يقدم الباحث المصري عرضا لكتاب يسعى لاقتناص بعض تفاصيل ذاكرة يهود مصر المنسية ويكشف فيه عن شهادة ناصعة على رقي حضاري مصري يدحض الكثير من الأغاليط الصهيونية.

الرجل ذو البدلة الشاركسكين

مصر في سيرة عائلة يهودية

محمد أبو الغار

الكاتبة ولدت في القاهرة في منزل العائلة بشارع الملكة نازلي (رمسيس الآن) وتعمل حاليا محررة وباحثة في صحيفة وول ستريت الأمريكية الشهيرة وقد حصلت علي جوائز صحفية عديدة. والكتاب يحكي قصة عائلة يهودية عاشت في مصر وهاجرت منها في عام 1963 إلي الولايات المتحدة عبر فرنسا، وتتميز هذه السيرة الذاتية بالصراحة والصدق، ولكن هناك بالطبع اختلاف في وجهات النظر بين رؤية الكاتبة ورؤية قارئ مصري مهتم بتاريخ هذه الفترة. والكتاب يتميز بكم هائل من المشاعر الإنسانية، وهو يضفي ضوءا علي الشخصية اليهودية لأفراد هذه العائلة كجزء من الشخصية اليهودية بصفة عامة، ويوضح الفرق الكبير بين تفكير ومشاعر اليهود الشرقيين، بين اليهود الأمريكيين حين يحدث التلاقي بينهم في مدينة نيويورك.

تبدأ السيرة الذاتية في عام 1940 حين شاهد ليون اليهودي الذي تخطي الاثنين والأربعين عاما من عمره، الفتاة اليهودية إيدث البالغة من العمر عشرون عاما في مقهي الباريزيانا الشهير فأعجب بها من أول نظرة وقرر أن يتزوجها، وهو الدون جوان ساحر النساء وصديق وعشيق العشرات من السيدات من جميع المستويات لسنوات عديدة، حاولت خلالها أمه الست ظريفة أن تزوجه ولكنها فشلت في ذلك. وكان ليون يرتدي دائما بذله شاركسكين بيضاء (وهو نوع من القماش الأبيض الذي يصلح لبعض البدل الصيفي الخفيفة) وكان أنيقا ولا أحد علي وجه الدقة يعرف طبيعة عمله. فكان سمسارا ووسيطا للبيع والشراء بين كثير من الشركات والمصانع الصغيرة والكبيرة، ولم يكن له مكتب ولا يمسك دفاتر منتظمة، ويضع كل حساباته في نوته صغيرة يضعها في جيبه.

وكان ليون رجل المتناقضات... يهوديا متدينا يذهب كل صباح إلي المعبد اليهودي ليصلي، ثم يذهب إلي العمل ويعود بعد الظهر ليتناول طعام الغذاء، ويخرج في المساء ليقضي سهرته بين مختلف البارات والكباريهات وصالات القمار بصحبة الضباط الانجليز، والكثير من الأصدقاء المصريين. ويقول أنه كان يلعب القمار علي مائدة الملك أحيانا، وأنه كان صديقا لأم كلثوم، وكان يحب السهر في ملهي بديعة مصابني، وكان صديقا لتحية كاريوكا وسامية جمال الراقصتين الشهيرتين. ومساء السبت لا يخرج من البيت ليأخذ عشاءه مع العائلة ويذهب إلي المعبد في المساء. وبعد الزواج من إيدث التي تصغره بإثنان وعشرون عاما استمر علي نفس المنوال في حياته الليلية وعمله اليومي الذي لا تعرف زوجته عنه شيئا. وكان ليون أنيقا وجذابا ويطلق عليه أصدقاؤه ومعارفه لقب الكابتن.

تدور أحداث الجزء الأول من السيرة الذاتية في شقة كبيرة بالدور الأرضي في شارع الملكة نازلي (رمسيس الآن) حيث عاش ليون مع أمه واسمها ظريفة التي كانت قد هاجرت إلي مصر من حلب في عام 1903 حين كان عمر ابنها ليون خمسة سنوات.

