بعد أن نشرت (الكلمة) رواية الكاتب الليبي في العدد الماضي، ها هو يقدم لنا رواية ليبية جديدة لعبدالله الغزال يتعرف على قضاياها وأجوائها، ويقابل بينها وبين عوالم روايات الغزال الثلاث السابقة.

النحت في صخر المتخيل

في رواية (الخوف أبقاني حيّا) لعبدالله الغزال

محمد الأصفر

.

لخوف أبقاني حيّا هو عنوان الرواية الجديدة للكاتب الروائي الليبي عبدالله الغزال، وهي رواية طويلة تقع في حوالي 400 صفحة من القطع الكبير تجري طباعتها الآن في مطابع مؤسسة الانتشار العربي بلبنان، ومن المتوقع أن تصدر الشهر القادم. ومن المعروف أن الروائي الغزال كان قد حصد عدة جوائز عربية في الكتابة الروائية والقصصية حيث حصلت روايته (التابوت) علي المركز الأول بجائزة الشارقة للإبداع العربي 2003، كذلك حصلت مجموعته القصصية (السوأة) علي المركز الأول بذات الجائزة في العام التالي وهي سابقة لم تتحقق بتاريخ الجائزة منذ انطلاقها. ثم جاءت روايته الطويلة (القوقعة) التي قدم لها الناقد المغربي المعروف (سعيد يقطين). رواية القوقعة رشحتها مؤسسة الانتشار العربي لجائزة بوكر العالمية للرواية التي سيتم الإعلان عنها خلال شهر كانون الثاني (يناير) القادم.

أما هذه الرواية (الخوف أبقاني حيا) فقد قدم لها الناقد الليبي عبدالحكيم المالكي حيث يقول: ضمن غابة كثيفة الرمز وكوكبة من الشخصيات شديدة التعقيد والخصوصية، والحكاية المتشابكة التي تتساقط مكوناتها أمامنا بترتيب وهدوء غاية في الدقة والبراعة يدخل عبدالله الغزال بالرواية العربية مُدخلا جديدا يمكن تسميته بسرد الأعماق المشوهة، ومن تلك الأعماق الغائرة وباستخدام كم هائل من الفواعل المختلفة والمتباينة يبدأ في رسم فجاعة المشهد الداخلي الخفي لشخصياته وعوالمهم غير الظاهرة. يبدأ في ذلك مع حرص واضح علي تقليص الدفق الشعري لشعرية لغته الروائية (التي كانت علي أشدها في مجموعته القصصية السوأة، ثم في النصف الأول من روايته القوقعة) لتكون أداته هذه المرة أو شخصيته المحورية طبيب أطفال شاب يعاني من حالة تشوه نفسي وجسدي.

ويضيف المالكي

ينطلق السرد من أعماق هذه الذات المأزومة في لحظة من أشد لحظاتها عتوا وعصفا وضياعا بين رياح الشك والشعور باليقين المهزوم، ومعها ومع هدوئها القاتل وهي تقف علي حافة الجنون نبدأ رحلة النكش عن أسرار مجتمع روائي متكامل مثخن بالمحن، والتجوال الوجِل بين مناطق لا يصلها ضوء هي غاية في العمق والاستغلاق في النفس الإنسانية، عندما يقف الإنسان في مواجهة دامية انتحارية مع ذاته. تلك النفس المتفسخة المرهقة التي لا تبتعد كثيرا علي أن تكون أنت أو أنا.

وعلي عكس رواية التابوت التي قامت أساساتها علي بناء محكم للشخصيات المحورية وهي تستعد للسفر للجنوب الليبي لخوض تجربة الحرب، التي يعبرِّ فيها الراوي بواسطة قوي الطبيعة (أشعة الشمس ووهج قائلة الظهيرة) علي حِدة احتدام وتأزم الشخصيات من الداخل، وكذلك علي عكس رواية القوقعة التي تقوم روحها التأملية العالية منذ البداية علي أسطرة الشمال من داخل وعي أهل الجنوب (ميكال الشاب الزنجي القادم من النيجر) حيث الحديث عن البحر العظيم بلغة الإجلال التي تتاخم الحدود المطلقة للأشياء، علي عكس كل ذلك نجد في رواية (الخوف أبقاني حيا) لغة الوهن والإستكانة والموت الصامت البطيء، لغة التجارب الخاسرة والشعور المقيت بالعار وعدم الاحترام للذات.

