يكتب الناقد المصري أن هذه المجموعة تعتمد علي التركيز الشديد، رغم اتساع مساحة ما يتناوله القص المتنوع في ظاهره، وإن كان يستبطن إحساسا أو هاجسا واحدا، نستطيع تلمسه في ثنايا القص، مستمدا من تلك البيئة الريفية، التي استطاع التعبير عنها بكل شفافية وصدق، حيث تنوعت المشاهد الريفية المُغلفة لذلك المُستبطن في الأعماق، وهو رائحة الطفولة، ذلك المنبع الخصب الذي كثيرا ما أمد الكتاب بمدد الإلهام، والذي يعتبر خزينة الذكريات.

طفولة .. «لبيب» .. وشباب الكتابة

شوقي عبدالحميد يحيى

قبل الدخول إلي هذه المجموعة الملفِتة، أراني مضطر لطرح الرؤية للمُلفت فيها، بالعودة إلي بؤرة الإبداع. حيث الإبداع – كما أراه – رسالة تبغي التأثير علي وجدان القارئ، كي تُحدث أثرا فيه، بغية تغيير سلوكه واستقباله للحياة، من خلال التراكم لعدد الرسائل. ولكي يحدث هذا التأثير، لابد أن تترك شيئا في وجدان القارئ، وبالطبع لا يحدث هذا التأثير إلا إن أصبح القارئ مشاركا في إنتاج الرؤية، أو المعني، وهو ما لابد للكاتب معه أن يترك مساحة للقارئ يجول فيها، أما حين يكون العمل ميسورا للقارئ، يستقبله دون عناء، فلن يترك في نفسه ذلك الأثر المرجو. ومن خلال تطور التناول القصصي داخل هذه المجموعة، نستيع القول بأن أحمد لبيب، يسير علي الطريق الصحيح للإبداع. وعلي ذلك نقرأ هذه المجموعة القصصية.

عند الدخول إلي العمل الأول لأي كاتب، يتوقع القارئ -المتمرس- لاستقبال مجموعة من الملاحظات التقليدية الدارجة في تلك الأعمال. إلا أن هذا القارئ نفسه، تعاوده الدهشة إذا وجد أن هذا العمل – في مجمله – يخلو من تلك المآخذ. وهو الإحساس الذي عاودني عندما تصفحت المجموعة القصصية "لبيب - قصص ومشاهد"(1) للكاتب الشاب أحمد لبيب شمس. والتي علي الرغم من أنها مجموعته الأولي، إلا أننا لا نعثر علي تلك الاستفاضة في السرد، التي تزيد عن الحاجة، نتيجة رغبة الكاتب في تلك المرحلة التي يسعي الكاتب لإثبات وجوده، ومحاولته إظهار قدراته، إلا أن أحمد في هذه المجموعة ارتدي قفازا في يديه ، فكان وجوده مستترا، فلا نلمس إلا أثار البيئة الريفية التي استقي منها قصصه، دون افتعال، أو تزّيد.

حيث تعتمد المجموعة علي التركيز الشديد، رغم اتساع مساحة ما يتناوله القص المتنوع في ظاهره، وإن كان يستبطن إحساسا أو هاجسا واحدا، نستطيع تلمسه في ثنايا القص، مستمدا من تلك البيئة الريفية، التي استطاع التعبير عنها بكل شفافية وصدق، حيث تنوعت المشاهد الريفية المُغلفة لذلك المُستبطن في الأعماق، وهو رائحة الطفولة، ذلك المنبع الخصب الذي كثيرا ما أمد الكتاب بمدد الإلهام، والذي يعتبر خزينة الذكريات. وقد كانت أحد عتبات المجموعة التي جاءت مدخلا لتلك الرؤية، متمثلة في مفتتح الكتاب، مقتبسة من "ميشا سليموفيتش" حيث تقول { لماذا لا يُحدث الناس ثقبا في السحاب من أجل الأطفال الذين يحبون الشمس} والتي تعبر عن رغبة الطفولة في الوضوح والنهار والنشاط. وهو ما نجده في قصص : "عيل" ، "الشيخة زينب" وفي متتالية "لبيب".

