يقدم الكاتب المغربي هنا تجرية سردية تعتمد على الكتابة المشهدية وجدل المتجاورات في اقتناص زخم العالم الخارجي الذي تعيش فيه شخصياته، والداخلي الذي يتناول أحلام الشخصيات المجهضة وطبيعة الكتابة معا.

لاَ تصَدّقُوا الكُتّاب

هشام بن الشاوي

(1)
تماما، مثلما يحدث في الأحلام عادة. أجدني عاجزا عن التعبير عمّا يخالجني.. عاجزًا عن كتابة قصة قصيرة من ثلاث صفحات على الأقل. ربما أفكر في إحساس قارئ افتراضي.. كيف يمكنني التعبير عن هذا الخواء الهائل الذي استوطن الأعماق فجأة؟ هل يمكنني كتابة نص وأنا في هذه الحالة النفسية المتردية كصباح خريفي مزمجر؟

عزيزي القارئ، أتشاركني بعض جنوني؟ 


(2)
فكرة قديمة راودته منذ مدة، وليس مهماً إن بدت مهترئة كثوب بالٍِ.. ليس مهما الشكل الفني الآن، وليذهب النقاد والحقاد إلى الجحيم!

تخيلوا شخصًا افتقد سكينة الدواخل، مدججًا بحزن غامض استبد بروحه في صباح ربيعي صحو وهو يحدق في أشجار الأوكاليبتوس عبر نافذة القطار. غادر البيت مرفرفا.. الشارع خالٍ، عيناه تبحثان عن سيارة أجرة، قرويّ عجوز متوكئ على عصا، يرعى بقرة عجفاء ويهش على غنمه.

أشعة الشمس تلسع عينيه المحتقنتين.. لم ينم سوى أربع ساعات. تمطر سماء عينيه وهو يلمح امرأة مع بقراتها وحقولا صفراء تنتظر سنابلها الحصاد.. المرأة منهمكة في غزل الصوف لا تبالي بعبور القطار وصريره المزعج.. يندلع بين جوانحه حنين جارح إلى طفولة بعيدة، أشجار الأوكالبتوس تضاعف كآبته، تتدفق الدموع، يغطي وجهه بقبعته.. امرأة تربت على صغيرتها، بعد أن استلمتها من يدي أبيها، وتذوب الصغيرة في خدر النعاس اللذيذ...

يحس فراغا وجدانيا موحشا.. يفكر بشكل أعمق في معنى الفراق.. الوحدة.. الألم.. الخداع...

أقاربه الأصغر سنا كانوا يسخرون من نشيجه عند انتهاء العطل المدرسية.. كانوا يرون في القرية أشغالا شاقة لا تنتهي.. ومساكن بلون التراب، حقولاً تتلون مع فصول السنة، وليالٍ موحشة سرمدية تفرض سطوتها مبكرا.

ـ في المدينة نساء كثيرات وحلوات وروائحهن تخدر كل الحواس.
صاح الخال مبتهجا... 


(3)
توقف عن القراءة، رفع رأسه الأصلع، رمقه من وراء نظارتيه وهو يرمي بالورقة على سطح مكتبه الفخم.

ـ ماهذه الخزعبلات؟
ـ لا أعرف، أظنها كتابة يصعب تجنيسها...
ـ في صحيفتنا لا ننشر مثل هذه السخافات، أرسلها إلى محرري تلك الجرائد التي لا تقرأ (وبحزم استطرد) انظر إلى هذه الصورة..

انحني، والتقطها..

ـ هذه صورة ذلك الحصان الذي قتل السائس.
ـ أريد تحقيقا صحافيا شاملا عنه، يكون جاهزا للنشر في عددنا القادم.. 


(4)
يذوب وسط أمواج أناس غير عابئين ببعضهم.. يمشي منكس الرأس شارد اللب غارقا في أفكاره، يفكر في شيء واحد فقط: "كيف يمكنني كتابة قصة تسرق إعجاب ناقدتي الأدبية رائعة الجمال، المشرفة على الملحق الثقافي بتلك الجريدة؟ متى أكتب تلك القصة التي تمنحها بخط يدها تأشيرة النشر، وأفوز بإعجابها.. بدل هذه الرسائل المتكررة التي لا ترد عليها؟".

وأنت تغادر مبنى العمارة، تلمح امرأة شمطاء غزت وجهها ويديها التجاعيد... كل مساء تلتقيها بجلبابها الوحيد الرث المستخ، على كتفها تسترخي سلة قديمة تخفي ما يجود به المحسنون حيث ترابط كل يوم عند بوابة المسجد الكبير، تحس شيئا يخز قلبك، وتتساءل: "هل يمكن أن ينتهي بي المطاف مثلها؟".