ويمضي المالكي قائلا:

هذا التأزم بطول النص لا يتخذ مستوي فرديا واحدا، إنما يحدث علي كافة المستويات بحيث تنساب الرواية انسيابا منظما ملفعا بالفجيعة، ولا يخلو أحيانا من بهجة سوداء عبر وعي ذلك الطبيب المشوه المبتور الأصابع الذي يتناهبه وعي برص مقطوع الذيل فقد القدرة علي إعادة ذيله المقطوع، وتتآكله نيران الغيرة والشك وأوهام السيطرة الروحية علي الأشياء حوله وهو يترجم لنا انعكاسات العالم من حوله علي صفحة كينونته العميقة المتضررة لتصبح عوالمه الباطنة صورة حية للواقع الليبي والعربي المعاصر، وليصبح هذا الواقع (الذي صار مجتمع الرواية) أداة الروائي يطرق بها كل ما يريد طرقه من أبواب أزمات الأوطان المخلخلة.

في المدينة يجف النبع الحار وسط غابة النخيل العتيقة وتهاجم الجرذان والصراصير البيوت وتشك إبر الشك الحادة والهواجس المعقدة المؤججة بيأس غامض ذهن ذلك الطبيب، وهو يتابع بخوف حكاية صديقه (حامد) الفنان الذي بدا موته الغامض المباغت منطويا علي سر كبير. ثم (يوسف) الفنان التشكيلي الذي يعيش حالة يأس وجودي هو الآخر. وتشتد حِدة وعي بطل الرواية بكينونته المشوهة داخليا وخارجيا خاصة عندما يري صورته في عين الأنثي، أي أنثي. تلك الأنثي الزوجة شديدة الطهر (مالكة) المشكوك بعفتها بالرغم من كل ذلك، أو أنثي أخري غريبة منحطة (فتاة الملهي). ومع انطلاق حركة دفة السرد في بحار تلك الذوات العميقة تبدأ الأشياء في التساقط والتهاوي أمامنا بوهن وهدوء قاتل مصبوغة بعمق الفنان وفلسفة الشاعر.

تجربة الغزال الروائية التي بدأت مع روايته التابوت مع الوصف المسرود كما يصفه د. سمر الفيصل والشخصيات شديدة التباين مع مسارات فردية منفصلة غالبا، والتي كانت في رواية القوقعة حضورا شديد الوطأة لفعل التأمل وتسخيرا لطاقة كبيرة من اللغة الإيمائية ذات الشحنة الشعرية التي عبرت حقيقة عما يراه د. سعيد يقطين من امتلاك الروائي (لإمكانات مذهلة للتعبير عن فضاءات جديدة ومتنوعة) نجدها تبرز بشكل مختلف هنا، حيث المسارات تتشابك والتساقط الجزئي للأحداث والأسرار الباطنة ترتبط بتلك الأعمال العالمية الخالدة حيث الرواية دوامة ينتجها عقل شديد الخصوصية والتعقيد وتناوش الواقعي والفضاء المدني وفي زمن الحاضر لتكون بذلك معبرة عن كتابة فريدة ومتميزة.

(دون شعور القارئ بالفجاجة أو النشوز) يستخدم الروائي أدوات حديثة في الكتابة السردية مثل الرسالة الألكترونية ورسالة الهاتف الجوال والرسالة الخطية، يدخلها واعيا وبقوة بالفارق الجوهري بين أنماط وظلال لغات كاتبيها. بحيث تصبح هذه الأدوات الحديثة طاقات فعل إضافية ذات بعد جمالي وفلسفي حققت للروائي قدرة فائقة علي رسم المزيد من المخبوءات في ذوات شخصياته والوقوف بثبات في منطقة بين المنطقتين الواقع والمتخيل.

