تتقصى هذه الدراسة ملامح منهجية تاريخ الأدب في الخطاب النقدي العربي، ومنطلقاتها وسياقات تبلورها في مشروعين نقديين كبيرين: هما مشروع طه حسين ومحمد مندور.

تاريخ الأدب في النقد العربي الحديث

المنطلقات والنتائج

سعيد بوخليط

لا شك أن الحديث اليوم عن استثمار القراءة التاريخية في ممارسة الأدب، داخل النسيج الثقافي العربي، يشكل ذكري، إلا أنها ذكري جميلة. ومفهوم الذكري يؤسس ذاته بمعنيين: الفهم الأول، يتأتي من كون موضوع المنهج التاريخي في قراءة الأدب، لم يعد اليوم مجالا لمشروع نقدي أو مفهوما تنظيريا لممارسة الأدب، وإنما يصلح أكثر لأطروحة جامعية ومنهجية للتدريس. لماذا؟ لأنه بكل بساطة، التراكمات النظرية الكبيرة التي حققها الدرس النقدي، أدخل كل قراءة تتوخي تأسيس المسار الخارجي للنص، في باب الحفريات المنهجية، فلم يعد من المستساغ اليوم الحديث عن تاريخية للنص الإبداعي، بالشكل الذي تصوره نقاد القرن 19 في الغرب، أو رموز النقد التاريخي في العالم العربي. الفهم الثاني لهذه الذكري ـ بعدها الرومانسي ـ حينما نتحدث عن المنهج التاريخي، فإننا نضع أيدينا علي مشروع نقدي، كانت تطلعاته كبيرة، إلا أنه اصطدم ببنيات فكرية واجتماعية وكذا اقتصادية، جعلت من هذا المشروع مجرد طموح نظري لا أقل ولا أكثر، ظل يتردد صداه في المؤسسات التعليمية، ولم يتحول إلي نظرية لها امتداداتها الفكرية إلي كل الميادين. لهذا فإن تاريخية المشروع وامتداداته الزمنية لم تعمر طويلا، بل ألغت ذاتها في لحظة التأسيس ثم اقتصر التنظير للمشروع، علي فئة الرواد. التاريخ لم يخلق له أتباعا، كما خلقه التراث، أو كما خلقته النظريات التي وجدت امتداداتها في الشارع السياسي وارتبطت بحركات جماهيرية إلا أن الناظر في طبيعة حضور المنهج التاريخي داخل الممارسة النقدية العربية سيخلص إلي مجموعة من الملاحظات يمكن أن يخرج بها في تتبعه لمسار هذه النظرية وحدود اشتغالاتها، ثم مستويات امتداداتها، وكذا البعد المفهومي الذي أعطي لها. بطبيعة الحال ما يمكن أن نقوله عن المنهج التاريخي، وتجليه في العالم العربي نسقطه علي كل النظريات والمناهج النقدية الأخري، نظرا للطبيعة الغريبة والعجائبية التي تسافر بها النظرية في سياقنا الثقافي. 

إشكاليات المنهج التاريخي في سياقنا الثقافي
أ ـ ان الذهنية العربية، تحكمها بنية معرفية، مؤسسة علي نزعة تراثوية دوغماطيقية، يصعب معها ويستحيل تجذير الوعي التاريخي بالممارسة الأساسية، ذلك أن هناك مجموعة من الثوابت والمقولات النظرية التي تحكم وعينا، وتتبلور في ممارساتنا اليومية. تجعل من غير الممكن بالنسبة للذات العربية الإيمان بالمتغير. ولعل أهم خاصية معرفية آمن بها المنهج التاريخي، هذا الإحساس بأن الواقع لا يظل علي حاله، وبأن معطياته نسبية تتبدل من فترة إلي فترة، ومن عصر إلي عصر. وبأن هناك جدلية بين التاريخ الخاص (تاريخ المبدع)، والتاريخ العام (التاريخ الكوني). فماهية الأدب لا تحدد نفسها بشكل أحادي، وإنما تبقي مفتوحة علي كل الإمكانيات والاحتمالات. أما بالنسبة لواقع الأدب العربي فإن الذهنية العربية، لا تستسيغ هذا الموقف التحولي ليس فقط بالنسبة لممارسة فكرية كالأدب، ولكن كذلك بالنسبة لكل مكونات العالم. ولعل ذلك يرجع كما قلت إلي التراثوية التي تحكم الفكر العربي، وتجعل من الآن الماضي اللحظة المطلقة، وأقصي ممكنات انفتاحات لحظة الواقع، بكل تجلياته الفكرية والعلمية. لهذا كان الفكر التاريخي، بالنسبة للممارسة العربية، غريبا بل مرفوضا، وفهم التاريخ باعتباره التجلي الواقعي، الذي لا يتجاوز حدود الممكن المنجز في لحظة ماضية. لقد كان من المستحيل، علي طه حسين أو مندور انطلاقا من كل ذلك، إقناع المتلقي العربي، بأن الأدب لا يكتمل في لحظة تاريخية معينة، وأن الأديب تحكمه معطيات واقعية اجتماعية، سياسية وثقافية نسبية، ولهذا فإن إنتاجه الفكري ليس مقدسا؛ ولا ثابتا؛ ولا مطلقا، وإنما متغيراً يحكمه منطق التاريخ.

ب ـ ان نظرية المنهج التاريخي ككل نظرية ، تحتاج إلي مناخ معرفي معين، وتربة فكرية. كما تتطلب تجليات معرفية أخري في الحقول المجاورة، لتشكل الرافد المعرفي للنظرية. أو بلغة مؤرخي العلم، أن كل نظرية سواء تشكلت في مجال العلوم الإنسانية أو العلوم الدقيقة تحتاج إلي أسس إبستمولوجية، تشكل المسوغ المنهجي، لكل حديث عن تقاطع مفاهيم المعرفة الإنسانية في لحظة تاريخية معينة، إذا كنا نؤمن بأن المعرفة الإنسانية عبارة عن مجموعة من الأنظمة المعرفية. بالتأكيد، الحمولة المعرفية للقرن التاسع عشر، هي التي أعطت الإطار النظري والمنهجي للمشروعية المعرفية، لكل حديث عن نزعة تطورية في الأدب، وكذا إمكانية الحديث عن مشروعية تأسيس نقد علمي. فالنظرية لا يتشكل أفقها الفكري، وتتأسس ملامحها المنهجية، إلا بعد أن تكون قد تبلورت استراتيجيتها العامة، في مجموعة حقول معرفية، وبالنسبة للمشهد الثقافي في العالم العربي نجد أن هذه المسألة لم تتأتَ، قصد التسويغ المنهجي، لكل حديث عن المنهج التاريخي، ذلك أن النظرية فرضت نفسها دون أن يفرضها السياق التاريخي، من هنا غرائبيتها، بالنسبة للمرجعيات النظرية. وحتي نوضح المسألة أكثر. نقول:

1 ـ إننا في العالم العربي لم نعرف ثورة علمية، تمكن من خلق أفق نظري كما هو الحال بالنسبة لكل الممارسات الفكرية. في الغرب، ومن خلال النجاحات الباهرة التي جاءت بها العلوم الدقيقة وكذا علوم الحياة، جعلت الذوات الغربية لا تستسيغ أي نموذج غير نموذج هذه العلوم، وتطبيقه علي الأدب. فالممارسة العلمية والواقعية أكدت ذلك، وبالتالي أصبح من الممكن ومن المنطقي بل من الجائز الحديث عن إمكانية التداخل المنهجي بين نموذجي العلمين: العلوم النظرية، والعلوم الإنسانية.

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن المنهج لم يتم هضمه جيدا. إنه لم يمارس فعلا ولكنه أسقط من فوق. سيتحدث البعض عن لا تاريخية هذا التصور، لأنه يستحضر نموذجا بعينه ممكن التطبيق، ويلغي الاختلافات. كما يؤمن بحتمية المرور من نفس المراحل والخطوات ذاتها، التي مرت منها النظرية في الغرب، وهذه مسألة غير ممكنة علميا، لأنها تتدخل فيها مجموعة من الاعتبارات التاريخية والاجتماعية. وكذا الفكرية، ثم خصوصية الأمم والحضارات، وبالتالي لا يمكن أن نحاسب حدود المنهج التاريخي انطلاقا من معطيات الواقع الأوروبي.

