يسعى هذا المقال لتقديم ملف (الكلمة) الذي يحتفي بمرور خمس سنوات على رحيل إدوار سعيد الذي كان صديقا بقدر ما كان مفكرا إنسانيا كبيرا، ويؤكد فيه المحرر أن مشروعه النقدي لايزال يواصل حضوره وفاعليته وتألقه.

إدوار سعيد: حضور فعّال ودائم

صبري حافظ

في أواخر الشهر الماضي، اكتمل العام الخامس على رحيل الكاتب والمفكر الفلسطيني الكبير إدوار سعيد. ولو كان ثمة كاتب صهيوني في الغرب يبلغ ربع ما بلغه إدوار سعيد من سعة الثقافة، وعمق البصيرة، ونفاذ الموهبة، وفاعلية الدور النقدي لاحتفلت كل الأوساط الثقافية والجامعية والإعلامية الغربية بهذه المناسبة احتفالا كبيرا، ولانتهزتها لنشر أفكاره، وتوسيع رقعة الواعبين بأهمية رؤآه، والاستفادة من رصيده الثقافي لتوطيد مكانة فكرها وتعزيز سطوته. لكن إدوار سعيد لمرارة المفارقة مثقف عربي فلسطيني أجبر الغرب نفسه، برغم نزعه العداء المتفشية في إعلامه على الأقل، وفي مختلف نشاطاته الثقافة والجامعية في الولايات المتحدة خاصة، إن لم يكن في أغلب مؤسساته الثقافية والسياسية الأخرى، على احترام إنجازه الفكري وتأمل مشروعه النقدي الكبير. ولو كان العالم العربي في وضع أفضل من تلك الحالة المتردية السيئة لالتفت العالم الثقافي والأكاديمي والإعلامي إلى هذا العلم الأدبي العربي الكبير، لأن هناك تفاعلا كبيرا بين مكانة الأفراد ومكانة الأمم التي ينتمون إليها أو ينحدرون منها. لكن حالة العالم العربي المتردية، وأحواله التي لا تسر ولا تدعو للفخر، تنعكس في العالم كله على كل ما يمت للعرب بأدنى صلة، ناهيك عن الأفراد الذين ينتمون إلى تلك المنطقة من العالم. وخاصة إذا ما كانوا معادين للصهيونية أولا، وناقدين للأسس الفكرية التي ينهض عليها المشروع الغربي ذاته ثانيا، كما هو الحال بالنسبة لإدوار سعيد ثانيا. وقد جر عليه هذا العداء الكثير من المشاكل، فصوره الإعلام الأمريكي على أنه إرهابي يتنكر وراء مسوح الأستاذ الجامعي، وأنه مندوب ياسر عرفات في الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه كان لفترة عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني، واستقال منه في مطلع التسعينات احتجاجا على اتفاقيات أوسلو التي أثبتت الأيام صواب شكوكه فيها وتحفظاته الجوهرية عليها. كما قدمه الإعلام الصهيوني والفكر الصهيوني المتغلغل في المؤسسات الجامعية والذي وجهت له أعمال إدوار سعيد النقدية ضربات قاصمة على أنه الجني الذي خرج من القمقم العربي لتدمير كل شيئ، وأنه لابد من إعادته إلى هذا القمقم قبل فوات الأوان. بينما صوره الآخرون، وخاصة بعد كتابه العلامة (الاستشراق) الذي أجهز فيه على مهابة الاستشراق القديم، وكشف عن سوء نيته في تمثيل الآخر، وعن تحالفه المتين مع المؤسسة السياسية والمشروع الاستعماري، وعرى سلبياته، على أنه يستعذب تعذيب الستشرقين الأبرياء، وشيّهم على أسياخ تحليله المنهجي الحامية دون رحمة. وقد أتاحت لي الظروف قبل ما يقرب من عشرين عاما، وفي المجمع السنوي لرابطة أساتذة الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية، وهو أكبر تجمع للمستشرقين في العالم، أن أشاهد في مدينة بوسطن الأمريكية كيف يعصف إدوار سعيد بلاهوادة بأحد أعلام الاستشراق القديم وعمدة رعاة فكر المحافظين الجدد فيما بعد، وهو الصهويني الأنجلوأمريكي المعروف برنارد لويس، ويكشف للجميع جهله وتحيزه وكراهيته لموضوع بحثه وهو العرب، مطيحا بمكانته التي تأسست على مد عقود من البحث والتكريس والتزييف تحول معها إلى »حجة« في ميدان الدراسات العربية، برغم ضعف حجته،ونقص معرفته، وعدائه الدفين وغير العلمي للعرب. ويفعل كل هذا بأعصاب هادئة، وحجج علمية دامغة، وأسلوب أكاديمي رصين يتسلح أحيانا بالسخرية الجارحة الفكهة، أطار صواب أعدائه وجعلهم يكيلون له الاتهامات ويبعثون إليه بالتهديدات، ويشككون حتى في فلسطينيته نفسها.