أما حكاية ألكسندرا أم إيدث، عروسه، فهي حكاية غريبة فهي تأتي من عائلة غنية جدا في الاسكندرية ولكنها في مراهقتها وقعت في حب شاب فقير فتزوجها بدون علم ولا موافقة أهلها. وسافرت معه إلي القاهرة لتعيش في شقة فقيرة وصغيرة بعد أن كانت تعيش في فيلا كبيرة علي البحر في الاسكندرية. وأنجبت بنتا أسمتها إيدث ثم ذكرا أسمه فيلس ثم وضعت ألكسندرا طفلا ثالثا سموه ألعازر، وفي أحد الأيام خرج الأب مع الطفل الصغير الذي لا يتجاوز عمره بضعة شهور، وعاد بعد ساعات ليعلن لزوجته أنه قد باع إبنهما في السوق. وصرخت الأم وانهارت وقضت عمرها كله تبحث عن ابنها واختفي الأب بعد ذلك وتركهم بدون أية أموال، وهكذا عاشت العائلة علي الصدقة من بعض الأغنياء اليهود، ورفضت عائلة ألكسندرا في الاسكندرية المساعدة أو حتي رؤية ألكسندرا وأولادها.

وبعد الزواج الذي تم في معبد عدلي الشهير انتقل الزوجان إلي شقة الملكة نازلي ليعيشا مع أم ليون الست ظريفة الحلبية والطباخة الماهرة التي تتفنن في أصناف الطعام. وكان ليون قد زوج أخته بهية إلي يهودي إيطالي سافر إلي ميلانو وأثناء الحرب العالمية أرسلت أخته إبنها الشاب سلمون إلي جدته ظريفة ليعيش معها بعيدا عن مخاطر الحرب. وعاش معهم فترة وقد تم إرسال بهية وزوجها وابنتها من ميلانو إلي معسكرات الاعتقال حيث لقوا حتفهم وأنقذ الإبن سلمون بسبب وجوده في القاهرة. وظهرت بوادر الحمل علي إيدث وعاد ليون لعادته القديمة بالخروج صباحا والعودة بعد منتصف الليل في سهراته الخاصة. وفي عام 1944 وضعت إيدث مولودة سموها ظريفة ودلعوها سوزيت وأظهر ليون امتعاضا شديدا لأن المولود ليس ذكرا.

في هذه الفترة حضر أخ ليون من القدس (و كان قد ترك اليهودية في شبابه والتحق بالدير ليصبح راهبا مسيحيا وكانت العائلة قد قاطعته) ورفض ليون أن يسمح لأخيه بزيارة أمه في الملكة نازلي. ولكنه وافق علي أن تري ابنها في مكان آخر بشرط أن لا يرتدي ملابس الرهبان ولا يحمل صليبا، وقد حدث. وبعد عام آخر وضعت إيدث طفلها الثاني ذكرا سموه سيزار. وتوفت الجدة ظريفة بعد ذلك بشهور قليلة. و تقول الكاتبة أن المصريين كانوا يعيشون مع اليهود في وئام وسلام في معظم الأحيان. وفي صيف 1942 أعلن روميل في العلمين أنه يمكن أن يشرب الشاي في جروبي بعد 5 ساعات فأصاب الهلع والرعب اليهود وبعد بضعة أسابيع أعلنت هزيمة روميل وتنفس اليهود الصعداء.  