أقول، بأن المسألة لا تقوم علي ثنائية النموذج والنسخة، بقدر ما تبقي وفية لمعطيات الواقع العربي بكل بنياته الفكرية، الاجتماعية، والاقتصادية. ذلك أن هذا الواقع ـ مع الأخذ بعين الاعتبار بداية اختمار المنهج التاريخي، ومع ظهور كتاب (في الشعر الجاهلي)، لمؤلفه طه حسين، في العشرينات من هذا القرن ـ تحكمه بنية ماضوية تجعل من الاستحالة تقبل الفهم التطوري الجدلي، للأشياء، فنحن نعرف بنية العالم في المنظور السلفي. لهذا سيصطدم طه حسين، بصعوبة اقتناع المتلقي بتصوراته المنهجية، رغم أن ما قاله طه حسين، وحتي ارتباطا بفترته التاريخية، ومن خلال الزخم السياسي الذي كانت تعيشه مصر في تلك الفترة، مع بداية تشكل ملامح الوعي النهضوي، لم يكن بالشيء الكثير قياسا للفعل الكوني، ولا يستحق كل ذلك الإجحاف، التي عومل بها كتابه (في االشعر الجاهلي)، باعتباره بيانا نظريا للمنهج التاريخي، لأن تجربة الشك ربما عاشتها الحضارة الأوروبية منذ القرن 17 ولربما كنا نحتاج إلي جروح ملتهبة تخترق نرجسية الذات العربية، حتي نتمكن بدورنا من اختراق التاريخ.

2 ـ كنا في حاجة معرفية، إلي نظرية في جرأة نظرية داروين، حتي نؤمن بأن الإنسان مثله مثل باقي مكونات العالم، ليس حقيقة فوق منطق التاريخ، أو خارج إرادة العالم، وإنما يسري عليه قانون البقاء والفناء. يحكمه قانون العدم، حتي نؤمن مثلا بأن الشاعر الجاهلي ليس مطلق الشعراء، وبأن الشعر الجاهلي ليس يقينا سرمديا لمفهوم الشعر، وإنما المسائل تؤسس ذاتها في مفاهيم جديدة، وتتكون، باختلاف السياق الاجتماعي.

3 ـ افتقر الفكر العربي إلي نظرية في التاريخ، تتجاوز التصورات الميتافيزيقية، فلا زال مجري التاريخ في النسيج الثقافي العربي، ينظر إليه نظرة مثالية، يحكمها مبدأ، أن التاريخ من صنع قوي خفية، تؤسس حوادثه في غني عن البشر. لقد ظل التاريخ يفهم عندنا بالشكل الذي تأسس به في العصور الوسطي في الحضارة الغربية، ذلك أن صيرورة التاريخ هي انحدار من المقدس إلي المدنس، فالحقيقة التاريخية اكتملت في لحظة الأصل. بمعني آخر، نحن في حاجة إلي نظرية وضعية للتاريخ، لكي نفهم كلام المتحدث بالمنهج التاريخي. هذا الفهم الجديد للتاريخ، سيجعل من الحقيقة الأدبية، حقيقة واقعية، تخضع لمعطيات سياقية، تجعل منها حقيقة نسبية وغير مكتملة. أما إيمان الفكر العربي الحتمي بالمقدس والمطلق الأدبيين، فإن ذلك جعل من القراءة التاريخية، قراءة غير مفهومة، وغير مؤثرة، لهذا نظر إلي المشروع باعتباره استغرابا، وتحول طه حسين إلي مستشرق. 

فراغ المتن الإبداعي العربي وتبعية التنظير
ج ـ المسألة الأخري التي عرقلت حتمية المشروع التاريخي، هي فراغ المتن الإبداعي العربي، لذا لم يجد النقاد الإطارات الفكرية لكي يمارسوا تمارينهم المنهجية وافتقروا لإبداعات روائية، أو مشروعات أدبية تكون مجالا للتطبيق المفهومي لكل تصورات أصحاب المنهج التاريخي، كما كان الشأن في الغرب. لقد وجد تين ولانسون وسانت بوف كل من شاتوبريان، وفولتير، و كورني، وزولا... لهذا اتجه أصحاب المنهج التاريخي العرب، إلي ما يشكل الثابت النظري لكل ممارسة ثقافية للذات العربية، أي الأدب الجاهلي، والنقد القديم. وهي بطبيعة الحال إطارات مفاهيمية قد لا تتحمل كثيرا التخريجات النظرية لأصحاب المنهج التاريخي.

د ـ هناك إشارة أخري، وتتعلق بالزمان الثقافي للنظرية، داخل المشهد الثقافي العربي، وهي لا ترتبط طبعا فقط بنظرية المنهج التاريخي. وإنما بكل النظريات التي سافرت إلي العالم العربي، نقصد تلك السرعة الغريبة التي تتشكل بها النظريات. في ظرف نصف قرن قطعنا في العالم العربي، ما عرفته أوروبا طيلة قرون، لهذا نجد أن نظرية المنهج التاريخي، ما إن بدأت في تشكيل ملامحها الأولي، حتي انزاحت لتترك المجال لتشكلات فكرية أخري، وأعتقد أنه لولا الجسارة الفكرية لرائدها الأول طه حسين، وجرأته، في طرحه للنقاش إشكالات ما زال الفكر العربي إلي اليوم، يعتبرها من الطابو الفكري، لاختفت نظرية المنهج التاريخي إلي الأبد. ولعل هذا التداخل الغريب لزمانية المناهج، وكذا تلاشي نظرية المنهج التاريخي في العالم العربي، دون أن تترك تأثيرا كبيرا، بل مجرد نظرية تجوب ساحة الجامعات لا أقل ولا أكثر، وبالتأكيد أيضا، غياب هذا الزمان الثقافي، يعود بالإضافة إلي كل العوامل التي تحدثت عنها سابقا إلي مسألتين:

المسألة الأولي: أن النظرية في العالم العربي، لا تكون إفرازا طبيعيا للسياق الاجتماعي، نظرا لأن الأفق الفكري حتم ظهورها، بل غالبا ما تفرض النظرية حضورها المعرفي من فوق. ولعل ما يفسر هذا اللاسياق النظري، هو غياب مشروع ثقافي عربي، يحكم منطق التجاذب والتجادل المعرفي السابق يؤدي إلي اللاحق، وبالتالي لن تكون النظرية إلا استجابة لمشروع حضاري، تماما كما كانت المسألة في الغرب.

المسألة الثانية: وهي قضية أنطولوجية تتعلق بالعلاقة غير العادلة بين الأنا والآخر، بين الأنا/ العربي، والآخر/ الغربي، وهي علاقة يقومها منطق القوي والضعيف، فالآخر هو الذي يحدد أفقنا النظري، وكذا المسوغ المنهجي لكل تشكل نظري.

تلك إذن بعض الأسباب التي أدت إلي عدم تغلغل مشروع المنهج التاريخي في قلب الذات العربية، من أجل خلخلة وتفكيك المقولات الميتافيزية التي تحجب الوعي الصحيح عن هذه الذات. فما هي إذن أهم ملامح تشكل المنهج التاريخي عند رواده العرب؟ 

تجربة محمد مندور:
ولد محمد مندور عام 1907، وتوفي سنة 1965، بعد أن ترك بصمات نظرية واضحة علي النقد العربي، فهو من الرموز الأولي، التي ساهمت في التأسيس المفهومي لهذا النقد. وقد تلقي مندور تكوينه الأدبي الأول في الجامعة المصرية، إذ التحق بها سنة 1925، ومن الصدف الغريبة أن طه حسين، كان الموجه الأساسي لمحمد مندور، لدراسة الأدب، بعد أن كان هذا الأخير مقبلا علي دراسة الحقوق. والذي لا شك فيه أن الدكتور طه حسين هو أول من صاغ التحول الحقيقي في نظرة مندور للأدب والنقد عندما لفته إلي أهمية المناهج الغربية في دراسة الأدب وتذوقه، وبخاصة المنهج الفرنسي... ولعله سمع عن سانت بوف و تين و برونتير لأول مرة في محاضرات طه حسين. ويمكن أن نعد المدة التي قضاها مندور في الجامعة المصرية 1925 ـ 1929 بمثابة المقدمة التمهيدية الأولي في حياته.

