تعتز (الكلمة) بأن تنشر هنا أحدث روايات الكاتب المصري الكبير والتي يدير فيها حوارا تناصيا خصبا مع روايتيه (أمريكانلي) و (العمامة والقبعة) من جهة، ويطرح فيها من جهة أخرى عددا من القضايا المحورية حول أسئلة الهوية والتاريخ، وميراث الاستعمار الغربي الثقيل، وتنصل الغرب المأزوم من مسئولياته عما جرى في مستعمراته السابقة، وعلاقتنا الشائكة بالغرب.

القانون الفرنسي (رواية)

صنع الله إبراهيم

القسم الأول
بواتييه

(1)

ـ دكتور شكري!
التفت خلفي وشاهدت بين جموع المسافرين زميلا من حوارّي عدوي اللدود حلمي عبدالله(1).
صافحته مبتعدا بوجهي لأتحاشي رائحة فمه التي مزجت بين دخان السجائر والتهاب اللثة. قال وهو يتأمل ملابسي بنظرة فاحصة ليقيس مدى نجاحي: أنا مسافر إلى جامعة "العين" في الإمارات. وأنت؟
قلت: مؤتمر في فرنسا.
التمعت في عينه نظرة حسد. قال: كيف حال التفرغ؟
كان يشير إلى تقاعدي وتعييني أستاذا متفرغا للتاريخ المقارن في جامعة القاهرة، بمبلغ لا يتجاوز عدة مئات قليلة من الجنيهات.
قلت: لا بأس.
دعاني إلى الجلوس معه في كافيتريا المطار فقلت إن موعد طائرتي حان وأسرعت بالانصراف. ولجت الحمام وتبولت، ثم غسلت يدي وأنا أتأمل وجهي في مرآة عريضة. ساويت شعري الأبيض وخرجت. لمحت فتاة جالسة بين عدد كبير من الحقائب. شعر أسود قصير وناعم. نظارة طبية. ملابس مهملة تتألف من بلوزة دون رقبة داخل بنطلون أسود. قامة رشيقة. كانت منحنية فوق كمبيوتر محمول، وضعته فوق فخذيها وتعمل عليه بتركيز. لم تكن مصرية وقدرت أنها قد تكون فرنسية. وقفت وسط مجموعة من السائحين الفرنسيين يعلقون على مشاهداتهم وتجاربهم في القاهرة. كانوا متشاركين في زجاجة مياه بركة يحملها أحدهم، ويلجأون إليه بين الحين والآخر طلبا لرشفة. وعرفت أن موعد قيام الطائرة ما زال مجهولا. ومع ذلك بدأ إخراج الركاب إلى الباص الذي سيقلهم إليها.
كان للمجموعة الفرنسية قائدة في حوالي الستين، دقيقة الحجم، بالغة النشاط، فرضت نفسها منذ اللحظة الأولي كفرد من طاقم الطائرة، مسئولة عن سلامة جماعتها، وأعطت أولوية الخروج للعائلات ذوات الأطفال.
صعدت إلى الطائرة خلفهم وهبط قلبي عندما تبينت أنها من طراز بوينج 737 الذي تعددت حوادثه. جاء مكاني بين اثنين من السائحين. ولمحت فتاة الكمبيوتر في صف أمامي ناحية اليسار. قدرت عمرها بالثلاثين. وكشفت البلوزة عن رقبة طويلة تغري باللمس والتقبيل.
وبينما تحركت المضيفات السمراوات المبطرخات ببطء وهن يتثاءبن، لم تهدأ قائدة الفرنسيين العجوز لحظة في المرور على أفراد جماعتها، والاطمئنان عليهم، وعلى الأطفال منهم بوجه خاص.
هبت علىّ موجات من روائح العرق الشديد. كانت بجواري امرأة خمسينية شقراء يلتمع جلد وجهها الأحمر، وبين لحظة وأخرى تتلمس جذور شعر رأسها بأنامل أصابعها في رفق، ثم ترفعها أمام عينيها لترى ما استخرجته من قشور. التفتت إليّ عدة مرات ثم سألتني عما إذا كنت أعيش في فرنسا. نفيت ذلك وأريتها كتيب المؤتمر. قرأت الكتيب واستعرضت أسماء المشاركين باهتمام، ثم قالت في خيبة أمل: ليس بينهم أحد من المعروفين.
تابعت نقاشا حادا يجري بين فرنسيين خلفي. سمعت أحدهما يقول: لم يعد أحد حتى في اليسار يؤمن بالماركسية. الملكية الخاصة هى الأساس لكل شئ.
كما هو منتظر، ولأنها طائرة رخيصة، فضلا عن كونها مصرية، فقد أقلعت بعد ساعة من موعدها دون أن يتذمر أحد من الركاب، ودون أن يحملوا على محمل الجد الاعتذار التقليدي الذي قدمه قائد الطائرة بعد أن حلقت في السماء. طرنا بعض الوقت فوق ألوان ترابية بنية بلا خضرة، حول مدن صغيرة في شبه دوائر غير محددة وعشوائية، وبداخلها مبان متناثرة في غير نظام. انحني رفيق جارتي على النافذة يصور السحاب بكاميرا فيديو. وبدأت أشعر بالاختناق من روائح العرق. التفت خلفي بحثا عن مقعد آخر ينقذني من الروائح. لمحت واحدا خاليا بجوار فتاة شقراء نحيفة بعينين زرقاوين تعلوهما عوينات طبية وترتدي بلوزة زرقاء وبنطلون جينز وحذاءً رياضيا. تناولت حقيبة كتفي وغادرت مقعدي. اقتربت منها وأشرت إلى المقعد المجاورلها. سألتها إذا كان خاليا فأجابت بالفرنسية: نعم. كانت تحتل المقعد المطل على الدهليز فمالت بساقيها لتسمح لي بالمرور إلى المقعد المجاور للنافذة. ورفعت إلىّ عينيها قائلة: إنه مقعدي في الأصل لكني أخاف من الجلوس إلى جوار النافذة.
بمجرد جلوسي مدت يدها إلى قائلة: اسمي دنيس وأنت؟
تناولت يدها وذكرت لها اسمي.
قالت: هل سنتحدث بالفرنسية أم بالإنجليزية؟
قلت: لا بأس بالفرنسية ولو أن لهجتي رديئة.
كانت شفتاها متشققتين في أكثر من مكان. وكشفت بلوزتها جانبا كبيرا من نحر لوحته شمس حديثة. تجاهلتها وبسطت صحيفة ودفنت رأسي فيها.
قالت بعد لحظة: أنا فرنسية وأعمل في شركة فرنسية بالقاهرة، وعائدة في أجازة قصيرة لرؤية زوجي.
أبديت اهتمامي دون أن أعلق.
استطردت: إنه أكبر مني بسنة. عمري 42 سنة. وأعرفه من أيام الدراسة. أنا منفعلة جدا فقد افتقدت الرقص والأصدقاء.
لم تمض نصف ساعة حتى كنت أعرف عنها كل شئ: زوجها هادئ الطبع على عكسها، فهى دائمة الحركة لا تكف عن الحديث. أبوها موسيقار دائم السفر. أمها في حوالي الخمسين مغرمة بالشراب، وتعمل في شركة لإنتاج الموسيقى. في السنوات الأخيرة بدت الأم عاجزة أمام أشياء كثيرة، وصارت تعتمد على الابنة الأخرى. وأوحت نغمة الحديث بأن الأبوين انفصلا من مدة. لم تلبث أن تكشفت عن أنها مصابة بداء الكلام القهري. كانت فاطنة إلى أن عيني تنزلقان برغمي عندما ألتفت نحوها، إلى أعلى ثدييها اللذين يبدوان من فتحة البلوزة، فتهبط بعينيها إلى صدرها تتأمل المشهد الذي أطالعه.
قالت: للأسف أن الخمورلا تتوفرعلى الطائرة المصرية. فأنا أتوق إلي كأس.
أخرجت الزجاجة التي ابتعتها من السوق الحرة على الفور فابتهجت. استدعيت المضيفة وطلبت منها كأسين بقطع من الثلج. فتحت الزجاجة وصببت لها ولي. وقرعنا الكأسين.
قالت: أتمني أن تكون أعمال الشغب قد توقفت في باريس.
أجبت: لا بد. فقد مضى عليها أكثر من أسبوع.
قالت: إنهم مجانين. ماذا يريدون؟
قلت: الذي فهمته من الصحف أنهم يحتجون على البطالة ووحشية الشرطة(2).
لم تعلق، إذ بدأت شاشة العرض المعلقة في عرض فيلم أميركي. قالت إنه فيلم كوميدي شاهدته من قبل. ولم يمنعها هذا من الاستغراق في متابعته. أزحت مقعدي إلى الوراء ورشفت من كأسي وأنا أتابع الفيلم. كان عن زوج تركته زوجته لفشله في مهنة التمثيل. وأخذت أولادهما معها. فتنكر في شكل خادمة، ليتمكن من رؤية الأطفال ويحكي لهم القصص حتى تعلقوا بـ (ها). وأوحى إليه نجاحه في اجتذاب أطفاله، بإعداد برنامج خاص موجه إلى الأطفال، اقتحم به شاشة التليفزيون. وحقق النجاح الذي كان يطمح إليه. وفي النهاية عادت إليه زوجته. كانت المشاهد الميلودرامية ـ رغم افتعالها الواضح ـ مؤثرة للغاية فدفعت بالدموع إلى عينيها وإلى عيني أنا الآخر. لكن ذلك لم يخلق أي رابطة بيننا. خالجني الشعور بأنها لا تراني. فلم تسألني حتى عن عملي أوسبب سفري إلى فرنسا. وأنا الذي تبرعت بأن أذكر لها جنسيتي. ولم يثر هذا أى اهتمام أوفضول لديها. كانت تبدو نافدة الصبر، حينما أشرع في الحديث. فما كانت تقوم به فعلا هو الحديث عن نفسها لنفسها.
ما جعلني أتحملها هي رائحتها. كانت بالتأكيد رائحة جنسية قوية بلا تدخل من عطر. تسليت بمحاولة تحديد مصدر الرائحة. كانت قد ذكرت أنها لم تنم جيدا لأنها سهرت بالأمس مع بعض الأصدقاء. هل إنتهت السهرة بجنس؟ وقامت من النوم متأخرة ولم تجد وقتا للاغتسال الذي هو عموما ليس من عادات الفرنسيين؟ أو أنها استمنت في الصباح كعادة يومية، أو بتأثير اللقاء المرتقب مع زوجها؟ أولعلها فقط منفعلة بقرب لقائه؟ وهل هذا ممكن في علاقة مرت عليها سنوات؟ الشك هنا مصدره تركيزها الدائم على نفسها الذي ربما ينسحب أيضا على علاقتها بزوجها.
أيا كان السبب، فإن الرائحة كانت جميلة.

(2)

حطت الطائرة أخيرا في مطار أورلي في جو قاتم بدا من النافذة. سبقتني إلى الخروج مسرعة. ولم تلبث أن غابت عن بصري. وجرت مراقبة الجوازات بتدقيق بالغ. ثم مضيت مع لافتة استعادة الحقائب مسافة حتى بلغت مكانها، ووقفت أنتظر وأنا أتأمل الواقفين. تعلقت عيناي بامرأة طويلة القامة بشعر أشقر قصير ترتدي معطفا طويلا من الجبردين، وتنتعل حذاء جلديا بني اللون بكعب متوسط. رأيتها تجذب حقيبتها في حيوية ونشاط. الحنين الدائم الذي صاغ سنوات المراهقة والدراسة والعمل بالذوبان داخل معطف أسود معطر فوق إمرأة. حديقة المقهى والمرأة الأربعينية الممتلئة البادية الرصانة والأمومة ويدها تستقر فوق يد شاب حزين أسمر أصغر منها سنا بعقد علي الأقل وليس ابنها بالتأكيد.
استعدت حقيبتي الثقيلة واستخرجت منها معطفي وارتديته. ثم علقت الحافظة الجلدية المنتفخة في كتفي. التقطت حاملة حقائب مقابل نصف يورو، وضعته في ثقب بمقبضها. دفعت الحاملة أمامي حتى موظفة الجمرك. كانت ترتدي بلوزة سماوية اللون وجوبة زرقاء. انتظرت خلف طابور من الفرنسيين، ورأيتها تسمح لهم بالمرور دون كلمة. وعندما وصلت أمامها طلبت مني الجواز مستفسرة عن مهنتي.
قلت لها إني بروفيسور جامعي.
ناولتني الجواز وهي تردد في سخرية خفيفة: تفضل يا بروفيسور. وأشارت لي بالمرور.
عاودتني آلام ظهري وأنا أعبر الأنفاق الطويلة المؤدية إلى المخرج. تشاغلت بالفرجة على الإعلانات الجدارية. لفت نظري ملصق لغلاف عدد من مجلة التصوير لأمرأة تكشف عن فخذها وأليتها. ثم شهدت ملصقا آخر لمؤخرة إمرأة أسفل هذا التساؤل: هل الأفلام الإيروتيكية تساعد الأزواج في حياتهم الجنسية؟ وحوى ملصق ثالث عدة أرقام تليفون وتحتها هذه العبارة: "إتصل بنا قبل أن تقدم على الانتحار".
اعترضني عند المخرج شاب عربي أدركت من لهجته أنه من شمال أفريقيا. سألني إذا كنت في حاجة إلى تاكسي. أجبت بالنفي وسألته بدوري عن محطة الباص، فدلني عليها في فتور. أنزلت حقيبتي بصعوبة من فوق الحاملة، ودفعتها بعيدا غافلا عن استرداد نقودي. ورأيت الشاب يقترب منها ويجرها إلى صف حاملات فيدفعها فيه، ويسترد العملة التي أودعتها.
أقلني الباص إلى ميدان دنفر ـ روشو بينما كنت أكافح الكآبة التي انتابتني وأنا أتابع الطرقات النظيفة، والحدائق والتشطيب الدقيق الأنيق لحواف الأرصفة، وأحواض الأشجار والزهور، وجوانب الكباري وأسفلها. أنزلت حقيبتي وأنا أئن من ثقلها. ولمت نفسي علي أني أحضرت هذا الكم من المراجع والملابس. عبرت الميدان.وهبطت إلى محطة المترو. استقبلتني لافتة مونبارناس بيان فيني. تسليت بترجمة العبارة إلى العربية.
مونبارناس أهلا وسهلا أم حمد الله على السلامة؟
عند شباك البطاقات وقع ما كنت أتوجس منه. كان العامل شابا صغيرالسن مزهوا بنفسه كثير الحركة، منهمكا في حديث متواصل مع زميله الجالس خلف النافذة المجاورة. ذكرني على الفور بشبان النواصي وركاب الموتوسيكلات. وضعت حقيبتي الكبيرة على الأرض وأسندت إليها الثانية الأصغر وأوشكت أن أتعثر فيهما وأنا أحني رأ سي أمام فتحة النافذة وأجاهد كي يكون نطقي واضحا. سألته عن ثمن البطاقة إلى مدينة بواتييه فأشار في ضيق إلى لافتة معلقة فوق زجاج النافذة. جمعت بعض القطع المعدنية من جيوبي وأعطيتها له. ولم أنتبه إلى أن إحداها من عملة الفرنك الملغية. وكان هذا ما ينتظره الشاب، إذ صاح في غاضبا وأعادها إلىّ ثم قال شيئا لزميله لم أشك في أنه تنديد بحمورية الأجانب (الشرقيين بالطبع والعرب على وجه الخصوص). حصلت على البطاقة وحملت حقيبتي إلى محطة القطار. كان الزحام شديدا يتألف فيما يبدو من المغادرين للمدينة بسبب أحداث الشغب. بدأت أبحث عن رصيف القطارالسريع تي جي في. سألت رجلا في ثياب أنيقة فقال إنه روسي ولا يعرف الفرنسية. استوقفت امرأة مسرعة فابتعدت عني خائفة. وأخيرا عثرت على الرصيف في جانب آخر من المحطة الضخمة.
تقدمت من القطار الذي كان موشكا علي التحرك. اعترضني محصل أريته بطاقتي فقال لي عبارة فهمت منها أنه لا بد من المضي بعيدا إلى آخر الرصيف. مشيت طويلا حتي وجدت نفسي أمام قطار آخر. كانت هناك فتاة تودع أهلها فأريتها البطاقة.
قالت: هذا هو القطار، لكن عربتك في نهايته. إصعد هنا الآن لأنه سيتحرك.
رفعت حقيبتي في صعوبة إلى مدخل العربة. وتنقلت بمشقة بين العربات حتي وصلت مكاني.
جلست وأنا أتنهد شاعرا بالعرق يسيل تحت إبطي. أنصت لشابين في المقعد المقابل يتبادلان الحديث بصوت عال عن مزايا أنواع مختلفة من السيارات والقوارب. وكانا يبدوان في تمام الصحة واللياقة البدنية. قمت بعد قليل فذهبت إلى عربة الكافيتريا واشتريت علبة بيرة. عدت إلى مقعدي وجلست أحتسيها في استمتاع، بينما القطار مندفع كالصاروخ. تأملت رجلين في مقعد جانبي. أحدهما صغير السن والثاني كهل. وأشارالأخير إلى المقعد التالي لهما ساخرا. وكان به شاب وفتاة غارقين في القبلات. وما لبث الرجلان أن نهضا وغادرا العربة. ثم عادا بعلبة بيبسي وكوب قهوة من الورق. وجلس الشاب يحتسي البيبسي، بينما ظل الثاني واقفا يتطلع إليه في حنان.
رجل وابن أم رجل وعشيق؟
تأملت رف الحقائب الذي تألف من زجاج سميك عاكس يتيح رؤية رؤوس الجالسين تحته أو وجوههم المقلوبة إذا كانوا يجلسون في المقاعد العكسية. لمحت ما بدا لي ساعدا عاريا يداعب جسما عاريا والإثنين في حركة دائمة. دققت النظر فتبينت يدا أنثوية تتحسس ما خلت أنه فخذ عار. تدفقت الدماء في عروقي وتركت العنان لخيالي. وقمت بعد لحظة متجها إلى الحمام. واكتشفت أني كنت أتطلع إلي صورة أم تهدهد طفلة صغيرة لم تتجاوز الثانية من عمرها، لتساعدها على النوم. فعدت مكسوفا إلى مقعدي.
توقف القطار في الطريق فجأة، وانطفأت أنواره. وأعلنت إذاعته عن عطل في الشبكة الكهربائية. وكررت الإذاعة الخبر. وبدا الانزعاج والقلق علي الركاب. وواصلت الإذاعة الإبلاغ كل بضع دقائق عن الموقف. ثم تحرك القطار وتوقف بعد قليل. وأعلنت الاذاعة عن إعداد سيارات لتقل الركاب من المحطة التالية إلى بعض الوصلات. ثم أعطت عنوانا يمكن للركاب الكتابة إليه للمطالبة بتعويض عن التأخير. ابتسمت لنفسي وأنا أتابع ردود الأفعال ـ سواء من جانب الركاب أو قيادة القطار ـ بالنسبة لأمر يعتبر عاديا في بلادي. امتد العطل حوالى الساعة، قبل أن يستأنف القطار طريقه. وحمدت الله أني قررت الاعتماد على نفسي في الذهاب إلى المكان المعد لإقامتي، وأعفيت الأستاذ الجامعي المكلف من عبء استقبالي.

(3)

وصلنا بواتييه بعد حوالي ساعة من تعطل القطار. وخرجت إلى الظلام والمطرالخفيف. بسطت مظلتي واتجهت إلى موقف التاكسي.
لمحت راكبا ينتظر فوقفت إلى جواره. وتجمع الباقون في نهاية الرصيف. ووفدت سيارة تاكسي خالية. انتظرت أن تتوقف أمام جاري لكنها مضت إلى نهاية الرصيف. وفجأة تحرك جاري مبتعدا في الإتجاه المعاكس، وتبينت أنه لم يكن في إنتظار تاكسي على الإطلاق.
انضممت إلى الطابورالحقيقي، ووقفت أنتظر في الجو البارد. راقبت سيارات التاكسي الفارهة وهي تقترب من عدة جهات وتدور بصينية صغيرة ثم تندفع إلي بداية الطابور، حيث تتوقف ليستقل كل منها فرد واحد. بينما تستوعب ثلاثة. وربما كان أغلب الواقفين متجها إلي نفس المكان. لكن لا أحد يسأل. ولا سائق يصيح: واحد الجاراج أو السلام. ولا أحد يعرض رغم الساعة المتأخرة والبرد والمطر.
حل دوري أخيرا. وأريت السائق ورقة تحمل اسم "المسكن الفندقي" وعنوانه. فتذمر قائلا إن المكان قريب. لكنه انطلق بالسيارة إلى ما بدا لي مركز المدينة ومضينا في شارع ضيق. ولم يدفعه الضيق إلى الاكتفاء بالوقوف في أقرب نقطة، أو في عرض الطريق، أو حتى أمام واجهة المبنى كما يفعل سائقو القاهرة. وإنما ولج الباحة الممتدة أمامها، وأنزلني بالضبط أمام باب يحمل لافتة «الاستقبال».
كان المبنى حديثا من ثلاثة طوابق، له واجهة مائلة من الصلب والزجاج، تضيؤها أنوار قوية. تركت حقيبتي فوق الرصيف ونشرت مظلتي تحت المطر وتقدمت من باب زجاجي معتم. تبينت خلفه حوضا للزهور ولافتة أسعار. ضغطت ما خلته جرسا في لوحة معدنية تضم فتحات الإنتركوم وأزرار الشفرة. لكن أحدا لم يستجب.
أعدت الكرة وأنا أجذب مقبض الباب بلا فائدة. حاولت مرة ثالثة وأنا أدفعه إلى الداخل. ضغطت أزرار الشفرة مكونا مجموعات عشوائية من الحروف والأرقام دون جدوى. عدت أتفحص الواجهة والباب وانتبهت إلى لافتة تقول إن الإدارة تعمل من السابعة صباحا حتى العاشرة مساء. وكانت عقارب ساعتي تشير إلى العاشرة والنصف. ولم ينبهني الأستاذ منظم المؤتمر لهذا الأمر، لأنه بلا شك كان علي بينة بجدول سفري، وواثقا من أني سأصل الفندق قبل أن يغلق أبوابه، فالطائرات والقطارات في أوروبا تلتزم بمواعيدها التزاما صارما، ولا تتأخر أو تتعطل إلا في النادر.
توقف المطر فنقلت حقيبتي إلى جواري، ووقفت تحت مظلتي أتطلع حولي. كان الشارع مهجورا تماما، ومنازله وحوانيته مظلمة. عدت أتأمل المبنى. كان ثمة بوابة عريضة من قضبان حديدية طولية تمتد في حذاء الواجهة، وخلفها فناء ركنت به بضع سيارات، وفي نهايته مبنى آخر مماثل تماما للمبنى الذي وقفت أمامه. وكانت ثمة لافتتان تشيرأولاهما إلى المبنى الخارجي بحرف "أ" والثانية إلى الداخلي بحرف "ب".
رأيت شابا وفتاة يقتربان مني. وتوقفا أمام المنزل المجاور. كان مبنى قديما له باب صغير من الخشب الثقيل، فوق درجتين، فتحته الفتاة بمفتاحها ثم دخلت بعد أن تركته مواربا. وظل الشاب واقفا يدخن. تقدمت منه ووجهت إليه تحية المساء طالبا مساعدته. قلت له إن هناك غرفة محجوزة باسمي والمشكلة هي كيف أدخل. كررت ما قلته ضاغطا على مخارج الألفاظ كي يستوعبه. أجابني بأنه لا يعرف شيئا عن هذا المكان. خطر لي أن أتصل بصديقي أستاذ الجامعة. سألت الشاب عما إذا كان هناك تليفون في المنزل الذي ولجته الفتاة يمكن الاتصال منه. قال إنه لا يعرف وأشار إلي نهاية الشارع قائلا: هناك تليفون عمومي.
أومأت إلى حقيبتي وقلت: لا أستطيع حملها إلى هناك. وليس معي بطاقة للتليفون، إذ نسيت شراء واحدة. وليس هناك حانوت مفتوح الآن.
كنت آمل أن يعرض عليّ بطاقته، أو يقترح حلا، لكنه أدار لي ظهره قائلا إنه لا يستطيع لي شيئا.
عدت إدراجي إلي موضع الحقيبة. فوجدت البوابة الحديدية مفتوحة إلى آخرها. فكرت في الدخول فربما أمكنني ولوج المبنى من باب جانبي أو خلفي أوالذهاب إلى المبنى الداخلي. وداعبني الأمل في أن أعثر في الداخل على حارس ليلي يستطيع مساعدتي. ثم خطر لي أني ربما أصبح أسير الفناء، عندما تغلق البوابة وبذلك أفقد حرية الحركة. وبينما أنا موزع بين الفكرتين بدأت البوابة تتحرك في نصف دائرة نحوالإغلاق. وفوق طرفها مصباح يرسل ومضات تحذيرية صفراء اللون. وفجأة توقفت وأخذت تعود إلى وضعها السابق المفتوح كأنها تدعوني للدخول.
لمحت شخصا في مدخل المبنى ب. تركت حقيبتي وحملت حافظتي الجلدية وعبرت المدخل وجريت نحوه. رأيته يدخل من باب زجاجي معتم مماثل للذي كنت أحاول فتحه. صحت به: هالو. هالو. لكنه أغلق الباب خلفه واختفى في الداخل. كان بالباب لوحة معدنية مماثلة لتلك الموجودة في باب المبنى الأول. دققت الجرس وحركت مقبض الباب وعبثت بأرقام وحروف الشفرة دون جدوى.
وقفت حائرا ثم رأيت البوابة تتحرك من جديد في اتجاه الإغلاق والمصباح الأصفر يرسل ومضاته التحذيرية، فهرعت نحوها وحملت حقيبتي إلى الداخل، وقفت أتأمل البوابة حتى انغلقت تماما.
تركت الحقيبة مكانها ودرت حول المبني "أ" فلم أجد منفذا إليه. رفعت بصري إلى الواجهة الخلفية للمبنى. كانت مؤلفة من ألواح زجاجية عاكسة للضوء لا تكشف عما خلفها. وكانت كلها مظلمة، أو هكذا كانت تبدو على أية حال. ظللت رافعا رأسي إلى أعلى كأنما أنتظر أن يظهر شخص ما في إحدى النوافذ لينشر غسيلا، أو يتأمل الشارع أو يثرثر مع الجيران. ثم عبرت الفناء الذي اصطفت به عدة سيارات ومضيت إلى المبنى "ب".
اكتشفت أن المدخل به مكتب للاستقبال وكمبيوتر مفتوح عليه تعليمات خاصة بطعام الإفطار. هناك إذن شخص ما بالداخل ترك الكمبيوتر مفتوحا وسيعود بعد قليل. انتظرت طويلا دون أن يظهر أحد. دققت الجرس عدة مرات. ودرت حول المبنى مرتين. نفس القصة. الباب المحكم الأغلاق، الزجاج العاكس المعتم. ولا يستطيع أحد الدخول إلا إذا كان يعرف الشفرة.
عدت إدراجي إلى البوابة الحديدية ووقفت أتأمل الشارع. مرت عدة سيارات مسرعة ثم رجل وإمرأة في أواسط العمر يترنحان من السكر. تأملاني بلا مبالاة دون أن تبدو عليهما الدهشة. فكرت في تسلق البوابة إلى الطريق. لكن قضبانها كانت عالية ومدببة وكان ظهري يؤلمني. ثم ماذا لو نجحت في تسلقها؟ إلي أين أذهب و أنا لا أعرف المدينة. وماذا أفعل بحقيبتي. وفضلت أن أنتظر دخول أو خروج أحد العاملين أو الساكنين بالمكان.
جلست فوق حقيبتي إلى أن تثلجت أطرافي فقمت أسير حول الفناء. وبمرورالوقت بدأت أفقد الأمل. أدركت أن خلاصي لن يتحقق إلا حينما يبدأ يوم العمل في الموعد الذي حددته اللافتة الخارجية. اتجهت إلى البوابة وتعلقت بيدي الإثنتين في قضبانها ووقفت أنتظر طلوع النهار. تعبت من الوقوف فجلست فوق حقيبتي. وبعد قليل حملتها إلى مدخل المبنى وجلست فوقها مسندا رأسي إلى الباب. غفوت قليلا ثم أيقظني إحساسي بالبرد. نهضت واقفا وذهبت إلى البوابة الحديدية.
تنقلت بين البوابة والحقيبة حتى ظهرت تباشير الفجر. وفي السادسة والنصف خرج شخص من المبنى "ب" وانغلق الباب خلفه. وقبل أن أتحرك كان قد استقل إحدى السيارات. وانفتحت البوابة لتسمح له بالخروج ثم دارت منغلقة خلفه.
في السابعة تماما دارت البوابة منفتحة. وولجت الفناء سيارة بيجو صغيرة نزلت منها امرأة طويلة. نهضت واقفا وابتعدت عن الباب. واقتربت المرأة في نشاط وعصبية. ضغطت أزرار الشفرة وفتحت الباب وتركته مفتوحا فدخلت في أعقابها.
التفتت إلىّ مرحبة فذكرت لها اسمي. قالت: لحظة واحدة.
شغلت الكمبيوتر ثم أومأت برأسها عندما وجدت اسمي.
قالت: التأمين من فضلك.
قلت: أنا مدعو من الجامعة ولم يحدثني أحد عن تأمين.
قالت: هذا هو نظامنا.
سألتها: كم تريدين؟
قالت: 200 يورو.
أخرجت نقودي وبدأت أعد لها المبلغ.
قالت: ليس معك بطاقة ائتمان؟
قلت: لا أستخدمها.
قالت: أفضل أن تكون معك واحدة.
قلت: لكني لا أحتاج إليها في بلدي.
هزت كتفها في استسلام وأخذت مني النقود. ثم أعطتني بطاقة ممغنطة أفتح بها غرفتي. وحملت الحقيبة إلى مصعد أنيق انغلق خلفي في إحكام.
غادرت المصعد في الطابق الثاني واتجهت إلى غرفتي. وضعت الحقيبة على الأرض، ودسست البطاقة في فتحة الباب، وأدرت مقبضه فلم ينفتح. قلبتها في يدي فوجدت سهمًا على الناحية الأخرى. دسستها من ناحية السهم فأضئ نور أخضر. دفعت الباب ودفعت الحقيبة إلى الداخل بقدمي. ثم انتزعت البطاقة وأغلقت الباب متنفسا الصعداء، معتقدا أن محنتي قد انتهت.
كانت الغرفة مظلمة فتحسست الجدار بجوار الباب بحثا عن مفتاح النور فلم أعثر عليه. تحسست الجدران في عدة أماكن بلا فائدة. وساعدني ضوء الشارع المتسلل من النافذة على تمييز موضع الفراش والتليفون المجاور له. رفعت السماعة فردت علي موظفة الاستقبال، وشرحت لي أن الكهرباء لا تعمل إلا إذا وضعت بطاقة الدخول في ثقب خاص بجوار المدخل. فعلت فأضيئت أنوار الغرفة. كانت فسيحة، وبها مكتب وركن للطهي بجوار الباب. نزعت البطاقة فانطفأ النور. أعدت البطاقة مكانها. وفتحت الباب ووضعت لوحة عدم الازعاج في مقبضه الخارجي. تلفنت للاستقبال طالبا عدم ازعاجي بأي تليفون. ودون أن أتناول أدوية قبل النوم خلعت ملابسي واندسست بين الأغطية.

