفرير البلومرية" عام 1903، كما تم افتتاح مجموعة من المدارس لتعليم البنات، مثل " الأخوات سان فانسان بول" في الإسكندرية عام 1884، ثم مدارس أخرى في القاهرة، وقد وصل عدد مدارس اللغات الفرنسية للبنات التي تم إنشاؤها حتى عام 1935 اثنتي عشرة مدرسة والتي انتشرت في أنحاء البلاد.

وبالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء معاهد تعليمية مثل "مدرسة الحقوق الفرنسية" التي تأسست عام 1890، وفي مجال التعليم فإن الدولة لم تتوقف عن إرسال بعثاتها التعليمية إلى الخارج حيث بدأت البعثة الأولى عام 1815 ثم سافرت البعثة الثانية عام 1819، وقد درس مئات من الطلاب المصريين دراسات عليا في فرنسا، ونظروا إلى باريس باعتبارها منبعاً للقانون والأدب، باعتبار أن مصر في تلك المرحلة كانت تعتمد على نصوص القانون الفرنسي (تم ذلك حتى عام 1950).

كان نابليون بونابرت قد أنشأ "معهد مصر" في عام 1798، ولكن تم إغلاقه مع رحيل الفرنسيين في عام 1801، وفي عام 1859 أعيد فتحه تحت اسم "المعهد المصري" ثم استعاد اسمه الأول عام 1918، وقد اهتم بدراسة المجتمع المصري جغرافياً سياسياً، وقد آمن العاملون بهذا المعهد أن مصر هي نافذة العالم، فكانوا يدخلون منه إلى أوروبا، وفي عام 1880 تم إنشاء المعهد الفرنسي للآثار الشرقية، والذي كانت مهمته ولا تزال ـ دارسة مصر القديمة، وأيضاً تاريخ الحضارات الشرقية بشكل عام، وقد أصدر المعهد مطبوعات شبه دورية.

وقد تم إنشاء مجموعة من الإدارات والمؤسسات التي تعاملت مع اللغة الفرنسية في المقام الأول، ومن هذه المؤسسات جمعيات أدبية وفنية عديدة، مثل "الاتحاد الفني" الذي تم إنشاؤه عام 1898، وقد ظل لمدة عشرين عاماً مسرحاً لعرض أهم الأعمال المسرحية الفرنسية والمصرية، وفي عام 1920 تكونت "جماعة أصدقاء الفن" والتي استمر نشاطها أثنى عشر عاماً، وتم إنشاء "إتيليه الفنانين" عام 1933 بواسطة الفنان التشكيلي محمد ناجي، وقد ظل هذا الإتيليه، وما يزال، بؤرة للنشاط الفني في الإسكندرية حتى الآن، أما القاهرة فعرفت نشاطاً ثقافياً كبيراً حيث تكونت جماعات مثل "المحاولون" عام 1924، و"أصدقاء الثقافة الفرنسية في مصر" عام 1926، ثم "اتحاد كتاب مصر الذين يكتبون الفرنسية" عام 1929، وجماعة "الضيافة" عام 1930، ثم جماعة "الفن والحرية" عام 1939 التي اهتمت بالفن السيريالي.

وقد أوقفت الحرب العالمية الثانية أنشطة أغلب هذه الجمعيات، ثم اهتزت العلاقات الفرنسية المصرية بعد حرب السويس، ولم يبق الآن من مؤسسات لها أنشطة في هذا المضمار سوى مؤسسات قليلة مثل الأتيليه بالإسكندرية، والمركز الثقافي التابع للقنصلية الفرنسية في القاهرة والإسكندرية.

وفي فترة الثلاثينات والأربعينات ازدهرت الصالونات الأدبية مثل صالون جريجوار سركسيان في الإسكندرية، وصالون الأميرة نازلي، والكاتبة قوت القلوب الدمرداشية. ويقول جان جاك لوتي في كتابه الذي اعتمدنا عليه في هذا الجزء من التقديم التاريخي، أن أول صحيفة صدرت في مصر باللغة الفرنسية في نفس العام، اعتمدت الأولى على المعلومات والأخبار، أما الثانية فكانت ذات صبغة علمية، وفي عصر إسماعيل ظهرت مجلات سريعة ولم تتكرر المحاولة، ثم ظهرت جريدة "النيل" التي كانت تصدر كل أسبوعين، وهي تهتم بالأخبار والاقتصاد، وكان يطبع منها 1600 نسخة، وسرعان ما تطورت الصحف الفرنسية، فظهرت جريدة "البسفور المصري" عام 1881 التي ما لبثت أن توقفت بعد الاحتلال الإنجليزي، وقد ساعد إغلاقها على إعطائها الكثير من الأهمية، وخلقت رأياً عاماً مؤثراً في الأوساط الشعبية، فعادت مرة أخرى إلى الظهور، وكانت تتابع العروض المسرحية والفنية، ثم أغلقت عام 1895.

