تقدم الشاعرة السورية في هذه المقالة نوعا جديدا من التأملات النقدية التي تتسلح بمعرفة نقدية ولكن ما يرودها ليس التنظير بل الهم الإبداعي والشعري منه على وجه الخصوص.

النقد بين النص والمتلقي

نقدية النقد

غالية خوجة

 

(1)

ما هي العملية الإبداعية؟ أليست هي تلك اللحظة الإشراقية وقد تحولت مع ملكوتها من (لحظة قارئة) إلى (لحظة مقروءة)؟ باختصار، إن تلك اللحظة هي النص الإبداعي وقد تحوّل من مكوناته المخبوءة: (الحلم / الرؤيا / المخيلة / المخزون الثقافي) إلى كلمات تجسد (روح المبدع) وتحولها مع اللغة إلى (مرايا متعاكسة) مثل (المعاني) تماماً.

(2)

 قد تدفعنا هذه البداية إلى عدة أسئلة أهمها:

§                     ما النقد؟

§                     ما النص؟

§                     ما هي عملية القراءة طالما أن العملية الإبداعية هي عملية قرائية من نوع ما؟

§                     وما مكانية التوصيل ما دامت القراءة بحـد ذاتها هي اشتراك في عملية قراءة سابقة = (النص الإبداعي)؟

§                     وكيف تتحول لحظة القراءة إلى حركات تأويلية قابلة للفهم على صعيد النص النقدي؟             

(3)

ولنقرأ تلك المرايا الروحية والمعنييّـة المتعاكسة فلا بد لنا من ولوج (لغة النص) التي انتقلت من حركتها الأولى المضمرة في دواخل المبدع إلى حالتها المكتوبة، القابلة للقراءة المتعددة وذلك تبعاً لطاقة (المتلقي) مهما كان موقعه من سُلـّم القراءة، أي سواء كان: قارئاً عادياً، أم كان قارئاً نموذجياً، أم كان قارئاً مبدعاً. وفي أي فضاء قرائي كان (المتلقي) فلا بدّ له من ذائقة جمالية (تشترك) مع (المبدع) في إنجاز النص من حيث الإيغال في (الرؤيا الفنية) وتركيبيتها مع (الشكل) الذي يعني في النقد الحديث: (الشكل + المضمون).

ويتنامى مستوى قراءة نص ما مع تنامي الوعي الفني ومثاقفته بالطاقة العارفة التي يتمتع بها (المتلقي) ليغامر في جدلية ما مع النص وعناصره بوحداته الصغرى المنجزة لوحدته الكبرى، وليقرأ الشبكة التأويلية النابعة من (الدال) إلى (دلالته) حيث لا مصبّ نهائي في النص الإبداعي المختلف..

و قد نتساءل:

 لماذا لا معنى نهائي لأي نص إبداعي؟

ولماذا لا تكون هناك قراءة واحدة؟

ببساطة: لأن اللغة في النص الإبداعي الحقيقي \ أو [ الكلام ] على حد تعبير (دو سوسير) \ تتحرر من ملفوظها الأول لتتحرك فيما بعده من دلالات تدوم في الحركة والدوران والتغير والانزياح، لتظل في (عالمها التمويهي) أو (الضبابي) الذي يتفلت من أبعاده موسّـعاً تكويناته ليساهم مع عوالم الدلالات الأخرى في (تشكيلية الرؤيا النصيّـة) المتماوجة تحت (اللغة) أو تحت (الكلام) أو حيث لا (تحت) ولا (فوق) ولا (جنوب) ولا (شرق)، أي: حيث لا (جهة مكانية محددة) ولا (جهة زمانية محددة). وهذا ما رآه منذ زمن (الجرجاني) والذي أسماه (دريدا) بـ (معنى المعنى)، وهو شبيه ذاته في مفهوم (فوكو): (علائق الكلمات والأشياء)، وهو ما أراده (بارت) بقوله (لذة النص).

فهل صار بإمكاننا القول:

إن النقد هو باختزال: (الكيفية القرائية) لـ (الكيفية التشكلية للنص)؟ أو لـ(الكيفية القرائية) السابقة عليه، الحاضرة كـ(نص إبداعي)..؟

إذا ما اتفقنا، فلنا أن نتساءل:

ما دور النقد؟

ما أهميته؟

وأين فضاؤه بين (النص) و(المتلقي)؟

و كيف لـ (النقد) أن يكون (نقداً)؟.