النقد الأدبي الجديد وتفكيك بنية العقل الغربي
والواقع أن صلة إدوار سعيد بالثقافة الغربية السائدة وبالثقافية الإنسانية الأشمل هي التي هيأت له الاضطلاع بهذا الدور النقدي الكبير، وهي التي مكنته من لعب دور المثقف المسؤول في عالم الثمانينات والتسعيناتوحتى السنوات الأولى من القرن الجديد بنفس الطريقة التي لعب بها جان بول سارتر هذا الدور في الستينات، وإن اختلفت تجليات كل من الدورين بتمايز المرحلتين وتباينهما. فإدوار سعيد وإن كان ابن فلسطين جغرافيا، فهو ابن الفكر الغربي ثقافيا، وابن مجتمع مابعد الحداثة في الغرب تاريخيا. لأن هذا المجتمع هو الذي أتاح للذات التي فقدت مركزها Decentred Self ـ أي الذات التي تنتمي وتغترب في الوقت نفسه ـ أن ترى الظاهرة الثقافية من الداخل والخارج معا، وأن تكون أقدر من غيرها على تشخيص أدوائها. جيث أن لها عمق بصيرة الذات في معرفتها لنفسها، ونفاذ بصيرة الغريب المراقب لها من خارجها في قدرته على رؤية الكليات دون الغرق في الجزئيات. فلولا التغيرات الجذرية التي انتابت عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى نهاية عقد الستينات الحافل والتي أطاحت ضمن ما أطاحت بوطن إدوار سعيد الأصلي ذاته(فلسطين)، وتركت بذلك بصماتها بوضوح على مشروعه الفكري وتكوينه الثقافي معا، لما استطاع أن يحظى بالمكانة التي نالها في المشهد النقدي المعاصر. حيث أصبح أحد أعلامه القلائل. بل هو الإبن الطبيعي الواعي لتلك التغيرات وما تنطوي عليها من من تعدد الخطابات وأمكانيات نقض الذات المركزية الغربية من داخلها. لأنه استطاع تجنب الواحدية المنهجية أو التبسيطات الذهنية الإحادية الذي يسهل نقدها والإطاحة بها. وتمكن في الوقت نفسه من استيعاب الإنجازات الجوهرية للفكر النقدي الغربي منذ جيامباتستا ?يكو وحتى ميشيل فوكو مرورا بجرامشي وأورباخ وأدورنو وجل المدارس النقدية الحديثة من البنيوية وحتى التفكيكية، وأن يعيد صياغتها في مزيج جديد فريد، يحمل بصماته الخاصة، ويتجنب الوقوع في مهاويها أو التأثر بسلبياتها. فقد شاء إدوار سعيد أن يعبر عن رؤيته الثقافية الفريدة من خلال نقده الجذري لمكونات العقل الأدبي الغربي ذاته، وكشفه لكيفية تغلغل افتراضات هذا العقل الأدبي في بنية العقل الغربي عامة السياسي منه والاجتماعي والثقافي، وتوجيهها للعديد من سياساته وتبريرها لمشروعه الاستعماري الذي دفع العالم الثالث ولايزال ثمنه الباهظ، وظلت تجربته المريرة تستأدي ثقافته ثمنها الفادح حتى اليوم، بسبب كل ما خلفته فيها من افتراضات وتصورات ومفاهيم لاتزال تتحكم في مسارات تفكيرها دون وعي من الكثيرين من مثقفي العالم الثالث بذلك. وحينما أتحدث عن العقل الأدبي فإنني أتحدث عن مجموعة الافتراضات والمصادرات العقلية التي ينهض عليها العالم الأدبي المتبلور في الأعمال الأدبية المختلفة، ولكنه لا يطفو بها إلى سطح هذه الأعمال، وإنما يبقيها في لاوعيها الجمعي. وتتحول هذه الافتراضات والمصادرات إلى البديل العقلاني للمعتقدات الدينية، أو التجلي الجديد لبعضها. ومن هنا فإن مسلماتها لاتقل صرامة ويقينية عن المسلمات الدينية ذاتها. وكان كشف إدوار سعيد اللامع لهذا كله عبر مشروعه النقدي الكبير هو الذي أسس مايعرف الآن في النقد الغربي المعاصر، وفي المؤسسات الجامعية الغربية كلها وخاصة في الولايات المتحدة، باسم النظرية النقدية ما بعد التجربة الاستعمارية، أو نظرية النقد مابعد الكولونيالي، أي أن النقد بعد مشروع إدوار سعيد النقدي الكبير غيره قبله.