(4)

استيقظت عند الظهر. اغتسلت وأخذت أدوية الصباح: للضغط والمعدة والاكتئاب. تلفنت إلى الاستقبال طالبا الإفطار، فقالت لي الموظفة إنه لا توجد خدمة للغرف لأنها مجهزة للخدمة الذاتية. ارتديت ملابسي وهبطت إلى البهو فوجدت البروفيسور ربيع الخطيب أحد منظمي المؤتمر في انتظاري. كان تونسيا متوسط القامة قمحي اللون، أصلع بشعرات قليلة متناثرة. ويرتدي بزة كاملة رمادية اللون. جلسنا في البهو وحكيت له ما تعرضت له بالأمس فأبدى أسفه.
قلت: تصور أن هذا الفندق المكون من مبنيين لا يوجد به حارس ليلي، أو مطعم، ولا أري به من عاملين سوى سيدة الاستقبال.
قال: كل المنشآت الحديثة تتعمد استخدام أقل عدد من العمال. كان يتكلم في بطء، وبصوت منخفض، ويستمع في انتباه، لكنه يشرد أحيانا. والظاهر أن اللهجة المصرية كانت غير أليفة بالنسبة له، فتفوته بعض المعاني.
قلت بالعربية الفصحى إني لم أتناول الافطار بعد.
تطلع في ساعته وقال: نحن الآن في موعد الغداء. ماذا تحب أن تأكل؟ يوجد هنا مطعم يقدم الأكل الفرنسي والمغربي.
قلت: أفكر في شئ خفيف.
ـ إذن البلو سل. في شارع مولان أسيل. مكان للطلبة يقدم سلطات وسندوتشات.
قلت: أفضل كوبا من القهوة وكرواسون.
قال: أعرف المكان لذلك.
صعدت إلى غرفتي وأحضرت مظلتي، وحافظتي الجلدية، بعد أن اطمأننت إلى وجود أوراقي والمخطوطة التي سأتحدث عنها. تركت البطاقة الممغنطقة عند الاستقبال. وشيعتني الموظفة بنظرة متفكهة.
خرجنا إلى الشارع الهادئ. كان المبني الفندقي بطرازه الحديث نشازا بين بقية المباني القديمة. لحظ انطباعي فقال: بواتييه مدينة قديمة جدا، تأسست قبل الامبراطورية الرومانية، وما زالت أغلب مبانيها تحتفظ بالطراز الروماني فضلا عن القوطي. رغم ذلك كان المرور منظما جيدا. وأماكن الانتظار بحذاء الأرصفة محددة و متعددة الأشكال والقواعد. أضاف ونحن نخطو فوق رصيف نظيف: إذا أردت مرة أن تجرب الأكلات الفرنسية المتنوعة فهناك مطاعم عديدة بشارع كارنو. لكن ربما لن تجد فرصة، لأن وجبتي الغذاء والعشاء مرتبتين لجميع المشاركين. على العموم يجب أن تذهب إلى هذا الشارع فهو مكتظ بالبارات التي يملؤها الطلبة.
ولجنا مقهى قديما غلفت جدرانه بالخشب البني اللون. وفي الأركان دواليب مليئة بالكتب أعطت المكان طابعا بيتيا. جلسنا في جانب يسمح فيه بالتدخين. قال: ألاحظت هذه الكتب؟
تطلعت إليها متفحصا: ماذا بها؟
قال: إنها مجرد قطع من الحجارة علي شكل مجلدات.
أحضرت لنا فتاة سمراء باسمة كوبين من القهوة و قطعة كرواسون لي.
حدثتها بالعربية متسائلا: أنت عربية؟
أجابت: نعم. جزائرية. طالبة في الجامعة.
اكتسب ربيع فجأة شخصية البروفيسور، وقال لها في تعال: ماذا تدرسين؟ ضحكت فبانت فجوة بين أسنانها داخل فمها. قالت: الفلسفة.
اقترب منا رجل نحيل متوسط القامة أسمر اللون، امتلأ وجهه بالغضون. وكان يحمل في يده كوبا من القهوة. دعاه ربيع إلى الجلوس معنا فاستجاب.
قدمنا إلى بعض وعرفت أنه أستاذ عراقي في قسم الأنثروبولوجي يدعي عبد الكريم نصيب.
سأله: كيف حالك الآن؟
أجاب: لا بأس.
التفت ربيع إلىّ قائلا: عبد الكريم فقد ذاكرته تماما منذ شهور. كان يسير في الشارع، ثم وقع، واستيقظ في المستشفى، ومضت أيام عديدة قبل أن يستعيد ذاكرته.
سألته عما إذا كان ذلك قد حدث له من قبل.
قال: مرة واحدة أثناء ضرب بغداد في حرب الخليج.
أمطرته بالأسئلة: عن عمره (40 سنة) وعما إذا كان متزوجا (من فرنسية).
ـ أولاد؟
ـ كلا. لا أريد تحمل مسئولية إحضارآخرين إلى هذا العالم. وزوجتي تشاركني الرأي.
ـ هل أنت مدرك للسبب فيما تتعرض له من حالات؟
ـ أجل.
لم تمنعني إجابته من ممارسة هوايتي في التحليل.
قلت: فقدان الذاكرة قد يعني رغبة في الانسحاب أمام الضغوط الخارجية. الغربة. الزوجة. عدم التحقق المهني والجنسي.
قال: أنت محق فيما يتعلق بالغربة. أما بالنسبة لزوجتي فنحن متفاهمان جيدا منذ البداية.
ـ آه! هنا النقطة! فاحتياجاتنا تتغير، وقد ينمو أحد الطرفين في اتجاه معاكس للطرف الآخر. ثم هناك احتمال آخر. أن تكون هناك نزعات معينة ينجح المرء في كبتها بعض الوقت، وبالتدريج تضعف السدادة حتى تنخلع، ويحدث هذا عادة بالقرب من الخمسين.
استدركت فجأة شاعرا أني تماديت في المحاضرة: ليست هناك قاعدة فربما قبل ذلك.
وكأنما أراد تجنب أسئلتي وتعليقاتي فغير موضوع الحديث. بسط الصحيفة التي يحملها وقال: الاضطرابات امتدت إلى روين وايل دي فرانس وأحرق الشباب 315 سيارة.
قلت: كنت أظنها قاصرة علي باريس.
قال: كان الأمر كذلك في البداية. فباريس بها أكبر تجمع من المهاجرين وأبنائهم(3).
سألتهما: لم يحدث شئ في بواتييه؟
قال ربيع: حتى الآن لا.
سألت: هل هناك تيارات إسلامية خلف الأحداث؟
قال عبد الكريم: رئيس المخابرات الفرنسية نفى أن يكون للإسلام الراديكالي علاقة بها.
انتهى من شرب القهوة فاستأذن منصرفا.
سأله ربيع دون تكلف: هل دفعت حسابك؟ سأقوم بذلك إن كنت لم تفعل.
أكد عبد الكريم أنه فعل. فقال ربيع في بساطة: لا بأس.
ثم أضاف بصوت خافت عندما ابتعد العراقي: العرب يستهبلون أحيانا، فلا بد من تنبيههم.
اكتشفت في الحديث معه وجود أشياء مشتركة بيننا رغم فارق السن الذي يقارب العقدين. فكل منا عانى وما زال من فقدان الأم في سن مبكرة وقضى حياته في البحث عنها.
قال: زوجتي صاغت نفسها في دورالأم. لكنها امرأة صعبة.
فرنسية عجفاء! التقطته عندما جاء من عشرين سنة، ولأنه لم يكن يعرف غيرها، أو لأنها أول تجربة له مع المرأة الأوروبية، تزوجها وأحال كل منهما حياة الآخر جحيما!
أبديت إشفاقي على صعوبة الحياة بالنسبة للمرأة عندما تتقدم في السن، وتعتريها الأوهام والمخاوف. وضربت مثلا برعب الإصابة بسرطان الثدي واستئصاله.
قال: زوجتي تقول مازحة إنها لن تخسر شيئا لأن صدرها صغير.
تطلع في ساعته وقال: حان الوقت لأن نذهب إلى حفل الاستقبال.
أخذني في سيارة رينو صغيرة إلى إدارة الجامعة في مركز المدينة، ومبنى قديم تعلوه يافطة من القماش بهذه العبارة:

بونابرت في مصر
أضواء عربية جديدة
نوفمبر 2005

(5)

ولجنا قاعة واسعة ازدحمت بالمشاركين الذين وقفوا في حلقات بجوار مائدة طويلة حفلت بالمرطبات والمشروبات. تعرفت بينهم على البرديسي، الأستاذ الفلسطيني في جامعة برنستون الأمريكية الذي التقيت به من قبل في سان فرنسيسكو(4). ولاحظت أنه أضاف مزيدا من الكيلوات إلى جسده الضخم، وتدلى جانب من كرشه فوق حزام بنطلونه. كان هناك اثنان آخران التقيتهما في ندوات مختلفة، أحدهما لبناني بشعر أبيض ناصع. والاخر سوري بعوينات منزلقة فوق أنفه. وتعرفت على مفكر مغربي من صوره المنشورة في الصحف. وكان يكتب فيها باستمرار مدافعا عن القضية الفلسطينية.
كما كان هناك مصري يدعى رفيق سليمان ألقاه لأول مرة، وكنت سمعت عنه كثيرا. فقد طرده السادات من الجامعة المصرية لاتجاهاته اليسارية واستقر في باريس. كان متوسط القامة، ذا شعر أشعث، يتخلله اللون الأبيض بكثرة، ويرتدي عوينات بالية الإطار. وكنت أحترم عمله، رغم أني لم أوافق على بعض أطروحاته الخاصة بتفسير مراحل معينة من التاريخ المصري.
وقفنا في شبه دائرة من الأساتذة الفرنسيين والعرب، ولحظت شخصا أسمر اللون ممشوق القامة بقصة شعر عسكرية، وكتفين قويتين، ثبتت في أذنه سماعة. خاطب المفكر المغربي بلهجة شامية، وبصوت عال بلغ مسامع الجميع: كانت برقية التهنئة التي أرسلتها لرئيس إسرائيل جيدة ولقت صدى طيبا.
اصفر وجه المغربي وتراجع خطوة إلى الوراء وهو يتلفت حوله محرجا.
سألت ربيع عن المتكلم فقال إنه لا يعرفه. وتبادل الهمس مع فرنسي بجانبه، ثم همس لي بعد قليل إنه من السفارة الإسرائيلية في باريس.
ـ وماذا يفعل هنا؟
ـ إنه مشارك في مداخلات الندوة.
قلت: لم يرد له ذكر في قائمة المشتركين.
ـ القائمة الكاملة لم تعلن إلا منذ دقائق.
اتخذ عدد من الفرنسيين أماكنهم خلف منصة في صدر القاعة. واستدرنا نحوهم. كانوا يرتدون جميعا ملابس كاملة، ويبدو من هيئتهم أنهم من الرسميين. وبالفعل كان أول المتحدثين مدير الجامعة. وألقى كلمة طويلة ترحيبا بنا. وذكر أن جامعة بواتييه تأسست عام 1431، وهى ثاني أقدم جامعة في فرنسا، واستضافت بين طلابها وأساتذتها كل من رابليه، وديكارت، وفرانسيس بيكون، وميشيل فوكو. وهى موزعة بين ثلاثة مراكز رئيسية، أحدها موقع جديد في أطراف المدينة. وقال إن بها 27 ألف طالب وهو رقم قياسي لمدينة لا يزيد تعداد سكانها عن تسعين ألفا.
تلاه ممثلو الجهات المختلفة التي شاركت في تنظيم المؤتمر: مديرة معهد الدراسات الشرقية، وعميد كلية الاداب، ومحافظ المدينة، وممثل البلدية، ومدير المكتبة العامة. كانت كلماتهم روتينية مملة، وحريصة على تأكيد التعاون بينهم، وأن العمل الجماعي هو المسئول عن نجاح المؤتمر (الذي لم يبدأ بعد!). وتذكرت مؤتمرات البلدان الاشتراكية، وغرامها بأمثال هذه المواقف. وأنهى مدير الجامعة الاستعراض قائلا: يكفي هذا الآن فلابد أنكم اشتقتم لتجربة أكلات بواتييه.
ضحكنا جميعا في ارتياح، وشرعنا نتحرك في اتجاه الباب. وكنت أبحث بعيني عن ربيع، عندما تقدم مني رجل نحيل يرتدي بنطلون جينز أزرق وسترة صوفية من الكاروهات. كان له وجه مستطيل وأنف مدببة. وقدم لي نفسه بعربية جيدة على أساس أنه أستاذ في جامعة إكس الفرنسية.
ناولني بطاقة باسم جاك لادو، واعتذرت بأني لا أحمل معي بطاقات.
قال: لكن معك المخطوطة التي ستتحدث عنها؟
أجبت: نعم. صورة منها.
قال: أيمكنني استعارتها؟
قلت بالطبع. لكني سأحتاجها عند الحديث.
فتحت حقيبتي وأخرجت المخطوطة وناولتها له.
أخذها شاكرا، وهو يقول: سأعيدها إليك في الصباح.
انضم إليّ ربيع عند المدخل. وعرفت منه أن اتصالات دارت في الكواليس مع منظمي المؤتمر، أسفرت عن الاتفاق على انسحاب الدبلوماسي الإسرائيلي مراعاة لمشاعر المشاركين العرب.
خرجنا إلى الطريق وندمت فورا على أني لم أجلب مظلتي. وبسط ربيع مظلة صغيرة الحجم، سرنا تحتها مسافة قصيرة.
ولجنا مطعما مكسيكيا فهاجمتنا روائح فطائر التورتيلا الطازجة. وكان النوادل يتحركون بخفة وسرعة حاملين أطباق الانشيلاداس التي يتصاعد منها البخار.
جاءت جلستي إلي جوار مجموعة من الأساتذة الفرنسيين تتزعمهم عجوز متصابية. كنت متعبا ومتوجسا من الحديث المحتوم: الأسئلة عما يجري في مصر، وعن الخطر الإسلامي. تجنبت أي احتكاك أو تواصل بالمرأة التي تجلس مقابلي، أوالكهل الذي جلس إلى يساري. لكنه قدم نفسه إلى قائلا إنه متخصص في تاريخ أسبانيا والبرتغال في العصور الوسطى. وبعد قليل بدأ يذكر الكلمات العربية الموجودة في اللغة البرتغالية. وأنقذني وصول الطعام.
حرص ربيع على الجلوس إلى مائدة أخرى، بجوارعدد من الأشخاص المهمين في الغالب، وامرأة أربعينية سمراء ذات شعر قصير، وبلوفر أسود ذي رقبة مطوية يضغط على صدرها. كانت متوسطة الطول، ممتلئة الجسم، ريانته، أزاحت شعرها البني إلي الوراء وجمعته خلف رأسها في خصلة على هيئة ذيل الحصان. وكان وجهها ملفتا للغاية. أهم ما فيه فم ممتلئ واسع يدعو للتقبيل، وعينان لامعتان عابثتان، بهما ظل لنظرة ساخرة أومتواطئة. وطفا وجه جمالات؟(5) على الفور في ذاكرتي.
غادرنا المطعم في جو بارد. وكان المطر قد توقف. عدنا سيرا على الأقدام إلى حيث ترك ربيع سيارته. سألته عن المرأة فقال إن اسمها إيزابيل، وهى مدرسة للأدب الألماني.
شعرت ببرودة غرفتي بمجرد أن دخلتها. وبحثت عن مفتاح التكييف وأدرته. فتحت التليفزيون فانهمرت علىّ الاعلانات. ثم جاء مسلسل بوليسي أمريكي. تنقلت بين أكثر من عشرين قناة. كانت أنباء الاضطرابات، وصور السيارات المحروفة، تتكرر في كل واحدة. استمعت شاردا إلي مقابلة مع مخرجة سينمائية ثم انتبهت عندما بدأ عرض فيلم غريب يصور وجه امرأة أثناء استمنائها. اقتصر التصوير علي وجه المرأة دون بقية جسدها. وركزعلي تعبير وجهها وهي تحاول استجلاب صورة ما في مخيلتها، ثم وهي تستجيب لها. وساهمت الموسيقى في إضفاء جو حسي جميل على المشاهد التي لم يكن بها ما هو مبتذل.
انتهى البرنامج، فخلعت ملابسي. غسلت أسناني وابتلعت قرص الدورة الدموية، وقرص آخر للدورة الهضمية، وثالث للجهاز العصبي. ثم استلقيت بين الأغطية. فكرت في ايزابيل ثم جمالات إلى أن غفوت.

(6)

استمتعت بحمام الصباح الساخن الجميل. ثم ذهبت إلي المقهى القريب فأخذت كرواسون وفنجان قهوة. ووفد عبد الكريم العراقي حاملا صحف الصباح. سألته عن الأخبار عندما انضم إلى.
قال: لا تسر. فقد امتدت الاضطرابات من باريس إلى بقية المدن. وأحرقت مئات المركبات، وقتل شخص واحد على الأقل بواسطة الثائرين. كما اعتقل منهم عدة مئات.
لحظت أنه يرتدي قميصا أزرق، وربطة عنق حمراء، وحذاء من جلد الثعبان الرمادي. رآني أرمق ملابسه في استغراب فقال: كنت أستقبل أختي القادمة من بغداد. تصور أني لم أرها منذ 23 سنة. لم تتمكن من مغادرة العراق إلا بعد سقوط صدام.
انتقل الحديث إلي وحشية النظام البعثي، والجرائم التي ارتكبها صدام ضد الشيعة والأكراد. واستعرض تفاصيل الاجتماع الشهير في سنة 1979 الذي رأسه صدام في بزة بيضاء، مطلا من منصة مرتفعة على قاعة امتلأت بقادة حزب البعث. وكان ينادي أسماءهم واحدا بعد الاخر فيصيح الواحد منهم: والله العظيم أنا مو خاين سيدي. لكنه يقتاد إلى خارج القاعة حيث يعدم في الحال.
قال بلهجته العراقية الثقيلة: يومها أمسك برأس صديقه عدنان وأخذ يخبطها في الحائط حتى تفجر منها الدم.
قلت وأنا أزدرد قهوتي: يخيل إلى أن هناك شيئا من الشراسة في سلوك العراقيين بشكل عام.
لم يعقب وظل صامتا حتى حسبته قد غضب ثم قال لي: في وقت من الأوقات تبنى صدام وجود العمال المصريين في العراق، مما أثار حفيظة العراقيين وانتشرت الاعتداءات عليهم.
ـ أذكر ذلك. كانت التوابيت تصل يوميا إلى مطار القاهرة.
قال: كان قتلهم يتم بتدبير المخابرات العراقية، من أجل امتصاص غضب العراقيين. فقد اشتهر المصريون بفهلوتهم، ووسائل تحايلهم على الكسب. تعرف ماذا كانوا يفعلون؟
لم ينتظر ردي ومضى قائلا: عندما لا يجد أحدهم عملا؟ يقف أمام إدارة الجوازات والبصمة، حاملا منشفة وصابونة ودلوا به مياه ليغسل أيدي الخارجين مقابل دينار للفرد.
أدركت أنه تعمد أن يرد لي الصاع صاعين فلم أعقب بشئ. كان ذاهبا إلى المؤتمر فمشينا سويا حتى معهد الدراسات الشرقية الذي تعقد به جلساته. وهو مبنى قديم بجوار كنيسة بالغة القدم. ولجنا قاعة واسعة امتلأت بالمقاعد وازدانت جدرانها بلوحات خطية تحمل تواريخ الحملة الفرنسية على مصر. تبدأ بالغزو في 2 يوليو 1798 ثم رحيل نابليون بعد سنة في 22 أغسطس 1799 حتى الانسحاب التام للجيش الفرنسي في 15 يوليو 1801.
هرع إلىّ أستاذ جامعة إكس وأعاد مخطوطتي شاكرا. ولاحظت أن عينيه حمراوان من قلة النوم. وبدا لي الحضور مزيجا من الطلبة والأساتذة. ولم أر أثرا لايزابيل. كما لم يكن هناك أحد من رسميّ الأمس.
صعدت إلى المنصة ووجدت المقعد المخصص لي إلى يمين مديرة المعهد التي رأست الجلسة. وفوجئت بالدبلوماسي الإسرائيلي جالساًً إلى يسارها.
ألقت المديرة كلمة قصيرة قدمتني فيها. ثم تركت لي مجال الحديث.
شعرت بالتوتر يسود القاعة. وبدأ قلبي يخفق بقوة وتملكني إحساس العجز الذي طاردني طول حياتي ودفعني للتهرب من المواجهة. لكني تفانيت في مقاومته. استهللت كلمتي بالإشارة إلي تركيب المشاركين ملاحظا غياب فعاليات هامة مثل باحثة مصرية لها دراسات عديدة عن الحملة الفرنسية، بينما يوجد البعض "الذين ليسوا عربا ولا مستشرقين أو باحثين".
كانت إشارتي واضحة للدبلوماسي الإسرائيلي.
ساد صمت ووجوم، ثم طلب الأستاذ اللبناني ذو الشعر الأبيض الكلمة من القاعة، وقال إنه يستغرب وجود موظف بالسفارة الإسرائيلية في مؤتمر علمي يناقش الدراسات العربية. وأضاف: علي حد علمي إسرائيل ليست دولة عربية، بل وتحتل دولا عربية. وأنا أحتج علي المعهد، لأنه لم يعلمنا بوجود الدبلوماسي الإسرئيلي، حتى نستطيع أن نقررالحضورمن عدمه.
طلب أستاذ آخر من جامعة الرباط المغربية الكلمة وقال: نحن لسنا ضد الحوار، ولكن هذا المكان ليس للحوار السياسي. إننا نرحب بالصديق الإسرائيلي، لكن الجلسة الآن حول الدراسات العربية، وفي وسعه أن يجلس مع الحضور كمستمع.
وقف رفيق سليمان قائلا: الموقف الذي أبداه زميلي اللبناني ليس موقفا فرديا، وإنما هو موقف الأساتذة العرب والمشاركين في الندوة.
انتفض البرديسي واقفا وصاح: أنا لم أتفق مع أحد، ولم يستشرني أحد، وأنا ضد كلام الزميل اللبناني الذي يزج بالقضايا السياسية دون موجب.
أخذت مديرة المعهد الكلمة فقالت إن دعوة الدبلوماسي الإسرائيلي كانت استجابة لطلب من سفير إسرائيل في باريس بالأمس.
ناولتْ الميكروفون للإسرائيلي فقال على الفور: لقد ترك جيش نابليون بصمات الثقافة والتكنولوجيا في مصر وفلسطين التي كان لها أكبر الأثر في إعادة الحياة للشرق الأوسط.
تصاعدت همهمات من القاعة فتوقف عن الحديث ثم قال: أنا أحترم رأي الباحثين العرب، ورغبتهم في ألا أشارك معهم في موضوع ذي أهمية للجميع، وعموما أنا على استعداد للإجابة عن أى سؤال. ساد الصمت والترقب. ولم يتطوع أحد للحديث فأعطت المديرة الكلمة لبروفيسور فرنسي في جامعة السوربون. كان في منتصف الخمسينيات وتحدث طويلا عن حرية التعبير والتسامح والانفتاح على الآخر، ضاربا المثال بنفسه إذ قال إنه ولد يهوديا في جنوب أفريقيا، لكنه لم يسجن نفسه في هذا الإطار. وتمنى أن يتخلص المثقفون العرب من إصرارهم علي إلحاق صفة "العربي" بكل شئ.
طلب اللبناني الكلمة، واستنكر اللهجة الأبوية التي استخدمها المتحدث، فاعتذر على الفور.
أعطت رئيسة المنصة الكلمة لربيع، فدافع عن المعهد قائلا إن من من حقه أن يوجه الدعوة لمن يريد. وهنا قاطعته الرئيسة قائلة إن الموضوع حسم.
توقعت أن يكون دوري في الكلام قد حان، لكن مديرة المعهد أخذت الميكروفون. كانت ممتلئة الجسم حد البدانة، ذات وجه مستدير لطيف الملامح. تحدثت طويلا عن تاريخ المعهد، وعن الموتمرات التي نظمها، ومساهماته في الاحتفال منذ سبع سنوات بمرور مائتي سنة على الحملة الفرنسية على مصر. كان واضحا أنها تحاول إزالة الأثر الذي ترتب علي مناقشة موضوع الدبلوماسي الإسرائيلي. عندما انتهت تطلعت إلى ساعتها وقالت: كان المفروض أن نستمع إلى البروفسور شكري، لكننا أضعنا وقتا طويلا، وقد اقترب موعد الغداء ولهذا أقترح رفع الجلسة.
لم يعترض أحد فغادرنا القاعة. اقتربت من رفيق سليمان وحييته. أثني على كلمتي التي وضعت الأمور في نصابها ـ كما قال ـ ثم سألني: أخبار مصر إيه؟
قلت: زي ما هي.
وضع يده على مرفقي وسرنا معا. مرت بنا سيارة تحمل قاربا فوق ظهرها.
قال: هل رأيت القارب؟ في الغالب سيستعمل مرة واحدة في السنة. لكن الفرنسي مهتم بالحصول عليه، ويعتبر ذلك انجازا. ويشكو في زهو داخلي من متاعب اقتنائه: الرخصة والضريبة والصيانة... إلخ.
جذبني من ذراعي عندما أوشكت أن أتعثر عند حافة الرصيف، وهز رأسه عدة مرات متمتما: إنه الفراغ الداخلي. الواحد منهم يحاول ملء هذا الفراغ بامتلاك مزيد من الأشياء، والاشتراك في سباق حولها، دون احتياج حقيقي. وقد حاول مرة أن يملأه بالجنس إلي أن انفجر طاعون الإيدز.
سكت ثم قال: ما علينا. إحكيلي عن مصر.
ـ أكيد تعرف كل شئ من الصحف.
ـ فعلا. انهيار العمارات، وسقوط الطائرات، والتفجيرات الإرهابية.
حدثته مع ذلك عن ارتفاع الأسعار، والفساد، وتدهورالتعليم في المدارس والجامعات، وانتشار العشوائيات، وكابوس السحابة السوداء، واختناق المرور، والأغذية الفاسدة، والمنتجات الزراعية المسرطنة، وطوابيرالخبز.
قلت: هل تحب حديث الأرقام؟ هناك 38 مليون مصري يشربون مياها ملوثة بالصرف الصحي و6000 يموتون كل سنة في حوادث الطرق و42 مليار جنيه ضاعت في قروض بلا ضمانات من البنوك. وهناك شخص واحد احتكر حديد التسليح، ورفع سعره من 1200 جنيه للطن إلى 3150.
لم أمل من حديث الأرقام التي أحفظها عن ظهر قلب: في السجون عشرون ألف معتقل دون محاكمة. وبلغت ديون مصر 674 مليار جنيه ولدينا 6 ملايين عاطل، ويعاني 21 % من السكان من فيروس سي، وتحدث مائة ألف حالة سرطان كل عام، ويشكو الملايين من الفشل الكلوي. تصورت أني أشبعت جوعه إلى المعلومات، وأننا سننتقل إلى حديث آخر، لكنه أبدى عجبه: كيف يتحمل الناس كل ذلك؟
ـ نحن نملك مقدرة كبيرة علي التحمل. لكن هذه القدرة بلغت أقصاها. ألم تسمع عن المظاهرات التي هتفت ضد الرئيس؟ أساتذة الجامعة انضموا إلى مقاطعة الاستفتاء على التعديل الدستوري، وعلى انتخاب مبارك لدورة رئاسة خامسة. والقضاة تحدوا السلطة. وصار من المألوف أن تجد مانشيتا في صحيفة معارضة يقول إن الحكم يحتضر، وآخر يدعو إلى محاكمة الرئيس، ومصادرة ثروته بدلا من انتخابه. واتسعت دائرة المعارضة على الإنترنت.
ضحكت قائلا: أحد المدونين على النت قال إن استبدال الرئيس بغيره سيثير مشكلة كبيرة لأن حوالي 80% من المؤسسات الحكومية والميادين والمدارس والحدائق والساحات الشعبية والكباري تحمل اسم الرئيس، فلو تغير "حتدخل البلد في بعضها" ـ على حد تعبيره ـ إذ سنغير كل شئ باسم الرئيس الجديد. والحل أن نختار رئيسا جديدا اسمه مبارك أيضا!
ولجنا مطعما في قبو كنيسة يقوم بالخدمة فيه صبيان في ملابس الرهبان. وكان أغلب الجالسين حول مائدة طويلة أساتذة جامعيين تدورأعمارهم حول الستين.
جلست بين رفيق وعبد الكريم. كنت قد وقعت في الفخ.
قال رفيق: قرأت مقالا للدكتورالذي يدعي أن كافة الاكتشافات العلمية الكبرى سبق ورودها في القرآن الكريم. قال إن زلزال تسونامي الذي راح ضحيته مئات الالاف من البشر، هو عقاب من الله على الذنوب التي ارتكبوها.
أدلى عبد الكريم بدلوه: وصفر المونديال.
قلت: اقتراح أن تقوم مصر بتنظيم المونديال هو المفاجأة، وليس الصفر. فمعناه أن النخبة الحاكمة لا تدرك أن التدهور الشامل لا يشجع على نجاح تنظيمه.
قال رفيق: ألا ينتبه أحد إلى أهمية تحقيق اكتفاء ذاتي من المحاصيل الاستراتيجية وخاصة القمح؟
قلت: ليس ذلك في مصلحة مافيا المستوردين. نحن نستورد الآن كل شئ: القمح والذرة والألبان والزيت والسكر والعدس والفول وحتى الترمس. كل مكونات صناعة الدواجن مستوردة من الخارج بدءا من الكتاكيت.
لاحظت أن المائدة هي الوحيدة المشغولة. وذكرت ملاحظتي لربيع فقال: لولا المؤتمر ما جاء هنا أحد في هذا الوقت من السنة. فهو يعتبر مناسبة لتنشيط أوجه الحياة في المدينة، من مطاعم، وفنادق، وحوانيت، ومواصلات.
أقبلت على الطعام المكون من قطعتي سمك وأرز ومشروم، ولمحت في طرف المائدة رأسا شقراء الشعر، عقد خلفها على هيئة ذيل حصان، فوق وجه وسيم بعينين زرقاوين، وأذنين يتدلى من كل منهما قرط ذهبي، وشفتين ممتلئتين ممطوطتين تمنيت لو أتيح لي تقبيلهما.
اشترك أستاذان فرنسيان أمامنا في مناقشة حول أحداث الشغب، وقال أحدهما إن الجميع كان راضيا عن الأحوال. لكن الأحداث أثبتت أن هناك شوقا لقيم ثورة الستينيات. وأبدى الثاني تشاؤمه. قال إن ابنته شاركت في مظاهرات، ثم أصابها اليأس من إمكانية فرض أى تغيير. وعاد الأول يؤكد أن العالم سيتغير لأن التاريخ يتألف من دورات.
أكلنا بسرعة وأنا ما زلت أتأمل الرأس الشقراء. وعندما شرعنا في مغادرة المائدة نهضت الرأس الشقراء كاشفة عن صدر مستو بلا بروز. ثم ذراعين مفتولتي العضلات. وهنا أدركت أنني أمام رجل!
عدنا إلى قاعة المعهد. واتخذت مكاني إلى المنصة بجوار مديرته. ولم أر أثرا للدبلوماسي الإسرائيلي بين الحاضرين.
طلب شاب فرنسي من القاعة الكلمة. وقال إنه يتساءل عن الدافع لعقد مؤتمر بهذا العنوان في هذا التوقيت.
أجابت مديرة المعهد: لقد جرت احتفالات كثيرة بمرور مائتي عام على الحملة، أهمها ندوة علمية كبيرة بالمعهد الفرنسي، والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في يونيو 1998 عنوانها "الحملة علي مصر مشروع تنويري" أشرف علي تنظيمها ونشر أعمالها أكاديمية العلوم وأكاديمية الاداب. لكنها لم تكن موفقة تماما، إذ قاطعها أغلب الأساتذة المصريين. و نذ ذلك الحين ظهرت أبحاث واكتشافات جديدة وخاصة في العالم العربي.
لم يقتنع الشاب بهذه الإجابة وقال: أخشى أن يكون السبب هو الاحتفال بمرور مائتي عام على تتويج بونابرت إمبراطورا على فرنسا في 1805. وهي مناسبة لا أظن أحدا من الفرنسيين أو العرب يسعد بالاحتفاء بها. فعلينا أن نتذكر دائما أنه بعد تتويجه ألغى الصحف الحرة، وأعاد الرق الى المستعمرات الأمريكية، وجرد فرنسا من كل الحريات، وعندما انهار حكمه في 1814 ترك 25 ألف سجين، بينما كان عدد السجناء في سجن الباستيل عند اقتحامه سنة 1789 لا يزيد على خمسة.
ارتبكت مديرة المعهد قليلا وخلعت نظارتها، وأدارتها بين يديها، ثم ارتدتها من جديد، وقالت: إنها مجرد مصادفة، كما أنه ليس من الضروري أن تكون المؤتمرات العلمية مرتبطة بمناسبة ما.
ساد الصمت وأتيح لي أخيرا أن أتحدث.
قلت إن ورقتي تتناول مخطوطة اكتشفت حديثا لأحد تلاميذ المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الجبرتي، وقمت بتحقيقها.
شرحت كيفية الاكتشاف، وخطوات التحقيق، الذي قمت به للتأكد من صحة المخطوطة ثم استطردت:
ـ تتناول المخطوطة يوميات تلميذ للجبرتي لا نعرف اسمه. وهو من جنوب مصر جاء إلى القاهرة هربا من الطاعون والتحق بخدمة تاجر فرنسي، ثم تلقى دروسا على الشيخ الجبرتي في الأزهر وضمه الشيخ إلى بيته تلميذا له عندما لمس نجابته. وتبدأ المخطوطة بيوم معركة إنبابة في 22 يوليو 1798 التي تم بها غزو القاهرة. ثم تصف الأيام الأولى للاحتلال الفرنسي وكيف قرر الجبرتي تأليف كتاب بعنوان "مدة الفرنسيين في مصر". وقام التلميذ بتقليده، فسجل يومياته هو الآخر. وقلت إن يوميات التلميذ تلقي الضوء على شخصية الجبرتي. فقد صار عضوا في الديوان الذي أنشأه الفرنسيون من أعيان القاهرة، وبرر ذلك بأنه سيكون قريبا من مصادر الأخبار، لمصلحة كتابه، ويتلافى بطش الفرنسيس. كما أنه لم يتعاطف مع حركات التمرد والثورة، وفي نفس الوقت حافظ على صلاته بالمماليك المطاردين والفارين.
وبفضل إلمامه باللغة الفرنسية يلتحق صاحب اليوميات بمكتبة المعهد، حيث يتعرف بزوجة ضابط فرنسي أصبحت فيما بعد عشيقة له، ولنابليون أيضا. ومن خلال هذه العلاقة نتلمس جوانب من شخصية القائد الفرنسي. كما نرى اختلاف الثقافتين فيما يتعلق بالموسيقي وبالموقف من المرأة. فبينما كانت جارية الجبرتي السوداء، تستسلم للتلميذ دون كلمة، قامت علاقته مع الفرنسية على أساس متحضر. ويعمل الجبرتي على إلحاق تلميذه بالحملة السورية، ليبعث إليه بأخبارها، لكنه لا يدون شيئا منها في يومياته. فقط الراوي الغامض هو الذي يفعل، فيعطينا صورة دقيقة لأحداث الحملة، وما ارتكبه بونابرت خلالها من مجازر وحشية، والأكاذيب التي كان يبعث بها إلى الحكومة الفرنسية، والديوان المصري، عن انتصاراته المزعومة. ويواصل الراوي يومياته حتى انسحاب الفرنسيين وعودة الأتراك والمماليك(6). وأشرت إلى أن خطاب المورخ الصغير مجرد من الحماسة العاطفية، ويميل إلى الاقتصار على ذكر الوقائع دون تحليلها، أوإضفاء صبغة وطنية أو دينية عليها.
وقلت: تنبع أهمية المخطوطة من أن مؤلفها يذكر الكثير من تفاصيل الحياة اليومية. ومنها تبرز صورة للبلد مختلفة عن الصورة التقليدية التي نشأنا عليها. فقد أجمع المؤرخون السابقون علي أن مصر كانت بلدا يسوده الظلام، وجلب إليه بونابرت الحضارة. لكن المخطوطة ترينا كيف كانت مصر في ذلك الحين محتكة بالعالم، من خلال التجارة الدولية، وأنها كانت تموج بالتيارات، وعلى شفا تغيير جذري أحبطته الحملة. كما تلقي المخطوطة أضواء على شخصيات مثيرة للجدل، مثل المعلم يعقوب القبطي، الذي تحالف مع الفرنسيين أملا في تحقيق ما أسماه "استقلال مصر". ومثل كفاريللي القائد الفرنسي، الذي لم تمنعه أفكاره الإنسانية من الدفاع عن الحملة وتبني رسالتها.
ضربت أمثلة أخرى عديدة للمنظور الذي التزمه المؤرخ المجهول، ثم أنهيت حديثي قائلا إني أسعى إلى ترجمة هذه المخطوطة إلى اللغة الفرنسية ليستفيد منها الجميع.

