تكشف هذه القراءة المتميزة التي تتسق مع رؤية كاتبها الإبداعية وبصيرته المرهفة، عن مسيرة ماركيز القصصية وكيف أنها تتصادى مع عالمه الروائي وتستشرف الكثير من إنجازاته، كما أنها تشكِّل معماراً حياً متنامياً، وتسري بينها تراسُلاتٌ مهمة تكشف لنا عن رحلته مع النضج والتمكن من أدواته ورؤيته.

مجموعات قصص ماركيز القصيرة الكاملة

حين تكون الشجرةُ حديقةً كاملةً في أرضِها وليست أغصاناً مقصوصة في مزهريات

عاطف سليمان

أسدى المترجمُ القدير الأستاذ صالح علماني معروفاً حقيقياً لصالح قصص ماركيز القصيرة ولصالح الثقافة العربية بإنجازه ترجمة كل المجموعات القصصية التي كتبها ماركيز، ونشرتها "دار المدى" في كتاب واحد، وذلك بعد حوالي ثلاثين عاماً تراكمت خلالها أكوامُ الترجمات التجارية وفوضى الترجمات المتناثرة وغير المنضبطة لبعض هذه القصص وبعض هذه المجموعات حتى لو كان بعضُها جيداً أو فائق الجودة.

كتبَ ماركيز وأصدرَ تسعاً وثلاثين قصة في أربع مجموعات من القصص القصيرة. أولى القصص هي «الإذعان الثالث»، المؤرخة في 1947، وآخر القصص قصتان هما «طائرة الحسناء النائمة» و«ريح الشمال»، المؤرختان في 1982.

1- عينا كلب أزرق
تكونت هذه المجموعة من إحدى عشرة قصة، كُتبت الأولى منها في سنة 1947 والأخيرة في سنة 1955. وأبرز قصصها «عينا كلب أزرق» (1949)، «المرأة التي تصل في السادسة» (1950)، «أحدهم يفسد تنسيق هذه الأزهار» (1952)، و«ليلة الكروانات» (1953).

في قصص «عينا كلب أزرق» تبدأ بالبزوغِ السماتُ الأسلوبية الفنية والسماتُ الفكرية للكاتب الشاب ماركيز، وإنْ كان بزوغاً عسيراً نسبيّا. سنلاحظ تكرار افتتانه بالما ورائيات واهتمامه بصنوف الموت الذي يكاد لا يكونُ موتاً، وكذلك تحديقه في الموتى - أو بالأحرى في حياة الموتى غير المنقطعة – واثقاً من صِلاتهم المتبادلة مع الأحياء، كما بزغت فكرةُ انعزال شخص ما أو غيابه مقترنةً بفكرة بعثه أو انبعاثه أو عودته، وأفكارُه الأثيرة عن الحب التي ستغتني في أعماله اللاحقة، وتكاد قصص هذه المجموعة تخلو من أية إشارات أو إيماءات جنسية.

2- جنازة الأم الكبيرة
تشتمل هذه المجموعة على ثمانِ قصص كُتِبت جميعُها خلال سنة 1962. في قصص «جنازة الأم الكبيرة» ازدادت أساليبُ ماركيز الفنية استواءً واقتداراً، وظهرت للمرة الأولى أسماءٌ ستبقى مثل خوسيه أركاديو بوينديا والكولونيل أوريليانو بوينديا وأورسولا والكاهن الـمُعمِّر أنطونيو إيسابيل، كما ظهرت شركةُ الموز، والسوريون (يُسمون الأتراك أيضاً)، والكراسي الهزَّازة، وأراجيح النوم الشبكية، والمطر الهاطل بديمومات كئيبة مرعبة وساحرة في الآن نفسه، والجدات شبه الأسطوريات المالكات والماسكات بالسُلطة، وفي قصة «يوم بعد السبت» ظهرت إلى الوجود قرية «ماكوندو» التي ستغدو لاحقاً المكانَ التأسيسي الذي ستجري فيه حوادث روايته «مئة عام من العُزلة» وسواها، وكأن تلك القرية قد باتت هي النظير السحري والأكثر واقعية في آنٍ للعالَم الأرضي المألوف، وهي التي ستحظى كذلك بتنويه لجنة جائزة نوبل السويدية.