ما بعد الحرب العالمية الثانية
تصف الكاتبة الجو العدائي للانجليز من كافة المصريين (و التي تسميهم الكاتبة بالعرب طوال الكتاب) بعد نهاية الحرب العالمية والمطالبة المستمرة والضغط للحصول علي الجلاء. وتقول أن الأمور ازدادت حساسية بعد هزيمة الجيش المصري في حرب فلسطين عام 1948 وانشاء دولة اسرائيل وحريق القاهرة أحداث 26 يناير 1952. وتقول الكاتبة أنه منذ عام 1947 حتي عام 1952 بدأت الهجرة اليهودية بشكل واسع من مصر للشعور بعدم الأمان في المستقبل. و قد ولدت لولو مؤلفة هذا الكتاب قبل حرب السويس في عام 1956 ببضعة أسابيع حين غزت انجلترا وفرنسا وإسرائيل مصر ردا علي تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس. وقد حدثت تغييرات هائلة في مصر بعد الحرب فقد صدر أمر للانجليز والفرنسيين بمغادرة مصر خلال فترة وجيزة وتم مصادرة أملاكهم. و حدث تغيير جذري في المدارس الأجنبية التي يذهب إليها أطفال العائلة فغادر المدرسين الفرنسيين عائدين إلي بلادهم وبدأ الاهتمام بتعلم اللغة العربية.

وبدأ شعور عام بين شباب اليهود بأنه لا مستقبل لهم في مصر وعلي عجالة شديدة تم زواج أعداد كبيرة من شباب اليهود وبدأوا يخططون للسفر إلي كل بلاد الأرض، من أمريكا الجنوبية إلي استراليا. وتقول الكاتبة أن مصر شهدت هذه الهستيريا لخروج اليهود في عام 1948 بعد حرب فلسطين ثم هدأت الأمور حتي حريق القاهرة في يناير 1952و عادت الهيستيريا مرة أخري ثم هدأت الأمور مرة أخري حتي عام 1956 حين لم يعد السؤال هل يغادر اليهود مصر وإنما السؤال هو متي؟ وقد شجع ليون إخوته علي الهجرة والذهاب إلي إسرائيل ولكن ليون نفسه لم يفكر في مغادرة مصر وقد سافروا فعلا واحدا بعد الآخر وبعد سفر الأقارب أصبحت ألكسندرا جدة الكاتبة لأمها بدون مساعدة مادية فسافرت إلي إسرائيل. وعند وصول أقارب الكاتبة لولو إلي إسرائيل تم نقلهم إلي عشش من الصفيح في الصحراء وعاشت الجدة حياة صعبة وهي وحيدة بعد أن ضعف نظرها وكانت تفكر في مصر حتي ماتت هناك.

ومنذ عام 1958 كان معظم أفراد العائلة قد هاجروا وانهالت الخطابات علي ليون تسأله متي سوف تأتي إلي إسرائيل. وفي هذه الأثناء توطدت العلاقة بين ليون الذي كان قد قارب الستين من عمره وبين ابنته الصغيرة لولو وعمرها سنتان. وبينما هو في طريقه في الصباح الباكر للمعبد للصلاه انزلقت قدمه وسقط وحدث له كسر في الساق والحوض ودخل مستشفي الدمرداش (عين شمس الجامعي) وهذه المستشفي مخصصة لعلاج الفقراء كما تقول الكاتبة، وأجري له العملية الدكتور خطاب ووضع له مسمار لتثبيت العظمة. وفقد ليون اتصاله بعالم الليل والرقص والحسناوات والقمار. وبعد عام كامل استطاع ليون الحركة خارج المنزل بمساعدة عصاة يتكئ عليها. وتقول الكاتبة أن استمرار خروج اليهود من مصر لم يكن بدافع الرعب وإنما لتصورهم أن هذا هو المصير المحتوم المفروض عليهم.

ودخلت لولو المدرسة وفوجئت في التقرير الشهري أنها ضعيفة للغاية في اللغة العربية وكانت تتكلم العربية بلهجة أجنبية ملحوظة وأطلق عليها زملاؤها لقب خواجاية لعدم نطقها العربية بلهجة سليمة. وتقول الكاتبة أنها حين سافرت كانت تتكلم الفرنسية بطلاقة ولكنها كانت خوجاية لأنها قادمة من مصر وفي أمريكا كانت خواجاية لأنها قادمة من فرنسا ومن مصر. وقرر أبوها أن يحل مشكلة اللغة بتعليمها العربية كتابة ونطقا في المنزل. 