يعد لقاؤه إذن مع طه حسين، العامل الأول في تكوينه الفكري. أما إقامته الطويلة بفرنسا (1930 ـ 1939)، حيث اطلع عن قرب علي الحضارة الأوروبية، وتشبع بأسسها العقلانية المتينة، فقد شكلت العامل الثاني في تأسيس رافده المعرفي: ( ولعل أهم ما درسه مندور في فرنسا فقه اللغة وعلم الأصوات La phontique. فاطلع علي كتابات عالم الأصوات الفرنسي الشهير أنطوان مييه Antoine Meillet ودرس نظريات الألسني الكبير فرديناند دي سوسور، فافتتن مندور بالصوتيات وأجري بحوثا مفيدة علي الشعر العربي في معمل الصوتيات بباريس حيث حلل ثلاثة أبحر هي الطويل والبسيط والوافر. كذلك تأثر مندور بمنهج الدراسة الأدبية في السوربون، وهو منهج يقوم علي شرح النصوص). أما العامل الثالث في تكوين مندور النظري والمنهجي، فيرجع إلي تشبعه بآراء وتصورات الناقد جوستاف لانسون: (وقد اطلع علي آرائه عن طريق أتباعه الذين كونوا ما يسمي بالمدرسة اللانسونية le lansonisme. ولا شك أنه تعرف علي كتاباته النقدية والأدبية من خلال دروسه بالسوربون. في ظل كل هذا، كان محمد مندور داعية للعدالة الاجتماعية والحرية الفكرية. وقد عاش مجموعة من التقلبات السياسية والثقافية لبلاده متأثرا خاصة بثورة الضباط الأحرار. فما هي إذن أهم المحددات النظرية، للممارسة النقدية عند محمد مندور؟

بعد أن حددنا، أهم المكونات النظرية، والأصول المعرفية، التي استقي منها مندور مرجعياته الفكرية والتي تمثلت في:التقائه بالأستاذ طه حسين، وإقامته بفرنسا، وقد عاين عن قرب المشروع العقلاني الغربي، واطلاعه علي آراء غوستاف لانسون، ثم لحظة فكرية أخري من حياته وبالضبط عام 1956، سيتعرف محمد مندور علي التوجه الواقعي الاشتراكي، مما أثر في توجهه الفكري العام، حيث سيهتم بإدخال البعد الاجتماعي لتفسير الظواهر الأدبية.

يحدد مندور في مقدمة كتاب النقد المنهجي عند العرب، تصوره للعملية النقدية، وكذا مبررات الأخذ بالمنهج التاريخي، بقوله: أساس كل نقد هو الذوق الشخصي تدعمه ملكة تحصل في النفس بطول ممارسة الآثار الأدبية، والنقد ليس علما ولا يمكن أن يكون علما وإن وجب أن نأخذ فيه بروح العلم. بل لو فرضنا جدلا إمكان وضع علم له لوجب أن يقوم ذلك العلم بذاته، ومن المعروف أن العلوم المختلفة لا تنمو وتثمر إلا بفضل استقلال مناهجها ومبادئها التي تستقي من موضوع دراستها (...) وإذن فمن الخطأ أن ننظر إلي النقد في جملته، ونصرف النظر عن مراحله التاريخية، ونري فيه علما كامل التكوين نحاول أن نميز بينه وبين علوم اللغة الأخري بعد أن تحجرت تلك العلوم، لأن في ذلك ما يخلق مشاكل باطلة. كما أنه لن يؤدي إلي نتائج يعتد بها في فهم حقائق الأشياء فهما تاريخيا، بل ولا فهما تقريريا، ومن الثابت أننا لا نستطيع فهم شيء فهما صحيحا بالنظر فيه عند آخر مراحله.

ومعني هذا هو أننا نفضل الأخذ بالمنهج التاريخي حتي عندما نحاول أن نضع للنقد حده. جاء تحديده إذن لمفهوم النقد، ولطبيعة المنهج الذي يريد محمد مندور الاشتغال عليه في مقدمة كتابه الهام النقد المنهجي عند العرب ، الذي يشكل أحد المرجعيات الأساسية في قراءة التراث النقدي العربي. والكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أعدها محمد مندور، تحت إشراف أحمد أمين، بعد عودته من فرنسا. محاولا إيجاد مجال نظري لتطبيق اشتغالاته المنهجية والنقدية، وخرج بخلاصة مفادها أن النقد العربي، لم يتشكل كممارسة منهجية خاضعة لأسس نظرية ومفاهيمية إلا في القرن الرابع الهجري، مع الآمدي مؤلف الموازنة، ثم مع الناقد القاضي الجرجاني، صاحب كتاب الوساطة: (فالآمدي علي حسب مندور ـ أكبر ناقد عرفه الأدب العربي، ومنهجه منهج علمي سليم. أما وسائل نقده ـ ما دام لكل منهج روح ووسائل ـ فهي المعرفة والذوق وهو في الكثير من نقده يقوم علي معان إنسانية، وذوق دقيق، وإدراك لنزعات النفوس. وأما القاضي أبو الحسن الجرجاني ( 1290 ـ 1366) فهو ناقد إنساني ترجع مقاييس الجودة عنده إلي الخلو من الابتذال، والبعد عن الصنعة والإغراب، ثم التأثير في نفس السامع وهزها.

بخلفياته اللانسونية انطوي كتاب (النقد المنهجي عند العرب)، علي قراءة جديدة للنقد العربي. خلفيات، تتجلي في التحديدات المفاهيمية للممارسة النقدية، التي لم تختلف كثيرا عما وضعه غوستاف لانسون، فبالإضافة إلي تأكيده علي ثلاث حقائق ضرورية للممارسة النقدية وهي: ضرورة تبني المنهج التاريخي كمنهج يتابع ويساير تطور المعطيات، ثم أن النقد يتأسس علي الممارسة الذوقية بالدرجة الأولي، بالإضافة إلي استعانة النقد بالعلوم الأخري، لأن في حدود فهم الخصوصية المنهجية والنظرية لكل حقل معرفي، وهذا يذكرنا بمؤاخذة لانسون، عن الموقف الدوغماطيقي الذي تبناه كل من تين، و برونتيير، قلت بالإضافة إلي التحديدات السابقة، يضيف محمد مندور، تعريفات أخري لحدود المفهوم، ثم طبيعة المنهج، تؤكد تقاطعه الكبير مع المدرسة الفرنسية، وبالضبط تصورات لانسون، والتي عبر عنها هذا الأخير، بشكل نظري صرف في مقالته منهج البحث في تاريخ الآداب، وهي المقالة التي سيترجمها محمد مندور مباشرة بعد عودته من فرنسا سنة 1939، بالإضافة إلي مقالة العالم (مييه)، بعنوان علم اللسان. وقد ألحق مندور المقالتين بكتابه النقد المنهجي عند العرب.

يؤكد مندور بأن: "النقد هو فن دراسة النصوص الأدبية، والتمييز بين الأساليب المختلفة وهو لا يمكن أن يكون إلا موضعيا، فهو إزاء كل لفظة يضع الإشكال ويحله. النقد وضع مستمر للمشاكل، والصعوبة هي في رؤية هذه المشاكل، وهي متي وعت وضع حلها لساعته". نفس التصور، الذي كان سائدا في السوربون، حيث يقوم منهجه علي شرح النصوص، ومعرفة أسلوب كل نص، من خلال تحليل صياغة خصائصه الفنية والجمالية، ثم مقارنة أسلوب هذا الكاتب بذاك، واستخلاص وجهة نظره في الحياة: (تقوم هذه الدراسة علي وضع المشاكل وطرحها طرحا مستمرا ومتجددا، نابعا مما تزخر به الألفاظ من طاقة فنية، وتتلخص العملية النقدية في التنبه للمشاكل التفصيلية التي تثيرها اللفظة أو الجملة أو الفقرة في نص أدبي، إذ لكل جملة أو بيت مشكلته التي يجب أن نعرف كيف نراها ونضعها ونحكم فيها. وهذا ما يدفع الناقد في رأي مندور إلي أن يحبس نفسه في النص لا يفلت منه، لأنه منطلق كل عملية نقدية، وهذا هو النقد الموضعي)، وهو نقد يتوخي الدقة والتركيز ويحاول الوقوف عند الجملة الواحدة، وكذا اللفظة، والتنبه للمشكلات التي تثيرها. إنه البقاء في حدود الإطار النصي، ومحاولة الوقوف علي تجلياته الفنية والجمالية: لهذا سيرفض محمد مندور إقحام علوم خارجية علي النص الأدبي، كعلم النفس وعلم الاجتماع، وكذا علم الجمال، مهاجما التصور النقدي لمحمد خلف الله، صاحب كتاب من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده، أحد مبشري الاتجاه النفسي في النقد العربي.

