تقدم (الكلمة) هنا ترجمة لدراسة مهمة لمسرح جان جينيه، تعتمد في تحليلها على معرفة القارئ بمسرحه، ومتابعته لتطوره، وتسعى من خلالها إلى استخدام مختلف المسرحيات في تقديم السمات الجمالية المختلفة لمسرحيه، واشتباكها مع مختلف القضايا التي يطرحها على المشاهد، بل يورطه كثيرا في الدخول إلى قلب إشكالياتها.

قراءة في اعمال جان جينيه المسرحية

جانيت. ل. سافونا

ترجمة: خضير اللامي

لدى تتبع مجرى احداث هذا الكتاب*، قمت بفصل مسرحيات )جينيه(عن حياته) الإسطورة) ورواياته لكي يتسنى لي التركيز على سماتها المحدودة. من هذا المنطلق يبدو عالم مسرح جينيه المُتخيَّل، كأنه يُقدِّم لنا بناءين رئيسين: سياسيا وجماليا، اللذين قد يصدمان احيانا مع بعضهما وبخاصة عندما يعكسان من زوايا مختلف الصور الجنسية، وكما توضح هذه الدراسة فإنَّ هذين البناءين المتناقضين كلاهما يمكن رؤيتهما في ضوء نماذج القرن العشرين لفكر طوره مفكرون سياسيون امثال سارتر وفوكو وفانون، ومنظرو مسرح امثال: آرتوود وبريخت وبروك. ونقاشي هنا يؤكد ايضا على نماذج من الصور السياسية والجمالية عند جينيه، في محاولة لأنْ اوجز مميزات مسرحه وتطبيقاتها في ضوء استجابة القارئ لها.

إنَّ البناء السياسي لمسرحيات جينيه يعتمد على مجموعتين من التناقضات. فالأولى، تفترض شكل صراع القوى بين الحكام والمحكومين. كما اوضح لوسيان غولدمان. والثانية، تفترض طبيعة الصراع بين المحكومين انفسهم. ويشتق هذا الصراع من انجذابهم للسلطة الحاكمة. والمُضْطهَدون في جميع مسرحيات جينيه: محكومون، ثوار، عاهرات، زنوج، جزائريون مُستْعمَرون، يتوقون سرا او علانية للحصول على الكرامة الأخلاقية والمكانة الاجتماعية التي حُرموا منها منذ ولادتهم. والطبقة الحاكمة عند جينيه: افراد الطبقة المتوسطة، وارباب عمل وتجار ومقاولون وقضاة وعسكريون وضباط شرطة وقادة سياسيون واعضاء مؤسسات دينية وثقافية الذين وصلوا الى الحكم عن طريق وسائل التجسس وخسة في التربية، وممارسة الفضيحة.

والمُضْطَهَدون محكومون بين الإغراء والإذعان لنظام سياسي اجتماعي فاسد، والحث على الثورة ضده. وهم بهذا مدفوعون بقوتين متباعدتين، فمن جانب تدفعهم الفوضوية الى اتباع صيغ البطولات الفردية او الشهادة التي ترتكز على زملائهم من المضطهدين، ومن جانب آخر، أنَّ الدافع الاجتماعي يحثهم على البحث عن الوحدة، والنظام واحترام الذات من خلال عنف منظم نحو وهْم السلطة. فمسرحية) حارس بوابة الإعدام) غالبا ما تعرض التفوق الكلي لسلطة النزعة الفوضوية. إنَّ حادثة الفرّاش الذي حاول فيها لسيفرانك عبثا أن ينضم الى قوى موريس ضد السجان وغرين ايز تؤلف الواقعة الوحيدة لعكس الرغبة في الحصول على الوحدة الاجتماعية. هنا تظهر فوضوية المُضْطَهَدين بوصفها جزءً متمما لنظام الحكم القمعي.