(4)

لا شك أغلبنا يعرف أن النقد عملية إبداعية، أيضاً، إبداعية من نوع ما. ولتتكامل هذه العملية الإبداعية، فلا بد من شروط تتوافر في (الناقد)، فإضافة إلى الذائقة والحس الرهيف والمخيلة والثقافة، لا بد من الرؤيا. ونؤيد في ذلك ما قاله الأولون وما رآه الناقد (يوسف سامي اليوسف) في كتابه (القيمة والمعيار ـ دار كنعان ـ ط1 / 2000 / الصفحة "16") حين أكد على ضرورة توافر أربعة شروط في الناقد:

 (1) ـ الذوق المرهف الحساس.

 (2) ـ أصالة النزوع المعياري.

 (3) ـ القدرة على الموازنة.

 (4) ـ غريزة التمييز بين الغث والسمين، مما يؤهله لإصدار حكم القيمة الناضج.

وبإمكاننا أن نضيف شروطاً أخرى، نختزلها بالمقدرة على الاستبصار والنفاذ والاستغوار والاستبار في (النص اللا مكتوب) أو كما أسمّـيه (شبكة البياض) حيث اكتشاف ما لم يقله (النص المكتوب). وحالما يستطيع الناقد القبض على حواس (الفضاء الأسود) وعلى حواس (الفضاء الأبيض) يكون قد وصل إلى (حدوس) و(روح) النص والمبدع معاً، إضافة إلى (حدوسه) و(روحه) كـ (قارئ). أ ليس من يقرأ نصاً ما يقرأ ذاته أيضاً في ذات النص وأبعادها الرامزة والمتحركة والإشاراتية وعالمها الممتزج بالعالم بشكل ما والمنشئ له بطريقة ما؟ أ لسنا عندما نقرأ نصاً ما نمارس قراءة ذواتنا في نفس الآن؟ ربما، لنفس العلة تختلف طريقة القراءة من ناقد لآخر، وقد تختلف بين الناقد نفسه، لا سيما حينما تزداد ثقافته واطلاعاته، وتتسع تأملاته المبصرة.

وكذلك هذا ما يحدث مع (مبدع النص)، حيث تختلف طريقة التأمل والقراءة والثقافة والموهبة والذائقة و.. الخ، وهذا الاختلاف، بدوره، هو السبب في التمايز الذي أصبح نادراً في زمننا سواء على صعيد النص الإبداعي أم على صعيد النص النقدي. ولم ينتج ذلك إلاّ عن أسباب كثيرة لسنا بصددها الآن، لكن باستطاعتنا الإشارة إليها بشكل سريع:

ـ استسهال عملية الكتابة.

ـ التقليد والمحاكاة والتناسخ وهذا يؤدي إلى انتشار كتابة (النص الواحد) رغم تعدد الشخوص الكاتبة.

ـ فقدان المعايير القيمية والاعتماد على موقف (خارج نصي) يفقد الموضوعية في القراءة وينتمي لقراءة (الشخص) لا لقراءة (النص)، مما يؤدي بشكل حتمي إلى (المدح) و(القدح) والابتعاد عن النقد الموضوعي الجمالي الرؤيوي.

ـ الركامية التي تنتج تضخماً سرابياً في الكتب دون أن تنتج نوعية إبداعية، ولهذا أسباب كثيرة، منها: الربح المادي لدور النشر. اعتماد لجان القراءة في مؤسسة ما على العلاقة المصلحية بينها وبين الشخوص الذين تطبع لهم دون إيلاء أية أهمية للنص ـ أو النصوص ـ الذي سيتحول إلى كتاب. أضف إلى ذلك: عدم الاعتماد على نقاد حقيقيين في قراءة النتاج الذي تصدره مؤسسة ما، أو دار نشر ما.

ـ تزييف المشهد الثقافي بأناس كتبة (المسخ يكتب للممسوخ) سواء كانوا إناثا أم ذكوراً، وذلك لغاية " في نفس يعقوب ". وهذه مساهمة سلبية ملوثة للبيئة الثقافية والإبداعية.

(5)
ولنا أن نتساءل الآن ما راهنية النقد؟ وما هي فاعليته بين النص والمتلقي؟

مبدئياً: لم يعد النقد تلك العملية التجسيرية التي يعبر عليها القارئ من ضفته إلى ضفة النص. لماذا؟