وقد دار بينهما جدال نظري فيما يخص تقاطع الأدب بالعلوم، وخاصة علم النفس: (فالأستاذ خلف الله يعتقد أن علاقة الأدب بالمعرفة وطيدة عبر التاريخ، وإذا كان الأدب قد اتصل بالفلسفة قديما فهو متصل في عصرنا الحاضر بالعلم ؛ فتيارات العلم تحتك بالأدب، وأهمها دراسات النفس، أو السلوك الإنساني في أوسع معانيه فهذه وثيقة الصلة بالأدب. ولا غرو في ذلك ؛ أليس الأدب من أروع ما تنتج نفس الإنسان؟ أليس وليد الشخصية الإنسانية؟ أليس المعبر عما تنطوي عليه النفس من شعور وإحساس؟). فالأستاذ خلف الله مقتنع بضرورة تطبيق نتائج علم النفس علي الظاهرة الأدبية، وهو ما سيرفضه محمد مندور، بناء علي المرجعية اللانسوية، التي كانت تعتقد، بأن ما يجب أن نستعيره من العلم ليس معادلاته، ولا اصطلاحاته، ولا قوانينه، وإنما روحه.  وإن ظل مفهوم الروح العلمية سواء عند لانسون أو عند مندور، مبهما وغير واضح، لأن روح العلم، لا تختلف عن مكوناته المفهومية والمنهجية. وانطلاقا من ذلك، سيرفض محمد مندور المنهجية النفسية بل وكل المنهجيات الأخري،التي تستند علي علوم خارجية لمقاربة الظاهرة الأدبية.

هكذا في رده علي الناقد خلف الله، يعتقد مندور بأن: الإنتاج الأدبي لا يفسره علم النفس؛ فهذا العلم لا يسعي إلا إلي إدراك القوانين النفسية العامة، التي قد تفسر حياة الأفراد العاديين إذا صح أن هؤلاء، يتشابهون. وخالقو الأدب لا يخضعون للتحليل النفسي، ولا ينجح علم النفس في دراسة شخصياتهم: لأن نفوسهم نفوس أصيلة، بكل نفس منها حقائق، فكيف نريد أن نطبق عليهم قوانين علم النفس العامة؟ ولأن النفوس ـ في رأي مندور ـ وحدات غير متشابهة في خصائصها المميزة، أو بلغة أخري فعلم النفس يسعي إلي تعميم قوانينه وتقنيناته المنهجية، علي كل الذوات، مع العلم بأن هناك اختلافات أنطولوجية بين هذه الذوات، ومندور بهذا التصور وضع يده علي مجموعة من الحقائق المتقدمة جدا: أن مفهوم الشخصية كما تشكل عند علماء الاجتماع، يخترق أي محاولة لتعميم حقائق نفسية نظرية مجردة لا توجد إلا في ذهن الناقد، وإسقاطها علي ذوات متعددة. كل شخصية لها طابعها الوجودي، الذي يعطيها تفردها. كذلك أن مفهوم التحليل النفسي تحكمه خلفية ميتافيزيقية، لأنه يتأسس علي مقولات التعميم، والاختزال، وكذا الحصر. وبالتالي فالناقد، لا يؤمن بالاختلافات، بل يؤسس عمله علي مفاهيم الأصل، والوحدة، والتماثل. 

خصوصية النقد الأدبي في مشروع مندور
إن محمد مندور كما قلنا سابقا، لم يقتصر علي مهاجمة وجهة نظر خلف الله، وإنما تجاوز ذلك إلي نقد كل مشروع نقدي ينطلق من مبدأ إسقاط العلم علي الأدب، نظرا لاختلاف طبيعة الحقلين، وخصوصية كل، واحد منهما. فالاستعانة : ( بالعلوم محنة ستنزل بالأدب، لأن معناه الانصراف عن الأدب وفهم الأدب، والفرار إلي نظريات عامة لا فائدة منها لأحد. وموضع الداء في النقد الأدبي بحسب مندور ـ أن بعض النقاد لا يخضعون أنفسهم للنص الأدبي، وإنما يحمل كل منهم فكرة مسبقة في مسألة من المسائل التي يثيرها، في حين أن النضج الأدبي المنشود هو أن يخضع الناقد للفن، وينتزع منه مدلوله، بدلا من أن يملي عليه رأيا. وانطلاقا من هذا المبدأ يدعو مندور إلي استقلال الأدب، وإلي أن يحبس الناقد نفسه في الأدب. لهذا حث مندور، النقاد علي البقاء في حدود المعطيات الداخلية للنص، والبحث عن تجلياته الأدبية. فالنص لا يكتسب شرعيته إلا من إطاره الداخلي، وحضوره في ذاته. سيبحث مندور، عن أصول منهجيته، يستقي منها مفهومه للدراسة الداخلية للنص. وقد وجده في المنهج اللغوي: وإذ يستمد هذا المنهج أسسه ومقوماته من اللغة فإن المعرفة التي ينبغي أن تتوافر للناقد ليست معرفة نظرية بل معرفة لغوية وفنية، تكتسب بالدربة، وبدراسة علوم اللغة، لا بدراسة المنطق والسيكولوجيا والجمال وما إليها.

استقي مندور هذا المنهج من التراث النقدي العربي القديم، ومن اطلاعه علي لانسون، والتصورات اللسانية لفرديناند دي سوسير وكذا كتابات عالم الأصوات الفرنسي أنطوان مييه Antoine meillet. بالنسبة لتأثيرات النقد القديم، أكد مندور، بأن هذا النقد كانت تتوفر له معرفة لغوية واسعة، بل ان ناقدا مثل عبد القاهر الجرجاني ـ والذي أعجب مندور به كثيرا ـ في تصوراته النقدية، استند إلي نظرية في اللغة، تساير التصورات اللسانية الحديثة، ونقصد بذلك نظريته في النظم، التي تمثلت في أن اللغة عبارة عن مجموعة من العلاقات، وهو نفس التصور، الذي أكده دي سوسور: حيث يري مندور أن منطلق الجرجاني ونقطة الارتكاز في منهجه هي أنه يفرز ما يقرره علماء اللغة اليوم من أن اللغة ليست مجموعة من الألفاظ بل مجموعة من العلاقات. وعلي هذا الأساس بني الجرجاني كل تفكيره اللغوي وقد استضاء مندور في دراسة الجرجاني، أو بعثه بعثا جديدا بالمناهج الألسنية المعاصرة، فربط بينه وبين مدرسة دي سوسورو مييه، وقد توقف مندور طويلا عند نظرية النظم عند الجرجاني، وأولاها أهمية كبيرة، إذ العبرة عند الجرجاني ليست باللفظ في ذاته، وإنما هي بالنظم.

وجد مندور في الجرجاني إذن ـ الذي يتقاطع في تصوره اللغوي للنص، مع ما وصل إليه الفكر اللغوي الغربي، وكذا الممارسة النقدية ـ المبدأ المنهجي، الذي كان يتبناه، ألا وهو البقاء في حدود ما يبوح به النص، والوقوف علي خصائص النص الجمالية، وعدم تجاوزه إلي إطارات أخري. فالجرجاني في تصوره لتفاعل المكونات اللغوية للنص الأدبي، من خلال نظرية النظم بمضمونها الذي يؤكد علي أن الكلام يبني بعضه علي بعضه، سيشكل الثابت المرجعي، للناقد محمد مندور، في مرحلته الجمالية، الذوقية، من مشروعه النقدي، إذا اقتنعنا بتأطير محمد مندور، ضمن لحظتين نقديتين أساسيتين: هناك لحظة النزعة الجمالية الإنسانية، ثم المرحلة الإيديولوجية، حينما أخذ محمد مندور يدعو إلي تبني النهج الواقعي الاشتراكي.