(7)

افتتح أستاذ جامعة إكس، الذي أخذ مني صورة المخطوطة، النقاش وقال وهو يبتسم لي معتذرا إن لديه شكوكا قوية في صحتها. صعقت ولم أشعر حتى بالهمهمة التي سرت وسط القاعة.
استطرد الأستاذ: أنا اسف لأن أقول هذا ولكن لدي أسباب قاطعة تؤكد ما توصلت إليه من استنتاج.
ران الصمت على الجميع.
قال إنه عندما سمع ـ أثناء التحضير للمؤتمر ـ بأن المخطوطة ستكون محل نقاش، تذكر حديثا دار بينه وبين أحد معارفه المتقدمين في السن. كان هذا الشخص على معرفة بإحدى قريبات بولين لسلي، عشيقة نابليون، وبطلة المخطوطة المعروضة. توقف لحظة محسوبة، وهو يطوف بعينيه بين الحاضرين. وبدا لي أنه مدرب جيدا على التحدث إلى الجماهير، والتأثير عليهم.
استأنف الحديث قائلا: الحاصل أني نجحت في الاتصال بهذه القريبة، وقمت بزيارتها، ووجدت لديها مجموعة من الكتب والمخطوطات القديمة، التي آلت إلى والديها بعد وفاة بولين. وبين هذه عثرت على ما أعتقد أنه المخطوطة الحقيقية لتلميذ الجبرتي.
تطلعت جميع الأنظار إلىّ. ورأيت في عيون البعض استهزاء بهذا المصري الدجال، الذي لم يستطع اكتشاف زيف المخطوطة، بل وربما يكون قد اختلقها اختلاقا. مضى الأستاذ قائلا: لقد قمت بتحقيقها بالطرق العلمية المعروفة. وتأكدت من نوع الورق وهو البندقي الذي كان معروفا أيام الحملة، إذ يحمل العلامات المائية لجمهورية البندقية. كما تأكدت من نوع المداد أيضا. وابتسم في انتصار وهو يستطرد: وبالأمس تفضل البروفيسور شكري بإعارتي صورة من مخطوطته، وسهرت حتى الصباح أقارن بين المخطوطتين.
توقف لحظة مدركا مدى الآهتمام الذي أثاره لدى الحضور.
قال: هناك بالطبع أوجه شبه كثيرة بين المخطوطتين، فهما لشخص واحد هو تلميذ الجبرتي بالتأكيد. لكن أيهما هي المخطوطة الأصلية؟
أهمية هذا الأمر أن المخطوطة التي حصلت عليها من قريبة بولين، لا توجد بها أي اشارة إلى علاقة بولين الجنسية بتلميذ الجبرتي، ولا إلى المجازر المزعومة للجيش الفرنسي في سوريا.
ناولني مخطوطته قائلا: لا مانع عندي من أن يتولى الأستاذ فحصها.
رفعت الجلسة ربع ساعة وبينما كانت القاعة تطن بالأحاديث الجانبية. انتحينا جانبا أنا والبروفيسور لادو، ومديرة المعهد، وشخص آخر. تناولت مخطوطته وتفحصتها بعناية.
كان الغلاف بلا عنوان ومن الكرتون السميك المغلف بورق مزركش. والكعب من الجلد الأسود، وبوسط الغلاف من الطرف شريط رفيع من القماش لغلق دفتي الدفتر بإحكام، لكنه متآكل. أما الورق فكان مجموعة ملازم مصفرة اللون بسبب القدم ثبتت معا بغرز من خيط الكتان. تماما مثل مخطوطتي.
رفعت المخطوطة وبسطت إحدى ورقاتها في مواجهة الضوء. لم يكن من العسير تبين العلامة المائية المؤلفة من شعار جمهورية البندقية، والتي تنتمي إلى عصر الجبرتي، كما هو شأن ورق مخطوطتي.
قلبت الصفحات برفق. لم يكن لدي شك في أن الخط هو نفسه الذي كتبت به مخطوطتي، كما هو شأن المداد الذي يبدو من النوع المطبوخ. كانت أوجه الشبه بل التماثل بين المخطوطتين عديدة. فقد استخدمتا اسلوب "التوريق" حيث يتم الترقيم بالورقة وليس بالصفحة، كما نعهد الآن. وتأخذ الورقة الواحدة بوجيها رقما واحدا. وكانت الصفحات مسطرة بالقلم الرصاص، وفي كثير من الأحيان لجأ المؤلف إلى تذييل الصفحة، التي أنهي كتابتها، بأول كلمة سيبدأ بها الصفحة التالية، وهو ما يسمي بأسلوب "التلحيق" للربط بين الفقرات. وفي المخطوطتين تبدأ كل فقرة بتاريخ ميلادي. ولا توجد مقدمة، أو تعريف بالكاتب، والنهاية مقتضبة، كأنما لم يكن المؤلف قد انتهى من عمله.
ولم ألبث أن تبينت أوجه الخلاف بين الاثنتين. فبينما كان عدد صفحات مخطوطتي يبلغ ثلاثمائة صفحة، اقتصرت المخطوطة الجديدة علي مائتين وخمسين صفحة. وتوقفت عند مدونة 4 مارس 1800، عشية رحيل بولين من مصر نهائيا. كما كانت هناك صفحة مكررة، كأنما نسى المؤلف أنه كتبها. وكانت مخطوطتي تخلو تماما من أى تكرار.
وأوحى لي الاكتشافان بفكرة عن ماهية المخطوطة الجديدة. قلبت صفحاتها بتمعن، وتوقفت عند بعض المواضع، وقارنتها بما ورد في مخطوطتي. وضعت المخطوطتين جانبا وقلت: سأكتفي بهذا القدر من الفحص الأولى مؤقتا، وأرى أن نعود إلى المنصة.
استعدنا مقاعدنا، وانتظرت المديرة حتى هدأت القاعة تماما، ثم قالت: لقد فحص البروفيسور شكري مخطوطة البروفيسور لادو وسنستمع الآن إلى تعقيب منه.
قلت: لا شك عندي أن المخطوطة التي اكتشفها البروفيسور هي مخطوطة أصلية، كما هو شأن المخطوطة التي اكتشفتها. السؤال إذن هو تفسير اختلاف النص بين الاثنتين: فعدد الصفحات مختلف في كل منهما. لكن ليس هناك ما يدل على تمزيق بعض الصفحات، أو اقتطاعها. فتسلسل الصفحات سليم تماما، في كل من المخطوطتين. ومن ناحية أخرى غابت عن مخطوطة البروفيسور تفاصيل معينة وردت في مخطوطتي.
لقد حدد البروفيسورلادو هذه التفاصيل بموضوعين: الأول هو الحديث عن علاقة المؤلف بعشيقة نابليون، والثاني هو التفاصيل الخاصة بالمجازر التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الحملة السورية. وفيما يتعلق بالنقطة الثانية فقد وردت تفاصيل هذه المجازر في عديد من الكتب. قلبت بين أوراقي ثم استخرجت إحداها، واستأنفت الحديث: أمامي هنا ما ذكره الميجور ديتروا أحد قادة الجيش في مذكراته. فبعد أن افتخر ببسالة الجنود عند اقتحام مدينة يافا، "وبرباطة جأش" قائدنا الأعلي وضباط أركان حربه وحكمتهم، مضى قائلا: "حالما استولى هؤلاء الجنود البواسل على المدينة ودخلوها، أعملوا السيف في نحو ألفي جندي من الحامية، كانوا يحاولون التسليم، وراح الفرنسيون يقتلون كالمجانين طول الليل حتى الصباح".
وضعت الورقة جانبا وتناولت مجلدا صغيرالحجم: معي بالصدفة مذكرات الضابط جوزيف ماري مواريه، التي نشرتها دار بيير بلفون في باريس سنة 1984(7). وفيها وصف بالتفصيل الحملة السورية في فبراير 1799 وما جرى بها من أعمال وحشية. لا مفرإذن من اعتبار مخطوطتي أكثر قربا من الواقع التاريخي من مخطوطة البروفيسور لادو.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فقد ورد ذكر عشيقة نابليون في أغلب المراجع المعتمدة. ووصفت هذه المراجع كيف بدأت العلاقة بينهما عندما أراق أحد ضباطه فنجانا من القهوة على ثوبها، وكيف تركها بونابرت خلفه عندما غادر مصر. لكن هذه المراجع لم تتحدث حقا عن علاقة المؤرخ الصغير بها. لم يملك لادو نفسه فصاح: هذا يؤكد أن أمرها مختلق. ويطعن في مصداقية المخطوطة كلها. لم أعبأ بمقاطعته واستطردت: هذا الأمر بالذات يقودنا إلى استنتاج هام. فلماذا لا تكون مخطوطة البروفيسورلادو منقولة عن مخطوطتي؟
قاطعني مرة أخري: ليس هناك ذكر لاسم الناسخ، كما هو مألوف في هذه الحالات.
خاطبته مديرة المعهد في حزم: من فضلك. يمكنك أن تتكلم بحرية بعد أن ينتهي.
استأنفت حديثي: عندما رأيت نوع الورق، والمداد، وتشابه كثير من الفقرات، فكرت أنها نسخة منقولة أُسقط منها عن عمد بعض التفاصيل. لم تكن أجهزة التصوير قد اخترعت بعد أيام الجبرتي. وكانت الطريقة الوحيدة لاستنساخ الكتب هي النسخ باليد. ولما كان الخط واحدا في المخطوطتين، فلا شك أن المؤرخ الصغير هو الذي قام بالنسخ.
توقفت لحظة مستعينا بنفس أساليب البروفيسور لادو. ثم تناولت مخطوطتي وقلبت صفحاتها بحثا عن موضع معين ثم قلت: يقول المؤرخ الصغير إن بولين طلبت منه الاطلاع على ما يكتبه من يوميات. ولا يذكر لنا بعد ذلك ما فعله. هل أعطاها لها أو لم يفعل؟ ويحق لنا أن نستنتج الآتي: لقد كان مشغوفا بها ويريد أن يبين لها أهميته، وأنه ليس مجرد تابع للجبرتي. لهذا استجاب لطلبها. لكنه لم يكن بوسعه أن يطلعها على النص الكامل لمخطوطته. فأعاد كتابتها حاذفا منها ما يمكن أن يثير استياءها، وهو الجزء الخاص بعلاقتهما. كما حذف أية إشارة إلى المذابح الفرنسية في سوريا، تحسبا من وقوعها في يد فرنسية أخرى، مما قد يعرضه للأذى.
تطلعت إلي الحاضرين مزهوا باستنتاجي كما فعل لادو بالضبط. استطردت: إن المخطوطتين تشيران إلى خوفه على أوراقه، وإلى أنه كان يلتمس لها دائما المخابئ.
أمامنا إذن مخطوطتان صحيحتان لنفس الكاتب، الذي تعمد إخفاء بعض التفاصيل، عندما أعد المخطوطة الثانية. بل وارتكب خطأ تكرار إحدى الصفحات. وبناء على هذا لا بد من الإقرار بصحة مخطوطتي باعتبارها النسخة الأصلية.
طلب البروفيسور لادو الكلمة وقال: أنا لا أوافق زميلي المحترم على هذا الاستنتاج. والمسألة الآن برمتها تصبح من شأن المؤسسة العلمية في مصر وفرنسا.
شعرت بالإحباط. فمعنى هذا أولا أني لن أستطيع الاتفاق على ترجمة المخطوطة إلى اللغة الفرنسية. وحتى لو أخفيت عن دار النشر قصة المخطوطة الأخرى، فإن استفسارا واحدا عني في الدوائرالأكاديمية سيكشف الأمر. وتتأجل الموافقة على الترجمة، إلى أن تحسم المناقشات بين المتخصصين حول صحة المخطوطة.
لم يعلق أحد فتطلعت المديرة في ساعتها وقالت: يكفي هذا الآن.
غارنا مقاعدنا واتجهنا إلى باب القاعة. ولاحظت أن لادو قد اختفى. واقترب مني ربيع بصحبة ايزابيل التي تطلعت إلىّ في اشفاق.
قال ربيع: يبدو عليك الإرهاق. تعال نوصلك إلى الفندق لتستريح قليلا قبل العشاء.
لم أرحب بالعودة إلى الفندق، لأجلس وحيدا أجتر مشاعري. كما أني لم أرغب في مفارقة ايزابيل.
قلت لهما عندما بلغنا سيارتها البيجو: وأنتما ماذا ستفعلان؟
تمنيت أن يدعواني لمرافقتهما.
جلست إلى جوار ايزابيل. ولاحظتها ترمقني بنظرة سريعة.
قال ربيع وهو يستقر في المقعد الخلفي: سنقضي معا بعض الوقت. جاءتني رائحة عطرها الخفيف. وتأملت يديها الممسكتين بالمقود. كات أصابعها طويلة ورشيقة.
ساد بيننا الصمت فحاولت كسره.
قلت: لم أتذكر مناسبة تتويج بونابرت، ولم أفكر في أن تكون للمؤتمر علاقة بها.
ضحكت ايزابيل وقالت إن رئيس الوزارة، دومينيك دو فيلبان، مولع بشخصية نابليون، وكتب مؤلفا شهيرا بعنوان "المائة يوم أو روح التضحية".
بلغنا الفندق فمد ربيع مد يده إلىّ قائلا: سأمر عليك في الثامنة والنصف لنذهب إلى العشاء.
صافحته ومددت يدي إلى ايزابيل لكنها مالت نحوي، وقربت وجهها مني، ثم طبعت قبلة على خدي. وغادر ربيع مقعده واحتل مقعدي.
كانت الساعة قد قاربت السادسة والنصف، عندما ولجت غرفتي. غسلت وجهي وأسناني. وملأت كأسا من الويسكي، وأشعلت سيجارة. استعدت مناقشات اليوم. وكالعادة طرأت على بالي حجج كان يمكن أن أستخدمها دفاعا عن مخطوطتي. ولمت نفسي على أنها لم تخطر لي في حينها.
فتحت التليفزيون لكني لم أجد شيئا مسليا. فقد كنا في الوقت الميت، الذي تعرض فيه البرامج الثانوية قبل أن تبدأ السهرة. أغلقت الجهاز واستلقيت فوق أغطية الفراش بملابسي. مضي الوقت بطيئا. وتطلعت إلى ساعتي عدة مرات. وفي الساعة الثامنة سمعت أصواتا ضاحكة في مدخل الفندق الذي تعلوه نافذتي. ميزت بينها صوت ربيع وضحكة ايزابيل. ثم ساد الهدوء.
في التاسعة إلا ربع تلفنت للاستقبال. وسألت عامله الهندي المهذب عن التونسي، فقال لي إنه كان هنا منذ قليل، وخرج قائلا إنه سيعود بعد ثلث ساعة.
ـ هل كان معه أحد؟
ـ أجل. سيدة.
في التاسعة تماما تلفن لي ربيع. قال إنه في غرفته، وهو متعب وينوي أن يغسل قدميهن ويغفو قليلا. ثم يمر علىّ في العاشرة والربع، لأن العشاء لن يبدأ قبل العاشرة والنصف. لم أستطع أن أتصورني منتظرا ساعة ونصف زيادة. قلت: سأذهب الآن مباشرة لأني جائع ومتعب. سكت لحظة ثم قال: كما تشاء. العنوان عندك في كراسة المؤتمر.
ارتديت معطفي وحملت المظلة. عين لي الهندي الطريق إلى المطعم على خريطة المدينة. ومضيت سيرا على الأقدام وسط الطرقات القديمة الباردة.
عثرت على المطعم بصعوبة، ووجدته صغيرا ومتخصصا في المشويات. وكان خاليا من الرواد. واستقبلتني صاحبته ذات الجمال الغابر في تجهم. وتطلعت إلى متسائلة.
قلت إني من جماعة المؤتمر.
قالت: عشاؤهم سيبدأ في العاشرة والنصف.
قلت: أنا مضطر لتناول العشاء مبكرا بسبب السفر.
دعتني للجلوس في غير حماس إلى المائدة الطويلة المعدة لمشتركي المؤتمر. وقدمت لي قائمة الطعام.
اخترت شواء من لحم الغنم. وبدأ من ظننته زوجها في إعداد الشواء. وبعد قليل جاءني الطعام. وجلس الزوج بالقرب مني منهمكا في الحديث مع أحد معارفه.
كان اللحم بلا طعم وليس ناضجا بالصورة التي أحبها. أكلت بلا حماس، وعندما أوشكت على الانتهاء ظهر ربيع وحده منتعش الوجه وجلس أمامي. وعندما رآني أمضغ اللحم بصعوبة، عرض علىّ أن نطلب إنضاجه. رفضت قائلا إني متعب وأريد أن أنام.
تركته وحده في المطعم وعدت إلى الفندق سيرا على الأقدام. أخذت أدويتي. وفتحت التليفزيون فوجدت فيلما عن الأشباح. أغلقته وخلعت ملابسي. غسلت أسناني ووجهي ولجأت إلى الفراش.
رأيتني أتقدم بمخطوطة رسالة الماجستير إلى حلمي عبد الله. كان متعجلا يريد الانصراف فرجوته أن يلقي عليها نظرة. أخذها وقلب فيها ثم قال إن المراجع قليلة ويجب أن أقرأ كثيرا ثم لوح بها أمام وجهي قائلا: لا يمكن أن تكون هذه رسالة ماجستير.
قلت: هذه مسودة، وأنا أريد فقط الاسترشاد برأيك. أشار إلى عمليات الشطب والإضافات على الهوامش. وشعرت بقلبي يسقط بين قدمي فمعنى ذلك سنة أخرى من العمل الشاق.
استيقظت مفزوعا. كانت الساعة الثانية. فتحت التليفزيون فطالعتني مباراة في كرة السلة. تنقلت بين القنوات ووجدت القناة الرابعة المشفرة متاحة، طالعني بها قضيب ضخم يتحرك مثل بستم السيارة صعودا وهبوطا في فرج امرأة. كان ذلك قرب نهاية فيلم بورنو سخيف فيما يبدو. أغلقت التليفزيون وأطفأت النور.