هذا هو بالتحديد التعريف الأكثر عمقا وشمولا لنظرية النقد ما بعد الاستعماري أو ما بعد الكولونيالي Postcolonial Criticism، أي أنه النقد الذي يأخذ في اعتباره إنجاز سعيد النقدي الذي سرعان ما فتح الباب أمام مغامرة نقدية خصبة شارك فيها العديد من النقاد الغربيين وغير الغربيين الذين يكتبون باللغات الأوروبية. هذا النقد الجديد الذي ينهض على تفكيك مسلمات الفكر الغربي والكشف عن أن الاستعلاء على الآخر واستعماره من مضمرات هذا الفكر أدى إلى انقسام جذري في ساحة النقد الأدبي الغربي. لأن هذا النقد وما تفرع عنه من تيارات نقدية عديدة يطرح نفسه في مواجهة النقد الذي لايعي هذا البعد الفكري الجديد في توجهاته وأدوات تحليله للنصوص الأدبية المختلفة.

والواقع أن أي تأمل لما جرى في حقل النقد الأدبي والمعرفي الغربي في العقود الثلاثة الأخيرة لا يستطيع إلا أن يسجل بكل الاعتزاز الأثر الكبير لثورة إدوار سعيد النقدية التي انبثق عنها تياران نقديان كبيران: أولهما هو دراسات ما بعد الاستعمار والتي أصبحت الآن مادة أساسية في الجامعات الغربية، وأثرت المكتبة النقدية بدراساتها المختلفة، وثانيها هي تيار النقد الثقافي الذي يعود في أصوله الأولى إلى دراسات إدوار سعيد التي ضمها كتابه الشهير (العالم النص الناقد) ثم كتابة التالي (تأملات في المنفى). وقد نجم عن التيار الأول مجموعة كبيرة من الدراسات المهمة التي كان من أبرزها دراسات التابع التي صدرت عن أعمال عدد من النقاد والباحثين ذوي الأصول الهندية من جياتري سبيفاك، إلى هومي بابا إلى بارثا شاتارجي وإعجاز أحمد، واكتسبت هذه الدراسات أبعادا جديدة ومغايرة لدى تيار النقد ذوي الأصول الأفريقية لدي كل من نجوجي واثينجو وإيمي سيزار وأنيتا لومبا وستيوارت هول وأميلكار كابرال وعبدول جان محمد وكوامي آبيا ولويس جيتس وإن كان كثيرا منها ينهل من منابع مؤسس هذا التيار الأول وهو فرانز فانون. وإن كانت كلها باجتهاداتها المختلفة تدير حوارها الخصب مع انجاز سعيد الذي يمتد نظريا من كتابه المهم (البدايات: القصد والمنهج) ويستمر حتى كتابه العلامة (الثقافة والإمبريالية). ولو اقتصر تأثير هذا التيار على الهنود والسود، لربما استطاعت المؤسسة الغربية تهميشه، ولكن قوته تتجلى في أنه استطاع أن يفرض سطوته على عدد لابأس به من المثقفين والنقاد الغربيين البيض أنفسهم. من أنيتا باري وبيل آشطروفت ونيل لازاراس إلى تيموثي برينان وليندا هتشيون وسايمون ديرينح وروبرت يونج وكايكل وود وباتريك ويليامز الذي حرر أربعة مجلدات كاملة عن إدوار سعيد في سلسلة أساطين الفكر الاجتماعي الشهيرة التي تصدر عن دار نشر سيج البريطانية. وكنت أود لو كان ثمة متسع من الوقت لاستعراض هذه المجلدات الأربعة التي تضم ثمانين دراسة وتقع في أكثر من ألف وخمسمئة صفحة، وقد صدرت لحسن الحظ عام 2001 في حياة إدوارد وجاء محررها ليهديه نسخة منها في إحدى زياراته التي دعوته فيها للمحاضرة في جامعتي في لندن. فقد دعوته لأكثر من مرة للمحاضرة في لندن، وحضرت أكثر من محاضرة له في أماكن مختلفة في بريطانيا، وهذا الجانب الساحر في شخصيته كمحاضر له حضور آسر على مستمعيه يستحق دراسة كاملة.