يمكن أن نختزل أهم تصورات محمد مندور، ونزوعها الجمالي الذوقي في مرحلته النقدية الأولي، كما عبر عنها في كتابه الميزان الجديد في ـ النقد هو الدراسة الموضعية للنص الأدبي. وبذلك يصبح الأداة الوحيدة لتمييز الأساليب المختلفة، يضع الإشكال لـكل لفظة، ومتي اتضحت معالم المشكلة التي تثيرها حلت علي الفور، لأن الصعوبة الحقيقية كامنة، فـي القدرة علي رؤية المشاكل، لهذا كان النقد الأدبي بمثابة وضع مستمر للمشاكل.

2  ـ وضع المشاكل إذن لا يدخل في اختصاصات علم الجمال أو علم النفس ولا أي علم آخر، وإنما هو الذوق الأدبي كملكة غير ضبابية أو غيبية أو مبهمة. وإنما حصيلة التأثيرات الواعية واللاواعية، أو هي رواسب العقل الخفي التي يمكن صقلها بالمران المستمر.

3  ـ لقد استفاد مندور من أستاذه لانسون، فهو علي رأس الدعاة، إلي الأخذ بالنقد التأثري شرط اصطناع الحذر حتي يصبح الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة.

تلك إذن أهم الملامح المفاهيمية للممارسة النقدية عند محمد مندور، والتي أسست أبعادها النظرية المنهجية في المرحلة الأولي من مسيرته النقدية. التي تحددت تاريخيا مباشرة بعد عودته من فرنسا، حيث جاء عمله في الميزان الجديد ، ليضع للممارسة النقدية العربية أسسها النظرية والمنهجية، وذلك انطلاقا من الأصول النقدية التي تشبع بها أثناء دراسته في فرنسا. 

الواقعية الاشتراكية في نقد مندور
أما اللحظة الثانية في الممارسة النقدية عند محمد مندور، فيمكن أن نسميها باللحظة الواقعية الاشتراكية، حينما تعرف علي النهج الاشتراكي سنة 1956، مما أثر علي كتاباته النقدية في الشعر، والمسرح، والرواية، ومبينا علي المستوي المنهجي خلال هذه الفترة، البعد الاجتماعي والواقعي. وبالتالي ربط العمل بلحظته التاريخية وبالمعطيات الاجتماعية والسياسية، ويتجلي كل ذلك في قراءته التطبيقية للشعر، والمسرح وكذا القصة، ثم الرواية. فمع ثورة الضباط الأحرار لسنة 1952، سيرفع محمد مندور شعار ومبدأ الأدب نقد الحياة داعيا إلي الالتزام في الأدب، والاهتمام بالفن القصصي، كما دعا إلي القصة الواقعية، الملتزمة بأداء وظيفتها الاجتماعية، وهكذا حدد مندور المنهج الإيديولوجي، انطلاقا من فهمه النظري للأدب الواقعي، في ثلاث مهام أساسية.

1  ـ تفسير الأعمال الأدبية والفنية، وتحليلها مساعدة لعامة القراء علي فهمها وإدراك مراميها القريبة والبعيدة، وفي هذه الوظيفة يعتبر النقد عملية خلاقة قد تضيف إلي العمل الأدبي، أو الفني قيما جديدة.

2  ـ تقييم العمل الأدبي، والفني، في مستوياته المختلفة، أي في مضمونه وشكله الفني، ووسائل العلاج كاللغة في الأدب، والتكوين والتلوين وتوزيع الضوء والضلال في التصوير.

3  ـ توجيه الأدباء والفنانين في غير تعسف ولا إملال، ولكن في حدود التبصر بقيم العصر وحاجات البشر ومطالبهم وما ينتظرونه من الأدباء والفنانيـن. تلك إذن باختصار شديد أهم التجليات النقدية، عند محمد مندور أحد رواد المنهج التاريخي في النقد العربي، وأحد الذين دعوا إلي تأطير الممارسة النقدية العربية في بناءات مفاهيمية، مستلهما في ذلك النموذج الحضاري الغربي وخاصة المدرسة الفرنسية، التي استقي منها أصوله النظرية والمنهجية.

مشروع طه حسين النقدي:
حينما نتحدث عن التراث النقدي لطه حسين فإننا نموقع النقد العربي، ضمن لحظة فكرية، كان يبحث فيها عن مشروع نقدي متكامل يغطي كل الحقول المعرفية، حيث يمثل طه حسين، أول رمز فكري تبني مقولة المشروع النقدي، موظفا في سبيل ذلك آخر النظريات النقدية، التي أفرزها المشروع الفكري الغربي. هذه النظرية التي حاول بها طه حسين قراءة مجموعة من التجليات المعرفية العربية، تنتمي في مجملها إلي التراث العربي. ولعل محاولته المهمة والجريئة في قراءة الأدب الجاهلي، تدخل في نفس السياق الفكري، بل أهم محطاته النظرية. ذلك أن ما وصل إليه من نتائج وتخريجات منهجية تشكل ثورة مفهومية ونظرية في مسار النقد العربي. إن ما قام به طه حسين، لم يكن من الممكن ولوجه، لو لم ينطو علي حس نقدي عميق، وعلي وعي حضاري كبير بضرورة إعطاء محفزات تاريخية للذات العربية تخرجها من مقولاتها النظرية الجافة، التي أضحت مفاهيم دوغماطيقية تكبح جماح هذه الذات. وظلت ملامح المشروع النقدي عند طه حسين، غير مكتملة بل تم وأدها في المهد نظرا لمجموعة من العوامل، عملنا علي توضيحها سابقا.

ولعل من أكبر المرجعيات النظرية التي حكمت المنهج النقدي عند طه حسين تأثره وتشبعه بروح القراءات الغربية وخاصة الممارسة النقدية الفرنسية، ولعل أشهر الأشياء، كذلك التي وسم بها النقاد العرب، طه حسين، في دراساتهم لمتنه النقدي، هو التأكيد علي حضور المنهج الديكارتي، في ممارسته المنهجية، هذا المنهج الذي ينطلق من مقولة الشك والارتياب، من أجل الوصول إلي اليقين، وإن كان البعض يعتقد، أن منهج الشك هذا لم يأخذه طه حسين من عقلانية ديكارت، وإنما يستمد مقوماته المفهومية من التراث العربي: (ذلك لأن وجوب الشك قبل الاعتقاد منهج من أقوم مناهجها الأصلية في التفكير والبحث. فالجاحظ قبل ديكارت بسبعة قرون قد اهتدي إليه وآمن به ودافع عنه، وجعله منهجا من ألزم مناهجه في التفكير، ووسيلة من أهم وسائله للوصول إلي درجة من اليقين العلمي، فهو يشك ويدعو إلي الشك، وللشك عنده حالات موجبة لا بد أن يفطن إليها الإنسان حتي يشك في مواضع الشك نفسه). هذا المنهج إذن سواء استعاره من عقلانية القرن 17، أو ينحدر من التراث العربي، كان الفهم، الذي حاول من خلاله قراءة الأدب العربي قراءة تاريخية وتطورية.

يقول طه حسين في تحديد طبيعة منهجه: (أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث، والناس جميعا يعلمون أن القاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاما، والناس جميعا يعلمون أن هذا المنهج الذي سخط عليه أنصار القديم في الدين والفلسفة يوم ظهر، قد كان من أخصب المناهج وأقواها وأحسنها أثرا، وأنه قد جدد العلم والفلسفة تجديدا، وأنه قد غير مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم، وأنه هو الطابع الذي يمتاز به هذا العصر). هذا المنهج في رأي طه حسين يخول للناقد العربي، دراسة تاريخه الأدبي، بذهنية خالية من أي معطيات سابقة عن الموضوع، والتجرد خاصة من المشاعر والعواطف القومية، وكذا الإحساس الديني: (إذا لم ننس هذه العواطف وما يتصل بها فسنضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف، وسنغل عقولنا بما يلائمها. وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء شيء غير هذا؟ كان القدماء عربا يتعصبون للعرب، أو كانوا عجما يتعصبون علي العرب، فلم يبرأ علمهم من الفساد.