لأن النقد أصيب بعدوى (القلق الإبداعي) فلم يعد الشارحَ الواصف المفسرالذي يهتم بـ (المضمون الموضوعي): عن ماذا يتحدث النص؟ ما أهدافه؟ وغير ذلك من الكتابات التي تلامس النص من الخارج، بعيداً عن مناقشته ومجادلته من حيث (المضمون الرؤيوي) الذي هو من (الحركات الفنية الجمالية) لكل من النص المقروء والنص القارئ. وبعيداً عن عملية المشاركة في تأويل فضاءات النص وذاكرته ومخيلته وحواسه وحدوسه وتأملاته وقراءاته، أي: بعيداً عن تفكيك بنيته وانسجاماته أسرار روحها المتألقة، ثم المساهمة في تركيب هذه الوحدات نقدياً. أيضاً، بعيداً عن معرفة اللا مألوف في نص ما، وعن العادي في النص نفسه، وهذا سينتج انتفاء الإضاءة الصحيحة لجماليات أو قباحة النص. وبالتالي، سيفتقد النص القارئ = (النص النقدي) إلى حكم القيمة. وهنا، أنا لا أحبذ أن يكون هذا الحكم مباشراً، أو مقرراً، وكأن النص متهم ونريد الحكم عليه بحيثيات وقرارات وأوامر تنفيذية أو تلقينية أو تعليمية أو.. أظننا، جميعاً، نفضل أن نصدر أحكامنا القيمية بطريقة تلميحية، تشير ولا تقرر، تلمّـح ولا تباشر، وذلك ضمن نسيج النص النقدي الذي يُـضمّـن بعض كلماته المعيارية حكماً مضمراً ـ أو أحكامه المضمرة ـ التي لا يفرد لها فقرة تعدادية خاصة، بل يوزعها في النسق تاركاً المجال لكل من (قارئ النص المنقود) و(كاتب النص المنقود) لأن يستشفّ بطريقة تأويلية ما، ذهانية ما، إشراكية ما، تلك الأحكام التي من المفترض أن تكون في (تركيبية النص) من الناحية (الجمالية) أو (الإبداعية) سمّـها ما شئت.

وإذا اعتمدنا في نقدنا للنقد على فقراتنا السابقة، فإننا نرى كيف لم يصل نقدنا العربي إلى نظرية نقدية متكاملة أو منهجية تسعى إلى التكامل في زمن ما. وبلا شك، هنالك جهود جادة في هذا المجال، لكنها غير كافية لأنها قليلة، ومتفرقة، وتعتمد على الفردانية. وحين أقول ذلك، فأنا لا أناقض نفسي ولا كلماتي ولا رؤاي .. لماذا؟ لأن النقد، وباعتباره نصاً إبداعياً بكيفية ما، فسيكون فردياً بشكل ما، لكنّ هذا لا يمنع من تضافر الجهود وتناغمها سواء بانسجام أم باختلاف، لتتشكل جماعة تحرك المشهد النقدي وتبتكر حداثة مدهشة كما فعلت جماعة (تيل كيل) مثلاً، أو كما فعل (السورياليون) وغيرهم.. وهنا، بالطبع، لا أطالب بـ (التقليد) و(المحاكاة)، بل أطالب بتلاقي النوعيات النقدية في لحظة زمنية تنعطف بالنقد وتنزح به إلى انزياحاته المغايرة وغير المطروقة من قبل. وهذا لا يعني، بالتالي، التنصل من الموروث، أو إحراقه، بل، يجب أن تنبني عليه بـ (أصالة ما) الحركة النقدية الحداثية. ولسنا بحاجة إلى شروحات كثيرة لنتعرف على (المضيء) و(الفاعل) و(المستمر) من (الموروث) لأنه، باختصار، ذلك (المشرق) منذ زمنه، وسيظل مشرقاً سواء في زمننا هذا أم في الأزمنة القادمة. إنه ذاك الذي أثبت (فعاليته الفاعلة) و(المستمرة) بـ (تواصُـل ما) مع الثوابت الإبداعية.. فهل كان ــ هذا الموروث الإيجابي ــ سيكون كذلك لو لم يستبر ببصيرة يقظة ومشرقة ورائية تلك الروح المخفية بين قراءة وقراءة؟ لو لم يحدس بالاحتمالات الأكثر دواماً وآثاراً وحركة في الغياب والتجلي؟ ولو لم تكن بصيرة (أرسطو) أو (الجرجاني) ـ أو غيرهما ـ وتحديداً ما ظل مضيئاً من هذه البصيرة، هل كانت استمرت إلى لحظتنا المعاصرة؟.