العام الأخير في مصر
الكورنيش حيث النيل والمراكب الشراعية وبعد جولة قصيرة بجوار النهر يدخلان إلي الهيلتون ومباشرة إلي البار حيث يقابل ليون زبائنه وأصدقائه. وفي ظرف شهرين قام ببيع شقة الملكة نازلي، وقالت الكاتبة أنه حسب قانون عبد الناصر لم يكن مسموح لهم بأخذ أكثر من 200 دولار للعائلة، ولم يكن مسموح لهم بأخذ الأنتيكات والمجوهرات ولا حتي خاتم الزواج. وكان لهم الحق في أخذ جميع الملابس. ولم يسبق أن سافر للخارج أحد من عائلة الكاتبة في مصر، حتي أبوها ليون الذي كان يعتبر نفسه شخصية عالمية بسبب صداقته للانجليز والفرنسيين واليونانيين لم يذهب أبعد من الاسكندرية. والآن سوف تغادر الأسرة للغرب والشمال. وفي النهاية وضعت العائلة ملابسها في ستة وعشرين حقيبة كبيرة وثقيلة منهم حقيبتين من الكتب الدينية. وبعد أن وضع ليون عددا من الجنيهات الذهبية داخل علب سردين مغلقة بإحكام أعلن في آخر لحظة أنه من الخطورة الخروج بهذه العلب لأنهم كانوا يسمعون حكايات مرعبة عن رجال الجمارك. وعندما حان الوقت لمغادرة شقة الملكة نازلي تركوا القطة صديقة لولو هناك وقال لها والدها ليون أن القطة لا ترغب في مغادرة مصر. وتقول لولو أنها عند مغادرة الاسكندرية كانت هناك عائلات كثيرة تغادر في نفس الوقت تتكلم لغات مختلفة، ويقول أفرادها أن مصر لم تعد ترغب في بقاء الأجانب علي أرضها، وكما كانت الأوامر في ذلك الوقت يجب أن يوقع المسافرون علي إقرار بالذهاب وعدم العودة. 

إلي باريس
وعندما تحركت الباخرة شاهدت لولو أباها يصرخ ويبكي قائلا (رجعونا مصر.. رجعونا مصر) وتقول الكاتبة أن هذه الصرخة والتي استمرت طوال الرحلة تعبر عن فقدان حياة الرفاهية والعز التي عاشها في مصر وكانت تشاهد أبوها يبكي حين يجلس وحيدا. وظهر عليه كبر السن فجأة، وفقدان الثقة في المستقبل. وكانت تشعر أن أباها يفكر كيف يمكن أن بعمل بعاهته في ساقه ليعول زوجة وأربعة أولاد. وفي باريس عاشوا في لوكاندة حقيرة وفي حجرتين مظلمتين بهما ستة أسرة و26 حقيبة من مصر تدفع أجرتها المنظمة اليهودية، وقد خيرتهم المنظمة بين الذهاب إلي أمريكا أو إسرائيل، وأخذوا معونة إعاشة بسيطة كل فترة. وعاشوا حياه صعبة وفقيرة في باريس مقارنة بحياتهم الرائعة والرغدة في القاهرة. وهناك تلقوا رسالة من أسرائيل بأن ألكسندرا جدة الكاتبة قد ماتت فقيرة في كيوبتز منعزل. وحيدة بدون أولاد أو أقارب أو أصدقاء. وفي النهاية قبلت أمريكا دخولهم كمهاجرين ووقعوا علي إيصال بمصاريف السفر، وتعهدوا بدفعه في المستقبل. وقال الأب قبل السفر أي بلد هذه التي قتلت رئيسها (يعني كينيدي الذي قتل وهو في فرنسا) بينما في مصر سمحوا للملك المخلوع فاروق بالسفر علي اليخت الملكي. 