وقد اعتبر طه حسين، هذه المشاعر التي تحدد أفقنا النظري، تجاه تراثنا الأدبي بمثابة أغلال، تكبح التحرك الحر والطبيعي، للذات العربية في اشتغالها علي تراثها الأدبي، خاصة وأن هذه الذات تنظر إلي تراثها الأدبي، لا نظرة تاريخية تطورية، ولكن برؤية دوغماطيقية تحكمها نزعة تقديسية تجعل من الصعب اختراق هذا النسيج الفكري بحس علمي موضوعي، أو بفكر مختلف مع ذاته، يتعامل مع الحقائق باعتبارها تحققات تاريخية مرتبطة بسياق ثقافي معين، وبمعطيات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ومن خلال تطبيق طه حسين لمنهجه التشكيكي، سيخرج ببعض الخلاصات النظرية التي شكلت قطيعة منهجية، معرفية مع طبيعة الرؤية، التي تحكم الذات العربية في موقفها من التراث الجاهلي أو بعبارة أخري أن التخريجات النظرية لمنهجية طه حسين خلخلت المعهود والمألوف وهكذا يمكن لنا مثلا في هذا السياق الوقوف علي بعض تصورات طه حسين بخصوص الشعر الجاهلي:

أ ـ لا يعكس الحياة الدينية الجاهلية.
ب ـ لا يعكس الحياة الاقتصادية الجاهلية.
ج ـ يرينا الأخلاق علي غير ما هي عليه في القرآن.
د ـ لا يتحدث عن البحر الذي كان يحيط بالجزيرة العربية. وباختصار أن الأدب الجاهلي لا يعكس الحياة الجاهلية بصدق علي نحو ما يعكس شعر عمر بن ربيعة، وشعر أبي نواس وكتابات الجاحظ عصور هؤلاء الشعراء والكتاب.

هذه التصورات تأسست بالإضافة إلي الروح الديكارتية علي روافد معرفية أخري وهي، قراءة أساتذة طه حسين المستشرقين للشعر الجاهلي، والمنهج اللغوي الذي طبقوه عليه، ثم تأثره بمنهج تاريخ الأدب الإغريقي للأخوة كروازيت، بالإضافة إلي قناعته المعرفية بالتصورات المنهجية لعلم النقد التاريخي، كما اشتغلت عند نقاد القرن 19، والتي كانت تفهم الأدب باعتباره تعبيرا فكريا، عن وضع اجتماعي معين، وبالتالي لا يمكن فصل الأدب عن بيئته، وكذا عن ظروف المبدع الذاتية والموضوعية، فالأدب ابن بيئته. انطلاقا من هذه المعطيات المنهجية، سينتهي البحث بطه حسين إلي أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء.. وإنما هي منتحلة مؤلفة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين وأن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح، وهو عنده قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل علي شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأن أكثر ما نقرأه من شعر امرئ القيس، أو طرفة، أو ابن كلثوم، أو عنترة ليس من هؤلاء في شيء، وإنما هو من انتحال أو اختلاق الرواة. 

صدمة المشروع وردود فعل نقاده
وقد أثار هذا التصور ضجة فكرية كبيرة أدت إلي مصادرة الكتاب، بل واتهام طه حسين بالإلحاد، والكفر، وكذا عمالته للأطروحات الاستشراقية، ويعتقد البعض، أن طه حسين ما كان ليجلب عليه حساسية الرأي العام المصري في تلك الفترة: لو لم يستغل خصومه جملا جاءت استطرادا في صلب البحث الذي عقده عن الشعر العربي واللغة، وعن القحطانية والعدنانية، والعرب البائدة والمستعربة، والخلاف الجوهري بين اللغة التي كان يصطنعها في جنوب البلاد العربية واللغة التي كانوا يصطنعونها في شمالها، وقد ساق الدكتور طه حسين أكثر من حجة علي صدق نظريته التي انتهت به إلي أن هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي، لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا وأنه وجد بين الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلي عرب اليمن إلي هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير القرآن والتي أثبت البحث الحديث أن لها لغة أخري غير اللغة العربية. ولعل أهم الاستطرادات، التي جاءت في ثنايا بحثه والتي مست الشعر الجاهلي، واستفزت المتلقي العربي هي:

1 ـ  يعتقد طه حسين أن حديث القرآن والتوراة عن ابراهيم وإسماعيل، وكذا إثبات قصة هجرة إسماعيل ابن إبراهيم إلي مكة، لا يكفي ذلك لإثبات وجود هذه الوقائع تاريخيا.

2 ـ مسألة أخري تدخل في إطار انتحال الشعر الجاهلي، وإضافته إليهم، وتدخل هذه المسألة كذلك في تأثير الفكر الديني، ويتعلق الأمر بتعظيم شخص النبي وأسرته. ثم نسبه من قريش: اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو مناف صفوة بني قصي، وأن يكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفوة الإنسانية.

3 ـ الاعتقاد بأن الدين الإسلامي ما هو إلا تجديد وتطوير لدين إبراهيم، وبالتالي أخذ الناس بالاعتقاد، أن الإسلام هو نفسه دين إبراهيم.

وقد تركزت الانتقادات الموجهة إلي طه حسين، وكانت انتقادات عنيفة ذهبت إلي حد التظاهر والتوجه إلي البرلمان، علي أربع نتائج نظرية توصل إليها طه حسين وهي:

1 ـ أنه كذب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

2 ـ أنه أنكر القراءات السبع المجمع عليها فزعم أنها ليست منزلة من الله تعالي.

3 ـ أنه طعن في نسب النبي صلي الله عليه وسلم.

4 ـ أنه أنكر للإسلام أوليته في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم.

تلك أهم المقدسات التي مسها مشروع طه حسين، والتي أثارت استنكار الرأي العام الفكري في تلك الفترة، وتطورت إلي درجة الدعوة إلي إلغاء وظيفة طه حسين الجامعية، كأستاذ بها وإحالته علي النيابة. والأهم من ذلك أنه منذ تلك الفترة حكم علي المشروع النقدي لطه حسين بالموت، وأصبح ينظر إليه بنفس النظرة التي يتخذها العرب من المستشرقين، وأضحت مقولاته النقدية، يشوبها نوع من الارتياب والشك. وهذا ما يثير التساؤل حول حدود الوعي اللبيرالي في ممارسة الفكر العربي، وما هي إمكانية امتداد الرؤية الليبرالية إلي ممارساتنا اليومية؟ خاصة إذا كانت المسألة تتعلق بمقولات كبري تحكم الذات العربية، وتؤسس فهمها للعالم، مثل التراث وما ينطوي عليه من تجليات مفاهيمية من أدب وشعر ومشاعر وعقائد وسياسة.

قلت هذا، لأن كل الدعوات الليبرالية في الوطن العربي، وطموحاتها النظرية ستجد نفس المصير: دعوة الشيخ علي عبد الرزاق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي شكك في البعد الديني لمفهوم الخلافة، مؤكدا بأن الخلافة ليست أصلا من أصول الإسلام وإنما هي مسألة سياسية أكثر منها دينية، وأن الخلافة لم ترد في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية وإنما هي قضية دنيوية... وبالطبع ستجر هذه المواقف علي الشيخ علي عبد الرزاق الويلات، وتعرض لنفس مصير طه حسين ولكن بشكل آخر. ما يقال عن هاتين الشخصيتين، يمكن أن نقوله علي أحمد أمين أو الكواكبي... أو أدونيس... هناك خلل إذن في بنية الذات العربية. وأعتقد أن أهم مواطن الخلل هو ما يمكن أن نسميه مع عبد الله العروي، عدم تمكن العقل العربي من هضم أسس ومفاهيم الفكر الليبرالي. وأضيف بأن عدم تجذر الوعي الليبرالي في البنية الذهنية العربية يتأتي من كون الذات العربية لم تتعرض لهزات عنيفة، تخلخل معتقداتها، والتي تحولت مع تراكم السنين إلي اشتغالات دوغماطيقية، ذلك أن علاقتنا بالعالم ظلت منسجمة يحكمها منطق اليقين والثبات، خاصة وأن المرجعية الدينية، تشكل إطارا للارتياح الفكري والعقائدي. وما دام الحال كذلك، فإن الواقع العربي لا يتحمل أي مفهوم يتجاوز أفقه المفاهيمي، وبالتالي ستظل محاولة طه حسين وغيره، مجرد أحلام رومانسية مثالية، غالبا ما تفيق علي أضغاث كابوس مرعب ومخيف.