يعاتبك صديقك:

ـ أنت حساس أكثر مما ينبغي.. كلنا نتألم لرؤية وجوه بشرية بائسة، لكن لم تفكر في الأمر طويلا، لست وزيرا ولا مسؤولا؟
ـ ولكن الانكسار في أعينهم وكلماتهم.. أخشى أن يكون كل هذا التعب لا يساوي حتى ثمن الأوراق، صرت شبه مقتنع بلا جدوائية الكتابة.
ـ ما هذه الخرافات؟

تلوذ بالصمت وطيف الناقدة بمحياها الصبوح وشعرها الذهبي يغمر كيانك: "سأحاو ل أن أكتب هذا التحقيق بلغة أدبية منمقة، حتى لو سبق ورفضت موادي من طرف تلك المجلة الأجنبية.. بسبب أسلوبي الأدبي.. لكن لم لا تنشر لي أستاذتي الحلوة؟ ليس مهما إن خسرت مالا، المهم أن أثبت لها أني جدير بأن تقرأ هلوساتي، وليذهب كل النقاد الحقاد إلى الجحيم، وفي مقدمتهم رئيس التحرير الذي لا يحب القصص ولا القصائد". 


(5)
لفظتهما الحافلة، يتأففان من سحابة النقع التي خلفتها عجلاتها.. المكان غارق في صمت سرمدي.. جلّ مبانيه قروية بائسة متناثرة كحفنة حصى بعثرها نزق طفولي، تجاورها مقبرة مهجورة، وفي أعلى التلة ضريح، يفصله شارع إسفلتي عن متاجر ودكاكين ومساكن يطوقها صخب أليف يغري بالتسكع بين أزقتها الضيقة.

على الرصيف، يتحلقان حول طاولة امرأة تجلس تحت مظلة فقدت ألوانها الأولى.. يحدق في المرأة المتشحة بالسواد، نعلها البلاستيكي، جلبابها الأسود الملطخ ورائحة تزكم الأنوف تنبعث من سوائل النفايات فوق سطح عربة يجرها حمار عجوز مكدود وأمامها تتسابق كلاب. يلعن في سره مدينته وسكانها وهو يتطلع في وجوه منشرحة مثل قلوب أهالي البلدة يستوقفون بعضهم ويتبادلون الكلام والابتسام. 


(6)
استأنسنا جلسة بائعة (الحريرة)، لكزني صديقي والمرأة تصب بعض الحريرة في إنائي:

ـ حريرتك بردت... ألم يعجبك طبخي؟

أعتذر مرتبكا.

تشير المرأة الى فتاتين تبرز سروايلهن الضيقة تفاصيلهن السفلى قائلة:

ـ يمكنك أن تربط عليهما (الكارو) وتنقل التبن.
ـ لا بل أكياس الذرة، التبن أخف وزنا.
ـ كم أتوق إلى ولادة بنت.. بنت واحدة.
ـ ألازلت تلدين؟

سألها الكهل في شبه سخرية.

ـ ولم لا؟ أريد بنتا ترعاني في شيخوختي، تصبن ثيابي، وترتب فراشي. 

أقبل متشرد في العشرين من عمره، تنبعث منه رائحة كحول، يلح علينا أن نعطيه مالاً لشراء طعام، تشير إليه المرأة أننا ما زلنا طالبين، وبحركة يده يدعوه الكهل أن يجلس جانبا.. نسمع شتائمها ودعواتها عليه وهي تناوله إناء الحريرة قائلة:

ـ خذ يا وليدي!
ـ آه، لو كان معنا حسن!!

قالها صديقي متحسرا، فأحسست أن شيئا ما ينقص رحلتنا. 


(7)
ونحن في بلدته، أحس برغبة جارفة في مجالسة صديقينا الخمسيني هنا، أنهل من معين تجاربه في الحياة. جلس طاويا ساقيه تحته، وبخشوع ينهر الشباب وهو يحدثهم عن عذاب القبر.. نراقب حركات يديه كما لو كان يغطي شيئا بتراب وهمي، نقرأ تعابير وجهه وهو يضم ساعديه أسفل بطنيه: 

ـ حين يدفنونك، يقف على رأسك ويقول لك: "السلام عليكم. ماذا كنت تفعل في دار الدنيا؟".

ينحرف مسرى الكلام، ونتحدث عن بلدة صديقنا، وكمن يعترف بذنب أقر أحد الرفاق بلقائه مع امرأة من أولئك النسوة..

متطاوسا هتف صديقنا الكهل:

ـ أنا لم أعط في حياتي لأية امرأة مالاً.. فقط ما يلزم من أكل وشرب.. أليس عرقا بعرق وجهدا بجهد؟ واحدة قضت معي أربع سنوات.