وقد كَتَبَ الكاتب البيرواني الحاصل على جائزة نوبل «ماريو فارجاس يوسا» مقالاً فاحصاً عن هذه القصة تُرجِم إلى اللغة العربية بعنوان «ظهور ماكوندو في قصة يوم بعد يوم السبت». وتتالى نبشُ الكاتب في أحوال العائشين على هامش الحياة والبائسين مثل اللص الطيب المقتول في قصة «قيلولة الثلاثاء» واللص الخالي من اللصوصية الذي يعيد المسروقات بحماسة أشد من حماسته وقتَ أنْ قام بسرقتها في قصة «لا يوجد لصوص في هذه القرية» التي يمكن اعتبارها إرهاصة لروايته اللاحقة «قصةُ موتٍ مُعلَن»، وطبيب الأسنان غير الحاصل على شهادات علمية في قصة «أحد هذه الأيام»، وبانَ التطيُّر في عالم ماركيز القصصي، وحلَّت ساعاتُ النحس، كما أن الـحُبَّ وطرائقَه والإيروتيكا الماركيزية قد تدشنوا في قصص هذه المجموعة، وبدأت كذلك إطلالاتُ العاهرات؛ عاهرات ماركيز ذوات الولاء، ذوات الاستقلالية، الفقيرات، الكريمات، ذوات المروءة والنُبل، البهيجات، الشقيَّات، المنكودات، الراضيات بسُنن الحياة. وظهرت قصتان في حالة تتالٍ هما «أمسية بالتازار العجيبة» و«أرملة مونتييل». أما في قصة «جنازة الأم الكبيرة» فيمكن أن تُلمَح تباشير رواية «مئة عام من العُزلة». وغدا ماركيز، الذي كان آنذاك في الرابعة والثلاثين يعرفُ أدبَه ويعرفُ كيف تُحكى الحكايات.

3- القصة العجيبة والحزينة لإرينديرا الساذجة وجدتها القاسية
تحتوي هذه المجموعة على ثمانِ قصصٍ أيضاً، مؤرخة بين عاميْ 1961 و1972، وفيها يتناهى الحسُّ والتعبيرُ عن مختلف الأشواق الإنسانية عمقاً وتدقيقاً وإمعاناً، ولعلها كانت بواكير الغرس الأبهى العجيب للواقعية السحرية بنكهة ماركيز التي خلبت عشاقَ الأدب. أولى هذه القصص هي قصة «سيد عجوز عجوز بأجنحة هائلة» (1968) بملاكِها العجوز ذي الجناحين الذي عُثِر عليه في وحْل الأمطار وبات مزاراً للمتفرجين، ثم بامرأة العنكبوت الصامدة في محنتها بعد عصيانها لأبويْها، وقد نوَّهت عن هذه القصة «إيزابيل ألليندي» في ثنايا روايتها «باولا» معتبرةً إياها الأفضل بين قصص ماركيز القصيرة، وهي حقاً قصة بديعة، حيث أسلوب الكتابة المدهش وعجائب الواقع السحري والخيال دون أية شُبهة للفانتازيا.

وتُباريها في الألق قصة «أجمل غريق في العالم» (1968) التي يرى فيها القارئُ مفعولَ الجمالِ على فقراء قرية قاحلة، ويتابعهم وهم يستعيدون إنسانيتَهم بل جمالَهم إكراماً لذلك الجمال الذي حطَّ بينهم بغير سابق تدبير. لكن الفانتازيا تطالُ بعضَ المواضع مثلما هو الحال في قصة «بحر الزمن الضائع» (1961)، التي لا تنتمي زمنياً إلى هذه المجموعة الثالثة بل إلى ما بين المجموعتين الأولى والثانية. ونلمح في قصة «موت مؤكد في ما وراء الحب» (1970) بعضاً من أمارات روايته «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه». وفي قصة «الرحلة الأخيرة للسفينة الشبح» (1968) نتابع الصبي «كراخو» الذي رأى شبحَ عابرة المحيطات الهائلة التي غرقت من قبل قُرب الساحل؛ رأى شبحَها وشاهدها وهي تعيد مشهدَ تحطُّمِها وغرقِها، وعرف أن ما يراه هو شبحها، ولم يصدق نفسَه، ثم رآها ثانيةً في الموعد نفسه بعد سنة وأخبر أمَّه فصدقته ووعدته بأن يذهبا سوياً لرؤيتها في السنة المقبلة، لكنها ماتت قبل ذلك. وفي المرة الثالثة رآها وأخبر الناسَ فكذَّبوه وصفعوه، وفي المرة الرابعة كان قد استعد للُقياها وتمكَّن من إرشادها وتجنيبها الخطأ الذي أدى إلى غرقها الأول فأنقذها من غرقها المتكرر الأبدي، وأنجاها من مصيرها السالف، فانبعثت كسفينة حقيقية هائلة باذخة، واستطاع اقتيادَها إلى ساحل قريته حيث انبهر بمرآها كلُّ الذين سبق أن كذبوه وأهانوه.