وعلى العكس من ذلك نرى الدافع الاجتماعي يسود كليا في مسرحية )السود) حيث يُعاقب الخائن بقسوة وإنَّ عملية سيطرة الطقس )الشعيرة (التامة لا تسمح لأي نوع من الانحراف. اما مسرحيات جينيه الأخرى فتربط بطرائق متباينة لهذين التطلعين المتصارعين بين المحرومين. إنَّ الرابط بين شخصية كلير وسولانج في مسرحية )العذارى(، والتحالف المهزوز بين روجر وشانتال والثوار في مسرحية )الشرفة(وتحالف المنتصرين الجزائريين في مسرحية )الشاشات) يمثل سعي المضطَهَدين في الحصول على الوعي السياسي او الحرية الاجتماعية. وعلى الضد من ذلك، نرى انتصار كلير في مسرحية )العذارى) وانبهار الشخصيات بأقطاب الحكم القائم من خلال العقل. وفي آخر مسرحيتين، فإنَّ ادانة الحكام فيهما واضحة بسبب نفاقهم وفسادهم، بينما تبرز حركة تقدم التاريخ احد المطالب المشروعة للمحرومين. وبشكل خاص، في مسرحية )الشاشات) حيث تكون تحذيرا قويا ضد اغراء الحل الاشتراكي. إنَّ السمة البارزة لنظام جينيه السياسي هي الإلغاء الواضح للمعايير الاجتماعية المزدوجة للعالم الغربي وفي اعماله، نلحظ أنَّ المجتمع قائم على الجشع، والخداع، والظلم، والعنف. وفي المقابل يعظ ذلك المجتمع رسميا بنكران الذات والمساواة، والمعادلة والمعاصرة. وتبرهن مسرحية )الشرفة(أنَّ الحاكم الرأسمالي النموذجي يتحول الى قاتل جماعي. فمدير الشرطة يفضل أنْ يركز انتباهه على شخصيات مرئية حنون. مثل الملكة والأسقف اللذين تتأكد رمزيتهما، وأنَّ النظام الشامل للخداع يجعل الناس يعتقدون خطأ أنهم احرار بينما هم في الواقع، مقيّدين بواقع اجتماعي. وتظهر الفرصة الحقيقية بطريقة مضحكة. والناس إما أنْ يوافقوا على أنْ يتحولوا الى عاهرات ذليلة في البناء الاجتماعي، او أنْ يتظاهروا بالعمل على أنهم مساندون حقيقيون للنظام، بيد أنَّ اولئك الذين يحاولون أنْ يثوروا ويتسلموا السلطة قد يواجهون اللامبالاة او القمع البائس.

وهكذا، فإنَّ ذلك التمرد يقودهم ببساطة الى تعزيز النظام القائم. وعلى كل حال، أنَّ سوء التقدير، والتشاؤم في مسرحية )الشرفة(يكون متوازنا مع موضوع آخر مسرحيتين لجينيه في المسببات التي تؤدي الى انهيار العالم. وتعلّقا بأولئك الذين يجدون انفسهم محكومين بأنْ يعيشوا تحت ظروف لا انسانية محرومين من ممارسة حرياتهم او جذورهم التاريخية، او هوياتهم الثقافية، والحل هو الوحدة السياسية المُنجَزة من خلال الثورة الفعلية )مسرحية السود(والثورة المنظمة )الشاشات) اللتين تعيدان اليهم كرامتهم ككائنات بشرية. ويمثِّل البناء السياسي لجينيه محاولة طموح لصهر الجانب التدميري للثورة المطلقة المدفوعة بالانتقام والعدمية مع الحاجة الإيجابية للوحدة والمتغيرات الاجتماعية الموحية عن طريق الأمل والعدالة. وعلى مستوى المميزات فإنَّ قوة الفوضى غالبا ما تكون واضحة مثل فردية اللابطل. كما هو الحال مع شخصية غرين وآيز وليفرانس او سعيد. الذين تكون تحدياتهم السلبية جميعها قيما مقبولة، وهذا ينطبق على زملائهم من المُضْطَهَدين. وعلى العكس من ذلك، تعلن النزعة الاشتراكية، نفسها في مجاميع عقلانية او سياسية، التي تكون جذور تمردهم ضمن حركة التقدم التاريخي. وعلى مستوى الحبكة، فإنَّ النزعة التدميرية توضحها الأفعال الشخصية في الخيانة، والقتل، والانتحار، والتشويه بينما يَستفز الدافع الإيجابي المحرومين لاستخدام المؤسسات الشرعية القائمة. او لخلق بناهم السياسية والعسكرية الخاصة.