(8)

طغت أنباء الشغب على صحف الصباح. فقد أحرقت بالليل 1173 سيارة، وأصيب رجل شرطة بجراح. كما احترقت واجهة مستشفى. وانتشرت أعمال الشغب في مارسيليا، والهافر، وتولوز، وليل، ونيس، وبوردو. واحتجزت الشرطة 600 من الشبان الغاضبين، بينهم بيض وفرنسيون من أصول عربية وأفريقية.
بدأت الجلسة الأولى متأخرة نصف ساعة. ولم أر أثرا لايزابيل. ولا رأيت رفيق سليمان أو البرديسي. وبدا الوجوم علي وجوه الحاضرين. وربما كان السبب هو أن بوردو التي امتدت إليها الاضطرابات لا تبعد أكثر من ساعة بالقطار جنوب بواتييه.
ارتقت المنصة بروفيسورة فرنسية، ذات شعر أشقر متموج، وسن بارزة في فكها السفلي. كانت بلا مكياج وتبدت عيونها الثاقبة من خلف نظارة طبية مزدوجة البؤرة. وكان ربيع في مقعد الرئاسة.
رأيت ايزابيل تدخل القاعة فابتسمت لها. بادلتني الابتسامة المتواطئة، وجلست في صف خلفي بعيدا عن مجال نظري. ولاحظت أنها تواجه ربيع من مكانها.
بدأت البروفيسورة حديثها قائلة: كتب كثيرون عن الحملة الفرنسية، أو "البعثة" كما يصر الفرنسيون على تسميتها. وهناك أكثر من 350 شهادة تاريخية لمشاركين من الضباط والجنود والمدنيين. من بينهم هوويه أحد قادة الحملة العسكريين.
توقفت لحظة ثم استطردت: سجل هوويه كثيرا من التفاصيل، وانضم بعد عودته لفرنسا إلى جيش نابليون، وظل بالمؤسسة العسكرية حتى تقاعد في 1816 إذ تم تسريحه بعد سقوط نابليون، وعودة الملكية. فانكب على إعداد مذكراته، مدافعا عن جيش الحملة وقائدها. لكنه لم يتمكن من نشرها، وتداولت الأيدي مخطوطته، حتى اشترتها السلطة الملكية المصرية في أربعينات القرن الماضي، وضمتها إلى الأرشيف القومي المصري. وأثناء زيارة حديثة للقاهرة، التقيت بالفريق القائم على تحقيق المخطوطة وإعدادها للنشر(8).
تتكون المخطوطة من سبعة مجلدات، ثانيها هو الذي أعد للنشر ويحمل عنوان "ملخص تاريخ الحملة".
توقفت لتحتسي بعضا من كوب ماء ثم استطردت: من الصفحات الأولى تبدّى أن موضوع هوويه الرئيسي هو الإدلاء بشهادته على وجود "ملحمة بطولية" صنعها الجيش، وليس القادة بمن فيهم نابليون. وربما كان هذا هو السبب في أنه لم يٌضم إلى مؤرخي البلاط الإمبراطوري عندما كان نابليون في السلطة.
أكد هوويه أن الحملة لم تفشل وإنما كانت ـ وفتحت بإصبعين قوسي تنصيص في الهواء ـ "فتحا عظيما أضفي المجد والرفعة على الجيش في عيون العالم أجمع"، حسب كلماته. وكي لا يعترف بفشل الحملة قال إن هدفها لم يكن اقامة مستعمرة فرنسية في الشرق، وانما توجيه مصر نحو الحضارة. فلم يكن من الممكن انقاذ البلد الغارق في ظلمات الجهل والتخلف، إلا بإحداث تغيير في بنية النظام السياسي، وهو تغييرلم يكن من الممكن أن يأتي من الداخل، لأن المجتمع المصري في حالة عقم تام، ومن ثم ليس هناك مخرج إلا على يد تدخل أوروبي. فالحملة ـ حسب تعبيره ـ "كانت الوسيلة الوحيدة للخروج من حالة التوحش والهمجية".
القضية الأخري لديه هي ارتفاع عدد ضحايا الجيش. وقد هاجم من أسماهم بالنقاد "المغرضين" الذين تحدثوا عن فضيحة تسميم الجنود الفرنسيين المصابين بالطاعون في يافا، و "بالغوا في أرقام الضحايا". وأوضح وجهة نظره قائلا: "ليس من المفيد لشهود العيان أن يضعوا تحت عين القارئ العام كل الاتهامات المقيتة التي قذف بها بونابرت في مسألة المصابين بالطاعون". وقال إن استعصاء شفائهم هو ما حتم اعطاءهم الأفيون، لوضع نهاية لآلامهم، وحتى لا يتركوا في ظل ظروف الانسحاب فريسة للعرب والترك، الذين سيذبحونهم. أما مذبحة يافا فبررها بأنه كان لابد من التخلص من الأسرى، لعدم وجود المؤونة الكافية. وسجل دون خجل عدد القتلى من الأسرى في يافا على مدى أربعة أيام بأنه 4410 قتلي.
طلب أحد الحاضرين الكلمة و تبينت من لهجته أنه مصري. قال إنه متخصص في الآثار وإنه اطلع على المخطوطة. وراعه أنها في المقدمة التاريخية تصف الرسول بأنه زعيم لعصابة، تزايد عددها ونجحت في غزومصر وبلاد الشام. واتهمت عمرو بن العاص باحراق مكتبة الأسكندرية، في عمل "لا يصدر إلا من برابرة لا يعرفون سوى القرآن" على حد قولها. وذلك رغم أن سافاري، الذي زار مصر قبله، نفى هذا الاتهام، مؤكدا أن الرومان هم الذين أحرقوها. كما هاجم هوويه الدولة الأيوبية بسبب تصديها للحملات الصليبية.
عقبت البروفيسورة الفرنسية قائلة: هذه هي الآراء التي كانت سائدة في ذلك الحين، والنابعة من الجهل والتحيز، وهى على العموم خارج موضوع الحملة.
توقفت لحظة ثم مضت تقول: أهمية مخطوطة هوويه، تنبع أساسا من احتوائها على إحصاء دقيق لجميع العمليات العسكرية، وأعداد المفقودين، والقتل،ى والمرضى، والمنتحرين. وسردت عدة أمثلة على ذلك ثم فتحت مجال النقاش.
وقف البروفيسور لادو وقال: لست أنوي الطعن في مصداقية المخطوطة.
انفجرت القاعة في الضحك. وانتظر لادو حتى هدأ الضجيج واستطرد باسما: أريد فقط أن أعرف السبب في تأخر نشرها حتى الآن.
أجابت: تعذر نشر المخطوطة في عهد نابليون، لأنه لم يكن يرحب بأي كتابة عن الحملة، خوفا مما قد يلحقه ذلك من ضرر بمستقبله السياسي. إذ تعطي الفرصة لخصومه لفتح باب الأسئلة والمراجعة لكل وقائع الحملة، مما قد يعرضه لتحمل النصيب الأكبر من أسباب فشلها. ولهذا أصدر أمرا بمصادرة مذكرات الجنرال رينيه بعد نشرها، وعمل على نزع الوثائق والتقارير التي تدينه من دورالأرشيف الفرنسية وإحراقها. ثم ألف لجنة لمراجعة الكتب قبل نشرها. وسرعان ما ازدادت وطأة الرقابة على النشر، بإنشاء الإدارة العامة للطباعة والمكتبات، التي عهد إليها بالاشراف الكامل على الأنشطة الثقافية، وتعبئة الفنانين والكتاب لتمجيد حكم الإمبراطور (9). واستمر هذا الموقف من الكتابات عن الحملة بعد سقوط نابليون، إذ حظر العهد الملكي بدوره أى ذكر لنابليون. ثم مات هوويه، واختفت المذكرات إلى أن عٌثر عليها أخيرا.
تساءلت فتاة في مقتبل العمر: هل نستطيع أن نثق في صحتها؟ هل المخطوطة محققة جيدا؟
أجابتها: المصريون قاموا بذلك
ـ المصريون؟ هل يمكن الوثوق في نتيجة عملهم؟
قالت بحدة: لقد تأكدت شخصيا من ذلك.
ألقى شاب من الطلاب سؤالا طويلا حول تفاصيل الحملة السورية، لم أدرك منه سوى أنه يرغب في استعراض معلوماته. وردت عليه البروفيسورة باقتضاب ثم أعلن ربيع رفع الجلسة. ولاحظت أن ايزابيل اختفت.
توزعنا على عدد من السيارات، وركبت مع ربيع. وقام السائق بجولة في المدينة، ثم غادرها من الجنوب الشرقي حتى نهر كلان، وبعد لحظات طالعنا صرح الكاتدرائية، حيث يمتزج الطرازان الروماني والقوطي. ثم مررنا بكنيسة القديس يوحنا، ومتحف الصليب المقدس المجاور. توقفنا أمام مبنى ذي واجهات زجاجية عريضة. وصعدنا إلى الطابق الثاني، وولجنا مطعما أنيقا. جلسنا إلى مائدة طويلة تطل على ميدان صغير امتلأ بالأشجار والورود الملونة. مال علىّ ربيع الذي جلس في مواجهتي وشممت من فمه رائحة عطنة، مبعثها الإفراط في الشراب بالأمس. قال إن هذا المكان قد يكون النقطة التي توقف عندها اندفاع المسلمين إلى قلب أوروبا. وكان الأمويون وقتها أقوى قوة عسكرية في العالم(10).
ظهرت سيدة أربعينية متوسطة الطول، ذات وجه خمري اللون ضاحك الأسارير، بعينين جميلتين ذكيتين، تحيط بهما تجاعيد خفيفة. وكان شعرها الأسود مفروقا من الوسط، ومسترسلا على جانبي الوجه. اقتربت منا، ووقفت خلف ربيع، ثم انحنت فوقه وألصقت خدها بخده بينما أحاطها بساعده من الخلف. ورأيته ينظر إلي بطرف عينه، ليتأكد من معاينتي لمكانته بين النساء.
لا أنكر أني شعرت بالغيرة، لكن خفف من الأمر ما لاحظته من أنها تفعل ذلك مع الآخرين، وتعابثهم وأنه لا يوجد شئ حميم بينها وبين التونسي. رأيتها تجلس إلى مائدة أخرى بجوار بروفيسور ضخم الجثة. استمتعت بالنظر إلى وجهها. وبعد كاسين من النبيذ فكرت في أن أقوم وأذهب إليها، وأقول لها كم هي جميلة. لكنها لم تنظرأبدا ناحيتي، رغم أنني كنت دائم التحديق فيها، وبدا كأنها لا تشعر بوجودي.
جلس إلى جانبي رجل طويل القامة، يحمل وجهه ابتسامة ساخرة أو طفولية في حوالي الخامسة والستين أوالسبعين، برفقة فتاة قصيرة تبدو عليها البلاهة. قدمها لي قائلا: صديقتي من نيويورك. ثم همس لي بعد قليل: هل المصريون يحبون الغلمان؟. أجبت علي الفور: ليس أكثر من الفرنسيين. انتقل الحديث مرة واحدة إلى الفروق في أحجام القضيب الذكري. جاريته في الحديث قائلا إن تلميذ الجبرتي ذكر في مخطوطته أنه سأل صديقته الفرنسية عن حجم قضيب نابليون، فأكدت له صغره بالنسبة للتلميذ نفسه. اغتصب البروفيسور ضحكة، ثم انصرف عني تماما.
استمتعت بأكل المحار من طبق عريض به تسع قطع. وبالنظر إلى وجه الأربعينية. ثم لاحظت أن ربيع يتأمل شيئا خلف ظهري. التفت فرأيت مرآة كبيرة بحجم الجدار. واكتشفت أنه دائم التطلع إلى وجهه فيها كأنما يستمد الثقة من صورته.

(9)

لم يتجاوز الحضور في جلسة بعد الظهر ثلاثين شخصا، بينهم امرأة عجفاء خمسينية، تجلس في الصف الأول. تطلعت نحوي في عداء لم أدرك سببه. صافحت بروفيسورة لبنانية في الجامعة الأمريكية ببيروت وصلت في الصباح. كانت طويلة ونحيلة ذات شعر رمادي عكصته في أناقة خلف رأسها، وترتدي بزة من سترة وبنطلون رماديين. جلست إلى جواري، وأخرجت قلما وورقا من حافظة جلدية منتفخة. كانت تعطي الانطباع بأنها مرتبطة بأمور أكثر أهمية بعد الجلسة.
قالت لي بصوت مرتفع: جئت متأخرة لأني كنت على موعد مع الناشر الفرنسي لمؤلفاتي.
صعد إلى المنصة البروفسور اللبناني ذو الشعر الأبيض. وقدمه ربيع مستعرضا بعض أبحاثه، ثم ترك له الحديث في الموضوع الذي حدده وهو عن المؤرخين الفرنسيين الجدد. بدأ بعرض سريع للكتابات التاريخية الأولى عن نابليون وحملته على مصر. وقال إن أصحاب هذه الكتابات كانوا مبهورين بأسطورة نابليون، ومدافعين عن الاستعمار، وعن أن واجب الفرنسيين المقدس هو تحضير الشعوب ولو بالقوة.
وقال إن هذه الكتابات انطلقت من أن تاريخ مصر المعاصر يبدأ بالحملة التي كانت أساسا بعثة علمية ثقافية وليست حملة عسكرية استعمارية. وآمن أصحاب هذه الكتابات بأن المصريين انبهروا بالحضارة التي أهداها لهم الفرنسيون، وأن الشعب المصري ما زال يتغنى بفضائلهم حتى يومنا هذا، لأن الجنود الفرنسيين علموهم الحرية وأسس الديموقراطية.
توقف ليتجول بنظراته بيننا في تحد كأنما توقع احتجاجا من الحضور الفرنسي. تناول رشفة من كوب ماء ثم استطرد: عاشت أسطورة نابليون تتحدى أى عداء. وأصبح اسمه رمزا لمجد فرنسا. ونسى الجميع الثمن الباهظ الذي دفعته فرنسا من أجل بضع سنوات من المجد الحربي. فقد تركها نابليون مهزومة ومحتلة بعد أن استنزف دماءها لسنوات طويلة. وتأخرت عن ركب الثورة الصناعية، التي كانت قد بدأت في انجلترا بعد أن فقدت الملايين من أبنائها. واستشهد بالكاتب الشهير شاتوبريان ـ الذي عاصر نابليون ـ وقال إن مجده "لم يكلفنا الا نحو مائتين أو ثلاثمائة ألف رجل كل عام. ولم ندفع إلا ثلاثة ملايين من جنودنا ثمنا له". ومضى يقول إن الحقائق بدأت تفرض نفسها بالتدريج، وقام جيل المؤرخين الفرنسيين الجدد، الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية بتحطيم الأسطورة. وضرب مثالين لذلك. فقد كشف المؤرخ مارسيل دونان، أن نابليون انتزع من البلاد التي احتلها ـ مثل إيطاليا ـ امتيازات للمنتجات الفرنسية، وألحق الدمار باقتصادها. وأكد فرانسوا فوريه(11)، أن أسطورة القائد الذي لم يهزم صنعت من خلال أكاذيب عن انتصارات وهمية، ومبالغات دعائية، كان الفرنسيون على استعداد نفسي لقبولها، مثل وصفه بأنه "يطير كالبرق ويضرب كالصاعقة، فهو في كل مكان ويرى كل شئ". وقال إن فوريه وضع سنة 1965 كتابا عن الثورة الفرنسية بالاشتراك مع زميله ديني ريشيه عدّد فيه المجازر التي رد بها الفرنسيون على ثورة الإيطاليين ضد الاحتلال.
توقف مرة أخرى، وجال ببصره فينا ثم قال ببطء: لكن الغريب والمؤسف في نفس الوقت أن المؤرخين الجدد اختلف الأمر لديهم عند الحديث عن الحملة المصرية. انفصلت خصلة من شعره الأبيض وتدلت فوق عينه فرفع يده وأعادها مكانها.
قال: في عام 1988 صدر المجلد الفاخر عن "بونابرت: حرب مصر"(12). قال فيه مؤلفه: "سعد الرجل المصري بطرد المماليك، لكنه انسان متقلب، وان كان طيب القلب. والجند الفرنسيون بسطاء طيبون، يدفعون بسخاء ويمرحون. الحياة محتملة، لولا التدخل الانجليزي. ويتفجرالتمرد في شوارع القاهرة. وتلقي أيد خفية بالحجارة والرماح. وفي نهاية اليوم أعادت مدافع دومارتين وفرسان دوما الضالين إلى الصراط المستقيم. وأثبت القمع القاسي.. وبضع رؤوس مقطوعة.. أن السلطان بونابرت عادل ولا يمزح".
والأغرب من ذلك ما جاء في مقدمة هذا المجلد التي كتبها المؤرخ الشهير جان تولار، البروفيسور بجامعة السوربون، ورئيس معهد نابليون. فقد أكد أن نتائج الحملة هائلة. "أعمال المعهد الفرنسي ستخرج البلد من غفلته، واكتشاف حجر رشيد سيؤسس علم المصريات. وسيستفيد محمد علي مما أنجزته الحملة، ليقوم بتحديث البلد في عام 1815". أما ثورات المصريين فكان سببها التطرف الديني وليس الاحتلال.
تناقض آخر نجده في كتاب عن نابليون صدر عام 1987 في سلسلة "ماذا أعرف" الشهيرة للمؤرخ روجيه دوفريس(13)، إذ يقول: كانت الحملة المصرية فاشلة تماما. لكنها كانت أصل الانطلاقة الاقتصادية المقبلة للبلد!
إنه نوع جديد من المؤرخين الذي يعترف بالحقائق المؤلمة، لكنه لا يزال متمسكا ببعض خيوط الأسطورة. ويظهر التناقض في أجلى صوره لدى جان جويل بريجون في كتابه الصادر عام 1991 "مصر الفرنسية في حياتها اليومية"(14). فهو يسخر من المؤرخين العرب الذين انبهروا ببونابرت وحملته. وبينما يؤكد الهدف الاستعماري للحملة، يتحدث عن الضمير الحي للغزاة، ثم يشير إلى وحشيتهم في مدينة دمنهور، مشبها إياها بوحشية النازي. وبعد 400 صفحة من كشف للحقائق الدامية وراء أسطورة الحملة، إذا به يتحدث في الخاتمة عن الآثار الرائعة التي تركها الجيش الفرنسي: "فبغير إغارتهم على مصر لما استطاعت أن تجد دروب التاريخ بهذه السرعة. وبغير هذه الحملة الفريدة في نوعها لفقدت فرنسا إسهاما ثقافيا رائعا... لذلك علينا أن نستمر في تكريم ذكرى بونابرت وديزيه ومونج... لقد وفرت الحملة للإنتلجنسيا الفرنسية ولتكنولوجيا القرن التاسع عشر حقل تجارب متميزا. إن كل الإستعمارالأوروبي، كل مؤسساته الكولونيالية قد تلقت دروسها الأولى في مصر!".
كما نجد نفس التناقض لدى باتريس بريه 1995 في عدد خاص من مجلة "إيستوار"(15)، العلمية بعنوان "أسرار مصر الغامضة". فهو يتساءل في بداية مقال له: هل كانت هذه المغامرة حملة استعمارية عادية، أم كانت غزوة ثقافية باهرة، أرست قواعد تحديث البلد على الرغم من فشلها؟ يجيب مستشهدا بعالم نبات فرنسي ذهب إلى مصر مع الحملة من أجل مهمة رائعة لدراسة النباتات، وكتب يقول: "نزلنا في بلد لم يكن يفكر فينا، ننهب القرى، ونفقر الأهالي، ونغتصب النساء".
بعد كل هذا ينهي بريه مقاله بقوله: "إن حملة بونابرت كانت المصادفة التاريخية التي سمحت بهذه النهضة المصرية". ومرة أخرى يجد القارىء الموضوعي نفسه في بلبلة، فكيف يصل إلى هذه النتيجة وكلامه يؤكد عكس ذلك تماما؟
تطلع في ساعته وقال: لقد أوشكت على الانتهاء. نأتي الآن لواحد من أهم المؤرخين المعاصرين وهو هنري لورنس. ففي عام 1989 قال في رسالته للدكتوراه، إن الحملة على مصر "كانت شكلا من أشكال التخلي عن شعارات الثورة الفرنسية، وعن حقوق الإنسان". لكنه عندما يصل إلى الخاتمة ليستخلص ما توصل إليه من نتائج فكرية، نجده يؤكد المشروع الحضاري لبونابرت والحملة. وفي كتابه "المملكة المستحيلة" الصادر عام 1990 يتحدث بكل حزن عما كان يمكن أن يحدث، لولا فشل الحملة المزري.
وفي ندوة علمية لاحقة أشار إلى رفض الفرنسيين تعليم المصريين شيئا من أمور الصناعة. ففي يوليو 1800 دفع نقص أقمشة الثياب مسئولي الجيش إلى اقتراح إنشاء مصنع لها في مصر. وأعلن كونتيه ـ مخترع القلم الرصاص وأشهر علماء الحملة ـ أنه لا يقبل الاشتراك في هذا المشروع، إلا بشرط السماح للفرنسيين وحدهم بدخول الورش، وفي حالة الجلاء عن مصر، لا بد من إخراج المعدات وتدميرها. رغم هذا يقول لورنس، إن المعهد الفرنسي في مصر، كان أداة الحضارة بامتياز، وإن الازدهار الثقافي هو الهدف الرئيسي للحملة(16).
تطلع في ساعته مرة أخرى والتفت إلى ربيع قائلا:أعتذر عن تجاوز الوقت المحدد لي.
وبدأت المناقشات.
طلبت الكلمة، والتفتت الخمسينية العجفاء نحوي فيما خلته بادرة استنكار.
قلت: فيما يتعلق بتناقضات هنري لورنس أحب الإشارة إلى ما ذكره سنة 1989 من أن مصر كانت تعيش قبل الحملة مرحلة ثورية، بسبب انخراط الجماعات الاجتماعية المختلفة في التنافس على السلطة، ونجاح رجال الدين في خلق تحالف مع الشعب ضد المماليك. وفي مقال للمستشرق الفرنسي الكبير أندريه ريمون بعنوان "لا يوجد انحطاط عثماني"، شرح كيف كان لمصر قبل الحملة نظام سياسي، وإداري، يعتبر حديثا في عصره. وكان لها كذلك نشاط اقتصادي احتفظ لها بمكانتها كمركز قوة في البحر المتوسط، وكانت عاصمتها مزينة بروائع معمارية. لكنه يعود فيؤكد أن الاحتلال هو بداية التحديث، رغم التطور الذي طال وعى المصريين قبل الاحتلال. والحقيقة أن فكرة التطور السابق على الحملة سبق أن تناولها المؤرخ الأميركي بيتر جران في كتابه "الجذور الإسلامية للرأسمالية" الصادر عام 1979(17)، وقد رفض جران الزعم بأن مصر العثمانية كانت راكدة، وأن الحداثة وصلت مع الاستعمار الأوروبي. وقال إن كثيرا من العمليات المتصلة بالتحديث ق دوقعت في مصر قبل وصول الفرنسيين، وكان في امكانها أن تنجز عملية التحديث بنفسها، لأنها شهدت تطورا اقتصاديا واجتماعيا مهما في القرن الثامن عشر، وتعاصر ذلك مع مجموعة من العوامل الداخلية: تدهور نفوذ الباب العالي، ظهور البكوات المماليك في تجمع شبه مستقل من المقاتلين ذوي نزوع قوي نحو التجارة، وبالتالي نحو الاستقلال عن السلطة العثمانية، بالإضافة إلى عوامل خارجية مثل تقدم الثورة الصناعية في غرب أوروبا، وازدياد الطلب على المواد الخام. كل هذا عزز الازدهار التجاري لمصر، وصحبته صحوة اجتماعية مهمة وفكرية. ويشير جران إلى فكرة شديدة الأهمية وهي أن الغزو الفرنسي قد أضر بالطبقات الوسطي، والثقافة العقلانية التي أفرزتها. والحقيقة أن مؤرخا أمريكيا آخر ـ هو كريستوفر هيرالد ـ سبق أن عارض أسطورة الحملة، التي جلبت التحديث في كتابه الممتع "بونابرت في مصر"(18)، الصادر عام 1962. استخرجت إحدى أوراقي واستطردت: يقول هيرالد: "لقد كان مآل مصر إلى التغيير، سواء ظهر بونابرت في سمائها، أو لم يظهر قط، وآيات الفن وروائعه في الأقصر والكرنك كان مصيرها إلى الكشف. وكانت الرموز الهيروغليفية حتما ستفك، حتى وإن لم يكتشف حجر رشيد إلا بعد الحملة بسنوات، وكانت قناة السويس ستحفر، حتى وإن لم يأمر بونابرت بمسح برزخ السويس". ويؤكد المؤرخ الأميركي أن مهمة اللجنة العلمية كانت تحويل مصر إلى مستعمرة. بمجرد أن انتهيت رفع لادو يده ثم وقف وقال: أحب أن أشكر البروفيسور شكري على ملاحظته. لكن الحقيقة أنه لا بد من أن نأخذ بحذر أحكام المؤرخين الأمريكان. فهم مثل الانجليز يملكون رؤية معادية لفرنسا علي طول الخط. جلس وهو يتطلع إلى بنظرة حرت في تفسيرها. ولم أجد فائدة من التعقيب.
طلب شاب في قميص وبنطلون جينز الكلمة وقال: إن التناقضات التي أشار إليها البروفسور لا تحط من قيمة الدراسات التي ذكرها. بل بالعكس تؤكد أهميتها وحرص مؤلفيها على الإحاطة بزوايا النظر المختلفة. لم يعلق أحد ولم يطلب أحد الكلمة، فقام ربيع بتلخيص أطروحة البروفسور اللبناني، والمناقشات التي دارت حولها ثم أعلن رفع الجلسة.
غادرت مقعدي فاقتربت مني الخمسينية العجفاء وعلى وجهها نظرة تصميم. وقدمت لي نفسها على أنها تدعى كريستين، وأنها باحثة سبق أن رأتني في مركز الاثار الفرنسي بالقاهرة. لم أتذكرها ولكني تظاهرت بذلك، وأطريت ذكاءها، فلانت ملامحها، وابتسمت في لطف. ولازمتني إلى الخارج. ذهبنا سيرا علي الأقدام إلي مطعم قريب، وهى تحاول الحديث بالعربية، بينما كنت أتطلع حولي متلهفا على رؤية ايزابيل. كان عبد الكريم ولادو يسيران أمامنا منهمكين في نقاش. وسمعت عبد الكريم يقول: أنا كمواطن فرنسي، وكررها مرتين. وفهمت أنهما يتحدثان عن العلاقة بين مصر والغرب، ويحاولان تحديد المسئولية عما أصاب مصر من تدهور.
عندما دخلنا المطعم رأيتها. فاتجهت إلى المقعد المقابل لها، وفجأة ظهر ربيع إلى جواري، وقال إن الأنسب أن أجلس في الوسط بينه وبين رفيقتي العجفاء. واستقر هو في المقعد المقابل لايزابيل. أبديت اهتماما بثرثرة رفيقتي، دون أن أرفع نظري عن إيزابيل. وانتهزت فرصة انشغال كريستين بطبقها فأطريت ايزابيل قائلا إني استمتعت بالندوة لأنها كانت هناك.
إحمّر وجهها وقالت: أعتقد أن الحضور استفاد من النقاش. أنا نفسي ازددت وعيا بأمور لم أكن أدركها!
قلت ضاحكا: فيما يتعلق بالنساء، أفضل تخديرهن على توعيتهن.
انحنت نحوي قائلة في حكمة: عندما تصبح المرأة أكثر وعيا، يمكن تخديرها بسهولة.
شعرت بأني أخطأت التعليق، فانهمكت في الأكل. وقمت بعد قليل إلى الحمام لأغتسل، وعندما عدت وجدتها قد اختفت.
بحثت بعيني عن ربيع فوجدته قد اختفى هو الآخر.
استمعت في ملل إلى حديث رفيقتي. وفي النهاية اعتذرت بأني متعب. وغادرت المطعم بصحبة رفيق سليمان، وعدنا سيرا على الأقدام إلى الفندق.
سألني: هل ستذهب إلى باريس بعد المؤتمر؟
قلت: أجل. سأبقى هناك يومين قبل العودة إلى القاهرة.
قال: إذن يمكنك أن تشترك معنا.
ـ في أى شئ؟
ـ هل سمعت عن قانون رد الاعتبار للاستعمار؟
ـ أعتقد أنه ما زال قيد النظر بالجمعية الوطنية.
قال: فعلا. سينعقد بعد يومين في باريس، مؤتمر لمعارضة القانون، تنظمه جمعية للمؤرخين. ما رأيك في أن تشترك فيه؟
قلت: لا بأس.
سأل: أين ستنزل في باريس؟
قلت: سأختار فندقا رخيصا.
قال: سنحجز لك نحن في فندق قريب من مكان الموتمر.
سألته: كم يوما يستمر؟
قال: ثلاثة أيام.
قلت: لن أستطيع الاشتراك. فطائرتي محجوزة بعد ثلاثة أيام من الآن.
قال: لا يهم. سنتولى تغيير بطاقة الطائرة.