ولا أغالي إن قلت أن الأعمال التي صدرت عن إدوار سعيد والتي انطلقت من اطروحاته النظرية تشكل اليوم مكتبة كاملة، ومع أن مقتنياتي في هذا المجال متواضعة نسبيا إلا أنها تملأ رفا كاملا في مكتبتي وتبلغ العشرات عددا. ولولا إدوار سعيد لما أصبح لهذين التيارين النقديين هذا الحضور المؤثر والطاغي في الجامعات الغربية، وهو حضور يؤكد أن مشروعه لايزال فاعلا ومؤثر بعد رحيله، بالرغم من الحرب الشرسة والمنظمة والحقيرة التي تشنها المنظمات الصهيونية واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة في الجامعات من خلال ما يعرف باسم مراقبة الحرم الجامعي، أو Campus Watch التي تعمل بانتظام على اجتثاث أفكاره وتأثيراته من الجامعة، وتطارد تلامذته أو من يدرسون أفكاره، ولكن هيهات أن يطفئوا نور الحقيقة بأفواههم. ذلك لأن عظمة مشروع إدوار سعيد تكمن في أنه مشروع نقدي ينهض على تفكيك بنية العقل النقدي الغربي، وهو أمر لايمكن إلغاءه أو الارتداد عليه.

مصر التي في خاطره
وحتى نتعرف على حقيقة مشروع إدوار سعيد الكبير ونساهم مساهمة متواضعه في أحياء الذكرى الخامسة لرحيله، وإشراك قارئ (الكلمة) معنا في هذه المناسبة، خاصة وأن لإدوار سعيد هوى مصري غلاب، فقد كان يحن إلى سنوات صباه الأولى في ربوع مصر. ويستعيدها بشيئ كبير من المتعة والحنين في كتابه (خارح المكان ) الذي يسجل فيه سيرته الذاتية، وتحظى فيه سنواته المصرية بقدر كبير من الاهتمام، علينا أن نبدأ مشوار إدوار سعيد النقدي والحياتي من أوله، وأن نتلمس بعض المحطات الأساسية في تكوينه الفكري. فقد ولد إدوار سعيد في مدينة القدس في أول نوفمبر عام 1935 في فلسطين الحبلى بالثورة، وقبل شهور قليلة من اندلاع انتفاضتها الشعبية الكبرى بزعامة عزالدين القسّام عام 1936، وبعد أن قضى سنوات طفولته الأولى فيها، وهي السنوات التي شهدت تصاعد موجات الهجرة اليهودية إليها، وبدايات تنفيذ المشروع الصهيوني الاستيطاني بها، وفورة الاضطرابات بين سكان البلاد الأصليين واليهود الوافدين من أوروبا لانتزاع أرضهم منهم، أرسله والده للالتحاق بكلية ?يكتوريا في الإسكندرية، ليبعده عن ذلك الواقع المضطرب. وكانت كلية ?يكتوريا وقتها واحدة من آرقي المدارس الانجليزية الخاصة في المشرق العربي كله.