ففي أولي قصص المجموعة "عيل" والتي نتابع فيها ذلك الطفل الذي عثر علي كرة مطاطية، حين كان يلهو ما والده في حقلهم الذي استباحه شريط السكة الحديد. ثم يموت الوالد، والطفل لايدري معني الموت، فيعبث في الجسمان في صندوقه انتظارا للصلاة، ويتصوره (خيال مآته) بلا ذراعين. وحين الدفن، وحين خروج مولود من رحم القبر، بعد أن كان قد أتم لحد الميت، فيجد دموع الطفل، فيقدم له كرته المطاطة، فإذا بالطفل يهلل، ليقول للجميع، أنه لم يكن يبكي إلا علي كرته. لنجدنا أمام ذلك الإحساس الطفولي الذي لا يدري من عالمه غير اللعب، ولا يأخذه منه أي شئ، حتي لو كان الموت، ولو كان موت أبيه، ومن عثر له علي كُرَته.

وهو ذلك العيل، أو الطفل الذي نجده أيضا في ثاني قصص المجموعة "الشيخة زينب" والذي يضعنا فيها في مقابلة بين فطرة الطفل، بل فطرة الإنسان السوي، وبين تلك الأفكار المتخلفة التي يعيش عليها، وبها، أولائك الذين اكتسي ظاهرهم الرحمة، واستبطنوا شراهية القتل والدم. فقد اعتادت الشيخة زينب أن تحمل قطع الحلوي توزعها علي الأطفال كل يوم {تمد يدها فأمد يدي فتسرع بسحب يدها، تكرر مداعبتي هكذا مرة أو مرتين. وقبل أن يبدأ الزهق في عيني تقبض علي كفي – برفق – لتترك قطعتين لا واحدة، أحببتها وصار عصر كل يوم موعدا، أنا الطفل في السادسة وهي العجوز في الستين}. حيث يرسم الكاتب ذلك المشهد الذي يوضح مدي تعلق الطفل، ومدي اشتياقه وانتظاره لها عصر كل يوم. غير أنه وفي أحد هذه العصاري، وبينما يندفع لملاقاة الشيخة زينب، حيث لمحها من سور البلكونة، وسمع هتاف الصبية باستقبالها و {شغلتني قطة تطارد حرامي الحلة الهارب إلي فوهة حفرته}. فيسرع الطفل ملهوفا لاستقبال الفرحة اليومية ، غي أنه يُصدم بذلك المشهد، الذي يستفز فطرته، حيث يجد القطة التي ألفها تتمرغ في التراب {تتاوه بصوت مصدوم، يفّرغُ رأسها الدم المندفع من فمها، ولا أثر للشيخة زينب}. ويعلم الطفل أن الشيخة زينب هي التي ضربت القطة التي كانت تهاجم حرامي الحلة، ذلك الذي استقر في مؤخرة رأسها أنه – حرامي الحلة- يسقي الموتي في قبورهم. ويستقر المشهد في جوانية الطفل، فيحلم بأن الشيخة زينب ترغمه علي وضع قطع الحلوي ملوثة بالدم في فمه، يقاوم، في المنام، بينما تعافها نفسه في يقظته، فاصبحت توزع الحلوي علي الأطفال، إلا هو.

ويجسد الكاتب ذلك التناقض في المظهر والجوهر، حين يصف الشيخة زينب، بما ينزع عنها تلك الصفة(الشيخة) حين يصفها {تمشي مسنودة بعكاز، تمرر الحلوي إلي الصغار، بشعرها الأبيض المكشوف كسيدات المدينة، وبالطو شامواه طويل، لايناسبه حذاء باتا الرخيص، لا ترتدي جوارب، وتضع أحمر شفاه، يبهرني اللون الأخضر في عينيها}.

ونستطيع أيضا أن نشم رائحة ذلك الطفل، بشقاوته، وعناده، وإصراره علي عدم التفريط، فيما ورثه الطفل عن أبيه، في تلك المتوالية التي وضعها الكاتب في نهاية مجموعته، ومنح اسمها للمجموعة، "لبيب" حيث جاءت القصة علي شكل متوالية قصصية، خفيفة الظل، وقد وفق الكاتب في منح اسمها للمجموعة، حيث تعبر عن رؤية الكاتب وإسلوبه تعبيرا جيدا. ففيها التكثيف والرؤية والإسلوب المشحون بالجماليات، والتي تتضافر كل وحدة مع غيرها من وحدات المتتالية، لتشكل في النهاية صورة حية للسارد، تحمل عبق الريف وعاداته وتفصيلاته، الصغيرة منها خصوصا، بحيث يمكن أن تقرأ كل وحدة منها كقصة منفصلة، وتقرأ الوحدات مجمعة لتشكل في النهاية الرؤية الكلية.