رواية الخوف أبقاني حيّا نالت أيضا كلمة من الدكتور سعيد يقطين، حيث يقول في كلمة قصيرة علي غلاف الرواية: (يواصل عبدالله الغزال صوغ عالمه الروائي موفرا له كل إمكاناته وطاقته الإبداعية والجمالية، فبعد القوقعة والتابوت تأتي "الخوف أبقاني حيّا" لتؤكد مسارا روائيا متميزا لروائي ينحت عوالمه من صخر المتخيل مانحا إياه كل مقومات الواقع، صابغا إياه بلغة روائية لا يمكننا سوي اعتبارها مكونا أساسيا من مكونات اللعبة الروائية وبطلا من أبطالها. لا تقف هذه اللغة عند حد تقديم العالم السردي وتشكيله من أديم الخيال فقط ولكنها تتحرك إلي جانب الشخصيات وبناء الأحداث فتصبح جزءا أساسيا منها. هذا الاستعمال للغة أضفي علي عالم الرواية حركة خاصة هي حركة الرواية بحثا عن معني، وبذلك ينخرط عبدالله الغزال في إغناء مسيرته الروائية بصبر وأناة وإصرار، وبحث متجدد عما يحقق للإبداع السردي مكانته وفرادته في الحياة العربية وهي تبحث لها عن أنفاس جديدة).

أما الدكتور سمر روحي الفيصل الذي كان قد قدم لرواية التابوت فيقول علي غلاف هذه الرواية: يخوض الروائيّ عبد الله الغزال في هذه الرواية المغامرة اللّغويّة التي أجاد أفانينها في روايته الجميلة (التابوت). والمتلقي الذي يقرأ (الخوف أبقاني حيا) لابدَّ من أن يتذكر الموروث البلاغي العربي الذي وظّفه الروائي الغزال في البناء اللغويّ لروايته السابقة، خصوصاً الاستعارات التمثيليّة التي استخدمها في اختراق المكان الروائي ولسوف يكون من المناسب أن يتوقّع المتلقي قدراً آخر من التوظيف الفني في أسلوب هذه الرواية الجديدة.

الفنان الليبي محمد بن لامين الذي صمم غلاف الرواية قال بعد قراءته للنص:
للنص هنا عروقا خفية تضرب في أديم الغياب، ضياع كبير لذوات تستجمع خوفها القارّ لتستهل بطولتها السوداء في أتون الخيبة العظيمة، وبالرغم من أن الخوف هو "السرية المطلقة" كما يقول بارت إلا أنه لا يطرد الكتابة.. وعبدالله الغزال ببائح خوفه هنا لا يروم كسر قفله وإدلاق السريرة، إنه فقط ـ وبنجاح نفتقده ـ يستأم الخوف، يتعايشه فيسرده حثيثا ليكون هو هو، دم النص ونسغه الذي لا يُري، بلا يُلاحق في الرعدة المزمنة لحيوات النص الشائهة.

أما الكاتب والمترجم الأمريكي إيثان شورن صاحب كتاب ليبيا من خلال القصة القصيرة وهو كتاب سيصدر باللغة الإنجليزية عن دار نشر بريطانية قريبا فيقول: عبدالله الغزال كاتب بارع عميق الأثر، ويعتـبر من أفضل كتاب القصة القصيرة والرواية من جيل الليبيين المحدثين، وتتميز أعماله بالأوصاف الغنية للأماكن والظواهر الطبيعية، وتترك قصصه ذلك الإحساس العميق بالحزن أو ذلك الحزن الممتلئ بالتفاؤل الحذر..الحزن علي الإنسان الطائش المدمر، وفي نفس الوقت يظهر تلك القدرة في الروح المتضررة لإيجاد البهجة، وفي كل الأحوال يبرع عبدالله الغزال في تصوير الأشياء البسيطة. 


كاتب من ليبيا