وقد تعددت الصحف، وتخصصت بعضها مثل "البورصة المصرية" عام 1899 وشهدت سنوات العشرينات نشاطاً ملحوظاً في صدور صحف يومية مثل "الحرية" عام 1921، و"الخبر" عام 1925 و"الفنار المصري" عام 1925، وكانت تصدر بين القاهرة والإسكندرية، ومن أهم هذه المطبوعات "مصر الجديدة" التي دافعت عن حرية الفتاة المصرية . وهناك أيضاً "المصرية" التي صدرت لمدة عشرين عاماً، أما أهم المجلات فهي "الأسبوع المصري" عام 1926، وهي مجلة أدبية وسياسية، وقد استطاعت أن تصبح مركزاً ثقافياً لأغلب الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية، وكان من أشهر أدبائها جورج حنين وأحمد راسم، وفي عام 1938 صدرت مجلة "القاهرة" التي كانت لسان حال المفكرين المصريين. وقد صدرت مجلة "إيماج" عن دار الهلال عام 1929، إلا أن كل هذه المطبوعات قداختفت تماماً بعد عام 1956، بينما صدرت جريدتان باللغة الفرنسية لا تزالان تصدران حتى الآن هما "لوبروجريه إجيبسيان"، و"جورنال ديجبت".

تركز نشاط الأدباء العرب الذي يكتبون باللغة الفرنسية في ثلاثة مجالات رئيسية: الشعر والرواية، ثم المقالات والفلسفة والنقد، وعندما جاء الشعر الفرنسي إلى مصر، وجد نفسه في مواجهة ثقافة فنها الأول على مدى التاريخ العربي هو الشعر، ويقول جان جاك لوتي في كتابه السابق الإشارة إليه أن الشعر العربي في القرن التاسع عشر بدأ يغير مجراه بعد احتكاكه بالشعر الفرنسي، وقد تميز الكثير من الشعراء العرب في تلك الفترة بنزعاتهم الرومانسية في جوهرها.

وقد ظهر الشعراء البارنثيون بعد الرومانتيكيين، وكان ذلك انعكاساً للتغيرات الاجتماعية التي شهدتها البلاد، ثم ظهرت المدرسة السريالية في عام 1937، وقد كثفت هذه المدرسة كل جهودها من أجل تبني كل من يسعى لإيجاد أشكال فنية جديدة واختراق الأشكال التقليدية، ووجدت هذه المدرسة من ينضم إليها ممن يكتبون بالعربية والفرنسية على السواء. وضمت بعض الأسماء التي لم تنتم إلى السريالية نفسها ومنهم ألبير قصيري، وأحمد راسم، وقد حاول الأدباء الذين يكتبون بالفرنسية استلهام البيئة المحلية لتكون نسيج أعمالهم الإبداعية، ويرى ج .ج . لوتي أنه ليس من الغريب أن أهم شعراء هذه المرحلة كانوا ممن يكتبون عن البيئة المصرية، ولم يحاولوا الانفصال عنها مثل راسم جان عراش.

ظل شكل القصيدة يتطور دائماً ويتغير على أيدي الأدباء العرب الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وكانت قضية الشاعر دوماً هي الحصول على أكبر قدر من الحرية في التعبير، ووسط هذه الأجواء بدأت العلاقات السياسية تتوتر، ووجد البعض ـ حتى ما قبل ذلك ـ أن فرص النشر في باريس ستكون أفضل، علماً بأنها لم تكن أبداً سيئة، لكن بلا شك فإن أشياء كثيرة قد تقلصت، ومن هنا شد بعضهم الرحال إلى باريس مثل جويس منصور وأندريه شديد.

أما في مجال القصص والحكايات، فمن المعروف أن أول كتاب عربي جذب اهتمام الفرنسيين هو "ألف ليلة وليلة"، وقد ظهر القصاصون الذين يكتبون بالفرنسية قبل ظهور الشعراء، فقد كتب جوزيف أجوب كتابه "الحكيم هيكار" عام 1835، ورغم أن الكتاب كان بمثابة محاولة ساذجة إلا أن التجارب اللاحقة كانت أفضل، مثل كتاب "اللآليء المتناثرة" لواصف بطرس غالي المنشور عام 1923، وقد فتح ذلك الباب لظهور مجموعة من المجموعات القصصية القصيرة المنشورة على فترات مختلفة مثلما فعل ألبير قصيري، وأندريه شديد، وميري فانسان.