لكن يبدو أن إدوار الصبي الذي اغترب عن وطنه منذ نعومة أظافره، وأرسله والده إلى الإسكندرية ليتجنب المشاكل والاضطرابات التي كانت تعيشها بلاده كانت لديه منذ ذلك الوقت الباكر القدرة على إثارة الزوابع حيثما حل، لأنه سرعان ما واجه مشاكل من نوع جديد، ربما هي مشاكل التمرد على العقلية الاستعمارية التي كانت تدار بها هذه المدرسة، والتي سيصبح إدوار سعيد أكبر خبراء تفكيكها ونقض مقولاتها فيما بعد. ومع هذا يبدو أن السنوات القليلة التي أمضاها إدوار سعيد في هذه المدرسة العتيقة كانت من الأهمية بمكان حيث انحفرت تفاصيلها في ذاكرته بوضوح، نقرأ بعض ملامحه في مقاله الجميل عن »تحية كاريوكا« التي شاهدها ترقص لأول مرة في حياته في تلك الفترة الباكرة من صباه أواخر الأربعينات أو مطلع الخمسينات، والتي عاد للقائها بعد ربع قرن. ليسجل في مقاله الجميل عنها لا كيف خبت الذكرى الجميلة وحدها، وإنما تحولات الواقع المصري نفسه من خلال ما جرى لبطلة صباه تلك في بدايات السبعينات مع الانفتاح الساداتي السقيم. المهم أنه ما أن بدأت مشاكل إدوار الصبي مع المدرسة حتى قرر والده أن يبعث به إلى مدرسة مونت هيرمون في ولاية ماساتشوتس بأمريكا. وبعد أن أكمل دراسته بها التحق بجامعة برينستون حتى تخرج منها متخصصا في الأدب الانجليزي والمقارن، ثم واصل دراسته للدكتوراة بعد ذلك في جامعة هار?ارد التي حصل منها على الدكتوراة بدراسته المهمة عن (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) وعين بعد ذلك محاضرا للأدب الانجليزي في جامعة كولومبيا عام 1963 وهي الجامعة التي واصل العمل بها حتى نهاية حياته، وأصبح أستاذا لكرسي الأدب الانجليزي والمقارن بها.

وقد جعلته أعماله النقدية المتميزة التي تتابعت منذ كتابه الأول وحتى الآن ـ حيث لازالت كتبه تتابع حتى بعد رحيله، ونعرض في هذا الملف من (الكلمة) لأحدث كتاب له صدر منذ شهرين وجمع مقالات الموسيقية العديدة ـ أحد أهم أعلام النقد الأدبي المعاصرين. مما دفع عددا من الجامعات الأمريكية المرموقة لدعوته للعمل كأستاذ زائر بها فقضى عام 1974 أستاذا زائرا للأدب المقارن في جامعة هار?ارد، وعام 1975 زميلا في مركز الدراسات العليا للعلوم السلوكية في جامعة ستانفورد، وعام 1979 أستاذا زائرا للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز وهكذا. لكن دور إدوار سعيد المهم يتجاوز هذا المسار الجامعي إلى الحياة الثقافية والفكرية العامة، ويفرض نفسه على المتابع للنشاط النقدي منذ كتابه الثاني العلامة (بدايات: الدافع والمنهج)، وهذا الكتاب هو الذي وضع اسم إدوار سعيد باقتدار وجدارة على خريطة الاهتمام النقدي، ويشكل في الوقت نفسه حجر الزاوية المنهجي في مشروعه النقدي الكبير الذي يتسم بالتنامي المستمر. وقد قال لي الراحل الكبير مرة عن هذا الكتاب أنه كان ضروريا أن يكتب مثل هذا الكتاب النظري المحض، ليطرس مكانته الجامعية والفكرية قبل أن ينطلق في مشروعه الخلافي الذي أثار جدلا لم يتوقف حتى الآن. لأن هذا الكتاب يبلور لنا الأسس النظرية والمنهجية التي تنهض عليها طريقته الفريدة في تحليل النصوص الأدبية واستقراء ما تنطوي عليه من مواقف ومصادرات مخبوءة. حيث يشحذ إدوار سعيد فيه أدوات الاستقراء المنهجي القادر على التعرف على ماقبل البدايات من مصادرات ومسلمات تتحكم في البداية نفسها، وترود عملية صياغتها للأسئلة، بل ولكل المشروع الفكري للباحث. ويرسي فيه دعائم منهجه النقدي الذي يعتمد كحجر الزاوية فيه على المنهج النقدي للمؤرخ والمفكر الإيطالي جيامباتسيتا ?يكو (1744 ـ 1668) الذي ألهم قبله عددا كبيرا من المبدعين والمفكرين من كوليردج وماركس وميشليه وحتى بنديتو كروتشه وجيمس جويس.