أسئلة لا تحصى تكشف لنا عن تداخلات ترغب في الدائم لا في الزائل. وهذا لا يصرح أو يوحي بأن نعيد ما كُـتب، أو نكتفي به، أو نتقوقع معه مهما كان مضيئاً. لماذا؟ لأننا نريد أن نخرج عن أية مألوفية أو بديهية إلى عالم أرحب، غير مألوف، غير مرئي، غير معلوم، لنتجلـّى مع (القراءة الفاعلة) = (النقد). وهذا الخروج، ليس عبثياً، أو فوضوياً، أو عدمياً، أو سرابياً، بل هو خروج واع بالطاقة المغايرة العارفة بسكونات النقد والإبداع، وبحركاتهما، وبجمودهما، وبتطوراتهما، عبر الأزمنة مروراً بوقتنا، واجتيازاً لما سيأتي من أزمنة. مسؤولية يتساوى فيها ـ برأيي ـ النص القارئ والنص المقروء، لتتداخل المسننات الإبداعية في فضاء مشرق، دائم التحرك والتحول بين (حواس) و(حدوس) الذات والكون كـ (مقروء)، فيما إذا اعتبرنا (الحواس) هي الفضاء المكتوب = (الفضاء الأسود)، و(الحدوس) هي الفضاء اللا مكتوب = (الفضاء الأبيض).

(6)

الرائي للمشهد النقدي ببُـعديه: التنظيري والتطبيقي، سيلحظ، إضافة إلى ما ذكرناه، أن الحركة النقدية تتجه إلى:

1.                  القراءة الاستهلاكية التي تؤدي إلى الارتزاق والتهافت على الاجترار والتراكمية التي لا تخرج عن انطباع أمّـي، يجهل ما هو الإبداع كما يجهل، ببديهية، ما هو النقد.

2.                  القراءة الأكاديمية الصارمة القريبة من مسطرة الخياط، أو من أحكام القاضي في المحكمة. وهذا يؤدي إلى الجمود والببغائية، وعدم القدرة على التحرر من القيود والقوالب، وعدم المساهمة في إنجاز رؤيا نقدية، لأن ذلك سيظل في إطار (القراءة) فقط، تلك القراءة التي ستقدم (نصاً موحداً) أو (واحداً) بشكل تقريبي أو بشكل جازم.

3.                  القراءة الرؤيوية القادرة على التحليق في غياهب النص وغياباته وشبكته الفنية، والتي تملك تلك الطاقة في الكشف عن عناصر القوة والضعف، الإشراق والتكرار، الخفوت والتنامي،.. الخ.. ومعياريتها في ذلك: الذائقة المثقفة المتثاقفة مع حساسية الرؤيا والمخزون الثقافي والمعرفي. وهنا، يكون الناقد المبدع ـ كما مبدع النص ـ صوفياً بمفهوم ما، يريد أن يطوف في ملكوت الرهافة والشفافة والكشف، ولا يقنع بـ (المشاهدة) فقط.. لماذا؟.. لأنه يريد الوصول إلى ما لا سبيل إلى الوصول إليه من توحد مع النص المقروء، ومن المكاشفة بين مراياه المتعاكسة كـ (قارئ) وبين المرايا المتعاكسة للنص كـ (مقروء) و(قارئ) في نفس البرهة المتجلية.

4.                  القراءة النموذجية المبنية على فهم عميق للنقد بكل مناهجه ومذاهبه ومدارسه وتاريخيته، والدارسة بعمق لفضائه المتطور، حيث تستطيع هذه القراءة فيما إذا اعتمدت على استخلاص أسلوبيتها ومنهجيتها من خلال مثاقفتها لكافة المناهج النقدية، وإضافة رؤاها على هذه المثاقفة، أن تـُـنتج منهجية جديدة تتطور وتختلف تبعاً للطاقة المبصرة للقارئ.

(7)

تتنوع الخبرة الإنسانية في تنظيرات النقد وتطبيقاته الممتدة من المغامرة الأولى في هذا المجال عبوراً بالمذاهب المختلفة كالانطباعية والواقعية والواقعية السحرية والدادائية والرمزية والسوريالية والسيميائية واللسانية والتقويضية.. الخ. وصولاُ إلى لحظتنا المعاصرة بأهم الأسماء التي أضافت بإبداعية إلى النقد مثل (باختين / سوسير / بارت / تشومسكي / اليوت / نونمشار / كريستيفا / لامارتين / تودوروف / دريدا / فوكو / لاكان / جيمس فريزر / أرشيبالد ماكليش / ياوس / إيكو / آيزر / ياكبسون /.. الخ..). وبالنسبة للنقد العربي على التخصيص، نلاحظ كيف لمعت أسماء كثيرة سواء في نقد الشعر أم السرد أم الفنون الأدبية الأخرى. من هذه الأسماء أذكر (جبرا ابراهيم جبرا / أدونيس / إيهاب حسن / كمال أبو ديب / صلاح فضل / جابر عصفور / سلمى الخضراء الجيوسي / يوسف سامي اليوسف / حنا عبود / محمد مفتاح / سعيد يقطين / حميد لحمداني / محمد لطفي اليوسفي / عبد الله الغذامي / عبد الله أبو هيف /.. الخ..). وبطريقة ما تتداخل الخبرة الإنسانية التي سهّـلت مثاقفتها (الترجمة)، فتشعّـبت اللحظة المقروءة بين الشعرية والسردية وتحركاتهما بين الأسطورة والملحمة والخرافة و.. الخ..