قصة «القصة العجيبة والحزينة لإرينديرا الساذجة وجدتها القاسية» (1972) كتبها ماركيز بعد حوالي خمس سنوات من الترحيب الكوكبي بروايته «مئة عام من العُزلة» (1967)، وقد طالت صفحات القصة إلى حجم النوفيلا، وبدت على نحوٍ ما كأنها المعارضة الماركيزية لرواية «فلاديمير نابوكوف» الاستثنائية «لوليتا»، وفيها يكتب ماركيز عن الجدة التي عملت كقوَّادة لحفيدتها الصبية الجميلة البريئة المطيعة، ويستمتع مع قُرَّائه بولعه بسبْر المزيد من أغوار الجدات واكتناه سطواتهن المهيبة ومشيئاتهن وحدسهن، وتظهر فيها "زياراتٌ" من قصص أخرى؛ فتأتي "المرأة العنكبوت" الزائرة من قصة «سيدة عجوز عجوز بأجنحة هائلة» ويأتي "بلاكامان" بائع الترياق المضاد لسموم الأفاعي، الجوَّال، المحتال، الزائر من قصة «بلاكامان الطيب بائع المعجزات» (1968).

4- اثنتا عشرة قصة قصيرة مهاجرة
وتشتمل هذه المجموعة على اثنتي عشرة قصة مسبوقة بمقدمة، مؤرخة بين عامي 1976 و1982، لكنه أعاد كتابتها وانتهى منها جميعاً - ما عدا القصتين الأولى والثانية - في وقت واحد في 1992 في عملية التنقيح الإجمالية الأخيرة، وأبقى على تاريخ البدء في كتابة كل قصة. وقد بدأ ماركيز في كتابتها في إثر "الحلم المضيء" الذي رآه بعد خمس سنوات من عَيْشِهِ في برشلونة؛ إذْ رأى نفسَه مع أصدقائه القدامى يحضرون مأتمَه هو بالذات، وحين رغب في الانصراف معهم بعد ختام المأتم مُنِعَ. بحسب المؤلف فإن هذه القصص تستند إلى "وقائع صحفية وقد تحررت من شرطها الأخلاقي بحِيلٍ شعرية". ويقول ماركيز عن هذه المجموعة: "أظن أني توصلتُ إلى تأليف كتاب القصص القصيرة الأقرب إلى ما رغبتُ دائماً في كتابته".

القصص هنا "مهاجرة"، بمعنى أن أحداثها تقع في مدن وبلاد خارج الوطن اللاتيني؛ مثلها مثل ماركيز نفسه حين كان في برشلونة وفكَّر بكتابتها. القصة الأولى «رحلة موفقة سيدي الرئيس» (1979) تحدث في مدينة جنيف حيث جاء رئيس جمهورية لاتيني مخلوع لكي يُعالَج، وفي النهاية يرجع إلى منفاه في جزيرة المارتينيك دون استكمال علاجه لقِلة ما يملكه، حتى إن زوجة سائق الإسعاف الكاريبية التي كانت متشككة فيه قد انحازت إليه كليةً، واختلس الزوجان من مدخراتهما لطفليْهما لأجل استكمال نفقات علاجه باعتباره "ابننا الكبير"، وفي المقابل فإن الرئيس المخلوع العجوز المريض يباريهما إنسانيةً بإنسانية. وتحدث قصة «القديسة» (1981) في روما، وفيها يتابع القارئُ جثةَ الطفلة الجميلة التي ماتت وهي في السابعة، وحين نبشوا قبرها بعد إحدى عشرة سنة لحمل بقايا عظامها وجدوها ليس فقط كاملة وجميلة بالضبط مثلما كانت وهي حية بل عديمة الوزن أيضاً، فحملها أبوها في صندوق وسافر إلى الـﭭـاتيكان لأجل إقرارها كقديسة، ومضت اثنتان وعشرون سنة مات في أثنائها خمسة باباوات وهو يثابر، مثابرة قديس، دون أن يظفر بمطلبه.

قصة «طائرة الحسناء النائمة» (1982) تبدأ في مطار شارل ديجول بباريس وتكتمل في داخل الطائرة المتجهة إلى نيويورك، وهي بمثابة معايشة احتفائية لرواية «الجميلات النائمات» للياباني العظيم «ياسوناري كاواباتا». تحدث قصة «بائعة الأحلام» (1980) في هاﭬـانا وﭬـيينا وبرشلونة، وتروي عن "فراو فريدا"، المتنبئة، القادرة منذ طفولتها على رؤية غَيْب الآخرين في مناماتها، وقد حلمت بالشاعر «بابلو نيرودا» الذي حلم هو أيضاً بها. قصة «جئت لأتكلم في الهاتف فقط» (1978) هي مأساة تحدث في برشلونة، ولربما تتسم بالاصطناع لأن محرك الأحداث فيها لا يعدو حالة سوء فهم، غير مقنعة أدبياً تماماً، تُودي بماريا المرأة الشابة إلى الاحتجاز الظالم في مشفى للأمراض العقلية فتتحطم حياتها وحياة الأقربين منها. تحدث قصة «رعب آب/ أغسطس» (1980) في مدينة أريزو في توسكانيا، حيث القلعة العتيقة التي شهدت منذ ثلاثة قرون سفْك دمٍ على اسم العشق، وتحكي عن الضيف وزوجته اللذين ناما ليلتهما في غرفةٍ بالطابق السفلي واستيقظا صباحاً ليجدا نفسيْهما في غرفةٍ أخرى بالطابق الثالث كانت بالذات الغرفة التي سُفِكَ فيها الدمُ.