ويظهر عالم جينيه السياسي المُتخَّيل اكثر اهتماما بالعملية الذهنية للثورة وعلاقتها بالنماذج الاسطورية، اكثر من المشكلة الطبيعية لخلق مؤسسات ثورية جديدة. وغموضه يتأتى عن طريق لعبته الثابتة مع الصور الرمزية الجنسية. إنَّ مثالية حاجة الفوضوي الثوري تتزامن مع التأكيد العاطفي للأنثوية. والتي لها سمتان رمزيتان جوهريتان هما: العهر والأمومة، والقتل الرمزي للشخصيات النسائية التي يقوم بها الرجل اللابطل يكون دائما مخضّبا بالعواطف المكثفة التي توحي بجريمة القاتل والتماهي مع ضحيته، ومحاط بالخوف والجاذبية الجنسية. وإنَّ موضوعة قتل الأم السياسي المحرَّم وبخاصة في مسرحيتْي )العذارى والسود) تتجاوب مع المرحلة السلبية للثورة، وتعبِّر عن الصعوبة التي يواجهها المُضْطَهدون في التغلب على دوافعهم الفوضوية. لذلك تظهر الفوضى متجذرة بانجذاب عميق مع محرَّمات الاتصال الجنسي، ومع الأنثى. وعلى الضد من ذلك، فإنَّ سعي المُضْطَهدين نحو الوحدة، والسلطة الشرعية يتمثل في اعمالهم بقتل الأم الرمزي ضد الحكام. بينما يفترض قتل الأم الجمعي اشكالا عاطفية، وقتل الأم الجمعي يمثل ايضا السخرية، او تقنيات متفاوتة، واظهار درجة المُضْطَهدين الواطئة مع الشخصيات الأبوية. وهذه الظاهرة في مسرح جينيه تقترح علينا تمييزا معينا عن النموذجي الأوديبي الكلاسيكي الذي يقتل الابناء آباءهم عقليا ليستولوا على مكانهم الأسطوري ووهم السلطة.

وتتمحور أول مسرحيتين لجينيه على المحاولات الإنتحارية للبطل الأول الرئيس الذي تتحول اعماله الفوضوية ضد رموز الأنثى المحبوبة موريس عاهرة الزنزانة في )بوابة قلعة الموت). وكلير السيدة العاهرة والقديسة المُتخيَّلة (العذارى(في هذه المسرحيات عامل جينيه الأنثى بوصفها قناعا او تنكرا مخلوقا ملازما للنساء )بوابة قلعة الموت(. او من الحاجة للوعي لمخرج للقبول الجنسي )العذارى(.