فقد كان ?يكو هو أول من أكتشف التناظر بين أنماط التفكير وصيغه وبين البنى الاجتماعية المختلفة التي تصدر عنهاتلك الأنماط الفكرية، بمعنى أنه برهن على أن أنماطا مختلفة من المجتمعات تفرز بالضرورة أنماطا مختلفة من القانون، وأشكالا متباينة من التفكير، وأنواعا متغايرة من الإبداع الشعري، وأنه كلما تبدلت بنية المجتمع،أو تطورت أنساقه كان من الضروري أن تتغير قوانينه، ورؤاه وإبداعاته الأدبية معا. وكان هو الذي رفض المفاهيم التقليدية الراسخة حتى عصره والتي كانت ترى أن كل هذه النشاطات هي نتاج للماضي وتكريس لما أفرزته عبقرية أمة ما على مر تاريخها. وطرح بدلا منها تصورا أكثر جدلية وحركية يأخد في اعتباره مدى تعقيد النشاط الإنساني، وتعدد تفاعلاته التي تتجاوز بكثير بساطة العلم، لأنه ركز في هذا الوقت الباكر على أن مناهج دراسة العلوم الطبيعية تختلف اختلافا جوهريا عن مناهج دراسة الإنسان. وكان هذا من الأمور التي بنى عليها أهمية دراسة المنتجات الإبداعية من الأسطورة وحتى الشعر باعتبارها مستودعا لبنى أساسية للتصور والتفكير، ومرحلة من مراحل تطور التفكير العقلي للبشرية. كما أن تصور ?يكو للجدل بين البنى الاجتماعية وأنماط النشاط الفكري يرتبط بمفهومه الخاص للتاريخ الذي لا ينحو لديه منحى خطيا كما هي الحال في العلم وإنما منحى دائري.

من الاستشراق إلى الثقافة والاستعمار
ويوشك إدوار سعيد في هذا المجال أن يكون الحلقة الأخيرة في سلسلة النقاد والمفكرين الذين انطلقوا من الأساس النظري الذي أقامه ?يكو ـ من آرنولد وديليثي وكروتشه وكولنجوود وكاسيرر حتى أورباخ وجرامشي ـ ليرسي عليه دعائم منهج نقدي جديد يزاوج فيه بمهارة واستبصار نادرين بين البعد التاريخي الذي يعتمد عليه أورباخ في تحليله الأدبي للنصوص، والبعد الجغرافي الذي جسده جرامشي في موضعته للزمان في المكان أو في رؤيته للعالم زمكانيا على حد تعبير جمال حمدان، ليكشف عبرهما معا آليات الجدل بين البنى والمصالح الاجتماعية والتصورات الأيديولوجية وبين مصادرات الخطاب في مختلف تجلياته الأدبية والأكاديمية وحتى الصحفية. وقد تجسدت قوة هذا المنهج وفعاليته في كتابه العلامة (الاستشراق) عام 1978 الذي زلزل قواعد مؤسسة معرفية كاملة كانت لها سطوة وسلطان، وعصف بكل تصوراتها المنهجية والأيديولوجية وكشف دورها في ترسيخ هيمنة الغرب الرمزية والفعلية على الشرق وفهمها المغلوط له. وأصبح هذا الكتاب المهم حجر الزاوية في تأسيس النقد مابعد الكولونيالي لأنه موْضَع خطاب الاستشراق هذا في العالم،وأخذ في اعتباره العناصر الثلاثة التي جعلها إدوار سعيد عنوانا لكتابه التالي (العالم والنص والناقد) عام 1983. وكان (الاستشراق) منطلق مشروع نقدي ضخم واصله إدوار سعيد في عدد من كتبه اللاحقه. إذ اختبر مقولاته في كتابين تاليين يعد كل منهما نوعا من دراسة الحالة، حيث كان أولهما دراسة تكشف عن آليات تعامل هذا الخطاب مع (قضية فلسطين) لابينما تناول ثانيهما مسألة (تغطية الإسلام) وتناول الصحافة الأمريكية للإسلام عامة وللثورة الإيرانية خاصة. فكتاب (الاستشراق) واحد من الكتب المغيرة والأصيلة في ميدان النقد الأدبي المعاصر. ولولا الترجمة العربية الرديئة التي رزئ بها هذا الكتاب القيم، والتي افتقرت إلى سلاسة النص الأصلي وجماله، وأضافت إليه طبقة من الركاكة اللغوية والفظاظة العقلية