قصة «ماريا دوس براسيروس» (1979) تحدث في مدينة برشلونة؛ إنها عن ماريا العاهرة العجوز المعتزلة التي قررت إثر منام لها أن تستعد لموتها بشراء قبرٍ لنفسها بالتقسيط، وإنها لا يمكن الإلماح عن مدى ثراء حوادثها، وأراها – في رأيي – أعذب وأغنى قصص ماركيز، بل واحدة من أعذب القصص على الإطلاق بسحرها الذي هو مكنونٌ في طبقاتٍ لا تنفد. تحكي قصة «سبعة عشر إنجليزياً مسموماً» (1980) عن الجدة برودينثيا لينيرو القادمة من ريو هاتشا إلى نابولي بغرض تأدية الحج في روما ورؤية البابا، وقد نجت من التسمم الذي أصاب أولئك الإنجليز في الفندق الذي لم ترضَ بالنزول فيه. تحدث قصة «ريح الشمال/ ترامونتانا» (1982) في برشلونة، حاكيةً عن الرعب الذي يسببه هبوب ريح الشمال في كاداكيس، حتى إن المرء قد يقتل نفسَه ليتجنب ذلك الرعب.

تحدث قصة «صيف السيدة فوربس، السعيد» (1976) في صقلية، وتحكي عن قُدوم السيدة فوربس مربية الأطفال الألمانية الصارمة للاعتناء بصبييْن لمدة خمسة أسابيع يغيب فيهم الأبوان خلال الصيف، وتتبدى للصبييْن مبادؤها المزدوجة، ويحاول أحدهما تسميمَها فتموت مقتولة بطعنات العاشق الخفي. قصة «الضوء كالماء» (1978) تحدث في مدريد، وهي على غير شاكلة قصص ماركيز بما فيها من تجريب ونفحات سيريالية؛ حيث يبحر الصبيان توتو وجويل بزورق التجديف على سطح الضوء لا الماء في داخل الشقة، ثم يزيدان الأمرَ فيغوصان بأجهزة الغوص في أعماق الضوء، وفي المنتهى يتدفق الضوء أكثر إلى الحد الذي استلزم استدعاء المطافئ. قصة «أثر دمك على الثلج» (1976) تحدث على طريق السيارات بين مدريد وبوردو وباريس، ويتابع القارئ غرام وزواج الفتاة نينا دا كونتي وعريسها الشاب بيللي دي أﭬـيلا، وكانا هائمان في الحب، وتُصاب العروس بجرحٍ تافه في بنصرها الأيمن من جرَّاء وخزة شوكة في باقة ورد، وبتقدم الوقت صار الجرح ينزف بصورة خطيرة فأُدخِلت قسم العناية المشددة في مستشفى باريسي وطُلِب من عريسها المعاودة بعد أسبوع لكنها ماتت بعد ستين ساعة، ولربما كانت شهوة المؤلف في إحكامِ خاتمةٍ موجِعة مميَّزة لقصته قد ألجأته إلى بعض التدابير الميلودرامية غير المقنعة تماماً. وقد حاولت إدارة المستشفى، دون جدوى، العثورَ عليه لإخباره بينما كان هو يجاهد، دون جدوى، من أجل محاولة دخول المستشفى لزيارتها!

نقاء وطلاوة الحكي الناضج هما أسُّ العديد من قصص هذه المجموعة الأخيرة.

يذكر ماركيز هذه العبارة منسوبةً إلى شخصٍ نُسِيَّ اسمُه «من الأفضل تقويم الكاتب الجيد بالنظر إلى ما مزَّقه وليس إلى ما نشره.» قصص ماركيز القصيرة – لِمَن يقرأها مجتمعةً – لا تظل قصصاً تتجاور أو تتراكم؛ إنما تشكِّل معماراً حياً متنامياً، وتسري بينها تراسُلاتٌ مهمة تُفتقَد – بالضرورة - حين تُقرأ القصصُ على غير هذا المنوال، ومن جهةٍ أخرى فإن عيوبَها أيضاً تبين؛ كما سبق لي الإشارة أحياناً في بعض المواضع.

جابرييل جارسيا ماركيز، القصص القصيرة الكاملة، ترجمة (عن اللغة الإسبانية): صالح علماني، دار المدى للثقافة والنشر، الطبعة الأولى 2008.