وفي آخر ثلاث مسرحيات لجينيه يتجسد دمار الحكم في الشخصيات الأبوية، ويتحول الى شرط جوهري للمتغيرات السياسية، ومع ذلك، فإنَّ ثورات المحكومين تبدأ دائما مع قاتل عدو المرأة )الملكة والشرفة  والمرأة البيضاء في )السود  وبنت السير هارولد في )الشاشات). وتحث دائما او تطلق روحيا من قبل العاهرات او الأمهات شانتال في )الشرفات) وفيليستي في )السود(وخديجة في )الشاشات)، كما لو أنَّ التسلط العقلي للفوضى يبقى جاذبية مهمة للتمرد. وفي )الشرفة) يختار الثوار البغي نموذجا ويخفقون في ايذاء مدير الشرطة، وفي )الشاشات(يتوافر القتل السياسي المحرَّم اكثر من اي عمل مسرحي آخر، بيد أنَّ المؤسسات الرسمية للثوار الجزائريين تتحداهم الأمهات. سعيد المسرف بشكل واضح ومسرحية )السود(هي المسرحية الوحيدة التي تكوِن نتيجة حالة الصراع الجنسي فيها حالة غير طبيعية في التوازن بين النظام والفوضى وحدة سياسية او عنصرية تُنجز في نهاية المطاف وتوضح عن طريق حب القرية والفضيلة.

ومع هذا، فمحاولة دمج الحاجة الى الإشتراكية من اجل العدالة بالدافع الانتقامي للدمار قد كثفته وعمقته المسرحية )اللعبة) الشائكة بالاستعارات الذكورية والأنثوية )الرجل والمرأة(الموروثة من حبكات كل المسرحيات ... وبسبب دلالاتها الجنسية، فالمطلب من اجل التوازن السياسي يمكن أن ندرك من خلاله صعوبة البحث عن السلام بين الأنصاف الرجالية والنسائية المتصارعة في الذات الخنثى والرمزية الأسطورية لدراما جينيه تمنح مواضيعها السياسية عاطفة الزامية لاستحضار الأساطير اليونانية القديمة، وخاصة اساطير اورستز الذي حاول قتل أمه، واوديب الذي حكم عليه القدر أنْ يقتل والده.

ليست الأساطير السياسية والجنسية هي المزيج الوحيد المألوف في مسرح جينيه، لكنها تسهم ايضا في نقل التجريب الجمالي. ويحاول النقاد غالبا أنْ يوضحوا عقدة مسرحيات جينيه، التي ازدادت صيغها جرأة بين الأعوام 1947 و 1961، والحقيقة أنَّ كلاّ من )بوابة قلعة الموت) و)العذارى(تتسمان بالبساطة نسبيا بسبب محدودية شخصيتها الواحدة او الوحدة المزاجية، في حين نرى في )الشرفة والسود والشاشات(أنَّها تشير الى القلق المتنامي وتعدد المشاهد والى عدد القطع الصغيرة المتفجرة.

والظاهرة الأكثر محافظة لدراما جينيه هي بلا ريب، الأهمية التي تمنحها تلك الدراما للعمل، وتحتوي معظم حبكاتها قصتين او ثلاثا، متوازية مع التطورات الطولية، وتمنح ايضا درجة محددة لمميزات رمزية، مثل مقدرة بعض الأبطال الرئيسين الذين بالإمكان تشخيصهم كشخصيات ثابتة غير متغيرة مثل حارس السجن او موريس في )بوابة قلعة الموت(والسيدة في )العذارى) ورئيس الشرطة في )الشرفة) ونيوبورت نيوز في )السود) والجنود الجزائريون وشخصيات اخرى في )الشاشات). على كل حال، هذه هي الظاهرة التقليدية لحبكات ومميزات جينيه التي تُعرِّض مسرحياته الى مختلف التأويلات الرمزية.

واغلب صفة في دراما جينيه هي استغلالها المكثف لثنائية الإشارة المسرحية التي يوضحها استخدامها المسرحي، إذ بالإمكان تحويل الشخصيات الى ممثلين والقصص الى احتفالات او طقوس داخلية. والعمل المسرحي هو ادراك غير طبيعي عميق ينفي الفكرة التقليدية )الواقعية) بأحلامها مع تلك الحقيقة: الحقيقة تولِّد مواجهة مع عدة درجات من التخيٌّل، ومن خلال العمل المسرحي نشاهد أنَّ مثل هذه الفكرة الساكنة طبيعة انسانية او سيكولوجية تفسح الطريق لديناميكية الأدوار، بينما الأفعال الطبيعية او الأمكنة الدقيقة تصبح علامات غامضة واستعارات محددة. فانتحار كلير في )العذارى) واخصاء روجر في )الشرفة(ومواضيع السجن او القهر في اغلب المسرحيات هي امكنة واضحة لهذه العملية.