(10)

عندما هبطت إلى البهو في الصباح صافحت أذني موسيقى جميلة تنبعث من سماعات في الحائط. تعرفت على "عالية موزيكا" التي تجمع بين الترنيمات العربية الإسلامية والكنسية. وكان رفيق يتحدث مع شاب أربعيني، قدمه لي على أنه شاعر مغربي، يعيش في فرنسا من مدة. كان الشاب مهذبا للغاية، واكتشفت أنه لا يعرف شيئا بالمرة عن أحداث العالم العربي. وانضمت إليه سيدة فرنسية قال إنه يشترك معها في ترجمة بعض الأعمال الشعرية العربية. كانت ذات وجه حسي، وتكبره في السن بوضوح وتبدو مكتئبة. أراني اهداء كتبته له علي كتاب من ترجمتها: "إلي مومي.. إن شاء الله؟!!" وعرفت أنه متزوج ولديه طفلين. ويعيش في مدينة نانت. كان الشاب يحاول الاتصال تليفونيا بمنزله، وهو قلق على أسرته من جراء الأحداث التي امتدت إلى مدينته. وقال رفيق إن الشباب الثائر أحرق بالليل 1408 مركبة سيارة في أنحاء فرنسا. ثم أراني مقالا بإحدي الصحف عن كتاب بعنوان "الوجه الآخر لإسرائيل"، كتبه بالإنجليزية كاتب إسرائيلي مقيم بالسويد يدعي آدم شامير. فهمت من المقال أن الطبعة الفرنسية للكتاب صدرت عن دار "القلم" الفرنسية في العام الماضي 2004. ويرى المؤلف أن العالم على أعتاب حرب عالمية ثالثة، تقودها الولايات المتحدة ضد العالم الثالث، بدأت على أرض فلسطين والعراق. وتعرض بالتحليل للتأثيرالمتزايد لللوبي الصهيوني على السياسة الأمريكية، فأفراده هم الذين ساندوا الحرب ضد العراق، ويشجعون الأزمات في كل مكان، من أجل إقامة إمبراطورية يهودية أمريكية. ويعتقد المؤلف أن الحل الوحيد للصراع العربي الإسرائيلي، لن يتأتى إلا باقامة دولة ديموقراطية علمانية ـ غير دينية ـ تضمن الحقوق والمساواة لجميع الإثنيات.
وذكرت الصحيفة أن "الرابطة الدولية ضد العنصرية ومعاداة السامية" أقامت دعوى أمام القضاء الفرنسي في سبتمبر الماضي ضد مؤلف الكتاب وناشره. وحكم في الدعوى الابتدائية في 2 نوفمبر 2005 بالسجن ثلاثة أشهر لمسئول دار النشر، مع وقف التنفيذ، وغرامة عشرة الاف يورو، بتهمة التحريض على إثارة العداء العرقي، والتمييز العنصري والتعصب، و12 ألف يورو كتعويض عن الضرر المبكر. وقضت المحكمة أيضا بسحب الكتاب من الأسواق. وقد أقام الناشر والمؤلف دعوى مضادة. تركنا الشاب يحاول الاتصال بمنزله وتناولنا القهوة والكرواسون في مقهى الكتب الحجرية، ثم اتجهنا إلى قاعة المؤتمر، لحضور أعمال اليوم الثالث والأخير.
تتابع وفود الحضور في بطء. وكان الإرهاق يبدو على أغلبهم. وجاءت البروفيسورة اللبنانية متأخرة، واختارت الجلوس بجواري وهي تقول: لم أنم جيدا إذ تأخرت في تصوير حديث أجراه معي التليفزيون.
لاحظت رجلا أربعينيا ممتلئ الجسم ينطق بوفرة ثقته بالنفس. كان شعره بني اللون ناحلا في مقدمة رأسه، ويرتدي بزة زرقاء أنيقة غالية الثمن، وتلمع في معصمه ساعة ذهبية ضخمة. كان يجلس في الصف الأول، مستندا بيده إلى حقيبة سامسونايت فوق ركبتيه. وشعرت أنه من مواطني. تولي البرديسي رئاسة الجلسة، واعتلى رفيق سليمان المنصة، ليدلي بمساهمة عنوانها "لذة المستعمر". وأخرج مواطني صاحب السامسونايت قلما وورقة واستعد للعمل.
بدأ رفيق حديثه بنبرة تهكمية: لم يخطر ببال أحد من البيروقراطيين المصريين عندما قرروا المشاركة في الاحتفال بمرور 200 سنة على حملة نابليون بونابرت على مصرسنة 1798 أنهم بذلك قد نخسوا عش الزنابير. كان يشير إلى الاحتفال الذي جرى منذ سبع سنوات في كل من القاهرة وباريس. استطرد: وفيما يبدو أن أحدا منهم لم يفكر في الأمر بجدية، وأنهم كانوا واقعين تحت تأثير ما لقنته لهم المدارس، من أن النهضة المصرية الحديثة بدأت بالصدمة الحضارية، التي أحدثتها الحملة الفرنسية. وأن هذه الحملة أخرجت مصر من العصور المظلمة، و كانت بداية تاريخها الحديث.
وعندما استنكر بعض المثقفين المصريين على استحياء، أن يفرض عليهم الاحتفال بغزاتهم، وأسرعوا إلى كتب التاريخ يستخرجون منها وقائع الحملة، من مثال عدد القتلى من المصريين الذين بلغوا 300 ألف قتيل، سارع أنصار الاحتفال (وجلهم من المرتبطين بمراسيمه شخصيا، أى المشتركين في نشاطاته كمنظمين رسميين أو مدعوين ـ إلي فرنسا بالطبع!) إلى القول بأن للحملة جانبين، وأن المدفع ذهب وبقيت المطبعة، مشيرين إلى أنها كانت أول مطبعة باللغة العربية في تاريخ البلاد.
كان رفيق يقرأ من أوراق صغيرة في يده. وأنصت الحاضرون في انتباه بينما كان صاحب السامسونيات يسجل كلمات رفيق بسرعة.
قال: وعاد المعارضون إلى كتب التاريخ، فتبينوا أن المطبعة هي التي ذهبت، والمدفع هو الذي بقى. ذلك أن نابليون عندما غادر مصر أخذ معه المطبعة التي أحضرها، واقتصر دورها على أية حال على طبع المنشورات، التي حاول فيها بسذاجة تامة اقناع المصريين بإسلامه، وحسن نواياه، وبأنه لم يقم بغزو مصر إلا ليحمل اليها الحرية والنور. أما المدفع فقد دوت طلقاته عدة مرات بعد خروج نابليون، إذ لم تنته الأطماع الاستعمارية لفرنسا حتى عهد قريب: فبعد مئة سنة بالضبط من المحاولة الأولى، كان الكابتن جان بابتست مارشان على رأس عدد من الضباط الفرنسيين، والجنود السنغاليين يقوم بحملة جديدة من الجنوب، قادما من الكونغو برازافيل ليلتحم في مدينة فاشودة على النيل، بحملة أخرى قادمة من البحر الأحمر، وصلت قبله بعدة أسابيع. وبعد قرابة نصف قرن شاركت الدولة الفرنسية سنة 1956 في تنظيم العدوان الثلاثي، مع بريطانيا، واسرائيل، علي مصر.
أدرك البيروقراطيون أنهم تسرعوا، وبدلا من أن يتراجعوا، التجأوا إلى الوسائل المجربة، والتي برعت فيها البيروقراطية المصرية وجربتها في كثير من المواقف، وخصوصا وهي بصدد تنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولي. وتبدأ أولا بالانكار: أبدا لم يحدث. من قال إننا نحتفل بالحملة؟ ويتلو ذلك اللعب بالكلمات: إننا نحتفل فقط بمرور مائتي عام على بدء العلاقات الثقافية. في هذه المرة كان روبرت سوليه، مدير تحرير "اللوموند" ومؤلف رواية "الطربوش" الشهيرة هو الذي دحض الفرية. ففي أحدث كتبه الصادر بعنوان "مصر شغف فرنسي" قال إن تاريخ العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا، لم يبدأ مع الحملة الفرنسية، وإنما قبلها بقرنين آخرين من الزمان.
لاحظت أن مواطني صاحب السامسونيات كف عن تدوين ما يقوله رفيق. وفكرت أنه لا يحتاج إلى هذا الجهد لتسجيل المداخلة. فيمكن أن تحتوي الحقيبة السامسونيات على ما يكفي من أجهزة للقيام بهذا العمل. إذن ما ضرورة التظاهر بالتسجيل بالورقة والقلم؟ هل هي رسالة موجهة إلى رفيق؟
مضى هذا يقول: لكن لعبة الكلمات استمرت: "إننا نحتفي ولا نحتفل!.. الحملة جزء من تاريخ مضى وانتهى أمره، المهم هو النتائج الموضوعية: ويكفي وصف مصر علي يد العلماء الذين أحضرهم بونابرت معه". وهم نفس العلماء الذين ابتكروا قاذفات اللهب ليصبها كليبر على القاهريين. فلم تتعد وظيفة هؤلاء العلماء التخديم علي محاولة استعمار مصر. فزعيمهم مونج ـ الذي ارتقى هو وزميله برتوليه بفن النهب إلى مستوى العلوم الدقيقة أثناء تجربتي إيطاليا و مالطا ـ كتب إلى زوجته يقول إنه لو استوطن مصر عشرون ألف أسرة فرنسية، "ليشتغل أفرادها بالمشروعات التجارية والصناعية.. إلخ، لغدا هذا البلد أجمل مستعمراتنا وألمعها، وأفضلها موقعا". من وصف مصر إلي حجر رشيد فضلا عن الحرية والليبرالية والتنوير. كأنما بونابرت كان يملك وقتا أو صبرا لنشر الأفكار الليبرالية التنويرية، وهو يقطع كل ليلة 30 رأسا تثبت في الصباح فوق الحراب، ليمر بها جنود التنوير ـ القادمون من نهب ايطاليا، موعودين بستة أفدنة لكل منهم ـ في الشوارع والأزقة، ثم يعود إلى فرنسا بعد أن فقد نصف جنوده البالغ عددهم(19)50 ألفا (وهو أمر برع فيه دائما)، ليصفي الثورة الفرنسية ذاتها، ويصل بفرنسا إلى الخراب.
وعندما مل البيروقراطيون المصريون من هذا الجدل العقيم، لجأوا إلى الواقعية: "يجب أن نحيي ونشيد بإسهام المستعمر الثقافي، وننسى ما حدث منه عسكريا لصالح الثقافة والرقي. ذهبت ونسيت مساوئ القهر العسكري إلى غيررجعة وبقيت المعارف والثقافة والصداقة التي يجب أن تنمى حتي نتمكن من إنتاج المعرفة بدلا من استهلاكها.الأهم من كل شئ هو المستقبل".
هكذا توصل البيروقراطيون إلي صياغة جديدة: "مصر فرنسا: آفاق مشتركة"، لكن المناسبة هي نفسها: مرور 200 سنة على حملة بونابرت.
ما غاب عن المشهد هو الجانب الفرنسي. فلم ينتبه أحد من الفرنسيين، إلي أنه يتم تلقينهم درسا في محاسن الاستعمار، وفي الصورة المثلى للعلاقة بين الشعوب. وأنه يتم تعويضهم عما يتعرضون له من استغلال متزايد على يد الرأسمال الكبيرالمتوحش، بإحياء مشاعرهم القومية، واللعب على فخرهم التقليدي بالمجد، وغرامهم بأسطورة نابليون، وشغفهم بمصر، وهو ماكان يفعله نابليون بالضبط بينما يدفن مبادئ الثورة عمليا.
انتقل رفيق بعد ذلك إلى أكذوبة الصدمة الحضارية. واستشهد بمجادلات الأمس بشأن أطروحات أندريه ريمون، وبيتر جران، ثم قال:
ـ يمكننا أن نقول إن الحملة الفرنسية قد أجهضت مشروع تحديث مصر، لا أنها هي التي كانت السبب في وجوده. ولنتأمل عدد القتلى من المصريين الذي بلغ عدة الاف، في بلد لم يزد تعداد سكانه وقتها عن مليونين ونصف المليون. لن يصعب علينا أن نتصور الفئة العمرية لهؤلاء القتلى، وأغلبهم سقط في مواجهات دامية مع المحتلين، ومن الطبيعي أنهم لا يمكن أن يكونوا أطفالا أو شيوخا، ولا بد أنهم كانوا من الشباب والرجال الناضجين، أي الفئة الحركية في المجتمع، المهتمة بالشأن العام، والقادرة جسديا وثقافيا على البناء والعطاء. أنخطئ إذن إذا اعتبرنا الاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية على مصر، الذي جرى تحت شعارات الصداقة والود والآفاق المشتركة، هو صنو للحملة ذاتها، التي تمت تحت شعارات الثورة والحرية والتنوير، واستهدفت العدوان على حقوق وآدمية كلا الشعبين المصري والفرنسي؟ وهل نخطىء أيضا إذا اعتبرنا موقف الفرانكفونيين المصريين، والسلطة المصرية عموما، شاهدا علي ما يشعر به المضطهد والمستعمر ـ بفتح العين ـ من لذة؟
توقف رفيق وجمع أوراقه الصغيرة معلنا انتهاء مداخلته. وطلب مواطني صاحب السمسونايت الحديث. تهامس الجالسون خلفي عن شخصيته، وفهمت أنه يعمل في السفارة المصرية بباريس. ولم أفاجأ بتعليقه.
قال: مهما نقل إلينا عما فعله الجيش الفرنسي في مصرأثناء إحتلاله لها، فلن يقلل ذلك من حقيقة مهمة هي أنه دق ناقوس الصحوة للمصريين، والشرق الأوسط كله، من نوم طال قرونا عشرة. فلولاهم لظلت مصر، والأمة العربية، سادرة في سبات طويل، ومتأخرة عن ركب العلوم والفنون إلى الآن.
وكأنما أراد أن يستدرك فمضي يقول: لا يزعم أحد أن نابليون جاء إلى مصر، حاملا مشعل الثقافة والحضارة للشعب المصري، لكننا يجب أن نفرق بين الاستعمارالعسكري، الذي يجب أن نرفضه، وبين حضارة ورقي المستعمر، حيث يجب أن نعترف بهما، ونأخذ بهما. سارالاستعمار العسكري والثقافي جنبا إلى جنب، و يجب أن نشيد بإسهام المستعمرالثقافي، وننسى ما حدث منه عسكريا، لصالح الثقافة والرقى. أعطى البرديسي لرفيق فرصة الرد، فقال باسما: إن ماذكره الدبلوماسي المصري، يؤكد فرضيتي عن اللذة التي يشعر بها المستعمَر. أدركت أنهما يعرفان بعضهما البعض. وتساءلت عما إذا كان الدبلوماسي المصري، قد جاء خصيصا للاستماع إلى رفيق وتسجيل كلماته. انفعل ودون أن يعبأ بطلب الحديث وقال: لعب الفرنسيون الدور الأهم في تحديث مصر أيام محمد علي بمشروع القناطرالخيرية. وكان لهم دور فعال في الكشوف الأثرية. وأسس كلوت بيك مستشفى قصر العيني، وأخيرا هاهم قد ساعدوا في تشييد مترو الأنفاق.
ضحك رفيق وقال: من الصعب أن نتصور أن مترو الأنفاق الذي تم في التسعينيات المنصرمة، هو من النتائج الإيجابية لحملة بونابرت على مصر. فهو عملية تجارية بحتة كان من الممكن أن تتم مع أى دولة، وليست مكرمة صداقة. وبالمثل فإن الفرنسيين الذين استعان بهم محمد علي، لا يمكن اعتبارهم ممثلين لبلدهم. فأغلبهم كان من رجال بونابرت، الذين تحولوا إلى مرتزقة يخدمون حيثما يوجد صاحب عمل. قال أستاذ جزائري وهو يبسط ورقة أمامه ليقرأ منها: أنا أوافق الأستاذ المصري الذي تحدث عن لذة المستعمَر. وأحب أن أقدم نموذجا لهده اللذة من الجزائر. فكتاب التاريخ المدرسي للسنة الخامسة عندنا يقول في صفحة 17 ما نصه: "في بداية القرن التاسع عشر، أثناء الثورة الصناعية، طورت فرنسا جيشها، وبنت قدراتها العسكرية، بما سمح لها بتحرير الجزائر". تصوروا هذا الكلام بعد حوالي أربعين سنة من الاستقلال؟
تدخل البروفيسور لادو قائلا: أذكرأني قرأت مقالا لأحد المفكرين المصريين، وصف فيه الحملة، بأنها كانت النور في ظلام شامل. وغالبية المثقفين المصريين يقرون بأن الحملة الفرنسية، لم تكن غزوة استعمارية فحسب، بل كانت لها جوانبها الثقافية والحضارية التي بدأت منها النهضة المصرية الحديثة في أوائل القرن الماضي. إن الديوان الذي أنشأه بونابرت، كان أول برلمان تعرفه مصر، كما أن الفضل يرجع إليه في تحطيم قوة المماليك، التي كانت عقبة في تطور المجتمع المصري.
طلبت الكلمة وقلت: يتضح من يوميات الجبرتي (والتفت ناحية لادو قائلا: وتلميذه) أن الديوان لم تكن له غير وظيفة واحدة، هى إخماد الثورة، وجمع الأموال. أما المماليك فإن قوتهم كانت على شفا النهاية، بدليل الانتفاضات التي انتشرت ضدهم قبل الحملة، كما أن تحطيمهم تماما لم يتم إلا بعد عشر سنوات من الحملة، على يد محمد علي. وواقع الأمر أن الحملة أجهضت مشروعا تحديثيا في طور التكوين.
تدخل البرديسي في النقاش قائلا: ألاحظ أن الحاملين على الحملة يتجاهلون الدور الذي لعبته اللجنة العلمية.
رد عليه رفيق على الفور: اللجنة العلمية هي التي ابتكرت قاذفات اللهب، التي استخدمها كليبر في إخماد ثورة القاهرة الثانية. لقد كان هدف بونابرت هو تحويل مصر إلى مستعمرة مفيدة لفرنسا، واقتصر دور اللجنة العلمية على ذلك، فلم يساهم رجالها في تعليم المصريين، وفتح عالم المعرفة الحديثة أمامهم، ونقلهم من غياهب الجهل إلى نورالعلم الحديث.
قاطعه البرديسي قائلا: أنت تتجاهل حقائق تاريخية مثل كتاب وصف مصر.
قال رفيق: كتاب وصف مصر يعتبر بحق من درر الحملة. لكنه وجهة نظر فرنسية موجهة للفرنسيين. أهم ما أنجزه علماء الحملة هو الخرائط، فقد كانت ثورة في نظام المعرفة بالنسبة لعصرها، وكانت مهمة بالنسبة لمشروع السيطرة على الأرض المصرية، من أجل تحركات الجند وجمع الضرائب. وبين كم الصور الذي تحويه مجلدات الكتاب، لا نجد صورة واحدة للمعارك العسكرية، فتبدو الحملة تنويرا وحضارة، وهي الصورة التي ما زالت فرنسا تهتم باستمرارها حتى الآن.

(11)

تطلع البرديسي في ساعته ثم قال: نكتفي بهذا القدر من النقاش والكلمة الآن للبروفيسور جابريلا عبد القادر أستاذ تاريخ الفن بجامعة السوربون.
صعدت إلى المنصة سيدة في الأربعينيات ذات شعر منكوش وعوينات طبية. وكانت لها بشرة سمراء اللون. جزائرية أو مغربية من الجيل الثاني من المهاجرين؟
لمحت فتاة تقترب من مقعد الشاب ذي القرطين. بدا سعيدا بمقدمها وأجلسها إلى جواره، وهو يمسك يديها ويتطلع إليها في وله طفولي. وبدت الفتاة شاردة كأنها مستغرقة في التفكير، أو تتأمل شيئا داخلها. قام الشاب من مقعده فعلق شاشة بيضاء خلف المنصة، ثم اتخذ مجلسه أمام جهاز للصور الضوئية. انطلقت أستاذة السوربون في الحديث دون مقدمات: لجأ بونابرت إلى التصوير والدعاية ليؤكد للفرنسيين عبقريته الفذة. فكان يأمر المصورين بعد كل معركة في إيطاليا، برسم لوحة تفخم دوره في انتصارات مذهلة، لم يكن له شخصيا فيها نصيب. وهذا ما قامت به أيضا صحف طبعها على حسابه الخاص. وفعل نفس الشئ بالنسبة لحملته علي مصر فحول الحملة ـ الفاشلة باعترافه ـ إلى مجد شخصي له. قالت المتحدثة إنها ستعرض علينا خمس لوحات تبين الأكاذيب التي بنيت عليها أسطورة الحملة. أشارت للشاب ذي القرطين فحرك الشرائح الضوئية، وظهرت على الشاشة لوحة لبونابرت، وهو يهدي الوشاح ذا الألوان الثلاثة (رمز الجمهورية الفرنسية بمبادئها الثلاثة: الحرية والأخاء،المساواة) لأحد بكوات مصر.
علقت البروفيسورة: هذه اللوحة لفنان مجهول. ولا شك في أن قبول البيك لهذا الوشاح من يدي بونابرت، يدل على الوفاق التام بين الجنرال المنتصر، وشعب مصر المهزوم، كما يدل من ناحية أخرى بأن الجنرال معني بنشر مبادئ الثورة الفرنسية. وأشارت إلي جانب اللوحة كما ظهرت على الشاشة وقالت: نري نصف نخلة على يمين الرسم، في صحراء جرداء، وهو ما يكفي للتأثير علي الفلاحين الفرنسيين، الذين لم يروا مثلها من قبل. ويرتدي بونابرت القبعة ذات الريشات الثلاث، وجلبابا طويلا، ويقف علي اليمين بوجه صارم لكن حركته ودية أبوية. أما البيك فيرتدي لباسا عجيبا، عبارة عن جلباب طويل، وعمة عليها هلال، ممثلا دور المسلم ساكن مصر. ويعبر انحناء رأسه، عن خضوع المهزوم وذلته، وهو لا يكاد يصدق كرم المنتصر، وانسانيته. لكن التاريخ يكشف زيف الرسالة. فحسب الجبرتي، رفض المشايخ وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي بعنف ارتداء هذا الوشاح. كما أن بكوات المماليك لم يخضعوا أبدا، وظلوا يقاومون حتى خروج الفرنسيين.
أشارت للشاب فأرانا صورة أخرى. قالت هذه اللوحة عنوانها: "الجنرال بونابرت يعطي سيفا إلى حاكم الإسكندرية العسكري". والايحاء هنا بمحمد كُريم، الذي عينه بونابرت فعلا حاكما على الإسكندرية، بعد فشل المقاومة التي قادها، وذلك قبل أن يعدمه بشهرين، عندما تكشف له ضلوعه مع الثوار. مضت تقول: أول ما يلفت نظر المشاهد الخشوع المطلق للشعب المهزوم. إنهم علي يسار اللوحة، يقفون بملابسهم البنية خلف الحاكم المصري السعيد، ونرى أحدهم يضم يديه بسعادة بالغة. إنه أحد ثلاثة رجال لن نفهم وضعهم، بل وثراء لباس أحدهم، إلا إذا تذكرنا اللوحات الدينية الغربية، التي تصور ملوك المجوس الثلاثة، وهم يقفون أمام مهد السيد المسيح، بعد أن جاءوا إليه من أقصى الشرق، ليعبدوه. وفي الجزء الأيمن من اللوحة، نرى الفرنسيين منتصبين في كبرياء وخيلاء، بكامل أسلحتهم المزركشة بجانب العلماء.
أسندت المؤشر إلي وسط الصورة واستطردت: نصل الآن إلى محور الصورة: في الوسط حاكم الإسكندرية المسلم، يحني رأسه، ويتكئ على إحدى ركبتيه، وكأنه أحد شباب القرون الوسطي، عندما كان سيده ينصبه فارسا بسيف الفروسية الجديد، في حفل مهيب. وعلى يسار بونابرت، فارس بكامل زيه الرائع من الفراء، الذي يتنافى مع حرارة جو مصر، ولم يكن من ملابس الحملة. وواضح أن الفنان لم يزر مصر يوما.
أبرز الشاب اللوحة الثالثة فقالت: اللوحة الشهيرة التي رسمت لنالبليون بعد موقعة إمبابة، التي أطلق عليها اسم موقعة الأهرامات، لاعطائها جاذبية أسطورية. فمن كان يعرف إمبابة التي كانت بعيدة عن الاهرامات؟ ويظهر بونابرت وكأنه الفاتح المنتصر، على ظلمات التخلف، مرفوع الرأس، وسط حشد من القتلى والجبناء المتوسلين إليه، طلبا للعفو والسماح.
أما اللوحة الرابعة فتتناول ثورة القاهرة الأولى. الناظر إليها سيجد نفسه مجبرا على المقارنة، بين المقاتل الفرنسي على اليسار، وعدوه على اليمين، وكلاهما شاهرا سيفه، ليقضي على الآخر. الفرنسي صورة للفارس الأوروبي النبيل، ممثل الحضارة الوحيدة في العالم، ملابسه جميلة وكاملة، وألوانها محببة للنفس، بينما غريمه على اليمين، له جسم ضخم عار، كأنه متوحش يعيش في الغابات، ووجهه الأسود يؤكد بربريته، كما كان نمط المتوحشين في أدبيات ذلك العصر. إنه عبد يدافع عن سيده المملوك الشاب الأبيض ذي الملابس الوردية الفاخرة. وبينما سقط هذا مغشيا عليه في وهن، فإن الفرنسي يهاجم بهدوء وجسارة. توقفت لتلتقط أنفاسها ثم استطردت: المعروف فوق ذلك أن ثورة القاهرة الأولي، لم يشارك فيها المماليك على الاطلاق. هكذا تصور اللوحة انتصار قوى النور والتنوير، على قوى الظلام والتخلف والتعصب الديني الأعمى. وسنري كل هذه المعاني مجسدة في اللوحة التالية المسماة "بونابرت في الجامع الكبير بالقاهرة" وهي لوحة رائعة بحق.
انتظرت حتى ظهرت اللوحة أمامنا وقالت: نفهم طبعا أن المعني بالجامع الكبير هو جامع الأزهر، وهي كذبة تاريخية لأن بونابرت لم يدخل هذا الجامع على الإطلاق. ثم أن رموز اللوحة مسيحية أو غربية، ليس لها علاقة بالشرق، ولا بمصر، ولا بالإسلام. نرى بونابرت وحده في أعلى اللوحة على اليمين، ومن ورائه مدينة بيضاء، وسماء زرقاء صافية، وكأنه ينزل منها على جواده الأبيض، في هدوء ووقار، مادا يده إلى الأمام، مستحوذا على كل النور الذي يغمر هذا الجزء. بينما جمهور المهزومين غارق من تحته في الظلام ينظرون إليه من أسفل، إلى النور الذي لا يشع إلا من أعلى الصورة، كأنه يشع من شخص بونابرت، وجواده الأبيض. المشاهد الغربي المشبع بالثقافة المسيحية، واللوحات التي تصور قصصها وأساطيرها، سيفكر حتما في ميخائيل رئيس الملائكة، الذي قاد جيوش الحرب ضد الشيطان، عندما ثار الأخير على الناموس الإلهي. نراه دائما رافعا يده، أو مادا سيفه وجناحيه من خلفه، ينظر إلى أسفل، حيث يقبع الشيطان مطحونا، رمزا لقوى الظلام والضلال. ونرى بونابرت في اللوحة نازلا من السماء علي جواده الأبيض، كأنه ملاك الحق والنور (والتنوير إذن) ينظر بهدوء أسفل قدميه، إلى قوى الظلام والجهل. أما باقي اللوحة فلا تقل رمزية وكذبا. فهندسة الجامع لا علاقة لها بالجامع الأزهر، والمحارب الثائر الواقف أمامنا يرتدي ملابس القرون الوسطى، وكأنه ذاهب لملاقاة الملك لويس التاسع، في حملته على مصر.
أبدل الشاب اللوحة بأخرى فمضت تقول: هذه اللوحة الشهيرة لبونابرت بين مصابي الطاعون في يافا رسمها الفنان جرو، بأمر من نابليون، ردا على ما شاع من أنه قام بتسميم جنوده المصابين بالطاعون. اللوحة جميلة جدا فنيا، لكن ايحاءاتها لن يفهمها إلا المسيحي، القارىء للأناجيل، وخاصة قصة الأبرص، الذي جاء إلي السيد المسيح، فلما لمسه شفى. جزء من أسطورة الرجل الخارق التي برع نابليون في رسمها. قال نابليون يوما بمناسبة هذه اللوحة: "ما من عاقل سيقوم بمثل هذه الفعلة المتهورة، ويقامر بحياته، ويعرض كل جيشه للهلاك، إذا أصيب هو بالطاعون". لكنه هو الذي أمر الفنان جرو برسم لوحة تؤكد أنه كان يرعى جنوده، حتى لمسهم وهم مصابون بالطاعون، فتتأكد استحالة أمر تسميمهم بعد ذلك.
انتهى عرض البروفيسورة. ورفع أحد الحاضرين يده وقام واقفا. كان متقدما في السن، ورث الثياب. قال إنه يعتقد أن الفنان ليس مطالبا بأن يكون قد شارك في الحملة.
أجابت السيدة قائلة: النقطة الأساسية أن ما تصوره اللوحات يدخل في باب الأكاذيب، سواء كان الفنان مشاركا في الحملة، أو غير مشارك.
وانتهى النقاش عند هذا الحد(20).

(12)

توافد أغلب المشاركين والحضور لجلسة بعد الظهر التي سيختتم بها المؤتمر. وتبادل أغلبهم الجديد في أحداث الشغب.
صعد البرديسي إلى مقعد الرئاسة وانضم إليه ربيع.
قال الأول إنه سيقرأ بيانا سيعرض على كل الأساتذة العرب للتوقيع عليه. وقرأ كلمة بالعربية تستنكر الممارسات الدموية للحركات الأصولية التي تشوه الوجه الحقيقي للإسلام، وتطالب بتحكيم العقل وإرساء الديموقراطية و الحوار الحقيقي عوضا عن العنف وإلغاء الآخر. وبعد أن انتهى من قراءة البيان أعطى الكلمة لربيع فقرأ نسخة منه باللغة الفرنسية.
كان يبدو عليهما التعجل كأنما يستبقان أى معارضة.
طلب رفيق الكلمة فرفض البرديسي منحها له، فوقفت منفعلا وقلت: هذا البيان مضلل لأنه لا يذكر غير جانب واحد من القضية، ويغفل العوامل الأساسية التي أفرزت، وما زالت التطرف والعنف، وهي التراث الاستعماري، والهيمنة الغربية، ومخططات استنزاف الشعوب العربية، واستمرار الإحتلال الإسرائيلي، وفساد الأنظمة، وغياب الديموقراطية.
تحدث البروفيسور اللبناني فقال إنه وقع على البيان لكنه ما زال يراه قاصرا وكان لابد من أن يتضمن إشارة لخلفيات التطرف والعنف.
بدا البرديسي وربيع معه عازمين على إقرار البيان، فتجاهل الأول طلبا بالكلام من أستاذة الفنون الجزائرية، وأعلن ختام المؤتمر.
غادرنا المبني في صمت، وتجمعنا في مقهى صغير بجوار مبنى البلدية، في انتظار العشاء. وكان رفيق قد انصرف مسرعا ليلحق بقطار باريس. لحقت بنا البروفيسورة اللبنانية، ووقفت بجوارنا تدير بصرها بحثا عن مقعد. نهضت مقدما مقعدي لها. وأحضرت مقعدا آخر من مائدة في طرف المكان. وجلست إلى جوار ربيع.
همس لي: أنتم المصريون تحترمون المرأة كثيرا.
قالت البروفيسورة بصوت مرتفع إنها متعبة لم تنم جيدا وسهرت بالليل.
قاطعتها: في تصوير تليفزيوني. قلت لنا هذا الصباح.
تأملتني برهة كأنها تراني لأول مرة، وقالت: لقد أردت أن أستريح قليلا قبل العشاء لكن الصحفيين لم يتركوني في سلام.
قال رفيق إن الصحف المسائية تتحدث عن سقوط هليكوبتر أمريكية جديدة في العراق. وأضاف: هناك خبر مضحك في الصحف الأمريكية منسوب لمصادر عديدة، مفاده أن مئات من رجال القاعدة يتجهون إلي العراق.
دار الحديث عن الوضع في العراق، ثم عن أحداث الشغب، وإشاعة، تبين عدم صحتها، عن حريق في مبنى إداري بالمدينة. انضمت إلينا مديرة المعهد بعد فترة ثم غادرنا المقهى وولجنا مبنى البلدية. وقفنا في قاعة رحبة إلى جوار بوفيه كبير يدور بجدرانها. وتحدث عمدة المدينة عن تاريخ المبنى، وكيف بدأ إنشاؤه في عهد لويس الرابع عشر. ثم اصطففنا أمام البوفيه المفتوح الذي حفل بألوان متنوعة من الطعام، تصدرها السلمون المدخن، والقواقع، والجمبري، وعجينة الأفوكادو، والزيتون الأسود والأخضر، والحمص، والباذنجان المقلي. حملنا أطباقنا إلى الموائد التي رصت على جانب. وجاء مقعدي إلى جوار صبية قصيرة القامة صبوحة الوجه تتمتع ببشرة بيضاء رائقة. كانت قد خلعت معطفها، فكشفت عن كتفين عاريين رائعين، ورقبة طويلة منتفخة قليلا في قاعدتها. أما وجهها فقد علته تقطيبة متجهمة.
لم يشجعني تجهمها على الحديث إليها. ولم يلبث دور الحلوي أن جاء، ووزع النوادل أطباقا منها على الموائد، وفقدت الفتاة تحفظها، فارتدت عوينات طبية بحماس، واختارت قطعة. ثم خلعت العوينات وبعد قليل ارتدتها واختارت قطعة ثانية.
علقت على حماسها، فقالت إنها ما تزال صغيرة وتحتاج إلى السكريات. سألتها عن سبب اهتمامها بالمؤتمر.
قالت: أدرس في كلية الآداب. وأعطانا الأستاذ واجبا بشأن مداولاته.
أضافت بعد لحظة: أنا أعيش بمفردي، فأبي منفصل عن أمي، ويعيش في باريس، وأمي مديرة لسوبرماركت في لاروشيل. ونحن دائما في صراع. قالت إنها ترغب في رؤية الأهرامات. وسألتني: هل صحيح أن بناتها جاءوا من كوكب آخر؟
اقترب مني ربيع وقال:
ـ ايزابيل ستوصلك إلى الفندق عندما تنتهي.
قمت واقفا وأنا أقول: لقد انتهيت فعلا.
ودعت الفتاة وتبعت ربيع إلى الخارج. كانت ايزابيل واقفة عند المدخل، مستعدة للانصراف. أخذتنا إلى سيارتها المركونة على مقربة. وجلست إلى جوارها. قالت كأنما تستأنف حديثا سابقا: كنت أتمني أن نسهر سويا، لكن لا بد أن أعود إلى قريتنا الليلة،
بلغنا الفندق فغادرنا السيارة. قبلتني في خدي قائلة:
ـ أمي بمفردها وأخشى عليها من الاضطرابات.
التفتت إلى ربيع ودخلَت في أحضانه دافنة رأسها في عنقه.
أعطيتهما ظهري وولجت الفندق.