تبدأ المتوالية بما يشبه التقديم، بذات الإسلوب الساخر المركز، والذي يحمل بعضا من شطحات الأب "لبيب" الفانتازية، حيث { كتب في وصيته أن يدفن في عربة قطار} ثم {في كل محطة سيعيد بعضا منه} فتأتي الوحدات السردية كل في بلد بامتداد الجمهورية، وفي زمن مختلف، فنجد { الفنت – بني سويف 1957، الوحدة الثانية أشليم- مركز قويسنا 1958، والوحدة الثالثة إسطنها – المنوفية 1961 و بنها 1964 وقنا 1969 و إسطنها 1972 والأقصر1973 محطة مصر 1975 فإسطنها - مرة أخري – 1979 فطنطا 2010} ليتكشف لنا في كل وحدة (زمكانية) كشف لجزء من حياة "لبيب". متنقلا من حياة الأب لبيب، لتتبع ما ورثه ابنه من بعده، من ذات الصفات، وكأنه يود قول المثل الدارج "من شابه آباه فما ظلم. أو هذا ما ورثته عن أبي، مؤكدا بذلك، الفهم الجيد للقصة القصيرة.

يستعرض السارد – في المتوالية -، بعضا مما ورثه عن أبيه من إصرار علي عدم ترك ثأره ممن، تصور هو، أنه أساء إليه. مشحونة بذات الصور، والصيغ الجمالية الموحية. فبعد أن - شاهدنا – كيف أن الأب، المُحب للهزار والضحك، رغم مظاهر الخوف التي تحيطه، فاستطاع رسم شخصية حية منحوتة من طين القرية. أصر- الأب - علي الانتقام ممن تصور أنه وشي به لدي ناظر المحطة، الأمر الذي أودي به إلي أربع سنوات سجن، نتيجة إحداثه عاهة مستديمة، والتعدي علي موظف أثناء تأدية عمله. ثم نتابع مغامرات السارد، الذي يُصر علي (التسطيح) علي ظهر القطار، رغم حيازته علي (أبونيه) لينتقم في النهاية من الكمساري الذي أقلق راحته علي سطح القطر. والإصرار علي الانتقام من النقيب عبد المجيد – في فترة التجنيد -، حيث دأب علي مشاغبته، بعد أن كان قد سرق تعيينه بطريقة اللصوص المحترفين. كما ارتدي ثوب الإناث لسيتطيع مقابلة المحبوبة، التي لم يكن يملك غير تصريح بأربعة وعشرين ساعة، وكان إصراره علي رؤيتها. ولنتبين في النهاية أن السارد مصاب بالاستسقا، وقد عجز عن مشاغباته، حين يسأله حفيده {كنت بتسنحمي في الترعة يا جدو؟

  • أيوه.... داعبني قبل أن يرحل مع أبيه: نفسك في إيه؟
  • نفسي أسطح عل ضهر القطر} وكأنها أمنية العودة لشقاوة الطفولة والشباب.

تطور الكتابة

نستطيع النظر لتدرج الكتابة في المجموعة، إلي أنها جاءت علي ثلاث مراحل. المرحلة الأولي، جاءت فيها الكتابة بطريقة أقرب إلي المباشرة، حيث يستطيع القارئ أن يصل لرؤية القصة بسهولة، ودون أدني تفكير، وإن كانت هذه النوعية ليست كثيرة في المجموعة، ونجدها بصورة واضحة في قصة "العَرَق". وقصة "فراغه" التي لعب فيها علي الرؤية اللفظية، التي جعلت من أحدهم يبدأ يومه بكشط الصور في الجريدة، علي اعتبار أنها (وثنية)، كي يحمي الناس من شرورها، ثم يبدأ مسيرته اليومية في حفر أي صور يجدها علي الجدران، لطمس معالمها. وأيضا نجد ذلك الوضوح في القصص التي حاول فيها ممارسة ال ق. ق. ج. والتي أتت كقصيدة قصيرة مثل "الحميمية" و "سبب" التي وضعها بدون سطرها الأخير علي الغلاف الخلفي للمجموعة، وليتها جاءت كذلك في متن المجموعة، حيث أغلقها بوضع السطر الأخير، لتنحصر الرؤية داخل صندوق المباشرة، حيث تقول القصة – كاملة – { كان سؤال جدتي "نعيمة" وهي تدير ظهرها للعمر: عارف ليه سيدنا عزرائيل وافق يقبض الأرواح؟

  • ليه؟
  • ربنا وعده يكون لكل موته سبب.}.