في نيويورك
مثل كل العائلات المهاجرة من الشرق الأوسط سكنوا في جنوب حي بروكلين بمدينة نيويورك. وكان الأب دائم الشكوي من نيويورك وباريس ويتغزل في كل شيء في مصر حتي الزهور التي لها رائحة في مصر ولا رائحة لها في أمريكا. وكانت حياتهم في بروكلين صعبة جدا. و تفرغ ليون للصلاه المستمرة وقراءة الكتب الدينية وكان يجلس بجوار صديقة من المعبد اليهودي في القاهرة إيلي موصيري وكان الشارع كله يسكنه اليهود المصريين. و استمر ليون في التعبد وقراءة الكتب الدينية واستمر في الذهاب للمعبد اليهودي حتي بدأ مرضه الأخير. وتقول الكاتبة أنها بمرور الوقت مثل اخوتها جميعا فقدوا كل التقاليد اليهودية التي حرص عليها آباؤهم وأجدادهم في الشرق. وأخيرا توفي الأب في عام 1992. و نقلت الكاتبة أمها لتعيش معها في بيتها، ولكنها كانت غير قادرة علي الكلام ولا حتي البلع. وبعد عام من الوفاة ذهبت لولو إلي بروكلين لزيارة المعبد اليهودي الذي كان أباها يذهب إليه كل يوم لتجد أصدقاء أباها من مصر وسوريا لا يزالون يصلون في المعبد. 

زيارة القاهرة
و في عام 2005 جاءت الكاتبة في زيارة للقاهرة مع زوجها لتري جذورها وتزور البيت الذي ولدت فيه وكانت في الطائرة تتذكر كلمة أبوها في الباخرة المغادرة من الاسكندرية (رجعونا مصر) و طوال رحلة الطائرة كانت تشعر بأن أباها بجوارها لأنه كان طيلة العمر يؤمن بأن الجنة هي مصر حيث كان يمشي في الشوارع والجميع يلقون السلام والتحية إلي الكابتن الوسيم. وعندما غادرت الطائرة وجدت عدة لافتات بإسمها وكأن الحكومة المصرية كلها ترحب بها. وذهبت إلي المعبد اليهودي في شارع عدلي حيث تزوج أبويها وذهبت إلي جروبي وتركت السيارة وانطلقت إلي الداخل تتذكر طفولتها فوجدت المبني كما هو ولكن الداخل كان مختلفا تماما. ووجدت أن الدور الثاني لجروبي غير موجود (و قد كان مكانا للموسيقي والرقص للانجليز والايطاليين واليونانيين والفرنسيين واليهود) ووجدت سيدة منقبة طلبت فنجان قهوة وتساءلت كيف تشرب هذه السيدة القهوة وقالت للسائق الذي صحبها أنه في يوم من الأيام لم يكن مسموح للعرب (تقصد المصريين) بدخول جروبي فأجاب السائق لقد سمح فقط بدخول المحتلين وأدركت أنها أهانت السائق وأن عمرها كان سته سنوات حين غاردت مصر وأن الثورة قد غيرت كل شيئ.