ولم يكن ميدان الإبداع في القصة القصيرة بخصب لدى هؤلاء الأدباء قدر الإبداع الروائي الذي وجد فرسانه، ولا شك أن نجاح رواية "زينب" المنشورة باللغة العربية عام 1912، قد شجع اثنين من الكتاب هما ألبير عدس وألبير جوزبيوفتش، أن يقدما "كتاب جحا البسيط" في عام 1919 حول بعض نوادر جحا، وفي الفترة بين عامي 1924 و1929 نشر فرانسوا بوجان ثلاثيته "منصور" ويقول لوتي في كتابه(2) أن هذه الثلاثية محاولة لتأصيل التدين لدى الطبقة البرجوازية المصرية المحافظة، وبينما كانت الدولة تتجه نحو الصناعة قدمت اليان فينين رواية عن حياة الفلاح الذي يرسم الحقول ويهندسها من أجل مد المصانع بما تحتاجه وذلك في رواية "مناضلو النيل" عام 1928، وقد قدمت نفس الكاتبة رواية أخرى أرخت فيها لثورة 1919 تحت عنوان "حسين"، ثم رواية ثالثة عن العلاقة بين اليهودية والإسلام عام 1923 باسم "عباد الله". وقد اهتم الكثيرون من الأدباء المصريين الذين كتبوا بالفرنسية بالحياة في الريف، ومنهم أيضاً أندريه شديد التي قدمت روايتها الأولى "نوم الخلاص" عن فتاة ريفية تعاني القهر من زوجها دائماً.

أما ألبير قصيري فيعتبر من أهم الكتاب الذين توغلوا في أروقة مدينة القاهرة وأحيائها الشعبية في روايات من طراز "شحاذون ومعتزون"، و"منزل الموت الأكيد"، وقد حاول البعض أن يسير على نفس النهج الذي مشى عليه أقرانهم الذين يكتبون باللغة العربية، بالكتابة عن أجواء الأسرة المصرية واساليب حياتها، حتى لو كان التمرد في العلاقات واضحاً مثلما في رواية "زنوبة" لقوت القلوب، و"رمزة"، وأيضاً أندريه شديد في أعمالها "نوم الخلاص"، و "اليوم السادس"، وفوزية أسعد في "المصرية"، إلا أن البعض الآخر حاول أن يخرج عن أجواء الأسر مثلما فعل قصيري في "شحاذون ومعتزون".

وفي مجال الإبداع المسرحي كانت التجارب والمحاولات قليلة للغاية، وأغلب الذين كتبوا عن مصر من مسرحيات كانوا من الفرنسيين المقيمين، وذلك لأن المسرح في المقام الأول ليس نصاً أدبياً بقدر ما هو نص يجب أن يشاهده الجمهور، وكان لابد لهؤلاء المبدعين أن يفرزوا من داخلهم من يكتب نقداً لأعمالهم ويتابعها، ولذا برزت بعض الأسماء في مجال النثر غير الإبداعي مثل راؤول كمال والأمير عمر طوسون وروجيه جوديل وأنور عبدالملك.

يوسف يعقوب (1795 ـ 1832)
إنه أول الشعراء العرب الذين كتبوا باللغة الفرنسية. حدث ذلك إبان الحملة الفرنسية، حين جاءت حاملة جنودها، وقوادها من العسكر، ومطابعها، وبعض المستشرقين من أجل احتلال الشرق واكتشافه. اسمه يوسف يعقوب، المولود في مصر القديمة عام 1795، يرجح أنه أرمني الأصل، هو ابن العالم يعقوب الذي كان أحد الواقفين إلى جوار الحملة الفرنسية، واضطر للسفر مع الجنرال مينو عائداً معه إلى فرنسا عام1801 عقب فشل الحملة الفرنسية، تاركاً أسرته، ومن بينهم الابن يوسف .

علمه أبوه اللغة العربية، وفي عام 1820 سافر إلى باريس، ونشر ديوانه الأول في "مدح مصر"، الذي جذب إليه الانتباه، كما اشترك في إعداد وضع كتاب "وصف مصر". ارتبط بصداقة مع الشيخ رفاعة الطهطاوي، ثم عمل مدرساً للغة العربية في مدرسة الشباب للغات، استقر في آخر حياته بمدينة مارسيليا إلى أن وافته المنية عن عمر يناهز السابعة والثلاثين عام 1832. من أهم مؤلفاته "محاضرات تاريخية عن مصر" عام 1823، و"قصص رومانسية عربية فجة"عام 1927، وبعد رحيله نشر له بالفرنسية أيضاً كتابه "مزيج الآداب الشرقية والفرنسية".