أما الرحلة الثانية التي تخللت المجموعة فهي التي يمكن الوصول لمرماها بعد قليل من التأني والتفكير، والتي يمثلها قصص "عيل" ، "الشيخة زينب" و "لبيب" ، وكذلك تلك القصة التي تكاد تكون همزة الوصل بين المرحلة الثانية والثالثة، والتي سعي فيها إلي تطوير أدواته، بإداخل التكنيك السينمائي، مضفرا في نسيج القصة، دون تعنت. وهي قصة "سلمي". والتي تأتي بتجسيد بارع للحظة حلم وأمنية لفتاة، نظرت صورة صديقتها في حفل زفافها علي من تحبه، هي. راحت تتخيل الحبيب /العريس، ينقر شباكها، يدخل حاملا لها وردة حمراء ويراقصها. تدخل الأم. ترتبك سلمي. لنكتشف الخدعة. فما من أحد دخل الحجرة، غير أمنيتها.

دخول المشهد السنمائي، الذي أضاء أبعاد القصة، أضفي عليها مزيدا من الحيوية والحركة. استطاع الكاتب أن يدخلها في صميم اللحظة، فجاءت متوافقة، ومتجانسة مع اللحظة الذهنية ل"سلمي" لتقدم قصة قصيرة ممتعة ورائعة، لولا أن الكاتب خشي ألا يصل المعني للقارئ، فجاء السطر الأخير فيها كاشفا، فيما كان المعني قد وصل بطريق غير مباشر، فجاء السطر الأخير{ العريس في الصورة هو بطل حلم سلمي}، فما كنا في حاجة له.

  • تأتي المرحلة الثالثة والتي تمثل تطورا كبيرا في فهم القصة القصيرة، من حيث التكثيف ، والاعتماد علي إيحاءات اللغة، وربما تشتتها، حيث تخفت الرؤية الكلية وتكاد تكون استعصت علي القارئ – العادي أو غير المتمرس - . والتي تطلب من القارئ إعادة القارءة، والمشاركة في تحديد الرؤية الكلية. حيث تحتمل القصة الواحدة، عديد الرؤي والتأويلات، التي قد تصل لعدد قرائها. وتتمثل في قصص "الطعمية"، "الخيول" و "الغلمان" التي جاءت شديدة الانغلاق، وهو ما قد يؤخذ علي الكاتب الذي لم يضع القليل من المفاتيح التي تعين القارئ علي فتح ما انغلق فيها.

فإذا ما حاولنا قراءة تلك القصص، فنتعرف علي إحدي الرؤي التي يمكن الوصول إليها. ففي قصة الطعمية، التي استطاع فيها أن يستعرض حياة الإنسان – عامة – في عدد محدود من الكلمات. سنجد أنفسنا أمام قصة شديدة التكثيف.. شديدة الجمال. لعب فيها الكاتب علي الإيحاء، وتركيب الصورة. إذ علي القاري تجميع الإيحاءات التي تقود الكلمات المباشرة إليها، ليشكل بنفسه الصورة النهائية. علي أنه لا يمكن أن يقول قارئ أن ما وصل إليه هو ما كان يرمي إليه الكاتب، حيث كل قارئ يمكن أن يصل إلي رؤية ربما، بل في الغالب، تختلف عن رؤية غيره لها. وهو ما يجعل القصة مفتوحة، وقابلة لعديد التأويلات.