و تقول الكاتبة أنه بالرغم من أن القاهرة تبدو مدينة متهالكة إلي أنها أيضا مدينة متفائلة. و بعد عودتها إلي الفندق شعرت أنها لا بد أن تخرج مرة أخري وانطلقت إلي الاستقبال وطلبت تاكسي فحضر لها سائق اسمه أحمد يتحدث الانجليزية بطلاقة. وتقول الكاتبة في السيارة كان زوجي علي يميني وشعرت أن أبي علي يساري وانطلقت السيارة إلي شارع الملكة نازلي (رمسيس الآن) وتوقفت أمام المنزل رقم 280 وضغطت علي جرس شقتنا فخرج رجل لم يبد عليه الاندهاش من وجود سيدة أجنبية علي الباب وطلبت الدخول. ورحب بها الرجل وسلم عليها بحرارة وقال لها البيت بيتك ووجدت الشقة كما هي والأرض الرخام كما هي وتذكرت المكان الذي كانت تلعب فيها مع قطتها. وقالت لقد تركت هذا البيت كمصرية، وعدت كأميريكية. وجلست مع المهندس صاحب الشقة ثم حضرت أمه وهي سيدة تخطت الستين وكانت قد اشترت هي ووزوجها الشقة عند زواجهما في عام 1963. وتذكرت ليون بالرغم من أنها قابلته مرة واحدة وكانت آلة التليفون السوداء العتيقة ما تزال في مكانها. وقد علقت هذه العائلة القبطية المصرية العديد من الصلبان علي مختلف حوائط الشقة. وقامت العائلة بصحبتها في الشقة التي كانت مهملة ووقفت في بلكونة الملكة نازلي ورأت كوبري علوي من الاسمنت أضاع بهجة الشارع. وذهبت إلي حجرة والدها وإلي المطبخ التي كانت جدتها تطبخ فيه علي وابور بريموس. و زارت الحجرة الصغيرة التي كانت ظريفة جدتها تسكنها والتي كانوا يشترون الخضروات والفواكه من بلكونتها وخلال الرحلة في الشقة كانت دموعها علي وشك النزول.

و في اليوم التالي عادت مرة أخري إلي شقة الملكة نازلي فقابلت الأم التي قالت لها يجب أن نزور الجارة التي تسكن فوقنا. وفتح باب الشقة العليا وخرجت سيدة محجبة وقادتهما إلي الصالة حيث كانت سيدة عجوز تجلس وعندما مدت الكاتبة يدها لتصافحها عانقتها العجوز وقبلتها علي وجنتيها وأخذت تتفحص لولو وتحاول أن تتذكر وطلبت الشابة أن تشاطرهم العشاء وكان من البامية. و فجأة بدأت العجوز في الكلام وقالت للكاتبة بالعربية أنت تشبهين أمك تماما وكانت أمك قليلة في الحجم وكان أبوك ضخم وكانت أمك خافتة الصوت ودائما تعطي اللبان والشوكولاته لأطفالي وتقدمت لولو وقبلت يدي العجوز وسألتها هل أنا فعلا أشبه أمي فأكدت العجوز علي ذلك واستمر الحديث طويلا بينما السائق يترجم. وحين تأهبت للمغادرة صاحت العجوز توقفي إنني أسكن مع ابنتي هذه الشقة الكبيرة وعندنا حجرات كثيرة وطلبت منها البقاء للإقامة والهجرة إلي مصر مرة أخري وأن تختار الحجرة التي ترغب فيها. وعانقت السيدة العجوز مرة أخري وتذكرت والدها وأمها وطفولتها. 

تعليق
تميز هذا الكتاب بسهولة الأسلوب والدقة الشديدة في كثير من المعلومات التي بذلت الكاتبة جهدا كبيرا في الوصول إليها عن طريق الحديث مع عدد كبير من الأقارب الذين عاشوا هذه الأحداث وعاصروها ومن المراجع والصحف الصادرة في ذلك الوقت بالإضافة إلي العودة إلي أرشيف الوكالة اليهودية التي أشرفت علي هجرتهم من مصر إلي الولايات المتحدة عبر فرنسا، والتي كانت فيها جميع التفاصيل الدقيقة حتي تقارير الباحثة الاجتماعية عن كل فرد من العائلة.