القسم الثاني
باريس

(13)

باريس. مونبارناس. أهلا وسهلا مرة أخرى.
عبرت الأنفاق الطويلة وأنا أجر حقيبتي خلفي. ومررت بفتاة جميلة في أحد الأركان وبيدها جيتار. كانت تغني وتعزف دون أن ترفع بصرها عن نوتة موسيقية مبسوطة أمامها. وكان بعض المارة يلقون بعملات معدنية في صحن أمامها.
وجدت نفسي عند المخرج وسط جمع حاشد من أفريقيين يرتدون طواقي بيضاء مخرمة. كانوا يستقبلون فيما يبدو أحد زعمائهم. وقدرت أنهم من جيبوتي أو جزر القمر. وكان هناك عدد من رجال الشرطة. رأيت اسمي فوق لافتة صغيرة يحملها شاب. قدمت نفسي إليه، وصحبته إلى سيارته. سألته عن أخبار الحوادث فقال إن عدد السيارات المحروقة ليلة الأمس في كل فرنسا بلغ ألف ومائتي سيارة. وأعلن الرئيس شيراك حالة الطوارئ.
سألت: وباريس؟
هز الفتى كتفيه وقال: كما في السابق. بعض السيارات المحروقة هنا وهناك.
كان الجو باردا ومطيرا. بلغنا وسط المدينة بعد قرابة ساعة، انتشر خلالها الظلام. وكانت هناك حشود غير طبيعية من رجال الشرطة في كل مكان. توقفنا أمام فندق متواضع من خمسة طوابق. وبعد أن دخلت غرفتي التقينا من جديد في البار بالطابق الأول.
قدمني إلى فتاة بيضاء قصيرة ممتلئة تدعى إميلي، ذات عينين زرقاوين جميلتين وشعر قصير، وتصدر عن ملابسها رائحة عرق زاعقة. خاطبتني بانجليزية متكلفة وعندما قلت لها إني أفهم الفرنسية، أصرت على المضي في الحديث بالإنجليزية. تحدثت عن نشاط جمعية المؤرخين وأهدافها. وقالت إنهم ينوون في المستقبل تنظيم لقاء بين الشبان الفلسطينيين والإسرائيليين، للتقريب ودحض العنف.
قالت وهي تتنهد في تكلف: العمل مع العرب صعب، بسبب اختلاف اللغات بين المشرق والمغرب.
قلت: الأمر ليس صعبا بهذه الدرجة، فاللغة الفصحي مفهومة من الجميع، لكن المشكلة أن الاستعمار الفرنسي خلق أجيالا من المثقفين لا تعرف العربية، وتفكر أولا بالفرنسية.
لم يبد عليها الاقتناع وأصرت على رأيها.
انضمت إلينا سيدة مغربية. قصيرة بيضاء ممتلئة، بمكياج ثقيل تدعى فريدة. كانت تعمل في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. وكشفت تعليقاتها عن خفة ظل.
ظهر رفيق وشخص آخر في مدخل البار، وقدمني إلى زميله. كان فرنسيا في الأربعينيات ممتلئ الجسم مفتول العضلات. وكان بروفيسورا في الأنثروبولجي، والمسئول عن تنظيم المؤتمر ويدعى كريستيان لونفي. أعطاني رفيق نسخة من أوراق المؤتمر، وسألني كريستيان عن الموضوع الذي سأتكلم فيه.
قلت: سأكتفي بالمشاركة في المناقشات وربما تحدثت عن حملة نابليون على مصر.
قال: عظيم.
وجه حديثه إلى رفيق: هل قرأت ما قاله نائب اشتراكي في البرلمان؟ امتدح ما أسماه بـ "العمل الذي أنجزته فرنسا في أراض ناكرة للجميل".
قال رفيق: ليس غريبا من أحد أعضاء الحزب الاشتراكي. رغم أن رئيس كتلتهم بالبرلمان عارض القانون.
تناولنا العشاء معا وصعدت إلى غرفتي على الفور. اغتسلت ثم ملأت كأسا من الويسكي وجلست أتصفح الأوراق التي أعطانيها رفيق. كان هناك برنامج الجلسات، وكوبونات خاصة بطعام الغداء، والعشاء. ثم ملف عن قانون 158 الصادر في 23 فبراير 2005(21).
وجاء بالملف أن المادة الثالثة عشر على وجه الأخص، هوجمت بشدة، لكونها أتت في صالح إرهابي منظمة الجيش السري الفرنسي(22) الذين سبق إدانتهم.
وفي موضع آخر قرأت أن القانون حظى إجمالا بمعارضة واسعة من جانب عدد من المؤرخين (كلود ليوزو مثلا) الذين رفضوا أن يتم تدريس التاريخ في صيغة رسمية معتمدة، وهو ما يرمي القانون إلى فرضه. وانضم إليهم أكثر من ألف من الأساتذة الجامعيين والباحثين وأعضاء "جمعية أساتذة التاريخ والجغرافيا في التعليم العام". وقدمت احتجاجات أخرى وقع عليها عشرات الألوف. وفي الوقت الذي أيد فيه الاشتراكيون واليمينيون القانون، انفرد الشيوعيون بمعارضته وبالتصويت ضده.
ونشط برلمانيون للتنديد بهذا القانون منهم كرسيتينا توبيرا التي وصفته بالمفجع، لكونه قانونا فئويا صيغ لإرضاء بعض أوساط المتعاونين مع سلطات الاحتلال. وانفردت إحدى الصفحات بعنوان "نداء الحرية للتاريخ" وفيه طالب تسعة عشر مؤرخا بالغاء كافة القوانين التاريخية التي تشمل قانون 23 فبراير 2005 وقانون جايسو(23)، وكما تضم من ناحية أخرى القانون الذي يفرض الاعتراف بابادة الأرمن لكون هذه القوانين:"تقيد حرية المؤرخ وتملي عليه تحت طائلة العقوبة ما يجب أن يبحثه وما يجب أن يجده". وأكد النداء على أن المؤرخ "لا يقبل بأية قواعد ثابتة ولا يخضع لأية محظورات"(24).

(14)

استيقظت مبكرا وتناولت افطاري في قاعة الطعام. وكنت في مزاج رائق، عطله أمريكي تحدث بصوت مرتفع في محمول، وهو يتحرك في أرجاء القاعة. فهمت أنه ممثل لشركة توزيع شي ما له علاقة بالبترول، ويطالب بارسال الشيك فورا.
ألقيت نظرة على الصحف ووجدت أن الحكومة الفرنسية قررت حظر التجوال في مناطق العنف المستمر في الضواحي والأقاليم الفرنسية لليوم الثاني عشر. كما استدعت عشرة آلاف من رجال الشرطة، واستعانت بطائرات الهليكوبتر في مطاردة الثائرين. ومن ناحية أخرى قررت زيادة المنح الدراسية لشبان الضواحي وإقامة مراكز توظيف لهم. وأصدر وزير الداخلية ساركوزي أمرا بترحيل الأجانب الذين تثبت إدانتهم في الحوادث حتى من يحملون منهم تأشيرة إقامة مما أثار انتقاد اليسار. وكانت هناك صورة لشباب يلقون حجارة وقنابل حارقة على رجال الشرطة. كما حدث اضرام نار في سيارات ببروكسل، مما أثار تكهنات باحتمال امتداد الشغب إلى بقية الدول الأوروبية.
شربت قهوتي وخرجت إلى الشارع لأتمشى. كنت راضيا لأني غير مقيد بموعد أو مؤتمر. تمشيت طويلا في الشوارع النظيفة المشجرة. وأوشكت أن اصطدم بشاب، أوقفته رفيقته فجأة، وقبلته في فمه. وجدت نفسي قريبا من تقاطع شارعي سان جيرمان وسان ميشيل فاتجهت إلى حديقة لوكسمبورج. تجولت في فضائها الشاسع الذي تنتشر به المساقط المائية، وتماثيل الشخصيات الأدبية والتاريخية الفرنسية. جلست وحيدا تقريبا وسطعت شمس ضعيفة. استمتعت بالهدوء والخضرة. ثم عدت إلى الفندق فتناولت طعام الغداء ونعمت بقيلولة طويلة.
جلست أقرأ بعد الظهر، ثم غالبت كسلي، وخرجت لأتمشى. مررت بدار للسينما. لم تشجعني الأفلام المعروضة على خيار الفرجة. فواصلت السير. واكتشفت أني فقدت معالم الطريق، فشعرت بالانزعاج.
اعترضني شاب في سترة من الجلد الأسود وصاح بي: ابتسم! ابتعدت عنه واستأنفت السير. وارتحت عندما تبينت معالم الطريق، فعدت فورا إلى الفندق. تلفن لي دانييل ودعاني لزيارته هو وزوجته المغربية. رحبت بالأمر. وانتظرته في مدخل الفندق. جاء في معطف أنيق وكاب صوفي. قال إنه باع سيارته وجاء بالباص. كان في مثل طولي وفي السبعين. كنت قد تعرفت به في مصر، حيث عمل ممثلا لشركة أدوية فرنسية، في شركة مشتركة مع مصريين. ثم حدثت مشكلة. وحسب قوله كان ضحية الشريكين المصريين، اللذين نصبا عليه. وصار مطلوبا للعدالة في مصر. وكان واسع الثقافة، مغرما بالموسيقى الكلاسيكية وطالما قضينا الوقت في منزله بالقاهرة، نستمع إلى التسجيلات المختلفة. سألته عن عملية البروستاتا.
قال: كل شئ علي ما يرام سوى أني لم أعد أنتصب. واليوم أزلت نقاطا سرطانية من جلدي.
استفسرت عن زوجته، فقال إنها تعمل يومين في الأسبوع في بوتيك، مقابل 30 يورو لليوم.
داعب حسنة بارزة في ذقنه ثم قال: سأقترض غدا برهن المسكن، وأشتري أعواما من معاشي لتأمين حياة رئيفة في حالة موتي.
أخذنا المترو وكانت لديه بطاقة اشتراك، فدفع لي يورو ونصفا ثمنا لبطاقتي. وجلسنا في مواجهة شابين حمل كل منهما فتاة فوق حجره.
صعدنا إلى الشقة التي اشتراها بعد عودته من مصر. وتقع أعلى مبنى فاخر في حي برجوازي. لكن الشقة كانت واطئة السقف تتألف من غرفة وصالة واسعة ومطبخ. في الغالب كانت في السابق مخصصة للخدم أو لحارس المبنى.
استقبلتنا رئيفة في رداء مغربي جميل. كانت أطول من دانييل، ذات قد رشيق، وبشرة سمراء، وملامح أفريقية. وقدمتنا إلى صاحبة الحانوت التي تعمل به، وزوجها الصربي الضخم. وإلى فتاة مصرية ذات يدين كبيرتين على غير العادة. جلست بجوارالمصرية، وعرفت أنها كانت متزوجة من صحفي مصري، ثم تطلقا. وقالت انها أرادت التخلص منه بالمجئ إلى فرنسا للدراسة، فلحق بها وتزوجها من جديد، ليحصل على الإقامة، ثم أقام معها ثلاثة شهور، وأخيرا عاد إلى مصر.
كانت الأرائك ذات الأغطية المغربية موزعة في أركان القاعة، وفي منتصفها، بحيث خلقت الانطباع بوجود قاعتين منفصلتين. وتوزعت على الجدران صور فوتوغرافية لدانييل في البلاد الأسيوية والأفريقية التي عمل بها. ورأيت الحمامة البيضاء التي أحضرتها رئيفة معها من مصر. كانت واقفة في استسلام داخل قفص مفتوح.
قالت رئيفة: الحمامة تغرد طول الوقت، لكنها تصمت عندما أكون مكتئبة.
تناولتها بيدي ورفعتها إلي أعلى فتحركت، واستقرت فوق رأسي، ثم تجولت فوق المائدة إلى أن بدأت رئيفة في اعداد المائدة فوضعتها في القفص، دون أن تغلقه. وظلت الحمامة في القفص المفتوح، دون أن تبرحه. قدمت لنا رئيفة كرات لحم مفروم في صوص، مع سلطة تفاح وبنجر وسبارجوس. وقال دانييل إنه مر بمظاهرة طلاب، كانت تحطم حانوتا للمجوهرات.
قال الصربي: لا بد من انزال الجيش لمواجهة المشاغبين.
قال دانييل: لو حدث هذا تكون الدكتاتورية والبونابرتية قد عادت إلي فرنسا.
قالت رئيفة: الناس تشكو من البطالة، وكثير من العاملين يسكنون في الشوارع، فيعودون من العمل إلى خيامهم. أما الشباب فضائع بلا مستقبل واضح، والكثيرون يهاجرون إلى كندا واستراليا.
قالت المصرية: ساركوزي يستعد لاستلام الحكم، وسينهي حق الاضراب والعلاج والدواء المكفولين للجميع عاملين وعاطلين.
قال الصربي: لا تجرؤ فتاة في الضواحي على الخروج بعد السابعة مساء.
قالت زوجته: المسلمون جاوزوا الحد. وانتشر الحجاب في كل مكان.
انتحي بي دانييل جانبا، ليقرأ لي فقرات من مذكرات يكتبها: كانت هناك فقرة عن رئيفة وعلاقتها بفضائها. حلقت طريقة السرد بعيدا عن أي شئ واقعي أوملموس، إنما حومت من بعيد مؤكدة أنها ـ رئيفة ـ أقل ثقافة منه. ثم تلى علىّ مقتطفات من كتب فنشتاين وماري أرنو، وأني راند.
سألني: هل يمكن أن أكتب لك؟ لم يعد لدي من أكتب له.
وضع سيمفونية شوبرت الناقصة في المسجلة، وتركني أنصت لها. وعاد إلى مائدة الطعام التي كان النقاش مستعرا حولها. وكنت منهمكا في الإنصات للموسيقي، عندما سمعت صوت خبطة شديد على المنضدة، وصوت دانيل يزعق: هذا منزل فرنسي. كان حديثه موجها إلى رئيفة، التي ردت عليه بضحكة استفزازية. وبدأ بينهما شجار مألوف سرعان ما انتهى.

(15)

قضيت الصباح التالي في مراجعة أوراقي استعدادا للمؤتمر. وقررت إعداد كلمة تنطلق من مذكرات تلميذ الجبرتي. وعند الـظهر نزلت إلى قاعة الطعام. وبعد قليل فوجئت بربيع يلج القاعة. قال إنه جاء للتو من بواتييه، وسيبقى عدة أيام في باريس، يتابع خلالها جلسات المؤتمر.
سألته: وحدك أو مع ايزابيل؟
قال: وحدي.
ـ هل حدث شغب في بواتييه؟
ـ لا. احترقت أمس مدرسة في بلفور، وحدث شغب في تولوز.
وعدة مدن أخرى: ليل، وستراسبورج، ومارسيليا، وليون.
أحضر طبقا من البوفيه المفتوح. وأشار إلى الصحيفة التي كنت أقرأها.
سألني: قرأت تصريح جان ماري لوبن زعيم الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة؟
قلت: ليس بعد.
قال: أعلن أن أحداث الشغب دليل علي صدق أطروحاته، حول المشكلات التي يسببها العرب والأفارقة في فرنسا.
اقترح أن نذهب إلى مقهى يملكه يهودي جزائري حاصل على دكتوراه في العلوم، له فلسفة خاصة، فهو لا يهتم بالفلوس إنما يستمتع بالحياة: الصحاب، والحشيش، والموسيقي، وقليل من العمل. ولهذا افتتح هذا المقهى.
مشينا طويلا حتى حى قرب ميدان قديم، وكان المقهي يقع على إحدى النواصي، بجوار فندق صغير، قال ربيع إن الجزائريين يتجمعون فيه، ويسكن كل عدد منهم في غرفة واحدة.
قدمني ربيع إلى صاحبه سامي. وكان قصيرا سمينا نصف أصلع، بشعر منفوش على جانبي رأسه، وتطل عيناه الذكيتان من وراء عوينات طبية. ويبدو كأنه لم يستحم من زمن. وقدرت عمره ببداية الأربعينيات.
جلسنا علي أرائك ممتدة بحذاء الجدران. واحتل سامي مكانه خلف كاونتر عليه صنبور مياه، وجهاز كمبيوتر بجوانب متسخة، وشاشة رفيعة حديثة مضاءة. وبجوارها مجموعة من أنابيب الألوان، وخلفه رفوف تحمل مختلف أنواع الأكواب الزجاجية الملونة. وتناثرت الموائد الصغيرة في أرجاء المكان، في غير نظام، وحولها مقاعد متهالكة. وعلقت فوق الجدران، التي تحتاج بشدة إلى الدهان، أنواع مختلفة من القيثارات، وآلات التامبورة، والعود، وعدة طبلات، ورقّ، وأنواع من الزليج القديم المزركش، وعقود من الخرز. وتدلت من السقف مصابيح سبوت لايت صغيرة.
كان المكان ذا طابع غريب، أقرب إلي حانوت عاديات، ويحتاج إلى كثير من النظام والنظافة.
استخرج سامي زجاجة نبيذ أحمرمن أسفل الكونتر ووزع علينا كؤوسه. ثم وقف واتجه إلى ركن، جعل فيه كهفا صغيرا من النحاس امتلأ بقطع الفحم. أمسك بماشة وحرك الفحم حتى توهجت النار. التقط بعضها ووضعه فوق حجر نارجيلة زجاجية. والتقط بضعة أنفاس وهو يعود إلى مقعده. وفاحت رائحة الحشيش في المكان.
توقعت أن يدير النارجيلة علينا، ونويت القبول لكنه لم يفعل.
قال لي ربيع: سامي عنده أغان مصرية قديمة، لا توجد في مكان آخر. هل سمعت عن المنيلاوي؟
أجبت بالنفي.
عبث سامي بفأرة الكمبيوتر، ورأيت قائمة تظهر على الشاشة، ثم ارتفع صوت مصري بأغنية قديمة.
قال سامي بعربية سليمة في اللهجة الجزائرية: عندي أيضا تسجيلات نادرة لمغن عراقي يهودي ذي صوت قوي. هاجر إلى إسرائيل في الخمسينيات، وقرأ القرآن من إذاعتها.
أقبل علينا رجل خمسيني بعينيه اثار نعاس. قال لي ربيع إنه رسام مغربي معروف.
سأله عن صحته فحكي لنا كيف أراد لأول مرة في حياته أن يساعد شخصا على صعود الرصيف، فوقع علي رأسه، وكسرت يداه، كما أصيبت رأسه، ولولا التأمين الصحي ما أمكنه تحمل نفقات العلاج. تناول الرسام بعض النبيذ، وجلس يحدق في الفراغ، ثم التقط ورقة رسم بيضاء من خلف شاشة الكمبيوتر، وأسندها إلى الكونتر. بلل قطعة قطن من زجاجة بها مداد أسود، ودهن بها الورقة، ثم تأملها. وتناول ريشة وبدأ يعمل بها. ودون أن يتحرك سامي من مكانه، مد يده إلى صنبور المياه فملأ كنكة كبيرة منه، ودس بها قليلا من السكر والبن، ثم قام إلى كهف الفحم فوضعها فوقه. ثم هبط درجا رفيعا في الركن. وظهر بعد لحظة حاملا نايا قديما. جلس وقرب الناي من فمه، وعزف بضع نغمات من الموسيقى الأندلسية المغربية. ثم وضعه جانبا وهبط الدرج من جديد.
في هذه المرة عاد بعود دقيق الصنع، فجرب العزف عليه. كان يتجنب النظر إلىّ، رغم وثوقي من أنه يستعرض نفسه أمامي. مزق الرسام الورقة التي كان يخطط فوقها، وأعطى سامي ورقة بعشرين يورو، ليشتري لنا زجاجة نبيذ جديدة.
دخل شاب بعينين غائرتين. وقال لي ربيع إنه عازف إيراني. دار حول الكاونتر وجلس إلي جوار سامي.
قدم له سامي فنجانا من القهوة، واختفى في الطابق الأسفل ثم عاد بتمثال أسود متوسط الحجم. تعرفت فيه على عمل مختار(25) الشهير "الفلاحة حاملة الجرة".
قلت إنه تقليد جيد.
قال: بالعكس. هذه هي النسخة الأصلية التي عرضها مختار في باريس سنة 1930. اشتريتها من السوق السوداء بـ 22 ألف يورو. وجه ربيع الحديث إلى الإيراني وسأله عن مكانة علي بن أبي طالب لدى الشيعة، وعن المقصود بتعبير آية الله. وحرك سامي الفأرة فتردد صوت غريب قال إنه لمغنية إيرانية مشهورة. ولم ألبث أن تعرفت على موسيقى أغنية "إفرح يا قلبي" لأم كلثوم.
ولج المقهي شابان جلسا بالقرب منا. قدم لي سامي أحدهما على أنه مؤلف موسيقي تركي. وأوقف الأغنية الإيرانية ثم أسمعنا قطعة موسيقية جميلة للشاب.
دخلت فتاة شقراء وقام لها سامي واقفا. تبادلا بضع عبارات فهمت منها أنها تعمل في مطعم مجاور. أبدت اهتماما بمسبحة من الخرز وسألته عن ثمنها. قال سامي: ادفعي ما تشائين. أعطته الفتاة في خحل بضع يوروات فدسها أسفل الكونتر دون أن يطلع عليها. انصرفت الفتاة وغاب سامي في الأسفل، وعاد حاملا ورقة عرضها علىّ. كانت صفحة من كتاب قديم باللغة الفارسية. قال في زهو: هذه ورقة من الشاهنامة الأصلية. حملت الورقة في رفق ووقفت. اقتربت من أحد المصابيح، ورفعت الورقة في الضوء أتأملها. وشعرت به قد هبط خلف الكونتر وعاد بكاميرا كبيرة الحجم غريبة الشكل وجهها نحوي.
تركته يصورني ثم أعدت إليه الورقة. واقترح ربيع الانصراف بعد قليل فغادرنا المقهى.

(16)

سألني رفيق: أين كنت بالأمس؟ تلفنت لك عدة مرات.
رويت له ما حدث متعجبا من شخصية سامي. وجم وطلب مني أن أذكر له بالتفصيل وقائع الزيارة.
قال: سامي معروف بعلاقاته الغريبة. وقصة التصوير تؤكدها.
سألت: كيف؟
قال: عندما يتعرف عميل بأحد أجهزة الاستخبارات على شخص جديد مهم، ويقدم تقريرا بذلك لسادته. ما هو الدليل على صدقه؟
قلت: صورة للشخص تبدو فيها ملامح المكان.
ـ تماما.
سألت: وما فائدتي له؟
قال: لا أعرف. وربما هو أيضا لا يعرف. إنما هو احتياط للمستقبل. صورة للأرشيف قد تنفع في يوم من الأيام.
قلت: وربيع؟
قال: يعمل معه بالتأكيد.
قلت: لديك مخ تآمري.
قال: سامي يستخدم المقهى لجمع الأخبار، والتعرف بالعرب والأجانب المقيمين في باريس.
كنا نتمشى في سان جرمان في جو بارد لم يمنع البنات من كشف بطونهن وفتحات صدورهن. وتوقفنا عدة مرات أمام المكتبات التي عرضت كتبها الرخيصة في عرض الشارع. وكان الزحام كبيرا والناس تقبل علي الشراء. مررنا بمقهى كلوني ناصية شارع سان ميشيل. وقال رفيق: ثلاثون في المائة من الفرنسيين خسروا كل شيء عندما عجزوا عن دفع أقساط مشترياتهم. وبعضهم يجلس طول النهار في المقاهي حيث يكفي أن تطلب فنجانا من القهوة فقط طول اليوم.
قلت: من يشهد حيوية الشارع لا يصدق الحديث الدائم عن الضائقة الاقتصادية التي تشهدها فرنسا.
قال: لا تصدق أبدا أن الفرنسيين يعانون إقتصاديا. فالحكام يجدون دائما طريقة لترحيل أي انكماش بحيث يعاني منه الآخرون. عمالهم أو العمال الأجانب أو شعوب العالم الثالث. إنظر حولك إلى المطاعم. إنهم يأكلون طول الوقت. وما يتخلف عنهم من خبز فقط يكفي لإطعام قارة أفريقيا. هذه معلومة من الاحصاءات الرسمية.
رأيت مجموعة من الرجال والنساء في ملابس رثة اقتعدوا الرصيف قرب أحد المطاعم. قال رفيق: إنهم من لاجئي رومانيا الذين ينتزعون اليوم لقمة العرب. دخلنا عدة مكتبات ثم تناولنا طعام الغداء سويا في الفندق. وحصلت على قيلولتي الممتعة. طلبت شايا من خدمة الغرف. وبعد قليل طلبت قهوة. وتصفحت أوراقي. وفي الساعة السابعة هبطت إلي البار لموعد عشاء مع إميلي وفريدة. وجدت الأخيرة مع امرأة في منتصف الأربعينيات أو أكثر قليلا بعوينات طبية ووجه خال من المكياج تدعى سيلين. كانت كبيرة الجسم وترتدي بلوزة بيج وبنطلون كاجوال بنيا. وكان صدرها صغيرا لا تبدو تفاصيله. قالت فريدة إن إميلي اعتذرت عن الحضور ثم استأنفت حديثا سابقا عن مدينة نابولي وضجتها وقذارة شوارعها.
سألت سيلين إذا كانت قد زارت القاهرة.
قالت إنها فعلت منذ شهور.
ضحكنا جميعا. خلعت نظارتها ووضعتها أمامها فوق المائدة. وأشعلت سيجارة. كانت عيناها جميلتين شديدتي الزرقة تحف بهما غضون خفيفة، وكانت لها شفتان رفيعتان جافتان يعلوهما زغب خفيف، وأسنان متباعدة عن بعضها. ويبدو الإجهاد على وجهها إلى أن تضحك فتدب فيه الحيوية.
انطلقت فريدة في حديث عن الرقابة في العالم العربي، مستشهدة بمصادرة ديوان أبي نواس أخيرا في مصر. وعددت حالات الاعتداء علي الكتاب والشعراء في الجزائر، والأردن، والسعودية، ومصر. ذكرت الاعتداء علي نجيب محفوظ سنة 1994 وقالت إن العملية بدأت في مصر سنة 1985 بادانة كتاب ألف ليلة وليلة بتهمة المس بالأخلاق ومصادرة 3 آلاف نسخة منه من معرض القاهرة الدولي للكتاب. قلت إن عملية المصادرة والرقابة بدأت قبل ذلك بكثير. وضربت مثلا بكتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي سنة 1926. واستدركت قائلا: وقبل ذلك أيضا فمحمد علي اشترط أن يطلع على موضوعات جريدة "الوقائع المصرية" قبل نشرها.
قالت: في العالم العربي بؤس سياسي، وحلول أمنية ودكتاتورية. والرقابة ليست إدارية فقط، وإنما قضائية ومجتمعية أيضا.
قلت: الرقابة موجودة في كل مكان.
حكيت لهما قصة البروفيسور الأمريكي الذي تخلصت منه جامعته الأمريكية بسبب كتابه عن تاريخ التوراة(26). وأشرت إلي ما حدث لجارودي بسبب كتابه عن الأساطير المؤسسية لدولة إسرائيل.
لم تعلق إحداهما بشئ فحكيت قصة المحاضرة التي أدليت بها في جمعية للمصريين الأمريكان في نيويورك وكيف خرج الحاضرون واحدا بعد الآخر أثناء كلمتي احتجاجا علي منافاتها للأخلاق العامة.ولم يبق غير عدد قليل للغاية ممن لا يعرفون اللغة العربية(27).
شجعتني ابتسامتاهما على الاستطراد، فذكرت لهما نكتة ابن أحد كبار الحكام الذي يملك شقة في الاسكندرية، وواحدة في شرم الشيخ وثالثة في أسوان، ويرغب في فتحهم على بعض. سألتني سيلين إلى متي سأبقى فقلت حتى نهاية المؤتمر. قالت إنها تدير مؤسسة تربوية لأبناء المهاجرين في تولوز هدفها مساعدتهم على الاندماج في المجتمع الفرنسي.
كان صوتها رقيقا خافت النبرة.
تذكرت أن قلمي لم يعد صالحا للكتابة. سألتهما إذا كانا بوسعهما إقراضي واحدا. فأعطتني سيلين قلما صينيا.
اعتذرت عن الانضمام إلينا في العشاء، لأنها تشعر بالتعب وباحتقان في الحلق. فتناولناه بدونها. ثم خرجنا إلى الطريق وتمشينا قليلا. وقالت فريدة إن المرأة العربية لا تستطيع التمشية هكذا في الشوارع العربية. وهي لا تملك شيئا لنفسها. عارضتها قائلا: المرأة في مصر قوية على عكس ما يتصور الناس. فإذا ضايقها زوجها مزقته بالساطور، ووضعت أشلاءه في كيس، وألقت به في الشارع. وعددت لها حوادث من هذا النوع شاعت في الفترة الأخيرة.
أضفت ضاحكا: أغلب الأزواج المصريين ينامون كالذئاب بعين واحدة.
عدنا إلى الفندق بعد فترة، وصعدت إلى غرفتي. حاولت العمل لكني لم أجد حماسا لذلك. فأدرت التليفزيون. وتنقلت بين قنوات عديدة تعرض نفس الموضوعات: الجرائم الحية والمتخيلة والتهديدات القادمة من الفضاء الخارجي. ووجدت قناة بها إعلانات عن مرافقات ومرافقين وتلاها فيلم إيروتيكي سخيف عن زوج يتظاهر بأنه لص يهاجم زوجته ويضاجعها.
أغلقت التليفزيون وأخذت أدويتي ونمت.