تبدأ القصة ب{جسر الترعة يوازي تجاعيد الوجه الجالس بين عينيه، والقمر في السماء يشبه قرص الطعمية، اعتقد ذلك وهو يرص حاجاته، أثر باهت من سواد براد الشاي علي إصبعه}. نستخلص من هذه الكلمات لصورة رجل في أخريات العمر، جلست التجاعيد علي وجهه، وكم كان الكاتب موفقا في اختيار (الجالس) حيث يوحي الجلوس بالاسترخاء، والزمن، إلي جانب ذلك الأثر (الباهت) لسواد براد الشاي علي يديه، ويرص حاجاته، وكأنه يجمع بقاياه، او يتأهب للرحيل. ورجل هذه مواصفاته، يجلس علي جسر الترعة، إذا ما جاع، فإنه يشتهي قرص الطعمية. وهو ما يراه القمر البعيد، وكأنه يشتهي الحياة التي أوشك أن يفارقها، يمسك بالسنارة، في إيهام بأنه يصطاد السمك، في حين أنه يحاول اصطياد الحياة، غير أن السنارة التي يصطاد بها طارت في الهواء، واستطال خيطها، ليلتف حوله، وكأنه (الخيط) الأيام التي استطالت به، وتضاءل هو في وسطها. تلك السنارة التي يحاول بها اصطياد اللحظة التي تمثل له الفتوة والشباب، بل وبداية الحياة، المتمثلة في اللقاء الحميم، الذي يبدأ (بالشغف) والاشتياق و ينتهي ب {صرخة ورجفة وغمضة عين، فعلها} . وهنا أيضا لابد أن نقف أمام (فعلها) لتضع الرجل بالكامل في الماضي. وفي النهاية يضع لنا النهاية في كلمات - أيضا- حيث أصبح {خيط السنارة غير صالح للصيد} وحيث {مات الشغف} و { خلق الشد في يده الألم}. فقد وهن العظم، وخارت القوة، وصار القمر {لا يشله قرص الطعمية}. بل إن القمر، رمز الخيال والأفكار والأحلام، هو الذي أرسل له نقطة من النور، تحت قدميه، أو نقطة من الوصول للحقيقة، ظلت تكبر حتي بات هو ذاته نقطة صغيرة وسطها، حيث {لم تعد ضرورة لوحي أو خيال} بل اصبح أمام الواقع، وأن الحياة/ الحلم، قد ذهب وأصبح في الماضي. ويصنع الصراع الداخلي بين الرغبة والواقع، حركية المشهد، وإن كانت حركة داخلية، إلا أنها تصنع الدرامية.

وفي قصة "الخيول" التي استعرض فيها المشهد المصري بعد ثورة ميدان التحرير بالقاهرة. فصنع من ميدان سعد زغلول في بنها معادلا لثورة أخري يجب أن تقوم علي تلك الأفكار السلفية المتخلفة التي تنظر للفنون نظرة جاهلة.

في هذه القصة، يرسم الكاتب لوحة تشكيلية، فنتازية. تمثل دموية الاحتلال السلفي وتخلفه، وعداوته للفن عموما، وللتماثيل بصفة خاصة. يسجلها، رأس قد طارت من جسدها، فأصبحت تشاهد وتعي، غير أنها لا تستطيع الصد، أو الفعل {المخ يرسل الإشارات كعادته، واحدة للذراع أن يصد ركلة قدم جندي الاحتلال، لكن ما بين الارسال والاستقبال انتهي}، في إشارة لإدانة الدولة، التي اكتفت بمحاربة المحتل السلفي بمسلسلات عادل إمام {فقد وصلت الأخبار بأن القائد أرسل عادل إمام برسالة تستدعي قواتنا علي الحدود، تفاءلوا بأن عادل يستطيع اختراق الحصار، اكتسب خبرة عبور الأنفاق في مسلسله ناجي عطا الله}. ويؤكد غياب القاهرة /العاصمة/مركز الدولة عن المشهد الذي يجري بميدان سعد زغلول ببنها {قطار القاهرة يرقد علي القضبان}، الأمر الذي جعل التاريخ يسخر من مشهدنا {من في بنها يخلصني من شماتة تمثال سعد زغلول}، حيث كان سعد هو قائد ورمز ثورة 1919، التي جمعت بين الصليب والهلال، بينما المشهد الآني يفرق بينهما {أري رؤوسا ما زالت علي الأكتاف، أنكرني البعض كما فعل بطرس، فعلوا هذا قبل أن يصفر القطار}. ويستفز الكاتب أؤلئك الساكنون في القاهرة، بصورة تشكيلية إيحائية رائعة، باستدعاء التشكيلية الرقيقة، التي دأبت علي رسم الخيول في لوحاتها، وكأنها تطلق النفير وتنبه للحشود الآتية من الداخل، في طريقها لاقتلاع الحضارة {تحت أقدامهم راس أخري نبتت علي الأرض، أعرفها، هي التشكيلية الرقيقة، يبدو أنها الخيول في لوحاتها، أدرك أحدهم أنها تنتظر المخلص لتبدأ تحرير الأرض ، الموت في عينيها يسألني "فهمت"؟ فقد كنت دائما أنتقد رسم الخيول}.