اقترب صبي على مشارف المراهقة فاغرا فاه مستندا بيديه إلى ركبتيه فرماه حسن بفردة حذاء:

ـ سيرْ تِسرح نعاجكم (غنمكم).

"آه، لو كتبت هذه الاعترافات يا حسونة في نص وقرأته ناقدتي.. ستحقد علي إلى الأبد..!".

أكتم ضحكي وفي صدري أينع ربيع قبل أوانه.

أشار صديقي ـ رفيق الرحلة ـ بطرف عينه إلى جارتنا الثلاثينية وابنتها المراهقة، فامتقع لون حسن وعلق في أسى:

ـ في الصيف كانت عجيزة البنت أكبر من أمها.

في سري: "حتى هذه انتبهت لها يا ابن الذين... كيف يمكن أن تتخيل أن تفكر فيك هذه المهرة؟"!.

ـ هذا الأحد، لمحتهما في السوق الأسبوعي.. لكن الزحام لم يطاوعني لكي أحتك بجسدها.

وبيده جسد حركته المجهضة بزهو وهو يسحبها من الخلف.. من بين فخذيها حتى...

وسأله صديقي، بطريقته التي تجعله يبوح بما يخالجه:

ـ من؟ الأم.
ـ هل جننت؟ تلك عجوز شمطاء.

وضج المكان بالضحك  


(8)
نسمع صليل قيد حديدي فنلتفت.. يتهادي حصان يقوده شاب، حركات قوائمه منسجمة كأنما يمشي على إيقاع موسيقى خفية، يخلب الأبصار بسواده اللامع وضخامته... اختلج قلبي، انتبهت إلى أن عينه اليسرى مفقوءة.. بحركة سريعة أخرج صديقي آلة التصوير من حقيبته الصغرى، وشرع في التقاط الصور من زوايا متعددة.. وعيناي لا تفارقان حوافره المفلطحة.. وقف بعيدا عن الحصان وأشار إلى الفتى شاهرا بطاقته.

ـ كان سيعدم رميا بالرصاص، لولا تدخل الخبير النصراني.. يعرفون أنه حصان شرس، لكن الكل يتباهى بأن الجياد التي من صلبه تحصد كل جوائز السباقات.

وسألت الكهل باهتمام:

ـ ولم كانوا سيقتلونه؟ عض السائس من قفاه حين انحنى لتقييده ولم يتركه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة. (متضاحكا) جن جنون الحصان لأنه لم يشبع!

وتراجع رأس الكهل إلى الوراء مقهقها، وانتبهت إلى ملابسه الصوفية الثقيلة التي يرتديها في هذا الجو الحار.

أتسلى بتأمل الأشياء والموجودات والناس من حولي.. اقترب رجل على مشارف العقد الرابع، منظره يوحي بخبله.. وفي يده قصبة يضرب بها أعداء وهميين.. أحاول التركيز على كلماته، ونبراته الحادة المتوعدة.. صعد فوق حاوية الأزبال، أشار بقصبته مادا ذراعه في الهواء:

ـ أنت، احرس تلك الجهة، وأنت لا تغادر مكانك.. سنرى من سيضحك في الآخر يا ولدي، يا عامر.

قفز وأقبل ناحيتنا.. دعاه الكهل لاحتساء كأس شاي مداعبا:

ـ ألم تعثروا عليه بعد؟ ربما يكون قد مات.

تنهره المرأة:

ـ دع الرجل في سلام. قل: "الله يستر".

مد رجليه فوق الرصيف رافضا الجلوس فوق الكرسي.. أنشغل بالنظر إلى حركات قدميه الحافيتين، ونظراته الشاردة تتقافز يمنة ويسرة.. اقترب صديقي متفقدا آلة التصوير، تهلل وجه المخبول مبتسما في وجهه في حبور طفولي:

ـ صورني مع حصان أبي عامر.

دنا مني الكهل وهمس في أذني:

ـ هذا ابن المرحومة الزوجة الأولى، وقد طرده عامر بعد أن تزوج واحدة من المدينة.

ـ وكيف يتركه أبوه وإخوته على هذا الحال؟
ـ إنه يهرب من البيت، يحاولون حبسه في البيت لكنه يبدأ في الصراخ والسباب، فيذعنون لرغبته.

التهم طعامه في شراهة، أخذ ينظر إلينا في بلاهة، وكأن الكلام عن شخص آخر.. ناولها الإناء وركض مثل طفل ممتلئ بالحياة والدهشة البكر وهو يصرخ: "يا عامر، يا ابن الحرام.. إن كنت رجلا اخرج وقابلني.".  