قلت كل ذلك، لأن قراءة طه حسين للشعر الجاهلي، وهي جديدة في منهجها ومضمونها، حكمتها مجموعة من الخلفيات المنهجية الجديدة عن الثقافة العربية. وتتجلي جديتها في أنها: (أكدت فكرة ارتباط الأدب بالمجتمع وتفاعله معه وفهمه من خلاله، وهو ثانيا نبه إلي فكرة حرية الباحث وتجرده، وبالغ في هذا التنبيه أمدا عرضه لكثير من المتاعب، وهو ثالثا قدم طرق وأساليب الغرب في دراسة الأدب والنقد فصور ما ذهب إليه سانت بوف من ترتيب شخصيات الأدباء للأمة في فصائل وأنواع علي نحو ما يرتب علماء النبات الفصائل النباتية، ورسم في دقة ما ذهب إليه تين من أن الأديب إنما هو ثمرة حتمية لقوانين الجنس والزمان والمكان. وأوضح كيف أن برونتيير طبق علي فنون الأدب وأنواعه نظرية داروين في التطور والنشوء والارتقاء فخرجت بنتيجة التشكيك في وجود شيء اسمه الشعر الجاهلي، وإنما هو منتحل. يعتبر ذلك نواة طه حسين وأهم الركائز النقدية في مشروعه، بل أهم أطروحاته المفاهيمية. لم يعرف طه حسين بشيء أكثر مما عرف بموقفه هذا من الشعر الجاهلي. ولعل اشتغاله بالأدب الجاهلي يندرج في إطار مشروع متكامل لقراءة تاريخ الأدب العربي.  

بلورة المنهج النقدي
كيف سيبلور طه حسين منهجه التاريخي هذا إذن؟ وما هي أهم المحددات المفاهيمية التي سيؤطر بها منهجه؟ يقول طه حسين وهو يتحدث عن الأدوات المنهجية التي يجب توفيرها لمؤرخ الأدب: (وإذا الباحث عن تاريخ الآداب ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلماما بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد أن يدرس التاريخ القديم والحديث وتقويم البلدان درسا مفصلا، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لا يكفيه من درس اللغة حسب البحث عما في القاموس واللسان وما في المخصص والمحكم، وما في التكملة والعباب، بل لا بد له مع ذلك من أن يدرس أصول اللغة القديمة ومصادرها الأولي، وإذا الباحث عن تاريخ الآداب لا بد له من أن يدرس علم النفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يتقن الفهم لما ترك الكاتب أو الشاعر من الآثار وإذا باللغة العربية وحدها لا تكفي لمن أراد أن يكون أديبا ومؤرخا للآداب حقا إذ لا بد له من درس الآداب الحديثة في أوروبا، ودرس مناهج البحث عند الفرنج بلغة ما كتبه الأساتذة الأوروبيون في لغاتهم المختلفة). في هذا النص الطويل، يحدد إذن الإطار المنهجي الذي يجب علي مؤرخ الأدب التحرك داخله، وكذا الشروط المعرفية الواجب توافرها فيه، والتي نختزلها في شرط معرفي واحد هو: الموسوعية المعرفية للإلمام بالظاهرة الأدبية، وبكل معطياتها. فلا بد إذن، لهذا الباحث أن:

1 ـ يتقن علوم اللغة من بلاغة، عروض، نحو، صرف وفقه اللغة.
2 ـ الإلمام بعلوم الفلسفة، علوم الدين، علم النفس وعلم الاجتماع.

3 ـ الدراية الكبيرة بالتاريخ القديم والحديث، ثم المعرفة المفصلة والدقيقة بالمعطيات الجغرافية.

4 ـ الاطلاع علي اللغات الأجنبية، وذلك لمعرفة الآداب الأخري، الوقوف عند لغة واحدة لا يكفي بالنسبة لمؤرخ الأدب.

5 ـ معرفة أصول اللغات القديمة، ومعطياتها الأولي.

6 ـ معرفة المعطيات النفسية، للأفراد والجماعات، والذين ينكب مؤرخ الأدب علي دراستهم، وذلك من أجل فهم آثارهم الفكرية والأدبية.

تلك إذن أهم الشروط التي حددها طه حسين بالنسبة لمؤرخ الأدب، والتي كانت متأتية لطه حسين نفسه، لذا كان مؤرخا للأدب بامتياز، ذلك أنه إذا استقرأنا هذه الشروط وجدناها متوفرة في شخصية طه حسين، كما عكسها بين ثنايا اشتغالاته الفكرية. فمن المؤرخ إلي الناقد، ثم الروائي وكذا المترجم، إلي الأديب بمفهومه القديم، حيث يجمع بين التكوين اللغوي القديم مع الإلمام الواسع بالمعطيات الثقافية المعاصرة. لقد توفر لطه حسين كل ذلك بفعل تتلمذه علي مدرستين، إحداهما يمكن القول بأنها تهتم بالثقافة القديمة وبالتالي سيكون منهجها في قراءة الآداب العربية قديما كذلك، وأخري حديثة، تتمثل في المنهج الذي أحدثته الجامعة المصرية، في دراسة الآداب العربية، ونقصد بالاتجاه الأولي، ما تلقاه طه حسين عن أستاذه المرصفي، أحد أهم أساتذته في الأزهر، ويدين له طه حسين بالكثير، حيث يقول في حقه: (أستاذنا الجليل، السيد المرصفي أصح من عرفت بمصر فقها في اللغة وأسلمهم ذوقا في النقد وأصدقهم رأيا في الأدب وأكثرهم رواية للشعر ولا سيما شعر الجاهلية والإسلام). فالأستاذ المرصفي جسد المرجعية النظرية والفكرية، لفهم الآداب العربية.

(فالمرصفي علم طه حسين كيف يقرأ النص العربي، كيف يفهمه، وكيف يتمثله، وكيف يحاكيه، علمه إذا كيف يقرأ النص العربي قراءة صحيحة وسليمة في لغته وعروضه وكيف يفهم ألفاظه ومعانيه ومستغلقاته اللغوية والنحوية وكيف يتذوقه كلغة ومعان شعرية عربية قديمة وأساليب ستمد طه حسين برصيد هام في كتابته الأدبية). والأستاذ المرصفي من بين الرموز الفكرية التي عملت علي تطوير النقد والأدب العربيين، وهو تطور حدث في الأزهر: (علي يدي كل من الشيخ المرصفي، والشيخ حمزة فتح الله حين اتبع الشيخان نفس أساليب دارسي الأدب القدماء وفي مقدمتهم المبرد والقالي والجاحظ حيث العناية في الدرس تتجه أولا إلي جمع النصوص الشعرية والنثرية المختارة بالإضافة إلي طائفة من الحكم والملح والأخبار والأمثال، ثم يتناولان ذلك تناولا يعني باللغة والبلاغة والتذوق وما إلي ذلك).

وكانت هذه أول الخطوات الأساسية في تطوير العناية بالآداب العربية، ستعقبها خطوات تجلت في أعمال، جورجي زيدان، ومصطفي صادق الرافعي، ثم جهود عباس محمود العقاد، ثم الأبحاث التي خرجت من الجامعة المصرية والذي درس بها بعض المستشرقين من أمثال كارلو نلينو وفييت.

والرافد المعرفي الثاني بالنسبة لطه حسين، الذي فتح عينيه علي المنهجيات الجديدة في قراءة الآداب العربية، يتمثل في التأثير الذي أحدثه المستشرق كارلو نلينو، وهو التأثير الذي سيفيده في استخراج علم جديد إسمه: تاريخ الآداب وتبلور القراءة الخارجية للنص العربي. يقول طه حسين عن هذا المنهج الجديد إن (المذهب الذي أحدثته الجامعة المصرية في درس الآداب بمصر نافع النفع كله لاستخراج نوع من العلم لم يكن لنا به عهد مع شدة الحاجة إليه وهو تأريخ الآداب تأريخا يمكننا من فهم الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة فهما صحيحا، حظ الصواب فيه أكثر من حظ الخطأ ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض). ولعل في كل ذلك، ومن خلال تأثير الرجلين علي فكر طه حسين يتحقق الفهم المنهجي، الذي أعطي لتاريخ الأدب في المشروع النقدي لطه حسين، بتأسيس المنهجية التاريخية علي نظرة متكاملة تحاول الإحاطة بكافة معطيات الظاهرة الأدبية.