وفي عالم جينيه تُقدِّم المسرحية هدفين مزدوجين، فالهدف الأول يشير الى التناقضات الداخلية وتغريب الذات للأبطال الرئيسين الأوائل الذين يحافظون على تشريع دورة السيناريوهات ذاتها من القوة والانتقام لأنهم لم يمتلكوا فرصة في أنْ يكونوا احرارا. والهدف الثاني يسمح للممثلين بترجمة اغلب رغباتهم السرية الى اعمال لكسر ذهنيتهم الحبيسة، وهكذا يُظهِرون انفسهم قدر الإمكان شخصيات او مواضيع للتمثيل، ونتيجة لذلك، ومن خلال مزج الطقوس مع الحبكات السياسية، فإنَّ آخر مسرحيتين لجينيه ترفضان نهايات الأعمال السياسية المفتوحة. والحقيقة أنَّ المسرحية الممثلة او المسرح يمكن أنْ يتوقف ليكون مجرد نحت لفراغ وكلمات كما وصف ارشيبالد طقوس مسرحية )السود(.

وجمالية جينيه يمكن أنْ تُعد تجربة تمثيل )تصوير) وانعكسات الذات، والنموذجان ضروريان لأيّ عمل أدبي ويظهر التمثيل عملية اندهاشية تُعبِّر عن حقيقة الواقعية السامية التي تشير الى الاحلام اللاشعورية او الرغبات المكبوتة. وهذه الحقيقة تتضمن حتمية جمعية او )فانتازيا(سياسية وتبرهن على نفسها من خلال مناظر جماليات القبح التي يجب أنْ تحكم قناعة المشاهد الكلية والتزامه العاطفي. وفي الوقت ذاته، يعكس جينيه ايضا برتولد بريخت من خلال تركيزه على المشكلات الاجتماعية، واستخدم المحلية في القصص السياسية وتأثيراتها المتباعدة لإدراك الذات التي ستشاهد بالإدراك السياسي لمشاهديه، وبشكل خاص في مسرحية )الشاشات(التي تؤكد على اهمية التاريخ. وهذا يوضح كيف أنَّ الناقد الماركسي لوسيان غولدمان كان قادرا على فهم مسرحيات جينيه بوصفها دراما واقعية. واكّد المخرجان الألمانيان: ليون ايب وهانز ليتزو على النزعة الملحمية لجينيه عن طريق استخدامهما معرفتهما البريختية، فضلا عن تجربتهما في انتاجهما لمسرحيتين )الشرفة(و)الشاشات).

وقد عرَّف فيليب تودي جمالية جينيه بالتوتر المتناقض بين السوريالية الجديدة في الطقس الشعري الذي يهدف الى مبدأ )الفن من اجل الفن(وبين الإدراك الجاد للأشياء كما هي. ويحقق تودي ذلك عبر اصرار الجمالية على الخيال، وينجح فنّ جينيه في منحنا رؤية داخلية للواقعية، تمثل وجهة نظرنا وتعطي صورة للأحداث اليومية. بينما يبدو هذا الربط لدى جينيه دقيقا. ومن الصعوبة بمكان أنْ نتصور او نخلق انتاج مسرحياته المشبعة بالصور الشعرية الآرتوودية والتلقائية التي تقود الى الرؤيا للواقعيات السياسية. وهذا ما اكده افضل مخرجي اعمال جينيه – بلن وغارسيا وبروك وستلير، الذين حاولوا الإنجاز، ولا ندري فيما اذا كانوا قد نجحوا فيه أم لا؟ والسؤال يبقى مفتوحا.