ومع مسببات التطور والتحوّل، لم يعُـد النقد يكتفي بالتعليق والانطباع والشرح والتفسير وقراءة المكتوب النصي.. لماذا؟.. لأنه أراد أن يتخلص من (أمّـيّـته) و(بدائيته) ليدخل في حيز جديد يتسم باتساع وعيه بالجماليات ومتغيراتها الناتجة عن (شبكة الاحتمالات) و(شبكة الحدوس) و(شبكة البياض) و(شبكة اللا تزامُـن واللا مكانية) المشكـّـلة بتراكبها ما أصطلح عليه (شبكة المخيلة) / المؤلفة من (مخيلة المخيلة ـ ما وراء الرؤيا، أو ميتافيزيق اللا متناهي) و(ذاكرة المخيلة ـ ما ثبت من الرؤيا، ولو بشكل متحرك، في النص) / المتداخلة بشكل ما مع (الذاكرة النصية) التي هي ذاكرة موروثة جمعية، وذاكرة موروثة فردية ينجزها المبدع من ثقافته وتنوعاتها المعرفية. في هذا الطور ازداد تشبث النقد باللامألوف، فازدادات غربته ــ والغربة دليل جميل على إبداعية الفعل الإبداعي ــ ونزحت مؤشراته إلى التحلزن مع احتمالات الوجود والعدم والفناء والبقاء لتكون قريبة من (الكون) بكل احتمالاته المدلولية المتشابكة:

1.                  [ الكون ] بما فيه من العالم المحيط المؤلف من السماء والأرض وكائناتهما، والمتناغم بكيفية ما مع (الإنسان).

2.                  (الكون) بمدلوليته المتحركة في العالم اللغوي: (كون اللغة / كون المخيلة / كون المعنى / كون التناغمات الصوتية والصمتية والتشكيلية / كون الأثر والفراغ والمحو).

3.                  { الكون } بصفته (المتغير) وبما بعد صفاته (المتحولات) و(الغرائبية) و(اللا متوقع) والقابل (لكل إمكان) والخارج (عن كل إمكان) في ذات الوقت.

4.                  (الكون المعرفي) الناتج عن تركيبية العلوم العلمية والإنسانية والاقتصادية والروحية و.. الخ.. لذلك تباعد النقد في نفسه متجاوزاً توصيفه في تخصصات كانت تحده في قوالبها مثل: (النقد الاجتماعي / النقد الأيديولوجي / النقد النفسي / النقد الواقعي / النقد الرومانتيكي / النقد التاريخي /.. الخ..).

وهكذا بدأ النقد يمارس طقوسه ضمن نسق من العلائق تتشابك في (كونه الرائي) لتفـكّ وتركـّـب مكامن النص وحيواته، وتحفر في متاهاته العلاماتية التي هي قيد التشكـّـل دائماً، قيد التشكل مع كل قراءة أو مع كل متلقّ ؛ وتكشف عن مكوناته المشعة والمعتمة التي تـُـصعـّـد شبكته الدرامية وتنغيمات آثاره وعلائق وحداته وعناصرها المنجزة في النهاية للوحدة الكبرى، أي للنص. وبالمقابل، لتكشف عن مطبّـاته الباهتة التي تـُـخفت إيقاعه الاختلافاني.
(8)

و مع أواخر الألفية الثانية بدأ النقد يعي ضرورة انتقالاته وتحولاته ومغايراته للسائد حالماً بالإبداعية، وهذا ما أتراءاه سيحدث في الألفية الثالثة، وسيسهم في إنجاز ذلك المبدعون كـ (نقاد رؤيويين)، و(النقاد النموذجيون) كـ (قراء مختلفين). وسيكون القاسم المشترك النقدي بين جميع القراء: [ الرؤيا ] وحواسها المثقفة بالحدوس العارفة بمفهومات النقد وومضاته وكيفية استمراريته في الزمان كـ (نص) والمكان كـ (نص)، وفي اللغة كـ (نص لا يكتمل ولا ينتهي).