فالمرصفي كان بالنسبة لطه حسين مرجعا لغويا مكنه من فهم الاشتغالات الداخلية للنص، مكوناته اللغوية والأسلوبية، ونحن نعرف جيدا متانة النص العربي القديم من حيث بلاغته وتركيبه اللغوي المكثف، مما يجعل من الصعوبة اختراقه، ما دامت لا تتوفر علي تكوين لغوي قوي. وقد تأتي هذا الشرط لطه حسين بفضل تتلمذه علي شيوخ الأزهر وخاصة المرصفي: (لقد علمه إذاً كيف يقرأ النص العربي قراءة صحيحة وسليمة في لغته وعروضه وكيف يفهم ألفاظه ومعانيه ومستغلقاته اللغوية والنحوية وكيف يتذوقه كلغة ومعان شعرية عربية قديمة وأساليب ستمد طه حسين برصيد هام في كتابته الأدبية). وتعتبر هذه القراءة أساسية في العملية النقدية التي سيتعامل معها طه حسين في دراسته للنص الأدبي، كما تعتبر ثابتا أساسيا سيوجه مشروع كتابته النقدية عندما يحاول البحث عن قراءة جديدة وصحيحة للنص العربي.

أما الأستاذ كارلو نلينو فقد كان بالنسبة لطه حسين، الرافد الآخر في تشكيل منهج قراءته. وهذه المرة سيأخذ طابعا مغايرا عن قراءة المرصفي، حيث يحاول الإحاطة بالظاهرة الأدبية في معطياتها الخارجية، والإلمام بسياقها البراني. وستكون هذه القراءة للنص العربي قراءة من الخارج، إذ سيمده بالمنهج الذي سيقدم به طه حسين قراءته الأولي للناس في صياغة جديدة تكشف عن أشياء ذات بال كما قال، حتي يتمكن الناس من فهمها وتكون قريبة إليهم ولا يشعرون بالاغتراب إزاءها كما حصل لطه حسين. 

تكامل النظرة في مشروع طه حسين
تكاملت النظرة إذن بالنسبة للمشروع النقدي عند طه حسين، وبالتالي بقي وفيا للبرنامج المنهجي الذي خطه لكل دارس لتاريخ الأدب. قراءة لا تنفصم، ولا تجيز الاهتمام والانكباب علي جانب دون آخر، إنه تصور متكامل. وفي نص لطه حسين سيقر بأن ما تلقاه علي يد المرصفي وكارلو نلينو، شكل بالنسبة إليه الأساس النظري والمنهجي، وكذا الأرضية الفكرية بالنسبة لكل ما سيأتي من بعد. أو بمعني آخر، مشروع طه حسين النقدي، وأفقه الفكري والمنهجي، سيتحدد من خلال اشتغالاته المنهجية، المؤسسة علي فكر الرجلين. يقول في هذا الإطار: (أحدها علمني كيف أقرأ النص العربي القديم وكيف أفهمه وكيف أتمثله في نفسي، وكيف أحاول محاكاته. وعلمني الآخر كيف أستنبط الحقائق من ذلك النص وكيف أصوغها آخر الأمر علما يقرؤه الناس فيفهمونه ويجدون فيه شيئا ذا بال. وكل ما أتيح لي بعد هذين الأستاذين العظيمين من الدرس والتحصيل من مصر فهو قد أقيم علي هذا الأساس الذي تلقيته منهما في ذلك الطور الأول من أطوار الشباب. بفضلهما لم أحس الغربة حين أمعنت في قراءة كتب الأدب القديم، وحين اختلفت إلي الأساتذة الأوروبيين في جامعة باريس وحين أمعنت في قراءة الأدب الحديث).

وعلي هذا الأساس، سيتخذ مشروع تاريخ الأدب عند طه حسين، تصورا شموليا للمعطيات المحيطة بالظاهرة الأدبية، ومحاولة مقاربتها من مختلف الزوايا، وكذا الحيثيات الإشكالية للمعطي الأدبي. مؤرخ الأدب حسب طه حسين لا يكتفي، فقط بالوقوف عند حدود التاريخ للأدب، وإنما يضطر إلي الإحاطة بالمعطيات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكذا اللغوية للحظة التاريخية، التي يريد العمل علي موقعتها، فهذه المباحث الإنسانية الأخري، تعتبر مكملة لعمل المؤرخ الأدبي. ولعل هذا الفهم الذي أعطاه طه حسين لعملية التأريخ الأدبي سيدفعه إلي تجاوز التأسيسات المنهجية والمعرفية التي تنهض عليها بعض عمليات التاريخ الأدبي، أهمها:  

استحضار المقياس والبعد السياسي في عملية التأريخ للأدب:
من أكبر تجليات هذا الفهم: اشتغال هذا الربط بين السياسي والأدبي في الثقافة العربية، حيث لا زلنا نؤرخ للأدب بالدولة السياسية، وهكذا نقسم العصور الأدبية علي حسب العصور السياسية. ويتم ربط ازدهار وانحطاط اللحظة الأدبية، بالاستقرار السياسي أو انحطاط الحياة السياسية. فالأدب كان راقيا في عصر بني أمية، وفي العصر العباسي، لأن الدولة العربية في تلك الفترة كانت قوية سياسيا، وتميزت كذلك بالاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، أو علي العكس سينحط الأدب، حينما تفككت هذه الدولة وضعفت. ينتقد طه حسين هذه الرؤية، ويرفض تحديد الأدبي انطلاقا من السياسي، فالمسألة غير مؤكدة. يقول طه حسين في هذا الشأن: (إن الحياة السياسية لا تصلح مطلقا لأن تكون مقياسا للحياة الأدبية وإنما السياسة كغيرها من المؤثرات كالحياة الاجتماعية، كالعلم، كالفلسفة، تبعت النشاط في الأدب حينا آخر، فلا ينبغي أن يتخذ واحد من هذه الأشياء مقياسا للحياة الأدبية لكن هذا لا يعني أن طه حسين يتغاضي أو ينكر الصلة بين الأدبي والسياسي، وإنما يؤكد علي ضرورة التعامل مع تداخل المفهومين بنوع من النسبية. وتجلت هذه المسألة تاريخيا في التأسيسات المفاهيمية للمشروع النقدي لرواد القرن 19 فنحن نعلم أن الهم المعرفي، الذي أعطي المسوغ النظري، لرموز نقدية، مثل: تين، سانت بوف، برونتيير... بتأثير من العلم الطبيعي، هو تحويل تاريخ الأدب إلي علم موضوعي يتوخي تحقيق نتائج، تخلو من الاعتبارات الشخصية والذاتية. وقد حاول كل ناقد تحقيق هذا الهدف بطريقته.

إلا أن طه حسين يرفض هذا الفهم، من خلال إيمانه بالخصوصية المعرفية والمنهجية لكل حقل من الحقول النظرية، جازما بأن: (تاريخ الأدب لا يستطيع بوجه من الوجوه أن يكون موضوعيا صرفا، وإنما هو متأثر أشد التأثر وأقواه بالذوق، وبالذوق الشخصي قبل الذوق العام، مما يجعل مسألة العلمية، تأخذ فهما جديدا ومغايرا داخل حقل تاريخ الأدب، عن اشتغالاتها في العلوم الأخري. في سبيل تجاوز الاشتغالات السابقة، يقترح طه حسين، فهما منهجيا يؤسس ذاته علي رافدي العلمية، وكذا الفنية، أو بمعني آخر؛ أن ينهض تاريخ الأدب علي إطار نظري يمكنه من استيفاء حدود العلمية، التي تمكن له حيز الموضوعية. ومن جهة أخري التعبير عن الطبيعة الذاتية للعمل الفني؛ الذي يتطلب استحضار مقولة الذوق، حيث رهان المعطي الأدبي علي ذاته. ولعل في هذا النموذج الأخير، تتحدد رؤية طه حسين، للإطار النظري المحدد لعمل مؤرخ الأدب. 

باحث من المغرب