(17)

عندما دخلت المطعم في الصباح التقيت بفريدة. أشارت إلى حيث تجلس مع سيلين ودعتني للانضمام إليهما.
اتجهت إلى البوفيه ولمحت سيلين تتطلع نحوي منتظرة أن أرفع عيني نحوها ففعلت وحييتها، وسألتها بالإشارة عن حلقها فأومأت بأنه أفضل. اخترت شريحة مرتدلا وجبن و كرواسون وزبدا ومربي وانضممت إليهما.
كانت ترتدي بلوفرا بألوان مزركشة، فوق بلوزة من ألوان مقاربة، وكانت عيناها مكحلتين بلا نظارة فتضاعف جمالهما. ولاحظت أنهما عينان ملغزتان لا تفصحان عن مشاعرها التي تتكشف فقط خلال ابتسامة أو تقطيبة (عرفت بعد ذلك كيف أخطىء في تفسير نظراتها فقد تكون باسمة وهي في أشد حالات الغضب).
لم يعجبني الكرواسون الذي أكلته مدهونا بمادة سكرية.
قالت سيلبن: لم يعد الكرواسون كما كان قبل وفاة أكبر خباز فرنسي منذ عامين. سقطت به طائرته الهليكوبتر مع أسرته وهو في الطريق إلى جزيرة يملكها.
سألتهما عن الأخبار. قالت فريدة: هاجم الشباب السيارات في مدينة ليون وقذفوا الشرطة بالحجارة فردت عليهم بقنابل الغاز.
أضافت سيلين: أُحرقت مدرسة حضانة في مدينة كاربنتراس الجنوبية.
غادرنا الفندق وانطلقنا في شارع فوبور سان جاك. وكانت تتجاوزني طولا ببضع سنتيمترات. علقتٌ على تنظيم انتظار السيارات في أماكن محددة وفقا لقواعد مرسومة فوق الرصيف وتحته. تلقت تعليقي في دهشة ثم استدركت:
ـ آه. أنت تقارن بالقاهرة. لا تفعل.
قلت لها: أكثر مايلفت النظر هو أن الأرصفة صالحة للسير، رغم كتل مخلفات الكلاب الموجودة في كل خطوة، والتي تنطق بارتفاع مستوى معيشتها.
فكرت لحظة وأضفت: الشوارع نظيفة لأن الأمطارالسخية تغسلها بانتظام، وهناك أيضا العناية المستمرة التي وفرها الاستقرار..فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتعرض أوروبا لعدوان عسكري مدمر مثل ما حدث لنا عدة مرات. والعائد الناتج عن تدمير شوارع مدن أخري في أفريقيا وشرق آسيا. انتقلنا إلى بوليفار بورت رويال. واختفت السحب فجأة، وسطعت شمس قوية، وسارع الشباب بالتخفف من الملابس بسرعة البرق. ومر الترام دون صوت لأنه يسير على كاوتشوك.
تمنيت لو كنت أصغر سنا لألقي بحافظتي الجلدية، و ما بها من أوراق جانبا، هي وسترتي الثقيلة وكنزتي الصوفية، وأضرب عرض الحائط بالمؤتمر، لأرتمي علي مقعد فوق الرصيف بجوارفتاة كشفت عن ساقين متناسقتين عرضتهما للشمس والأنظار. بعد عدة مبان عامة وسكنية بدأت المطاعم، وقد قبع خلف واجهاتها الزجاجية الأنيقة طلاب طعام الغداء. وصلت إلي التقاطع، فإشتريت صحيفة عربية من حانوت للصحف، وقلما قدمته لسيلين.
قلت: سأحتفظ بقلمك تذكارا.
إنحدرنا في شارع فوجئت بأنه يحمل اسم مونج. توقفت منفعلا.
سألتها إن كانت تعرف من هو مونج؟
أجابت بالنفي.
قلت: هو من أعظم الشخصيات تعددا في الكفاءات في تاريخ العلم، وكان من العلماء الذين أخذهم نابليون معه إلى مصر. وسكن بالقاهرة في قصر بيت السناري، بحارة صغيرة في مواجهة مسجد السيدة زينب. وزار نابليون الحارة وأطلق اسم مونج عليها، قبل أن تطلق بلدية باريس اسمه على هذا الشارع(28).
بلغنا الجامعة. وقبل أن نلج المبنى استوقفتني فتاة سودانية. قالت إننا التقينا منذ عدة سنوات في الخرطوم، وإنها اضطرت إلى مغادرة السودان هي وزوجها وأطفالها الثلاثة بعد أن استولى الجنرال عمر بشيرعلي السلطة بمعونة الجبهة الإسلامية.
سألتها: وماذا تفعلين هنا؟
قالت: دراسات عليا لمدة ثلاث سنوات.
قلت: جيد. فلا بد أن تتغير الأوضاع في السودان خلال تلك المدة.
قالت: أكيد. ثم ودعتني منصرفة.
تعتقد ذلك فعلا أم تجاريني فحسب؟ صعدنا إلى الطابق الثاني. دخلنا قاعة تضم قرابة مائة كرسي. امتلأت جدرانها بملصقات قديمة حال لونها. وفي طرفها منصة خلفها لافتة تحمل هذه العبارة: سؤال الاستعمار!
لم نجد مقعدين متجاورين فجلست وحدها وجلست في أحد الصفوف الأمامية. ولاحظت أن ملامح الحاضرين تتوزع بين أعراق مختلفة. تفحصت الملصقات التي أحاطت بجدران القاعة. تألف أحدها من رسوم ملونة لثلاث رؤوس: واحد أفريقي أسود، والثاني عربي أسمر، والثالث فيتنامي أصفر، وأسفلها هذه العبارة: "ثلاثة ألوان وعلم واحد، امبراطورية واحدة". وكان الملصق الثاني يدعو للتطوع في الفرقة الأجنبية، وهي دعوة كررتها بقية الملصقات التي حال لونها محبذة مغامرة الذهاب إلى ما وراء البحار، ومعددة المكاسب التي يجنيها المتطوع.
صعد كريستيان إلى المنصة. وبسط صدره فبدا كالمصارعين. رحب بالحاضرين منوها بالمساندة التي تلقاها المؤتمر من "الحركة ضد العنصرية ومن أجل الصداقة بين الشعوب"، ثم قال: إنه لأمر يدعو للأسف أن نضطر لعقد مثل هذا المؤتمر، ونناقش أمرا كان المظنون أنه قد حسم. ففي عام 1948 قال المفكر الفرنسي الراحل مانوني في كتابه الشهيرعن سيكولوجية الاستعمار إنه ليس هناك احتلال طيب واحتلال شرير، وانما الاحتلال ابادة، وتشريد، ونهب، واستنزاف. وكان يعلق على المذبحة البشعة التي ارتكبتها القوات الفرنسية في جزيرة مدغشقر وراح ضحيتها أكثر من 100 ألف مواطن(29).
وقبل ذلك بسنة قال المفكر الفرنسي الكسي دي توكيفيل في تقريره عن استعمار الجزائر "لقد جعلنا المجتمع المسلم أكثر بؤسا، وأكثر فوضى، وأكثر جهلا، وأكثر وحشية، مما كان عليه قبل أن يعرفنا". ولا يقتصر الأمر على الاستعمار الفرنسي فكتاب تاريخ النهب الاستعماري لجون مارلو دلل على أن الاحتلال البريطاني لمصر لم تكن له أهداف أو غايات تسبق غاية النهب.
وبعد أكثر من نصف قرن نجد أن طبعة جديدة من قاموس فرنسي يجري إعدادها تعرف الاستعمار بأنه "تقييم وتسريع استغلال الثروات الطبيعية في البلاد الأجنبية". ونجد من المؤرخين الفرنسيين من يدعوإلى ابراز "الإنجاز الجماعي لفرنسا فيما وراء البحار"، ومن يزعم "أن ما يقال في الكتب عن تاريخ الاستعمار، يوحي بأن العنف كان في أغلب الأوقات من جانب واحد".
الآن يتم الحديث عن المهمة التمدينية للاستعمار، ناشر التقدم والحضارة والديموقراطية. ويعود الحديث عن العبء الذي يتحمله الرجل الأبيض إزاء الشعوب المستعبدة. لكن هناك من المؤرخين من يعتقد عكس ذلك. فيقول باسكال بلانشار(30)، إن فرنسا في مأزق التناقض بين مباديء الثورة الفرنسية وبين السلوك الاستعماري.
توقف لحظة ثم استطرد ببطء: هذا التناقض بالتحديد هو ما دعانا إلي التفكير في عقد هذا المؤتمر.
اختتم كريستيان قائلا إن المتحدثين في هذه الجلسة سيتناولون الاثار بعيدة المدى التي تتركها القوة الاستعمارية خلفها، وتعمل في البنى السياسية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تكون غالبا هشة.
تحدث أستاذ جزائري للأدب عن سياسة الاستيعاب أو التذويب التي اخترعتها فرنسا وطبقتها في الجزائر التي احتلتها في 1830 واعتبرتها جزءا منها في 1948. وقال إن المراجع الفرنسية تذكر أن الجنود الفرنسيين وصلوا الجزائر على متن 675 سفينة تحت شعارات تخليصها من الاستبداد، ومنح أهلها الحرية. وكان في انتظارهم الخازن الذي سلمهم مفاتيح خزائن بها أكثر من 50 مليون دولار. واشتغل الجنود بالنهب، وأبادوا قبائل بأكملها، واغتصبوا الأرض، وأعطوها للمستوطنين الفرنسيين الذين بلغ عددهم عند الاستقلال أكثر من مليون مستوطن.
وقال: عملت فرنسا علي إيقاف النمو الحضاري والمجتمعي طوال 132 سنة. وحاولت طمس هوية الكوادر الوطنية، وتصفية الأسس المادية والمعنوية للمجتمع بضرب وحدته القبلية والأسرية، وبالتبشير الديني، وبمحو اللغة العربية، ومنع تعليمها، ونشر اللغة والثقافة الفرنسيتين وضرب وحدة العرب والبربر.
قدم كرسيتيان المتحدث التالي وهو أستاذ فرنسي للحضارة قال إنه عاون المؤرخ المعرووف برينو باريلو خلال إعداده لكتاب عن ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية(31). واكتشف أن الفرنسيين أجروا 17 تجربة نووية على آلاف الجزائريين. وأن فرنسا استخدمت 42 ألف جزائري كفئران تجارب، في تفجير أولى قنابلها النووية بصحراء رقان، في أقصى الجنوب الجزائري.
وتكلم أستاذ أفريقي بعيون جاحظة. قال إن المستعمرات الأفريقية أمدت فرنسا بنصف مليون جندي مقاتل، وربع مليون عامل صناعي. وإن الفرنسيين احتلوا ساحل العاج في 1893 واستقل رسميا في 1960. لكن فرنسا ربطته ببقية المستعمرات السابقة، من خلال نقد يصدره البنك المركزي للاتحاد الاقتصادي والنقدي لأفريقيا الغربية، هو الفرنك الفرنسي الأفريقي، الذي تضمنه الخزانة الفرنسية. وأدى هذا إلى اعتماد اقتصادي على فرنسا، بالإضافة إلى السياسي والثقافي. وطوال فترة الاحتلال عملت فرنسا على أن يظل البلد معتمدا على تصدير السلع الأولية. ونتيجة لذلك عانى ساحل العاج من الركود الاقتصادي عندما انخفضت الأسعار العالمية للكاكاو والبن في الثمانينات، وبداية التسعينات، مما أجبره على الاعتماد كلية على تصدير الخشب. وأدى ذلك بدوره إلى إزالة الغابات في أماكن واسعة، مما يهدد الآن بفنائها، وبالتغيير الكامل للتوازن البيئي. لأن نظام الغابات المطيرة جزء عضوي من توازن البيئة. وتؤدي إزالة الغابات إلى نقص الأوكسجين، وفناء مجموعات كاملة من الحيوانات والحشرات، كما تؤدي في المستقبل إلى المجاعات والأوبئة. وقال إن اللغة هي أخطر نتائج الاستعمار فاللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في ساحل العاج رغم وجود أكثر من 60 جماعة عرقية بلهجات مختلفة.
كان المتحدث التالي استاذا للتاريخ بجامعة مونتريال الكندية. قال إن استعمار فيتنام جرى في 1860 مع كامبوديا ولاووس. وكان الطب الغربي من بين الأسلحة التي استخدمها المحتلون لتبرير المشروع الاستعماري. واستعرض عدة أمثلة لذلك ثم قال: كانت الهند الصينية ميدانا هاما بالنسبة للصناعة الدوائية الفرنسية، تقوم فيه بتجربة وتوزيع الأدوية الجديدة، وتحصل منه على مواد نادرة أو غالية، تستخدم في الأدوية وعقاقير التجميل، مثل الكينين والكافور واليانسون. وحرم الاحتلال على الصيادلة الآسيويين بيع المنتجات الغربية، وذلك بهدف حماية الصيادلة الفرنسيين من المنافسة المحلية. وفرضت قيود متعسفة على الطب التقليدي الصيني والفيتنامي.
تطلعت خلفي إلى حيث جلست سيلين. والتقت عيوننا. شعرت أننا قريبان من بعضنا البعض، وعلى وشك أن نقول نفس الأشياء.
استقر نظري على سيدة بدينة بالقرب منها يبدو عليها الانفعال. كانت ترتدي ثوبا أنيقا وتتدلى فوق صدرها سلسلة ذهبية علقت فيها عوينات طبية.
بدأت مداخلات القاعة فوقفت سيدة سوداء طويلة قالت: أنا من السنغال، ولا أدافع عن الاستعمار، وإنما أحب أن أقرر إحدى الحقائق الهامة، فلولا اللغة الفرنسية ما استطعنا نحن الأفريقيين أن نتفاهم مع بعضنا البعض.
رد عليها الأستاذ الأفريقي قائلا: كان من الممكن لإحدى اللغات المحلية أن تقوم بهذا الدور، مما يجنب السكان الاثار السيكولوجية والثقافية الناتجة عن استخدام لغة غريبة تماما.
تحدث شاب ذو ملامح آسيوية، فقال إن الفرنسيين في البلاد التي احتلوها قاموا بتطعيم السكان ضد الجدري، وبنوا المستشفيات التي تقدم العلاج المجاني. واتخذوا اجراءات صحية ضد الطاعون والكوليرا والملاريا.
رد عليه الأستاذ الكندي: هذه الاجراءات التي تحدثت عنها كانت من أجل تخفيض الوفيات لمضاعفة قوة العمل، فضلا عن حماية المحتلين أنفسهم. فهي إذن جزء من سياسة الاستعمار، وليس لها من هدف آخر.
كانت السيدة البدينة تتلفت حولها طول الوقت في انفعال. وأخيرا طلبت الكلمة وقالت: أنا متعجبة لما يدور من حديث. لقد فقد ابني حياته في أفريقيا في خدمة العلم الفرنسي. وأشعر بالفجيعة على التضحيات التي قدمها الفرنسيون وراء البحار، في سبيل تحرير السكان المستعبدين. إن فرنسا طلبت من أبنائها المقدامين نشر إشعاعها فيما وراء البحار، وبكل شجاعة وحماس واصرار نفذوا ذلك. فأصلحت الأراضي، وحوربت الأمراض، ونفذت سياسة تنموية حقيقية، والآن يقال لنا إنهم أشرار. كنت أفضل بدلا من ذلك أن تتم إدانة الإرهاب الذي تعرضت له القوات الغازية، والمتعاونون معها من السكان المحليين.
انطلقت صيحات الاستهجان من أركان القاعة، وتدخل كريستيان طالبا الهدوء، ثم أعلن رفع الجلسة لتناول طعام الغداء.
وقفت وأنا أتطلع ناحية سيلين، واتجهت نحوها، بينما كانت تخطو في اتجاهي. غادرنا القاعة وجلسنا في مقهى في الساحة الصغيرة المقابلة للجامعة. شربت كوبا من البيرة الحمراء. وشربت هي كأسا من النبيذ الأبيض. ثم تناولنا طعاما من اللحم والخضراوات.

(18)

عند عودتنا إلى القاعة وجدنا الحاضرين مجتمعين حول مجموعة من الفلسطينيين، وصلوا لتوهم من رام الله. كانوا يتحدثون عن المصاعب التي تعرضوا لها في سبيل المجيء. وكانوا ثلاثة بينهم فتاة فرنسية نحيلة وشقراء تضع حول عنقها الكوفية الفلسطينية. قالت إنها تعد دكتوراه عن الحضارة اليونانية، وكانت متعلقة بذراع شاب فلسطيني تنبعث من ملابسه رائحة عرق زاعقة ومن فمه رائحة الكحول. وكان هناك شاب فلسطيني آخر عقد شعره خلف رأسه علي شكل ذيل حصان. صعدت إلى المنصة برفقة الشابين الفلسطينيين. بدأت كلمتي بالترحيب بالفلسطينيين. وعزيتهم في وفاة ياسر عرفات العام الماضي. وقلت إن وجودهم دفعني إلى تغيير مداخلتي الأصلية. فهم يذكروننا بلون من أبشع ألوان الاستعمار، وهو الاستعمار الاستيطاني الذي عرفته بلدان كثيرة من أول الولايات المتحدة، إلى الجزائر، وفلسطين. وعرضت بايجاز لتاريخ هذا اللون من ألوان الاستعمار، ولتجلياته المختلفة.
ثم قلت: إن الفلسطينيين يقدمون اليوم نموذجا حيا من المقاومة، في قتال غير متكافئ، وهم لذلك يلجأون إلى أكثر وسائل المقاومة تضحية، وأقصد بذلك عمليات الاستشهاد.
سرت همهمة في القاعة قطعها كريستيان بأن أعطي الكلمة للشاب الفلسطيني صاحب ذيل الحصان. قال إنه ولد عام 73 وقادم من جامعة سولت ليك بالولايات المتحدة، حيث يعد دكتوراه في اللغتين العربية والعبرية والأدب المقارن. وقال إنه عضو في اتحاد الكتاب الفلسطيني بالقدس، وجمعية أساتذة اللغة العبرية وثقافتها في مدينة سولت ليك. بدأ الحديث مستشهدا بكلمة للشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان: "ارحمونا من هذا الحب القاتل". خطر ببالي وهو يتحدث أنه يعنيني، فانصت بانتباه. استرسل في حديث طويل ملتو لم أفهم منه شيئا.
انتقلت الكلمة إلى الفلسطيني الآخر. قال إنه يعيش في رام الله وولدعام 69 ودرس الأدب الإنجليزي ويعمل بمكتبة جامعة بيرزيت.
تحدث عن هبة الضواحي الفرنسية، وأثرها على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. وقال إن صحيفة هاآرتس نشرت مقالا للفيلسوف الإسرائيلي الجديد واليساري السابق الين فنكلكروت عرض فيه نظرية حول عنف الضواحي. فهو يرى أن المنتفضين لا ينتفضون لأنهم مضطهدون، أو مهمشون، بل لأنهم مسلمون وسود، ولأنهم يعادون الغرب والحضارة المسيحية واليهودية. ولهذا فمن الأفضل ترحيلهم. وقال إن ذلك ينطبق بالمثل على الفلسطيني، ن تحت الاحتلال والعراقيين أيضا. وقال الشاب: لقد شعر الفلسطينيون بالتماهي مع المنتفضين، وتعاطفوا مع حركتهم، واعتبروها تعبير عن محنة العالم الثالث.
ساد القاعة وجوم ثم ارتفعت الأيدي تطلب الكلام. وأعطى كريستيان الكلمة لفتاة تبينت من لهجتها أنها مغربية. قالت بصوت منفعل من التأثر، أنها تدين الاستشهاد لأنها تقدس الحياة، والتمسك بالشرعية الدولية، وضد قتل المدنيين.
وتحدث شابان آخران في نفس الإتجاه. وجاء دوري في الرد.
قلت إن من حق الفلسطينيين أن يختاروا مايشاءون من وسائل المقاومة، وقبل أن نناقش ذلك، نناقش أولا سياسة الابادة التي تدفعهم إلى ذلك. ثم أضفت: أنا شخصيا لست متحمسا للاستشهاد كوسيلة من وسائل المقاومة. فالمعركة بين قوى الخير والشر طويلة الأمد، ولا يصح أن نخسر مقاتلا في فعل متعجل بدلا من الكفاح ذي النفس الطويل. ارتفعت أيد كثيرة طالبة التعليق لكن كريستيان أمسك العصا من المنتصف حاسما النقاش. قال لا أحد ينكر ما يتعرض له الفلسطينيون من أذى، لكن يجب شجب العنف الواقع على المدنيين.

(19)

غادرت الجامعة برفقة سيلين. وتوقفنا أمامها لتدخن سيجارة، ثم مضينا سيرا علي الأقدام حتى شارع أرجو، متجهين إلي الفندق. كنا نسير علي الرصيف الأيمن الذي تظلله أشجار كستناء كثيفة، وتتراص به مقاعد خشبية مثبتة إلي الأرض، عهدنا مثلها في القاهرة في زمان مضي.
قالت: أشعر أن في المؤتمر قدرا من التحامل على فرنسا والغرب عموما.
قلت متفذلكا: هذا الشارع الجميل المنسق، الذي يمتع النظر هو أحد ثمارالتراكم المادي والحضاري، الذي قام في جانب كبير منه علي النهب الخارجي من المكسيك إلي الصين، مرورا بوسط أفريقيا وشمالها. لهذا لن تجدي مثله في القاهرة.
قالت: وأنتم؟ ألستم مسئولون عما آلت إليه أموركم؟
قلت: نحن نتحمل طبعا جانبا من المسئولية. فالتخلف يتزايد بمعدلات رياضية. لكن لا يمكن تجاهل مسئولية الغرب أيضا. خذي مثلا نزيف الدم في أفريقيا. كانت أراضي القارة في الماضي مقسمة بشكل طبيعي بين قبائلها المختلفة، ثم اصطنعت الدول الاستعمارية حدودا جديدة، تعمدت أن تؤدي إلى تقسيم القبائل بين عدة دول، مما ولد مسلسلا لا ينتهي من النزاعات، تستفيد منه هذه الدول الاستعمارية حتى الآن.
ـ كنت أظن ان الاستعمار انتهى واستقلت المستعمرات.
ـ لكن بقيت التبعية ممثلة في المصالح الاقتصادية والقواعد العسكرية.
أضفت بعد قليل وأنا أتجنب قطعة ممتلئة من إفراز كلب: ولماذا نذهب بعيدا؟ كل ما نعانيه من مشاكل في العالم العربي سببه أننا لم نتمكن من إقامة صناعة وطنية متطورة. في البداية جردنا العثمانيون من الموارد البشرية والمادية، التي تصنع التراكم الضروري للانتقال إلى عصر الآلة، وجاء بعدهم الفرنسيون والإنجليز. كل محاولة بذلناها كان الغرب يجهضها علي الفور. وهذا ما حدث لآخر محاولة تمت في عهد جمال عبد الناصر، وقامت على تصنيع البلاد. فقد أجهضها العدوان في 1967 وتطلب الأمر حربا أخرى بعد ست سنوات، ونتج عن كل ذلك مشاكل جديدة ما زلنا نتخبط في تعقيداتها.
بدت علي وجهها علامات عدم الاقتناع فانطلقت في حماس: لماذا التصنيع الوطني ضرورة؟ لأنه ببساطة الطريقة الوحيدة لتلبية الاحتياجات المتزايدة للمواطنين، ولرفع مستوي معيشتهم وثقافتهم. المستهلك لبضاعة أجنبية يمكنه أن يشتري الكومبيوتر ويستخدمه، لكنه لن يصبح أبدا جزءا عضويا من الحضارة التي أنتجته، كما سيتضاعف تخلفه مع الوقت بمتواليات رياضية. وسيصاب بالإحباط وينقلب على نفسه يدمرها، أو يبحث عن خلاص في تراث روحي وديني غامض. والنتيجة ستكون وبالا أيضا علي الغرب نفسه، فلن يعود العالم الثالث قادرا علي مزيد من الشراء، بل وسيصبح مصدرا لتصدير التلوث إلي مراكز الحضارة الغربية ذاتها، وطابورا خامسا داخلها. توقفت أتأمل لافتة فوق بوابة مبنى كبير تحذر من دخول الكلاب والأطفال، بهذا التتابع. انتقلت عيناى إلى ملصقات جدارية تعلن عن رقم تليفون يساعدك في الحصول على عمل، وآخر قد ينقذك من الإقدام على الانتحار.
قالت: والحل؟
هززت كتفي ثم قلت: لن يتأتي الحل إلا بإعادة توزيع عادلة لمصادر الثروة على مستوى الدول والطبقات. فالغرب يواجه أيضا أزمة اقتصادية وروحية. وهو يحلها الآن على حساب العالم الثالثِ والطبقات الكادحة لديه وخاصة العمال الأجانب. وهذا الحل لن يؤدي إلى نتيجة كما أوضحت الأحداث الأخيرة.
انطلقت تضحك وقالت في سخرية: أنت تريد تغيير العالم.
أجبت: إنه يستحق أن يتغير.
لاحظت أن الجانب الآخر من الشارع يخلو من صفوف السيارات المركونة. كان يتألف من سور حجري مرتفع داكن اللون يخفي ما وراءه.
أوضحت لي أننا أمام سجن سانتيه الشهير.
هتفت: أعرفه.
كان أرسين لوبين، أحد أبطال مراهقتي، يتردد على هذا السجن، ويهرب منه بسهولة. توقفت أتأمل السجن الكئيب، وإذا بصوت غريب يتناهي إلى مسامعي.
هتفت: أم كلثوم.
كان صوت المغنية المصرية الشهيرة يأتينا من جهاز تسجيل وضع علي حافة إحدى نوافذ السجن.
لا بد أنه مصري أو عربي خلف هذه النافذة. فما الذي دعاه إلى ذلك السلوك؟ هل هو نداء استغاثة؟
ولأمر ما تذكرت صديقي الشاعر العماني محمد الحارثي، الذي يقيم بالمغرب، وهو يروي لي في لهجة مريرة ما وقع له عندما أراد عبور الحدود المغربية إلي أسبانيا. فرغم أنه يحمل أوراقا كاملة ونقودا كافية، فإن الشرطة الإسبانية احتجزته، واعتدت عليه بالضرب ثم أفرجت عنه بعد عدة أيام دون أن تقدم إليه أية تبريرات.
واصلنا السير حتى الفندق. صعدنا إلى غرفتينا وبعد ساعة التقينا من جديد في البهو مع بقية شخصيات المؤتمر.
كانت قد ارتدت بلوزة بيج مع بنطلون بيج واسع، وسويتر بصلي، وعكصت شعرها فوق رأسها معرية أذنيها. وبدت مكحلة العينيين، مشرقة ومقبلة. قادتنا إميلي إلى مطعم إيطالي. وجاء مجلسي بينها وبين سيلين، بينما جلست فريدة أمامي بجوار سيدة ستينية وقور ضئيلة الحجم في رداء أسود، هي ماريان سكرتيرة منظمة الكفاح ضد العنصرية. وجاء بعدها الأستاذان الكندي والأفريقي والفلسطينيان مع الفتاة الفرنسية ذات الكوفية.
على العكس من إميلي انبعثت من سيلين رائحة النظافة، وعطر خفيف غامض لا يكاد يلحظ. شربنا نبيذا وأكلت على مهل معكرونة بالقواقع، مستمتعا بوجودها إلى جواري. وأخذت ألتقط خيوط المعكرونة بالشوكة في يدي اليمني فسألتني:
ـ هل أنت أشول مثلي؟
أجبت بالنفي.
قالت: كنت آكل مرة في الخليج وقدموا لنا طيورا صغيرة. ولاحظت أن الآكلين يبذلون جهدا كبيرا في استخدام الشوكة والسكين. بينما لم أجد غضاضة في استخدام أصابعي.
فشلت في التقاط قوقعة بالشوكة فقالت: يجب أن تستخدم أصابعك.
قلت: لم أغسل يدي.
قالت: يمكن غسلها في طبق من الماء، وأشارت بأصابعها بما يعني مس الماء مسا خفيفا.
كان الحديث يدور بالفرنسية، وعندما يستعصي علىّ الفهم تقوم فريدة بالترجمة. وفي أغلب الأحيان كنت أشرد. شربنا كثيرا من النبيذ وسمعت سيلين تقول إنها أحبت أكل الكشري في القاهرة.
التفتت إلى وسألتني عن عمري.
قلت: فوق الستين.
قالت: لا يبدو ذلك عليك.
تظاهرت بعدم الاهتمام، بينما طربت في أعماقي. وأثارت ماريان قضية النسيان وعدم النسيان. وخيل إلي أن عيني سيلين اغرورقتا بالدموع. أشرت إلى فيلم "هيروشيما حبي" القديم والذي تناول المأساتين: أن ننسى وألا نتمكن من النسيان.
قالت سيلين شيئا فشلت في التقاطه. فنظرت إلى فريدة. احمر وجهها وترجمت محرجة:
ـ تقول إنها أغلقت جهازها الجنسي من سبع سنوات.
ساد الصمت بعض الوقت، ثم بدأت ماريان تتحدث عن تجاربها في السحر. وطلبَت مزيدا من النبيذ، وأصرت أن يشرب كل منا كأسه، وهو ينظر في عيني مرافقه. قرعنا كؤوسنا. ثم رفعناها إلى أفواهنا. نظرت ماريان في عيني الأستاذ الكندي، بينما تعلقت عيناي بعيني سيلين، كانتا لا معتين وقد أضاءت ابتسامتهما وجهها المستطيل. تبادلنا حديثا ضاحكا واكتشفنا بسرعة أننا نحب نفس الأشياء، ونقرأ قصص القراصنة والروايات البوليسية. وكررنا قصة الشراب مع العيون. وبدت فريدة ثملة قليلا، وأخذت تضحك في خجل طفولي مصطنع.
لاحظت بعد فترة أن إميلي انصرفت مع الفلسطينيين وتبعهم الأستاذان الكندي والأفريقي. بقيت مع سيلين وماريان وفريدة. شربنا زجاجة أخرى من النبيذ، ثم غادرنا المطعم، وقررنا أن نتمشى حتى الفندق. وسبقتنا فريدة وماريان بخطوتين وانهمكتا في نقاش. وكنت في أحسن حالاتي.
قلت لسيلين: أنا سعيد لأنني التقيت بك.
قالت بحماس: وأنا أيضا.
مالت على وقبلتني في خدي، وهي تقول: هذا غريب.
قلت: فعلا لأني لم أعهد هذا الشعور من مدة طويلة وكنت أعتقد أني أغلقت هذه الصفحة، والآن أشعر وكأني في السادسة عشرة.
أحاطت وسطي بساعدها.
سألتها عن ابنها وعمره. كانت قد أشارت إليه في المطعم. قالت إن عنده 25 سنة ويعمل في دار حضانة. ولا يعيش معها لأنها متزوجة من آخر غير أبيه.
قلت: ظننت في لحظة أن زوجك الأول مات.
قالت: أبدا. لقد تركته عندما بدأت علاقتي بالثاني.
سألتها عن مهنة الزو.
قالت وهي تدقق النظر إلى الأرض طبيب وهو زوج طيب.
قلت: الأمر هكذا دائما.
قالت ماذا تعني؟
قلت: عندما توجز المرأة تعليقها على زوجها بأنه طيب. فهذا يعني شيئا واحدا.
ضحكت: ما هو؟
ـ لا أستطيع القول. ربما فيما بعد.
سألتني: وأنت. متزوج؟
ـ لا. لم تمكني الظـروف.
وأضفت وأنا أتطلع في عينيها: ربما لم أجد المرأة المناسبة.
أمسكت بيدها فتركتها في يدي. كانت قبضتها كبيرة. وكنت أتطلع إليها باستمرار فتبتسم.
قلت لها إن يديها جميلتان، فقالت في سخرية خفيفة: أنت لم تر قدمي.
قلت: فتشيزم؟
قالت: لا. هي صيغة في الكلام تسخر من المجاملات.
توقفنا أمام مقهى. ودخلت ماريان مع فريدة لإختيار مكان لنا. وأرادت سيلين أن تشعل سيجارة، فأخرجت ولاعتي وأشعلتها ثم قربتها منها.
قربت يدها حتى لمست يدي، وفوجئت بها تقبض على إصبعي الكبير في قبضة يدها، ثم تتحسسه من مفصل اليد حتي الظفر في حركة سريعة عدة مرات. ثم ضغطت بأصابعها في حركة موحية. كل هذا وهي تنظر بعيدا عني. ولجنا المقهى وطلبنا نبيذا بينما شربت ماريان العرق الفرنسي. وقالت إن الطبيب نصحها بشربه.
حاولت أكثر من مرة أن أنظر في عيني سيلين، لكنها تجنبتني وتحاشت أى التقاء بين عيوننا.
قالت إميلي بعد فترة إنها متعبة وتريد العودة. فغادرنا المقهي. وتقدمتنا سيلين مع ماريان. ومشينا في صمت إلى الفندق.
استقللنا المصعد، وغادرته ماريان وإميلي عند الطابق الثالث، وواصلنا الصعود أنا وسيلين.
اقتربت منها وأردت أن أحتويها بين ذراعي، فشحب وجهها، وابتعدت قائلة شيئا ما فهمت منه كلمة الصبر.
ابتعدت عنها قائلا: أوكي.
خرجت في الطابق الرابع وواصلت هى حتى الطابق الخامس. مضيت إلى غرفتي. ملأت كأسا من الويسكي، ودخنت وأنا استعرض ما حدث دون أن يتغلب صدها لي على بهجتي. كان نومي قلقا تتخلله ذكرى قبلتها لي، وضمها لخصري، واحتوائها لإصبعي في قبضة يدها. وبدت لي هذه الحركة غريبة ومبتذلة.
عصابية أم قسرية؟
تخيلتها تخلع ملابسها، وتقول إن صدرها صغير، فأقول لها إني لست في سوق لحم، وإن بوسعي لوشئت أن أشتري بضعة أرطال منه.