(9)

و الآن، لنسأل:

ما القيمة الحقيقية، أو الجوهرية، لكل من (النقد الشعري) و(النقد السردي)؟

وما دورهما بالنسبة لكل من (النص) و(المتلقي)؟

وما دور كل من (النص) و(المتلقي) في (النقد)؟.

(10)

[ 10/ أ ]

تكمن أهمية النقد الشعري في إضاءة ما خفي من تماوجات (بنية القصيدة)، ذلك الخفي المتنزّه بين كلمات القصيدة كـ (نص) منجز بـ (الصور) و(المخيلة) و(الوجدان) و(الرؤيا) و(الموقف من "الذات" و"الآخر" و"العالم") و(الذاكرة)، أي، باشتمال ما، المنجز من ثقافة الشاعر وروحه وأعماقه وكثافته الإشراقية. ولا يستكين (النقد الشعري المغاير) إلى اكتشافه للتركيب العناصري الذي تمّـت به القصيدة كوحدة كبرى تريد التكامل ولو بشكل متقطـّع على صعيد (الصورة) و(المعاني)، لأن النقد يغامر في اكتشاف (آثار) هذه العناصر وحركتها (مع) و(في) وحدتها القصيدية ليصل إلى (المتخافي) وراء (الصور) حيث الذي لم يقله (النص الشعري). وهنا، نحتاج إلى (بصيرة موشورية) لأننا نكون قد دخلنا في عالم (اللا وعي للقصيدة) أو ما يُـعرف بمصطلح (الفضاء الأبيض) القابل للاستشفاف من (المكتوب) بكل فضاءاته المتحركة والساكنة والملونة والرامزة والمؤشرة واللمّـاحة.

للنقد أن يحمل شعلاته في متاهات القصيدة مبتدئاً من موجة وضوحها، ليضيء ما في الأعماق، كاشفاً عن حركة الدهشة التي فيها، وعن حركة العادي ـ فيما إذا كان فيها مدهش وعادي وغير ذلك ـ، ومترائياً إيقاعاتها الناتجة عن علائق المداليل بالصور، وعلائق الصور بالحضور والغياب، سواء منها الإيقاعات المتقافزة في الفراغ والوجود والحياة والعدم والرؤى الأخرى ؛ أم تلك الإيقاعات البطيئة أو الخافتة، ومدى قدرة هذه الشبكة الإيقاعية على إنجاز استنطاق واستبار وكشف بطريقة درامية تتذرْوَى، متحركة بين السواد والبياض وما بينهما وما وراءهما من ألوان الحركة والسكون والكلام والصدى والصوت، واشتباكات كل ذلك في (الدينامي الرؤيوي) المتكاشف مع (المجاهيل)، والمتسع مع: كثافة المقول الشعري: (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة ـ النفري). ولن يصل النص الشعري إلى ذلك (الملكوت العميق) إلاّ عندما لا يألف ما سبقه، ولا يألف نفسه النازحة عن نفسها بمجمل مكوناتها:

v                 الجملة الشعرية وتركيبها الملفت الناتج عن كثافة العلاقة بين الكلمات، وحركة هذه الكثافة في شبكتها الجزئية، وفي الشبكة الكلية للقصيدة.

v                 الصورة ومجالها المتناغم مع (الإضاءة والإعتام) ومع تنويعاتها الفنية من رمزية وحسية وحدسية ولونية ومتناسلة وأسطورية و.. الخ..

v                 إيقاع اللغة من ظاهر وخفي، ومتحولات هذا الإيقاع المعـْـنَـيي والرؤيوي والنسقي والنفسي والروحي و.. الخ..

v                 المخيلة بكل قلقها الحلمي والسحري والكينوني.

v                 كيفية تحـوّل المألوفية إلى غرائبية شعرية تتصوّف، تتسريل، تتأسطر، تهيم في (ملكوت الاختلاف) بين ملحمة وخرافة ويومية لا تنتسب إلى الواقع المباشر، بل تمتد بنسبها إلى (طقسية) النص الشعري و(أحواله) و(كائناته) المتشكلة بتميز ما.

و تشتبك هذه العناصر مع مكونات الشعرية الأخرى لتنجز (القصيدة) مانحة وجودها وظائف غيابية أو استحضارية أو ميتا فيزيقية أو.. الخ.. وكلما تناشزت اللحظة المكتوبة بكل حضورها وغيابها تناشـُـزاً منسجماً يتعالى بعوالمه خارج المعروف والأطـُـر والزمكانية، استطعنا أن نقول: إن هذه القصيدة (نص إبداعي) بحاجة إلى (نص نقدي) مواز لفاعلية طاقاتها وحداثة تكويناتها وغرابة غربتها، تلك المتجهة نحو (اللا متعـيّـن)، حيث الانفتاح المدلولي يموج من أقصاه إلى أقصاه.