وبعد مسرحية )العذارى(فإنَّ معضلة الجمالية التامة غالبا ما تظهر في أشكال ما وراء المسرح المفترض على مسرحياته. وإنَّ الرمزية الجنسية بين ما وراء المسرح لجينيه تتنافس، بل تتداخل مع الصورة الجنسية لنموذجه السياسي والبحث عن نموذج جديد للمسرح – تعليقه لسمو الارتوودية مع انفتاح اللاشعور على المسائل الجادة – منعكسة في تضاد دراماتيكي بين الإلهام الأنثوي والإلهام الذكوري والأعراف وترتبط العاهرات بشكل خاص الأمهات منهن بالعملية الإبداعية ويمثّل مصادر الغموض واللاشعور في جميع صيغ التجريب الفني – بينما ينزع الرجال المنظمون والمساندون للاحتفالات الشعائرية في تشخيص وظيفة السيطرة او القمع التي تؤثر في عملية الخلق الفني الحر. هذا التوتر اللامسرحي يبدأ بالبروز في المسرحية )العذارى) حيث صور أنَّ جنون العظمة للذكر يفسح الطريق تدريجيا للاستعارة السرية المركزية للأم الحامل. في هذه المرحلة يبقى النظام السياسي للسجن مسيطرا في عقلي بطلين رئيسين يحفز أنثويتهما مزيدا من الرقّة الأمومية.

ويظهر التمرد الاجتماعي والمسرحي حركة طاغية دقيقة تشير الى العمل المُتمَّثل. ويحاول صوت الإلهام الشعري التعبير عن نفسه في أغنيات شانتيل التلقائية عن الحرية، ولا يتوقف حتى في موتها، بل يخفت لقوة سيناريوهات للدعارة عاكسة دور الذكر في الدولة الفاشية وهنا، نرى نتائج مستويات الصور الجمالية والسياسية في تحالف عضوي بين النماذج التقليدية للإبداع )إيرما ودعارتها)، والبناء في المجتمع القمعي )مدير الشرطة) وتمثل )الشرفة) بوصفها ما وراء المسرح وثائق نقدية مستمرة، لأنها تحاول إثبات الصورة الأصلية للأنثى )الدعارة(خلال قنوات سادية )الشعائرية) صنعه خيال الرجل )الزبائن.(

ومسرحية )السود(هي أول مسرحية فيها رمزية ما وراء المسرح للإبداع الفني الأنثوي لا تتضمن حبكتها رموزا جنسية. إنَّ شعائر المسرحية تمثل في الغالب انصهارا كاملا بين الإلهام الشعري العاصف والسيطرة على الذات وكبحها. ويوضح عالم الطقوس مثالية )المسرح الكلي) تتمحور حول صورة الأم وتتحد في النهاية مع عالم الأحداث السياسية مسلطة الضوء على سلطة الأب في المشهد الأخير للمسرحية.

وتَعرض مسرحية )الشاشات) رؤية اكثر راديكالية للحرية الفنية والتجريب من مسرحية )السود). ذلك لأنها تعتمد كليا على الشخصيات الأنثوية ورمزيتها الجمالية. بينما تشخِّص وردة وخديجة صيغ الإيحاء الفني مُقدِّمة بذالك، ميثلوجيا الذكر )العهر(او الفعل )الحرب(. وتمثل كل من آمود الأم مثالية الشعر النقي واستقلالية الجنون المشهدي لأيِّ بنى ذكورية بعكس مسرحية )السود) التي تظهر فيها التوترات الجنسية وقد حُلَّت من خلال مزاج الطقوس بالمواضيع الثورية ولا تعرض مسرحية )الشاشات) أيّ حل للمعضلة بين النظام السياسي الذكوري )الدولة الجزائرية الجديدة(، ومثالية عدائية الانثوية لأي نظام يقوم على القوة. وهنا فإنَّ العملية التي تحوّل العدائية القاتلة الى شعور يفترض الصيغ الفنية الثورية ويهدف الى التفجير الحسي في زمكان المسرح التقليدي، والذي اطلق عليه الجنود الجزائريون – الضحك والرقص، وحركات جسدية غير مروِّضة، وصراخ الحيوانات، او لعب لغوية – وتتحول الى اطلاق العنان لامتلاك منصة الخشبة.