وثقل الظل لكان تأثيره على الثقافة العربية والمثقف العربي كبيرا. فليس معقولا أن يطبع هذا الكتاب أكثر من أربع طبعات في الانجليزية، وأن تكون ثلاث منها في سلسلة كتب »بنجوين» الشعبية واسعة الانتشار، بينما لا يلقى ما يستحقه من رواج في العربية بسبب ترجمته الكاسدة العقيم. ولذلك فإنني آمل أن تتاح له ترجمة عربية جديدة وناصعة تعطي هذا الكتاب حقه، وتمنحه فرصة القيام بالدور المرتجى منه في النقد العربي المعاصر. وبالرغم من مرور ثلاثة عقود كاملة على نشر(الاستشراق) فإنه مايزال يثير الكثير من الجدل، وخاصة بعدما صدرت طبعة جديدة له في مطلع زودها إدوار سعيد بتذييل ناقش فيه ردود فعل الكتاب وتأثيراته والمعارك التي أثارها. ويمكنني أن أضيف هنا من واقع عملي المتصل في الحقل الجامعي الغربي أن هذا الكتاب قد ترك أثرا مزلزلا على المؤسسة الاستشراقية القوية بالصورة التي لم يعد باستطاعة الخطاب الاستشراقي بعده إلا أن يختلف جذريا عما كانه قبله.

أما الكتاب العلامة الآخر على مسار مشروع إدوار سعيد النقدي الكبير فهو كتاب (الثقافة والاستعمار) الذي أثار ولايزال ضجة نقدية كبيرة لم تهدأ زوابعها حتى اليوم لأنه زلزل هو الآخر عددا من الرواسي الكبرى في النقد الأنجليزي نفسه، وكشف عن كيفية تغلغل المصادرات والمسلمات الاستعمارية في أعمال أعلامه الكبار، وتحولها إلى أداة فاعلة في بلورة علاقات القوة والهيمنة الرمزية والفعلية معا. فقد أدرك إدوار سعيد أن نقل مدار البحث العقلي والنقدي من الأفكار كما كان الحال في الفلسفة الغربية حتى وقت قريب، إلى تحليل النصوص الأدبية والفكرية، ينقله من التجريد الفكري والفلسفي إلى ساحة العلاقات الاجتماعية والجغرافية والدولية التي تتحول فيها المعرفة إلى قوة، وتتشابك فيها بآليات التحكم والسيطرة، ومعارك الهيمنة على رأس المال الرمزي. فالجدل المستمر بين المعرفة والسلطة لايكشف عن نفسه إلا من خلال تحليل النصوص باعتبارها مستودع علاقات القوى والكاشفة عن حركيتها. ويلجأ سعيد في كتابه هذا لا إلى ما كتبته الثقافة الغربية عن الآخر، وإنما ما كتبته لنفسها وعن نفسها في أعمال كتابها الكبار من فورستر إلى جين أوستين وألبير كامي وراديارد كيبلنج وجوزيف كونراد ليكشف لنا دور الآخر في وعي الذات بنفسها من ناحية، ومدى تغلغل التصور الثابت والمغلوط عنه في بنية أفكارها، وبالتالي في بنية مؤسساتها ومشاريعها، من ناحية أخرى. بل إن هذه الأفكار والمصاردات الثاوية في نصوص الغرب الأدبية هي التي بنت ثقة الإنسان الغربي في نفسه، وبالتالي قدرته في السيطرة على الآخر. وإلا لما استطاع أربعة آلاف بريطاني ومعهم ستين ألف جندي السيطرة على ثلاثمئة مليون هندي عام 1930 كما تقول لنا رواية فورستر (الطريق إلى الهند). ولا يعد هذا الكتاب دراسة للتواريخ الأدبية القديمة، أو حتى مجرد تحليل نقدي لامع لعدد من أهم الروايات الغربية بقدر ما يعد نوعا من الكشف العميق عن مدى فاعلية تصوراتها في عالمنا اليوم، ومدى تغلغلها في مسلماته المغلوطة والتي تسود في شتى بقاع عالمنا اليوم من حرب البوسنة إلى الصراعات العرقية والطائفية في الهند وحتى مشروعات السلام في الشرق الأوسط. لأن هذا الكتاب كشف لنا مدى فاعلية الماضي لا في تشكيل الحاضر فحسب، وإنما في تيسير أنماط حركته المبنية على افتراضات هذا الماضي مهما كان من خطلها.