وليكون النقد بهذه الحركية الكشفية، نراه يبدأ من (النص الشعري) وينتهي بـ (النص الشعري). بمعنى: أن القصيدة تضمر (منهجيتها القرائية في نفسها) مهما كانت طرق القراءة متنوعة.

[ 10 / ب ]

ولا ينزح (النقد السردي) كثيراً عن (الكيفية القرائية) التي يمارسها النقد الشعري. وهذا لا يؤكد وجوب التطابق. فالحركة النقدية لأي نص تتشابه من حيث (الجوهر المفهومي) وتختلف من حيث (خصوصية العناصر) رغم تداخلات بعض الثيمات بين نوع أدبي ونوع أدبي آخر: قد لا يخلو بعض الشعر من (السردية على صعيد حركة المبنى)، كما لا يخلو بعض السرد من (الشعرية على صعيد المبنى). وهذا ما اصطـُـلح عليه بـ (تداخـُـل الأجناس) أو كما يفضل أن يسميه " ادوار الخراط ": (عبْـر النوعية). والمهم الآن هو كيف تجاوز النقد السردي نفسه؟ أ لم ينزح هذا النقد عن الساكن، ليترك بنيته مفتوحة على السرد بثيمته الأهم (النص المفتوح) قارئاً تحولاته العناصرية:

·                                      الشخصية: التي لم تظل في قالبها السابق: البطل الموصوف من الخارج، والبطل الوحيد الذي تتمحور حوله الأحداث والحكاية بكل أبعادها. وهذه إحدى صفات (النص المغلق، أو الحكاية التقليدية)، بل تعدّت البنية السردية حدودها متجهة إلى تفعيل الأشياء وعلائق الأشياء، جاعلة للشخوص توزيعاً تنويعياً (الشخوص الرئيسة / الشخوص المساعدة أو الثانوية)، بكل تكويناتها (السيكولوجية) و(السوسيولوجية) وسلوكاتها وأفعالها الموصوفة أو المستنتجة أو الصامتة أو المتحركة. وصار من المألوف أن تكون الشخوص من العناصر الموجودة كـ (اللغة) مثلا ، أو (الذاكرة) أو (المكان) أو (الزمان) أو (المخيلة) أو (حالة نفسية ما) أو.. الخ..

·                                      الحدث الذي لم يعد مباشراً، أو تسلسلياً، أو أحادياً، أو منساباً. فالحدث ـ أو الأحداث ـ أصبح أكثر حداثية ينبني بـ (تعامُـد) و(تقاطـُـع) و(تداخلات) ؛ كما أنه يتمتع بصفة (رمزية) أو (إحالية) أو (استنتاجية) أو غير ذلك حسب تكوينية النص القصصي أو الروائي.

·                                      الوصف المعتمد على التداخل مع السرد بشكل من الأشكال، والمنفصل عنه أحياناً بطريقة متوازية، أو منفصلة تماماً. وتختلف تنويعات الوصف بين (الوصف العادي / الوصف الخلاق / الوصف المجمّـد / الوصف الشارح والمفسر / الوصف الاستفهامي / الخ).

·                                      زوايا التبئير الخاصة بـ (السارد المؤلف) وقدرته على المداخلة بينها، وعلى حركة القطـْـع بينها بطريقة فنية لا يشعر معها القارئ أن هناك نشازاً سلبياً في عملية الانتقال بين (زاوية الراوي المساوي للشخصية) و(زاوية الراوي العالم بكل شيء) و(زاوية الراوي الجاهل المتواطئ مع شخصيته لتكون أكثر منه علماً).

·                                      الضمائر وأثر حضوراتها النبروية بأصواتها وصمتها وتفكيرها وما يدور في بواطنها وما تجهر به لـ (القارئ) وما تخفيه عنه وعن النص السردي تاركة المجال للذهانية المتفاعلة بحواسها واحتمالاتها للكشف عن المسكوت عنه.

·                                      الجملة السردية المتخلصة من الحشو والاستطالة، حيث أصبحت رشيقة وكثيفة وموحية ومتعددة التآويل.

·                                      بقية العناصر من (أدوات محفزة وتأليفية ومتخيلة) ووظائفها، وعلائقها مع العوامل السردية الأخرى المتمظهرة بـ (فنية الحكي، أو المحكي، أو المروي).

·                                      الفضاء الزماني المتملص من (الأفقية) إلى (العمودية) مثلا ، أو الحلزونية، وظهوره بطريقة مباشرة واقعية، أو رمزية، أو.. الخ.