الصور المشهدية وضربات البداية

لاحظنا أن القصة القصة عند أحمد لبيب شمس، من شدة تكثيفها ، جعل الرؤية التي يسعي لتوصيلها، بعيدة المنال، ولابد أن يغوص القارئ إلي الأعماق حتي يصطاد اللؤلؤ. إلا أنه استعان بالصيغ اللفظية، وتراكيب الجمل، لتمنح القارئ متعة القراءة، حتي تستدرجه ليقف أمام مرآة ذاته، أو مرآة المجتمع.

فإذا أخذنا علي سبيل المثال مشهد "أمل". سنجد تلك الصور الجمالية، التي تدفع للتخيل، والتلاعب برؤي القارئ، مثل { اتساع عينيها مغناطيس يُنهي إرادتك بمجرد دخولك مجال نفوذه}، ليتخيل القارئ أنه أمام ساحرة الجمال، ويتهيأ لقراءة قصيدة شعر تتغزل في تلك العينين، غير أنه يفاجأ بما هو عكس ذلك تماما، لينكسر أفق توقعه {طولها في عرضها يساوي بعضا من مربع وجهها المنحوت من فحم ردئ}. وهو ما يشد انتباه القارئ ويجعله في حالة ترقب ويقظة، ليقدم له مشهدا من مشاهد الواقع، وما يدور في كل المستشفيات الحكومية – تقريبا – من إهمال للمريض، وعدم أداء الخدمة المنوطة بالممرضات، إلا باستخدام (الرشوة)، في الوقت الذي جعل من عنوان المشهد، وهو اسم الزوجة المريضة (أمل) في مفارقة واضحة، وكأنه يعبر عن (ضياع) الأمل أمام هذا الفساد المستشري في المجتمع.

ونتيجة هذه الأمراض المجتمعية، يلجأ المصري للعمل بالخارج، في الدول النفطية، فيكتب لنا مشهدا آخر بعنوان "الأحمر" وكعادته لا يقر الأشياء بمباشرة، وإنما يتخفي وراء الصورة الموحية، فحين يرغب في التعبير عن تلك الدولة الخليجية التي يسافر إليها المصري نقرأ {جلباب أبيض كالجير الحي، غطاء رأس كاروهات مثبت بحلقتين من السواد....}. يذهب المصري وهو يظن أنه أسد، غير أنه يفاجأ بأنه يعامل كقرد، وعندما يقابل الكفيل للشكوي، يسأله الكفيل { - مما تشكو؟

  • أيام عشر بلاعمل ولا أعرف غير الموز طعاما
  • صبرا أيها القرد
  • قرد؟! أنا أسد
  • في أوراقك تأشيرة قرد.....}.

ويعترف الكفيل في داخله أن ما أمامه أسد، غير أنه يصر في ذات الوقت أن يحيله قردا، فيطلب الكفيل من الحارس{ إليه ببعض الموز ليهدأ، وأحضر الطلاء الأحمر} في إشارة لصبغ مؤخرة الأسد ليصبح قردا، لمنح المشهد مزيدا من الإهانة التي يتعرض لها الإنسان المصري، عندما يود الهروب من ظروف الداخل، ليجد تلك المهانة في الخارج.

لدي أحمد قدرة علي تصوير المشهد في أقل الكلمات، يجسد بها الموقف، بما يضع القارئ في قلب المشهد، فيؤدي إلي المعايشة، وبالتالي الحميمية. وغالبا ما تأتي تلك الصور في بداية القص، فكأنما تضع القارئ من البداية في المشهدية، والعين تجذب قبل السمع أحينا.