وهناك كتاب مهم آخر من كتب إدوار سعيد على الرغم من صغره النسبي، أولا وهو(صور المثقف أو تمثلاته). وهو ككثير من كتب إدوار سعيد من الكتب ذات العناوين متعددة الدلالات كما هو الحال في عنوان كتابه (تغطية الإسلام) أو (استطرادات أو تنويعات موسيقية). لأن للعنوان فيه أكثر من معنى حيث يتناول هذا الكتاب الذي كانت فصوله الستة محاضرات ست ضمن سلسلة محاضرات «ريث» الشهيرة التي تقدمها الإذاعة البريطانية «بي بي سي» بالانجليزية الصور الشائعة والمفترضة للمثقف، والأدوار المتعددة التي ينهض بها في الثقافة، وعلاقة هذا بكل التصورات التي تنطوي عليها الثقافة لنفسها ولمثقفيها ولتراثها ولهويتها القومية في عالم اليوم المتغير. وهو كتاب على درجة كبيرة من الأهمية لأنه لأنه يطرج من جديد دور المثقف العام باعتباره ضمير أمته، لا في التعبير عن رؤى هذه الأمة وبلورة تصوراتها، ولكن أيضا في التصدي لموجة احتلال عقل الأمة في مرحلة استبدل فيها الاستعمار باحتلال الأرض احتلال العقل، وغزو الأمم من الداخل وتهميش أي تصور لها عن نفسها لا يتلاءم مع استراتيجياته، وما يتصوره لها من دور في عالم اليوم. لكن المهم أن نعي أن إدوار سعيد أختار هذا الموضوع المهم ليكون موضوع أوسع محاضراته انتشارا، ليس فقط لأن لسلسلة محاضرات «ريث» تلك جمهور واسع حيث تذاع مباشرة في الإذاعة البريطانية وفي وقت الذروة، ولكن أيضا لأنها تنشر في نفس الأسبوع في جريدة الجارديان وهي من أوسع الصحف الانجليزية الجادة انتشارا. وقد اختار إدوار سعيد موضوع دور المثقف العام، وتقصى مساراته لأكثر محاضراته انتشارا لأنه كان حريصا على أن يطرح دور المثقف الذي يواجه خطاب السلطة بالحقيقة أمام ـ بل ومن خلال ـ المؤسسة الإعلامية التي تنشر خطاب السلطة وتروجه عادة. إنه حتى في اختياره لموضوعه ذاك يواصل دور المثقف النقدي الذي يفكك المؤسسة الغربية من داخلها ويطرح بدائله الثورية ضدها.

وإذا كان من العسير، بل من المستحيل الإلمام بمشروع إدوار سعيد الثقافي الضخم في مقال كهذا، فإن كل ما يطمح إليه هو التنبيه إلى أهمية أن تحتفل الثقافة العربية به باستمرار وأن تتعلم من مشروعه، وتكرس العديد من صفحاتها الإعلامية ومؤتمراتها الجامعية لدراسة إنجازه النقدي الكبير لكي تتلمس عبره عزاءا عن حالة التردي التي تعيشها الأمة العربية، وحتى تستشرف بفضل إضاءاته المنهجية سبيل الخلاص منها. فإذا كان لإدوار سعيد حضور دائم وفاعل في الغرب بعد انصرام خمسة أعوام على رحيله، فمن باب أولى أن يكون حضوره أكثر استمرارا وفاعلية في الساحة العربية التي هي في مسيس الحاجة إلى كشوفه النقدية، وإلى التعلم من صرامته المنهجية وبصيرته التحليلية، وأهم هذا من موقفه الصلب كمثقف عام يواجه خطاب السلطة الزائف بالحقيقة، ويحتل دوما المكانة الأخلاقية الأعلى.