·                                      الفضاء المكاني المتحرك من مواقعه (الجغرافية) و(الجسدية) و(الواقعية) إلى مكانيته المتسعة في المجال المتحول إلى حيّـز (رمزي) أو (لغوي) أو (متخيّـل) أو،.. الخ..

و يأتي (دور النقد) في النبش عن هذه العناصر وغيرها في (النص السردي) ليتبين مع (القارئ) الفضاء الفني لـ (النص): أ هو كلاسيكي؟ تقليدي؟ عادي؟ واقعي؟ خرافي؟ أسطوري؟ ملحمي؟ أم...؟؟.. وكل ذلك والعملية النقدية تشير، أو تقول بطريقة ما:

ما الثيمة الجمالية التي حققها هذا النص؟ أو ما إيقاعاته تلك التي تجعل منه سرداً مميزاً؟ أو لماذا لم يرتفع إلى هذه الدالة الفنية أو تلك؟ أو..؟ أو غير ذلك من الاستفهامات المنطلقة من (طبيعة تشكيل النص) أو (منهجيته) المكتوبة أو المضمرة.

(11)

أ لا نلاحظ أن في هذه (المنهجية المضمرة في النص) يختفي ويظهر (دور النص): (شعرياً كان أم سردياً أم نقدياً، أم فنياً: لوحة، أو عملا مسرحياً، أو سينمائياً، أو موسيقياً، الخ..) بالنسبة للقارئ سواء كان ناقداً أم متلقياً؟ / ولقد أشرنا مسبقاً أن (الناقد) هو (متـلــقّ من نوع ما)، وأنّ ملفوظة (المتلقي) تتفرع إلى قراء متعددين تختلف درجاتهم في فضاء (نظرية القراءة، أو التلقي). ورغم هذه الشمولية التي تتمتع بها ملفوظة (المتلقي)، علينا ألاّ ننسى هذه المعادلة:

كل (قارئ) هو (متـلـق).

وليس كل متـلـقّ (ناقداً). /

وحين يكشف (النقد) عن هذه (المنهجية)، أ لا يكون قد أدّى (دوره) تجاه كل من (النص) و(القارئ)؟ ثم، ما قيمة (النقد) إذا لم يستطع الولوج في هذه المنهجية بما فيه من مرونة مكتظة بمثاقفة مناهجه، وبما في (النص) من حركة إبداعية؟ وبالمقابل، ما قيمة (نص ما) إذا لم يكن (إبداعياً)؟.أيضاً، إذا لم يغامر (المتلقي) مع (النص) كاشفاً مداراته الجمالية، أو ما هو مألوف فيه ومكرور و.. الخ.. فلماذا هو يقرأ؟

للمتلقي (دور) له أن يتوازى مع طاقات كل من (النص) و(النقد)، فلا يظنـّـن أنه سيقرأ ليفهم، فقط، كما اعتاد مسبقاً، بل عليه أن يتفاعل مع ما يقرأ مشتركاً في صوغ (أفق التوقعات) وبنياته المتعددة في أنساق جديدة تتسم بقابلية التحول، وبذلك يكون (القارئ) مفعّـلا ما يقرأ، ومحاوراً ومجادلاً، ومقترحاً أيضاً..

(12)

و لهذه الأسباب، وغيرها، لم يعُـد النقد مألوفاً، بمعنى: واضحاً لأقصى لون من ألوان الوضوح. ولا تقصد كلماتنا هذه أنه غامض بالضرورة، أو مبهم، أو عصيّ على الفهم.. أ لم يصبح للنقد مفهومه الحداثي الراغب في مغايرة نفسه أيضاً؟

وليدخل النقد في أفلاكه الجديدة، أو ملكوته الأكثر (شفافة) و(كثافة)، لم يكتف بالطرائق النقدية التي سبقته، بل استزاد من اجتراحه لذرات أخرى، مجتذباً أحوالها إلى مجالاته المغناطيسية والحرارية والتحولية بهيئة فيها من الرؤيا الإبداعية والفلسفة النقدية والنصية ما يساعده على الوصول إلى العميق من تكوينات نفسه وتكوينات النصوص وتكوينات العالـمَيْن (الذاتي) و(الموضوعي) بكل الاحتمالات (المؤدية) أو (اللا مؤدية) إلى (النص) بكل دلالات هذا (النص): الكلامية / الإنسانية / الكونية.

و يظل السؤال الدائم التساؤل:

ما العلاقة بين (النقد) و(النص) و(المتلقي)؟

و ما الفضاء الذي يشغله (النقد) بين (النص) و(المتلقي)؟.

ghaliauae@yahoo.com