و تبقي المشكلة الأزلية في كل ما كتبه اليهود عن مصر وهي أنهم أجبروا علي الخروج من مصر بطريقة أو أخري. والحقيقة أن الكاتبة ذكرت مصر بكل خير وبأن حياتها كانت سعيدة وأنهم لم يتعرضوا إلي أي نوع من الاضطهاد خلال حياتهم التي استمرت أربعة عشر عاما بعد قيام الدولة العبرية وعشر سنوات بعد قيام الثورة المصرية وأن المشكلة الأساسية كانت أنهم وجدوا أن معظم اليهود من أقاربهم وأصدقائهم قد غادروا مصر وأن النظام الاشتراكي الذي طبقه عبد الناصر أثر علي أصحاب حملة الأسهم والسندات مثل أبيها، وبالتأكيد كان له تأثير علي دخل رجل يعمل كوسيط وسمسار طوال عمره. لم تذكر الكاتبة أنهم تعرضوا إلي تمييز واضطهاد وعندما غادر الأب مع عائلته مصر أخذ يبكي ويقول رجعوني مصر عدة مرات أعتقد أن مشكلة هذه العائلة هي جزء صغير من مشكلة اليهود الشرقيين. لقد عاشت العائلة في مصر بدون أي منغصات أكثر من نصف قرن وحين حدث الاضطهاد الشديد لليهود في أوروبا استضافت الأسرة ابن أخت ليون التي كانت تعيش في ميلانو لينعم بحياه هادئة ويعمل في بنك ويتقاضي أجرا طيبا بينما أمه وأبوه وأخته كانوا في معسكر الاعتقال النازي الذي فقدوا فيه حياتهم.

هذه العائلة السورية الحلبية التي هاجرت إلي مصر عام 1903 وكان عمر ليون بطلنا آنذاك خمسة سنوات ووضعت أمه ظريفة عددا من الأطفال عاشوا وتعلموا وعملوا في مصر بدون مشاكل. قارن ما حدث لهذه العائلة اليهودية السورية الأصل المصرية التوطن بما حدث لآلاف العائلات السورية من المسلمين والمسيحيين الذين هاجروا إلي مصر في نفس الفترة، وكلها تجنست بالجنسية المصرية التي كانت بالقانون في متناول الجميع وبسهولة بالغة، كلهم يتكلمون العربية ويقرأون الصحف المصرية، والأغنياء منهم يذهب أولادهم إلي مدارس أجنبية يتعلمون لغات مختلفة مع المحافظة علي العربية. كلهم أصبحوا هم وأولادهم وأحفادهم مصريون ولا تستطيع أن تفرقهم عن أي أسرة مصرية عاشت ألف عام في وادي النيل.

لماذا لم تتقدم هذه الأسرة للحصول علي الجنسية المصرية؟ لماذا لم تتكلم الأسرة اللغة العربية باستثناء الأب والجدة؟ لماذا أطلق تلاميذ الليسيه فرنسيه بباب اللوق لقب الخواجاية علي الطفلة لولو مؤلفة هذا الكتاب؟ لماذا حين هاجروا من مصر كانوا بدون جنسية؟ فهم بالتأكيد من داخلهم لا يشعرون أنهم ينتمون لهذا الوطن بالرغم من أنهم قد يحبونه وهم لا يريدون أن يتجنسوا بجنسيته ولا يريدون أن يصبحوا مثلهم مثل بقية المصريين مع اختلاف الديانة فقط؟ هم الذين أرادو أن يعيشوا في سلام وأمان في مصر طالما كانت المكان الأكثر أمنا وأوفر رزقا ولكن حين تتغير الظروف بصعود الاشتراكية الناصرية وارتفاع المد الوطني شعروا أن هذا المكان الجميل الآمن لم يعد مناسبا لهم. أعتقد أن معظم اليهود المصريين الذين قدموا إليها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين هربوا من اضطهاد أو رغبة في فرصة اقتصادية ممتازة. وبالرغم من أن بعضهم ولد وعاش ومات في مصر، لم يفكر معظمهم في الحصول علي الجنسية المصرية، وكل الأجيال الجديدة والكثير من القديمة لم تكن تجيد العربية. وعندما تغيرت الأحوال في مصر من الناحية السياسية والاقتصادية شعر اليهود بغربة في وطنهم وتركوه إلي مستقبل أحسن في الغرب.


القاهرة