فإذا نظرنا إلي أول جملة في المجموعة، سنقرأ {انحناءة ظهر إدريس تعانده وهو يخلع البلغة، بدوره يعاندها ويرفع بصره داخل المسجد}. حيث يجسد صورة "إدريس" داخلا المسجد، وهو يعاني إنحناءة في الظهر، فلابد أن إدريس هذا من كبار رجال القرية سنا، كما تضع القارئ أمام مشهد المسجد، الذي سيتضح أنه قد امتلأ بالمصلين، انتظارا للصلاة علي الميت. وهي نفس الصورة التي ترتسم للشيخة زينب منذا الجملة الأولي، وكأنها صيحة نوبة الصحيان، أن انتبه أيها القارئ { تمشي مسنودة بعكاز، تمرر الحلوي إلي الصغار} وقد أخر الكشف عن اسمها أو هويتها، لتزرع الشوق والترقب من اللحظة الأولي. وهو ذات الفعل ، وذات البداية في قصة "العَرَق" { ملفوفا بقصائده، لم يكن مشغولا بالقادم}. كما يصور الجو والبيئة علي المسرح قبل أن يدخل الممثل في قصة "سلمي" { أهم ما يميز الغرفة جهاز الكمبيوتر ودولاب الملابس وسرير نومها وصورة محمد منير علي الجدار وباب ونافذة}، إذ نحن أمام سيناريو سينمائي يمهد لدخول الممثل. كما تبدأ قصة "الطعمية" ب{ جسر الترعة يوازي تجاعيد الوجه الجالس بين عينيه} حيث تمتزج البيئة الجغرافية الخارجية (الترعة)، بالبيئة الجغرافية الداخلية (التجاعيد) لتتوازي البيئتان معا في تشكيل إمتداد تلك التجاعيد (الجالسة)، ولتمنحنا القدم والامتداد، بما يعني الكثرة، وما توحيه من كبر السن لذلك الذي سيكون ممثل الليلة. وهذا ما نستطيع قراءته في بدايات القصص جميعها – تقريبا – حيث البداية بالتمهيد، قبل دخول الممثل، وما وضعنا فيه صراحة في بداية المتوالية "لبيب" . حيث تبدأ:{ طرقات ثلاث علي باب السكن في عتمة الليل أشعر بها}. وكأننا نجلس في مقاعد المتفرجين في المسرح، انتظارا لخروج الممثل. وإن لجأ إلي التقسيم لمشاهد سينمائية صريحة – وإن لم تبتعد عن روح القص – كما في "سلمي" و "الغلمان".

اللغة الطازجة

لم يكن من المُلفت أيضا في المجموعة، خلوها من تلك التعبيرات المستهلكة، التي كثيرا ما نجدها في المحاولات الأولي، وإنما كثرة التعبيرات الطازجة، والتي يمكن إعتبارها خاصة بالكاتب وحده، والمشحونة بالدلالات الإيحائية، والتي استغني بها الكاتب عن الكثير من الكلمات ومنها علي سبيل المثال:

{وهي تدير ظهرها للعمر}

ولنفس المعني الذي يعبر أيضا عن التقدم في العمر { جسر الترعة يوازي تجاعيد الوجه الجالس بين عينيه}.

وحين أراد التعبير عن سوء النظافة في المستشفي، نقرأ في قصة "أمل": جلد أسود محشو بالإسفنج، رسم جسد زوجتي حدودا عليه من التراب}.

وحين أراد التعبير عن البرد الذي لفح (العساكر) المستجدين المُرَحَلين في محطة إقنا نقرأ في قصة "لبيب":{حاولت الأنفاس أن تتراص لبناء جدار عازل بين البرد والعساكر}.

فإذا ما عدنا إلي العتبات لنقرأ الإهداء الأول:{ مكتب الشهر العقاري –أتريب، جمع توكيلات الترشحلانتخابات الرئاسة 2014، انفعل مواطن حين رأي صورة حمدين علي صدري، أسرع وألصق هاتفه المحمول بأذني اليسري، ضغط زر التشغيل، وكانت "تسلم الأيادي" .. إلي تلك اللحظة..} حيث يترك القارئ من البداية في تيه السؤال، الذي سري بين جنبات المجموعة، بحثا عن إجابة، غير أن الكاتب البخيل –فنيا – لم يتطوع بتقديمها لقارئه.. وظل السؤال معلقا.. أكانت اللحظة لحظة فرح أم كانت غير ذلك؟.

لقد قدم أحمد لبيب شمس نفسه إلي الوسط الإبداعي، بمجموعته المميزة "لبيب" كأفضل ما يكون التقديم، ليزرع الأمل في استمرار مسيرة القصة القصيرة، التي تمنح قارئها المتعة القرائية، والمتعة الفكرية في ذات الآن، مغلفة بشباك السؤال، دون أن يتطوع بتقديم الجواب.

 

EM:shyehia48@gmail.com

(1) أحمد لبيب شمس – لبيب قصص ومشاهد – مجموعة قصصية - فهرس للنشر والتوزيع 2015.