وحسب كتاب "مدخل إلى الأدب العربي المكتوب بالفرنسية" من تأليف جان رجاك لوتي، فإن يوسف يعقوب وجد نفسه أمام مهمتين متلازمتين هما تعريف الفرنسيين بمصر وثقافتها وتاريخها، وإدخال الفكر الفرنسي إلى مصر. ورغم الاستقبال الحماسي الذي قوبل به الشاعر في فرنسا، ورغم نجاحه في كتابة التاريخ وقرض الشعر، فإن الإحساس العميق بقسوة المنفى جعله يحن دوماً إلى مصر، أم الدنيا كما كان يكتب، وكم أحس أن من واجبه، وهو سليل الفراعنة أن يقدم مصر في أجمل صورها إلى الفرنسيين.

ولعل ما جاء في كتابه "لوتي" ينفي تماماً أنه من أصول أرمينية كما جاء في نفس الكتاب، بل هو مصري المشاعر، والكلمات، وقد انعكست هذه المشاعر دوماً في قصائده الحماسية. ومنها: "الزنبقة المحطمة"

مصر، انتظرك، وشاطئك الثمين

اطلبي من حبي الدفء والصفاء

وبكل إجلال أحيّ شواطئك

وعيت درس مجدك الخالد

أحس بشفافيتي المزدوجة فيك

وأبوح بمشاعري بصوتي العالي.

لقد أراد يعقوب أن يربط بين الثقافتين معاً، ولذا فإنه ظل ينتقل بين البلدين، وأن يظل في مصر أطول فترة ممكنة، يعيش بين الناس، ويعاني في عدم مقدرته على أن يفعل شيئاً، فهو رجل بلا عمل، لا يريد لأي وظيفة أن تحرمه من الشاعر في داخله، ويبدو ذلك واضحاً في إحساسه بالتيه والغربة في قصيدته "الغريب" التي تنسكب فيها المشاعر الحزينة من خلال مفردات لغوية يرى فيها أن مصر هي : "مسقط الشمس"، وأن الصحراء تنبت الزهور، وأنه يشم عبق الحياة على ضفاف نهر النيل. ويبدو يوسف يعقوب كأنه في أقصى حالات الهيام، بالأرض، والصحراء، والأديم، وأنه المتيم الأول بكل هذه الأشياء، ومع ذلك فإنه "غريب" عن هذه الأرض، لأنه ليس إلا شخصاً منفياً يعود إلى وطنه من أجل أن يرحل مجدداً.

وتأتي مرادفات "المنفى" في قصائد الشاعر أقرب إلى "الموت"، فالرحيل عن الوطن هو الموت بعينه، فيحس عندما تبتعد به السفينة عن الوطن أنه على وشك الموت، وهو في نفس الوقت عاشق متيم للحرية، ومواطن في بلد وهمي يسمى "الحرية"، لذا فإن الشاعر وجد نفسه في فرنسا، بلاد الثورة، وقد أبدى يوسف يعقوب إعجابه بثوار فرنسا، واعتبر أن ما حدث عام 1789 كان بمثابة إعادة الروح للإنسان المغبون، ورغم ذلك فإن أشعاره لم تكن تنادي بالتمرد أو الالتزام. ويقول لوتي أن يوسف يعقوب كان رجلاً تقليدياً، يحترم القواعد، والأنظمة، وهو في الوقت نفسه مشدود إلى رومانسية المنفى، والذكريات، والموت، والحب المغمى عليه (كما يقول التعبير).

وإذا كان كل من مارتين وشاتوبريان قد رصعا كتاباتهما بالعديد من المفردات العربية، والشرقية، فإن يوسف يعقوب قد أضاف بعض المفردات الفرنسية إلى لغته الإبداعية مما يعكس أنه صار شخصين في إنسان واحد. شريطة ألا يفقد وجهة نظره فيما يكتب. لذا، فإن شعر الكاتب كان أقرب إلى الملحمة، منه إلى القصائد التقليدية، وكان حريصاً على أن تكون تعبيراته مغموسة في أديم الوطن، لذا قال عنه أحد النقاد أنه شاعر حمل قلبه في إيشارب. والغريب أن يوسف يعقوب غير مذكور تقريباً في خريطة الأدب العربي المكتوب في القرن التاسع عشر، ومن الواضح أن النقاد يحاسبونه على فعلة أبيه الذي ساعد الحملة الفرنسية، وقرر الهرب من مصر في سفنها العائدة عام 1801.

هوامش:

(1) – Le francais en Egypte, J.J.Luthie, Beyrouth. 1981.

(2) ـ المرجع السابق، ص 44.