(9)
أحاول مقاومة هذا الإحساس الجارف لكن عبثا.. أجدني مدفوعا إلى ملاحقة البنت وعيناي لا تفارقان محياها وقلبي يخفق بشدة.. لو لم تكن ترتدي ثيابا بدوية لجزمت بأنها قاتلتي، تلك الناقدة التي لا ترد على رسائلي الإلكترونية.. وأقضي الليالي ساهرا في قراءة كتاباتها، أنتبه ـ فجأة ـ إلى أني في عالم له تقاليده الخاصة، تفاديا لما لا تحمد عقباه.. و أدركت البنت أني أتعقب خطواتها فرمتني ببسمة فتكت بما تبقى من صمود داخلي.. وهوت بعصاها على أتانها التي تئن تحت ثقل حمولتها: "أيمكن أن يكون لها شبيهة وامتدادا في هذا الكون؟".

حدق في الملامح المتدفقة عذوبة تخدش مرايا قلبه، وهتف لنفسه بابتهاج: "وأخيرا، وجدت القصة القصيرة التي كنت أتمنى أن أكتبها منذ زمن!!".

أسرعت البنت في خطواتها، أبطأ مشيه.. أدرك أنها اقتربت من ديارها.. ناجى الطيف الحبيب، انعطفت الأتان، ولمح ذيل ثوبها الملون قبل اختفائها، توكأ على الجدار الحجري، أحس بالدوار وعيناه تصطدمان بقاع الهاوية... خمن أن المكان كان مقلعا قديما للأحجار، ابتعد متراجعا إلى الخلف، وقد راودته فكرة أن ينهار الجدار بغتة وتلك الصخور الناتئة: "كيف يمكن لهؤلاء العيش وسط هذه النفايات المعدنية ومخلفات المصانع؟"، في الأعلى لمح قطيع أغنام تقتات على بقايا المزبلة.. البنت انحدرت وأتانها في الممر المواجه له في اتجاه القاع، تفادى النظر إليها، وانشغل بالتحديق في بعض المساكن الصفيحية المتآكلة.. داهمته رائحة كريهة، غادر المكان مغالبا رغبته في القيء وعيناه تبصران جثث كلاب نافقة متفسخة.. أغمض عينيه وانحني مفرغا ما بجوفه. وأحس كأن شيئا قويا لطمه، فتهاوى من فوق الجدار القصير وانطلقت من أعماقه صرخة أخيرة متحشرجة، قبل أن يرتطم بالقاع غارقا في دمه. 


(10)
اختلط الحابل بالنابل، ساد الهرج في البلدة، تدافع الأهالي متفرقين مبتعدين عن طريق الحصان المندفع هائجا متوحشا..

في البيدر، داعبه المخبول، وفكر في أن يشفق عليه و يحرر قائمتيه من القيد الحديدي، والجواد هادئ منهمك في العلف. رفع الحصان ذيله ليهوي بها على حشرة لسعته، فلطم ـ بقوة ـ خد الرجل وهو يفك رباطه.. انتصب واقفا مزمجرا، امتدت يده إلى سوط تحت عربة بالجوار، وهوى بقوةعلى ظهره، فانطلق الحصان مثل السيل.

من بعيد، لمحوا الحصان يمر بمحاذاة الطريق الزراعية المشرفة على جرف المقلع القديم، وبعد لحظات، تناهى إليهم صياح نسوة يتعالى مستغيثات. 


(11)
طال الانتظار، ركب رقم صديقه وهمس لنفسه:"هذا المعتوه، يبدو أنه اندس في أحد بيوت اللذة هنا!".

اقترب صبي يرعى الغنم من الجسد المسجى، شبه مخدر ناحية الرنين المتصاعد، فتش الجيوب بسرعة، وابتعد بغنيمته.. تفقد حافظة النقود، دس الأوراق المالية في جيب قميصه ورمى ببقية محتوياته بين النفايات.

وكأنما يخاطب أحدا وهو يبتعد عن بائعة الحريرة، في اتجاه الحافلة القادمة:

ـ سأحاول أن أجرب الاتصال به مرة أخرى، وإن لم يرد فسأعود من دونه قبل أن تتبخر المواصلات.. لا أعرف لم لا يرد هذا البائس؟

تميز غيظا وصوت أنثوي رقيق يعلن: "الهاتف المتنقل الذي تطلبونه غير مشغل أو خارج التغطية. الرجاء، إعادة النداء لاحقا".

أطفأ هاتفه، دسه في جيبه في حنق، وأشار بيده إلى سائق سيارة الأجرة تتأهب للانطلاق وهو يسرع في خطواته.