وكما لو اَّنَّ جسد الأم في الختام يسمح بالتعبير عن نفسه داخل نظام اشتراكي جديد للأبناء. غالبا ما يمثل القارئ او المشاهد لمسرحيات جينيه ضمنا او صراحة في تلك المسرحيات وفي رؤيتنا لمسرحية )بوابة قلعة الموت) ربما يشعر المشاهدون بأنهم اعضاء متورطون في مجتمع حر، قضاة وجلادون ورجال شرطة. والذين طبقا لمنطق المسرحية يسيطرون ويخلقون عالم السجن ايضا، فإذا هم أغروا على المشاركة في الصراعات الداخلية للنزلاء، فإنهم يستأنفون نظامهم المعكوس من القيم. وفي مسرحية )عذارى) يتوقع المشاهد أنْ يشخّص ذاته في الفضيلة المجسدة في شخصية )المدام) Madame و)السيد) Monsiers، في مسرحية )الشرفة) يؤكد خطاب إيرما الأخير المباشر الى حضور نماذج من المتفرجين، مثل الحكام المنحرفين جنسيا والمستهلكين البرجوازيين بينما هم في الواقع ثوار فاشيون، ويبدو أنَّ شانتيل وروجر هما الشخصيتان الوحيدتان في المسرحية اللتان لا تعاملان كصورتين مزدوجتين للمشاهدين. وفي مسرحية )السود) فإنَّ المحكمة البيضاء تشرف على احتفالات الشخصية السوداء، ويقف الممثلون بجلاء أمام صورة طبق الأصل للمشاهدين الذين يظهرون صراحة كحكام وكولنياليين وممثلين للسلالة الحاكمة والثقافة الرصينة.

وتمثل مشاهد مسرحيات جينيه كراهية الطبقة الحاكمة. وهو يصور الآلام الأصيلة التي يعاني منها المحكومون في المسرحية المُمثَّلة، كما يتضح ذلك في مسرحية )السود). وهو يسهم ايضا في اعمال المُضْطهدين، من خلال المشاركة مع عواطفهم او التوافق مع طموحاتهم. وبحكم كونه مراقبا فإنَّه يكون متذبذبا على الدوام بين الجرم والغضب، لأنه يتخيل نفسه قمعيا وربانيا. والاضطراب الأخلاقي يرغمه على أنْ يحابي الضحايا الذين يقدمون العنف والدمار. وتظهر حالته السيكولوجية الجنسية اكثر قلقا، وذلك للتماهي مع الممثلين الرئيسين الأوائل الذين اكدوا لأنفسهم سلوكا ثنائيا جنسيا، وقد يتحول ذلك الى قلق. إنَّ المسح الشامل الذي اجراه ريشاد كو Ridchard Coe، عن الإستجابة النقدية للإنجازات الأولى لمسرحيات جينيه في باريس تمثل مشاعر الإغتراب بالمقارنة مع ردود الأفعال الموصوفة في بنى ما وراء المسرح لنصوص جينيه المدونة. والرفض الاجتماعي الأولي للنقاد. وسوء فهم الجمال لدى جينيه في الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن العشرين، يرينا كيف ظهر التشويش على مسرح جينيه أول مرة بين الأعوام 1947، 1966، وتُعد الافكار الكلية غير المتوازنة للذين يجرون مقابلات عن ورطة الآراء المبتسرة والعدائية والانفعالية، الأمر الذي يفسح المجال تدريجيا امام المحاولات الجادة لفهم وتحديد سمات مسرح جينيه.

وعلى العكس من ذلك، كان النقاد اليساريون وجميعهم من مؤيدي بريخت في الخمسينات يشعرون بخيبة امل لحاجة جينيه الى الأجوبة الصريحة للمسائل السياسية ويميلون الى اتهامه بالرجعية. ويحاجج كو في أنَّ شعر جينيه في لغته الباروكية يحوِّل القبح والحِطة الى صيغ غنائية جميلة لها تأثيرات تغريب على أولئك الذين يسمعونها لأول مرة في مسرحية )العذارى(. وتعلقا ب )كو(، فإنَّ هذا الشعر الغنائي المسرحي يجعل من جينيه صاحب بدعة راديكاليا، بما يطمئن جزئيا ادعاءات النقاد في المسرحيتين )السود) و)الشاشات(.

ولم يذكر) كو) في تحليله الظاهرة الاندهاشية في انتشار جينيه السريع في الخارج وترجمته مسرحياته الى الإنجليزية والألمانية والإسبانية والإيطالية، وثمة مسرحيتان لجينيه – )الشرفة والشاشات) لهما الأولية في العرض خارج فرنسا، وبشكل خاص في لندن وبرلين. بينما حققت مسرحية )السود) نجاحا رائدا في نيويورك بعد عرض استمر سنتين في باريس. وبعكس كثير من الكتّاب الفرنسيين المسرحيين في القرن العشرين )كلوديه وغيرالدو و كوكتو وسارتر وآداموف وغيته وآربيل) ويبدو أنَّ غموض جينيه الواضح على القرصنة الرمزية، تعتمد على الفساد والظلم والنماذج الاشتراكية التي تولِّد قبولا باستبداد السلطة. متزامنا نوعا ما مع المشكلات التي سكنت الوعي السياسي لكثير من الأوربيين والأميركيين منذ الخمسينات.

وفي الوقت نفسه، فإنَّ شعر مسرحيات جينيه الذي غالبا ما يكون حسيَّا، في التفاصيل الطبيعية لا يمتلك خلفية محددة جدا، يُسهم في عالمية تلك المسرحيات عن طريق الدعوات الواسعة لتأويلاتها الممكنة ولهجة جينيه الغنائية الغريبة، والصور القوية، والمزج غير الطبيعي في اللغة الخشنة، والنطق الصافي، تميل الى تثقيف المشاهدين عن طريق تجارب فنية جديدة. وتعتمد قوة تأثيره كثيرا على رمزية حبكته وصوره الإيجابية واستعارته الواسعة. كما يعتمد على الوجدانية في اللغة، وربما تكون هي سبب ترجمة شعر جينيه الى اللغات العالمية فضلا عن أنَّ بالإمكان استيعاب صوره من قبل المخرجين، والممثلين، والمصممين، الخ.. فضلا عن ذلك، فإنَّ نجاح جينيه في العالم الناطق بالإنجليزية يمكن أنْ يُعزى الى الدقة والجمال الخام في ترجمات برناد فرشمان وثمة ظاهرة اخرى، يمكن أنَّ اغلب الأعمال النقدية المكتوبة عن جينيه، وبشكل خاص عن مسرحه، قام بها نقاد إنجليز وأميركان ومن الصعوبة بمكان ترجمتها الى الفرنسية حتى الآن. وربما قد يتساءل المرء بجدية، فيما اذا كان الأكاديميون الفرنسيون قد لزموا الصمت بسبب تأويل سارتر لجينيه مسرحيا لإدراك سارتر ما وراء العقل من السمات المحددة لمسرحياته الأخيرة.

* تقصد مؤلفة هذا المقال ومقال سيرة جان جينيه ورواياته يضمهم كتاب واحد من تأليفها. المترجم