(20)

تناولت إفطاري مبكرا وجاءت هى في التاسعة إلا ربع. كانت بلا كحل وترتدي بلوزة خوخية مع بنطلون بني واسع وحذاء رياضي.
أطريت لون البلوزة، وكيف أنه يتفق مع لون بشرتها فشكرتني في اقتضاب.
سألتها: هل ستبقين في باريس بعد المؤتمر؟
قالت متثائبة: سأعود إلي تولوز يوم الثلاثاء.
قلت: وأنا إلى القاهرة يوم الإثنين. ربما أؤجل سفري يوما.
لم تعلق.
قالت بعد لحظة: سأكون مشغولة يوم الإثنين طول النهار.
لحقت بنا فريدة وقالت: هل سمعتم ما قاله ساركوزي عن المشاغبين؟ وصفهم بأنهم حثالة، وإن من الأفضل استخدام مبيدات الحشرات ضدهم.
انتظرناها حتى تناولت إفطارها ثم غادرنا الفندق. اعترضتنا مجموعة صاخبة من الطلاب والطالبات ملأت عرض الرصيف. واضطرتنا للسير في طابور. وجدت نفسي خلف سيلين واصطدم فخذي بردفها. وشعرت به قويا صلبا بلا أماكن لينة.
كانت تمشي مائلة بكتفها الأيمن، وتحرك ساقيها في رشاقة ضاغطة علي مقدمة القدمين رافعة الكعبين قليلا. كانت مشية فيها قليل من الخيلاء. لعلها تعود إلى أيام الصبا.
تجاوزنا الطلاب، وتقدمت إلى جوارها.
سألتها: هل درست الباليه؟
قالت: لا. لماذا تسأل؟
قلت: طريقتك في المشي.
ـ أنا أمارس رياضة تسلق الجبال مع زوجي وأصدقائه.
على باب الجامعة حيت شابا بسوالف طويلة، وعينين كبيرتين وبشرة لزجة. رافقته إلى قاعة المؤتمر. وجلست إلى جواره في أقصى القاعة. وجلست أنا في المنتصف إلى جوار فريدة.
صعدت إلي المنصة فتاة عربية فشلت في تحديد جنسيتها. تحدثت عن الفرانكفونية بصفتها الآلة الحديثة التي تساعد فرنسا على الاحتفاظ بمستعمراتها. وقالت إن المصطلح يعني لغويا ما يتعلق باللغة الفرنسية، في كل استخداماتها الجغرافية، ويعني انسانيا من يتكلم باللغة. و هناك اليوم 204 ملايين نسمة في العالم يتحدثون الفرنسية. انتقلَتْ إلى موضوع تداخل الحضارات. واستشهدت بكتاب المفكر روجيه باستير الذي يحمل هذا العنوان. والذي يشرح كيف تتم عملية السيطرة والتخطيط وتوجيه الغرس الثقافي إلى إدخال مفاهيم المستعمر الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة. وكيف تتبع العلوم الاجتماعية متطلبات ومصالح الدول الكبري وكيف يسعى علم الأجناس الاجتماعي حاليا إلى خلق صورة ثقافية جديدة للاستعمار تتجنب أخطاء الماضي التي أدت إلى حركات المطالبة بالتحرير.
وقالت إن فرنسا ـ حسب باستير ـ تقوم حاليا بعملية الغرس الثقافي المخطط في البلدان التي سبق لها احتلالها في اتجاه فرض التغريب، وتبديل القيم والمفاهيم، وخلق احتياجات جديدة، وخاصة خلق كوادر جديدة للحكم تخدم مصالحها. تبعتها سيلين بكلمة عن تجربتها في العمل مع أبناء المهاجرين من المستعمرات السابقة، وذكرت بعض الأمثلة عن الصعوبات التي تعانيها وجلها من جانب السلطات الفرنسية. وقالت إن القانون المقترح لا يساعد في تحقيق الاندماج المطلوب للمهاجرين وأبنائهم في المجتمع. اقترب مني كريستيان وهمس لي أن أتبعه إلى الخارج.
قال: عندنا الآن تسجيل في الراديو فهل لديك مانع من المشاركة فيه؟
قلت: لا.
انضم إلينا رفيق وغادرنا الجامعة وأخذنا كريستيان في سيارته إلى مبنى الإذاعة في شارع كنيدي.
جلسنا حول مائدة مستديرة، ضمت بالاضافة إلينا كاتبا مصريا مقيما في فرنسا، والأستاذين الكندي والأفريقي، ومترجمة مصرية.
وجهت إلىّ فتاة جميلة ذات ملامح نصف أسيوية أسئلة معدة جيدا. كانت شقراء بنصف أعلى ضامر، وأسفل ممتليء بشكل واضح. وكانت ترتدي قميصا أبيض لامعا، وبنطلونا ضيقا شبه شفاف. طلبت مني أن أتحدث عن مساهمتي في المؤتمر فاستعرضت الدروس المستفادة من حملة بونابرت، وأفضت عن تجربة مصر مع الاستعمار. كما تحدث الأستاذان الكندي والأفريقي عن مضمون كلمتيهما في المؤتمر. وجهت المحاورة حديثها إلى الكاتب المصري. كان طويل القامة نحيفها، وأسمر البشرة بملابس بسيطة. سألته عن سبب التجائه إلى فرنسا. فأعلن أنه أضاع شبابه في الجيش المصري دون ضرورة أو فائدة. تدخل رفيق غاضبا وقال إنه يعجب من تسمية الدفاع عن الوطن عملا غير ضروري وبلا فائدة. رفعت المحاورة أمام الكاميرا كتابا له بالفرنسية كما تبينت من الغلاف وسألته: الكتاب يتحدث عن تجربة العلاقة الجنسية بين رجل وابنته. فهل يمكن نشره في مصر؟
قال: بالطبع لأ ولهذا غادرت مصر نهائيا. وأنا سعيد ذلك.
قلت لرفيق ونحن نغادر المبنى: لا أفهم علاقة الكاتب المصري بموضوع البرنامج.
ضحك وقال: هذه هي الطريقة التي يعملون بها. يسمونها متوازنة.
تعثرت في درج المبنى وانفصل نعل حذائي تماما. أكملت السير حتى سيارة كريستيان بقدم حافية.
قال كريستيان: من الصعب أن نجد حانوت أحذية مفتوحا اليوم. سنحاول.
تنقلنا بين عدة شوارع إلي أن عثرنا على متجر كبير مفتوح. انتقيت أرخص حذاء موجود وكان ثمنه 25 يورو. أي مائتي جنيه مصري. وقلت لرفيق: لم أتصور أن يأتي اليوم الذي أشتري فيه حذاء بهذا المبلغ.
توقفنا لدي مطعم مجاورللوجبات السريعة وأخذنا ساندوتشات لحم بارد مع بيرة. ودفعت 12 يورو أي حوالي مائة جنيه مصري.
غادرنا الحانوت ومضينا فوق الرصيف. واكتشفت أني ما زلت أحمل في يدي إيصال المبلغ الذي دفعته. كورت الورقة وتطلعت حولي بحثا عن إناء قمامة فلم أجد. لمحت كريستيان يرمقني في ترقب. وفكرت أنه يتوقع مني أن ألقي بالورقة على الأرض كما يفعل الناس في مصر. ارتبكت وبدلا من أن أضعها في جيبي كما قررت ألقيت بها على الأرض.
وصلنا الجامعة مع بدء الجلسة المسائية. وتحدث فيها مؤرخ فرنسي عجوز. بدأ كلمته بأن الكاتب الفرنسي الشهير أندريه جيد كتب عن فظائع الاستعمار الفرنسي في أفريقيا الاستوائية، حيث مدت الخطوط الحديدية بتكلفة وفاة لكل "فلنكة" (القضيب المستعرض الذي يثبت قضبان الخطوط الحديدية). ثم قال: إننا نعترف بجرائم الاستعمار، لكن هناك أيضا جرائم القوميين. فالمكافحون من أجل الحرية كانوا يكافحون من أجل السلطة. واستخدموا في ذلك وسائل لا تختلف أخلاقيا عن تلك التي لجأ إليها المستعمِر. ضرب مثلا بجبهة التحرير الجزائرية فقال إنها عندما استولت على السلطة، لم تزد الحرية الثقافية أو الاقتصادية وإنما ولدت ادارتها الفاسدة للبلاد مزيدا من العنف. وتساءل في حدة: ماذا يقول الجزائريون لو كانت مناهج التعليم صريحة عن جرائم الجانب القومي، كما هي بالنسبة للجانب الفرنسي؟ توقف ثم استطرد في صوت هادئ: في جزيرة جواديلوب الفرنسية في الهند الغربية، كانت هناك مظاهرة ضد الاستعمار. لم يحضر إلا القليل لأن بقية السكان كانوا مشغولين بمشتريات الكريسماس، بمعونات مالية من فرنسا بالطبع. ووقف المتظاهرون إلى جانب صورة مؤسية للعبيد السود، واستخدموا مكبرات الصوت في الهجوم على فرنسا، وهي وسيلة لم تكن متوفرة لدى أسلافهم. استعادت لهجته حدتها: الغريب أن إحدى القضايا التي شغلت سكان جواديلوب هي زيادة سرعة تدفق اللاجئين من هايتي والدومينيكان المستقلتين. يبدو أن الناس تهرب من الحرية، أو على الأقل الاستقلال إلى ما تبقى من مستعمرات. حقا إن تاهيتي شهدت أسوأ جرائم الاستعمار. لكن الاستعمار الفرنسي لها استمر مائة سنة، بينما استمر الاستقلال مائتين. فهل يمكن القول بأن سكانها ونخبها السياسية لم يساهموا في حاضرها المأساوي؟ لو قلنا هذا فإننا نهبط بأهالي تاهيتي إلى موقع أقل من الكائنات الإنسانية الكاملة. إن تراثهم الاستعماري مرعب، لكنهم قاموا بكل شىء من أجل أن يجعلوه أسوأ.
وتساءل في سخرية: هل كان الاستعمار الفرنسي حسنا أم سيئا؟ لقد تمتعت فرنسا بأكبر ازدهار في تاريخها مباشرة عقب خسارة مستعمراتها. ويقول مؤرخون محترمون إن الاستعمار كلف فرنسا من النفقات الادارية والعسكرية أكثر مما تلقته من سلع رخيصة أو عمل رخيص في المقابل. لقد عومل المستعمَرون بصورة سيئة، بل رديئة، لكنهم حصلوا على منافع من قبيل التقدم التقني وفرصة دخول عالم وثقافة أكثر اتساعا مما كان يمكن أن يعرفوه. توقف ليلتقط أنفاسه ثم استطرد: التواريخ الحديثة للعلم والتكنولوجيا تشير إلى علاقة هامة بين المعرفة العلمية والسيطرة الاستعمارية. وتقول دراسة إن مجرد وجود الفلكيين والجيوفيزيقيين وعلماء الأرصاد الفرنسيين في الجزائر وتونس ومدغشقر (مالاجاش) وأمريكا اللاتينية والصين قد جعلهم سفراء ثقافيين، دعموا فكرة السمو الثقافي الفرنسي. وفي بعض الحالات فان اصرار قوة استعمارية على احتكار المعرفة العلمية، قد شجع العلماء المحليين علي ايجاد تقاليد محلية للابتكارالعلمي. ودعا المؤرخ العجوز في نهاية كلمته إلى ضرورة ما أسماه "إزالة الإنكار المتبادل بين المستعمَر والمستعمِر".
كان المتحدث التالي مدرسا وعضوا في رابطة مدرسي التاريخ والجغرافيا الفرنسية. قال إنه يعارض القانون لأنه دعوة لكتابة تاريخ رسمي. واستشهد بأستاذ التاريخ فرنسوا دوبار الذي شبه الأمر بمطالبة مدرسي العلوم الرياضية تدريس 5 = 22.
وقفت فتاة رشيقة وقالت إن الحديث عن الإزدهار الفرنسي بعد استقلال المستعمرات، تجاهل المدلول الحقيقي لهذه الظاهرة فقد كان هذا الازدهار نتيجة التراكم الذي حققته المستعمرات لفرنسا.
رفع شاب يده وقال: أحب أن أستشهد بالمؤرخ مارك فيرو، مؤلف التاريخ الأسود للكولونيالية. فقد ذكر أن فرنسا أصرت دائما علي وصف ممارساتها الكولونيالية بالإنسانية، بينما تصف البريطانية والأسبانية بالوحشية. وقال إن الممارسة الفرنسية كانت أكثر قمعا، لأنها أرادت أن يصبح مواطنو المستعمرات فرنسيين، وهو ما لم تفكر فيه بريطانيا.
تولى المؤرخ العجوز الرد. قال إنه كان يقرأ بالأمس كتابا للمؤرخ نيال فيرجسون أستاذ هارفارد، وصف فيه الحكم الاستعماري البريطاني في أفريقيا واسيا بأنه "بناء للأمة" ـ لأن الامبراطورية الإنجليزية نجحت في تحويل المؤسسات الفاشلة أو الشريرة ووضع أسس حكم القانون والإدارة غير الفاسدة والحكومة التمثيلية. وتساءل: ألا ينطبق هذا الكلام أكثر على الامبراطورية الفرنسية؟
وقف أحد الحاضرين منفعلا وقدم نفسه علي أنه أستاذ للتاريخ في معهد الدراسات السياسية في باريس. قال: إني أتعجب من الاستشهاد بهذا المؤرخ الأميركي الذي يتحدث بلغة القرن التاسع عشر. فهو يدعو الرسميين الأمريكيين في كتبه الأخيرة وخاصة "صعود وسقوط الامبراطورية الأمريكية"(32)، لأن يقوموا بدورهم باعتبارهم السادة الكولونياليين الجدد وورثة الإمبراطورية البريطانية. وبلغ به العهر أن زعم وجود جين إمبريالي ذي أصل أنجلو سكسوني. عند هذه النغمة الحادة انتهت الجلسة المسائية. وعدنا إلى الفندق. وأمام مدخله التفتت سيلين لي وقالت: سأصعد إلى غرفتي لآخذ دوشا. نلتقي بعد ساعة.
تريدني أن أتخيلها عارية تحت الماء، أم لتؤكد أنها جاهزة لأي تطور جسدي، أم لتلغي الفكرة التي تعرفها لدينا عن علاقة الفرنسيين بالماء، ولأنها تعرف هوسنا بالنظافة الجسدية؟
في الموعد ظهرت في بزة سوداء كاملة فوق بلوزة كحلية بمربعات بيضاء صغيرة. وانضمت إلينا فريدة وماريان، وبقية المشاركين. ومضينا سيرا على الأقدام إلى مطعم فيتنامي، كان صاحبه عضوا في جبهة التحرير الفيتنامية. وحفت جدران المطعم بصور له مع مشاهير الزائرين. استمتعنا بالأكل الفيتنامي وخاصة حساء المعكرونة. ثم عدنا إلى الفندق واتجهنا أنا وسيلين وفريدة إلى البار وجلسنا نشرب ويسكي ونضحك. وصفت فريدة زوج ماريان بأنه يشبه في جماله تمثال دافيد لمايكل أنجلو. وقالت: ليتني قابلته قبل زوجي المسكين.
سخرنا منها فقالت: ماريان تغير عليه بشدة. قلت لها اليوم إنه لا يحب الحساء الفيتنامي، فغضبت وتساءلت كيف أعرف عنه شيئا تجهله هى؟
سألتني سيلين: هل قررت ماذا ستفعل صباح الاثنين؟
قلت: كنت أتمني أن نقضيه معا.
تجاهلت إجابتي وقالت: يمكنك أن تقوم بجولة حول باريس، في قارب نهري فتشاهد كنيسة نوتردام، والمسلة المصرية في ميدان الكونكورد. يمكنك أيضا أن تذهب إلى متحف اللوفر، لترى الأهرامات الزجاجية. وبالليل تتفرج علي برج ايفل عندما تضاء نجومه.
قلت لها متظاهرا بالضجر: وماذا أيضا؟
جرعت ما تبقي في كأسها مرة واحدة ثم مضت تقول: أو تذهب إلي هضبة مونمارتر، حيث يمكن أن ترى باريس بأكملها تحت عينيك. لا تحب؟
هززت رأسي.
قالت: أو تذهب إلى شارع الشانزليزيه الذي يضم أفخر الفنادق والمطاعم وحوانيت الملابس والعطور. ستجد مواطنيك من العرب الخليجيين في كل مكان.
نظرت إليها فريدة مستغربة لهجتها العصبية.
قلت لها: يبدو أنك متعبة في حاجة إلى الراحة.
نظرت إلي طويلا ثم هبت واقفة: فعلا.
انصرفت وتبعناها بعد قليل.
في فراشي فكرت في متعة التجرد من كل الملابس الداخلية، والانكماش في أحضانها بإستسلام الطفل. ولاحظت أني لم أعرف هذا الشعور من قبل.

(21)

تثاءب أغلب المشاركين في الجلسة الصباحية لليوم الثالث والأخير. ويبدو أن ليلة الأحد أرهقتهم. وبدأنا متأخرين بنصف ساعة. وكنت قد جئت بمفردي لأن سيلين وفريدة لم تظهرا في المطعم حتى الساعة التاسعة.
كان رفيق مقطبا وقال إن الوضع الأمني صعب وحرج ولا تبدو نهاية لأحداث الشغب التي تقع كل ليلة فبالأمس أحرقت 374 سيارة في تولوز وليون وأميان.
وبسط صحيفة الصباح قائلا: تصريحات ساركوزي لا تساعد على التهدئة فهو مرة يتحدث عن وجود مؤامرة ومرة أخرى يدافع عن قانون رد الاعتبار للاستعمار. وقرأ لي تصريحا له يقول فيه "إذا كان لفرنسا دين أخلاقي فهو نحو الفرنسيين العائدين من الجزائر". وقال أيضا: "الاستعمار ليس مسئولا عن كل المصاعب التي تواجهها أفريقيا حاليا من الحروب وجرائم الإبادة والفساد. والوجود الفرنسي في مصر والجزائر والمغرب لم يكن بدوافع استعمارية بل كان حلما حضاريا".
بدأت المداخلة الأولي دون أن تظهر سيلين أو فريدة. وكانت لباحث مغربي. استرخيت في مقعدي متوقعا حديثا مملا مكررا. لكنه فجر قنبلة من الوزن الثقيل.
قال:العرب مدعوون أكثر من الفرنسيين لإعادة النظر في تاريخهم الاستعماري والاعتراف بأخطائهم وما ارتكبوه من جرائم إبادة بشرية وثقافية وهوية في حق شعوب شمال أفريقيا. الاستعمار الفرنسي نعيم بالمقارنة بجحيم الاستعمار العربي ومخلفاته الكارثية. فللاستعمار الفرنسي جانب وضاء يتمثل في إقامة مؤسسات عصرية ينظمها القانون وإنشاء المدارس والمستشفيات وإدخال التكنولوجيا والحداثة ووسائل المواصلات الجديدة.
ساد صمت مطبق و أدركت أنه لا بد أن يكون أمازيغيا من قومية البربر المغربية.
استطرد: التاريخ الاستعماري العربي لشمال أفريقيا خضع للتشويه والتزوير والتحريف إذ صور على أنه تاريخ بطولات وأمجاد وخير مطلق. وأن العرب هم ملائكة الأرض الذين كلفوا بتحرير الشعوب الأخرى ليس من أجل ثرواتها ونسائها بل إحسانا إليها وغيرة عليها لأنهم أخرجوها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. لقد جرت إبادة بشرية ولغوية وثقافية وهوياتية تحت غطاء الإسلام.
بدا اليوم كأنه ثورة مضادة على اليومين السابقين. فقد تبع الأمازيغي أستاذ فرنسي في جامعة مونبيلييه تحدث عن حرب استقلال الجزائر التي
استمرت ثماني سنوات وقال: إنها أول معركة يلقن فيها المجاهدون المسلمون أحد الجيوش الغربية الكبيرة هزيمة قاسية. فقد استسلم ديجول في 2691 بلا شروط. هنا ضاعت كافة أرصدة البترول الفرنسية في الصحراء وهرب إلى فرنسا مليون من المستوطنين الذين عاش بعضهم في الجزائر ثلاثة أجيال ومات أيضا مليون قتيل مسلم فقد أغلبهم حياته على أيدي مواطنيهم.
احتدت لهجته فجأة وهو يستطرد: بعد أقل من عشرين سنة نشبت ثورة جديدة في 1980 يقودها هذه المرة الإسلاميون. وقتل من المدنيين أكثر مما قتل في الحرب ضد فرنسا. قطعت رؤوس ووضعت فوق علامات الطرق واعدم صحفيون ورجال أعمال وراهبات وألقى ماء النار على وجوه الطالبات الرافضات للحجاب. وذبحت قرى بكاملها على يد مسلحين مجهولين. وفي نهاية 2001 تراوح عدد من مات في الحرب الأهلية بين 100,000 و 150,000 جزائري. كل ما حدث في الجزائر في الخمسين سنة الماضية يدل على عجز الإسلام عن مواجهة تحديات العالم الحديث مما يؤدي به إلى مهاجمة الغرب الناجح.
سأل أحد الشبان: هل هناك أمل في أن تتوقف أعمال العنف بالجزائر؟
أجاب أستاذ مونبيلييه قائلا: إذا كان هناك أمل فهو أن الأمريكيين قد وضعوا قدما في الجزائر لمساعدة نظام بوتفليقة على مواجهة الإرهاب. ويبدو أنه حدث تراجع ملحوظ في مستوى الفظائع خلال السنوات الثلاث الماضية. فهل يعتبر هذا نجاحا لبوش في حربه ضد الإرهاب أم أن قتلة الجزائر قد انتقلوا إلى العراق؟
علق رفيق على الفور مستنكرا المشابهة بين العراق والجزائر.وقال إن التدمير الذي حدث للجزائر على يد الاستعمار هو المسئول عن الردة الدينية. وليست للأمر علاقة بالعراق الذي تعرض لغزوأمريكي. وما يجري به من عنف ليس إرهابا وإنما مقاومة.
تدخلت قائلا: أنا لا أنكر التاريخ الاستعماري للعرب.وليس من الضروري أن يتبع ذلك التخفيف من ادراكنا للاستعمار الفرنسي. إننا نطالب الضمير الفرنسي ممثلا في الجمعية الوطنية باستنكار العهد الاستعماري وليس بوسعنا أن نفعل هذا بالنسبة للعرب. فمن نطالب الآن؟ مصر التي لم تستعمر أحدا في تاريخها بل كانت دائما ضحية للاستعمار؟ نفس الأمر ينطبق علي ليبيا وبلاد الشمال الأفريقي بل والمشرق أيضا.
علق أحد الطلاب الأمازيغيين فيما يبدو فدعا إلى تدريس اللغة الأمازيغية واعتبارها لغة رسمية وإقرار الهوية الأمازيغية في الدستور المغربي.
تبعته ماريان قائلة: أنا لا أطالب بالتعويض عن أعمال النهب أو عن حصد أرواح سدس الشعب الجزائري خلال الخمس وعشرين سنة الأولى من الغزو.وفي نفس الوقت لا أرى مبررا لإغفال دور المعلمين الفرنسيين التنويري.

(22)

توليت رئاسة الجلسة الأخيرة وجلست بجوار كريستيان وعيناي على مدخل القاعة مترقبا وصول سيلين ثم انضمت إلينا جابريلا قادر أستاذ تاريخ الفن بجامعة السوربونالسمراء ذات الشعر المنكوش التي استمعت إليها في بواتييه. تبعتها فتاة فرنسية حاملة جهاز الشرائح الضوئية والشاشة فنصبتهما إلي يمين المنصة.
تصورت البروفيسورة الجزائرية وهي تحمل حقيبة من الصور الضوئية للوحات مختلف الرسامين وتلف على المؤتمرات لتقدم ما يناسب كل واحد منها.
تصفحت الوجوه واكتشفت أن ربيع غير موجود وأني لم أره البارحة أيضا.
هل أنجز مهمته في اقتيادي إلى المقهى؟
وقعت عيناي في الصف الأول على ساقين متناسقتين مخروطتين وبداية فخذين مشدودين تحث ثوب أسود قصير يغطي صاحبته من الرقبة. كانت نحيفة متوسطة الطول بشعر أسود طويل منسدل على كتفيها وعينين زرقاوين ضيقتين وشفاه ممتلئة ـ السفلى متهدلة قليلا ـ غطتها حمرة الروج القانية. وجلس إلى جوارها عجوز أنيق في بزة كاملة بشعر أبيض غزير و ووجه ملئ بالغضون والتجاعيد. قدرت عمرها بأواسط الأربعينيات وفكرت أنها ابنته أو سكرتيرته.
رأيتها توجه ساقيها المضمومتين جهة اليسار نحو رفيقها وفي اتجاه أستاذة الفن. ولاحظت أنها تحدق إلى جابريلا بطريقة تسمح لها أن تشعر بنظرات الآخرين من طرفي عينيها. ولم تنظر ناحيتي على الاطلاق.
وضعت الفتاة لوحة استشراقية في جهاز الشرائح الضوئية. ودخلت جابريلا في موضوعها مباشرة دون مقدمات. أشارت إلى اللوحة المعروضة قائلة: عرض يوجين ديلاكروا(33). هذه اللوحة المسماة "نساء جزائريات في مسكنهن" في صالون باريس سنة 4391.
التفت برأسي أتأمل اللوحة. ضمت ثلاث نساء مسترخيات في ملابس شرقية. إحداهن في وضع حسي وثانية برداء مفتوح الصدر متربعة ويدها على ساقها العارية وتجلس ملتصقة بامرأة أخرى عارية الساقين والقدمين بينما تقف في الخلف جارية زنجية.
قالت البروفيسورة الجزائرية/ الفرنسية: بعدقرابة القرن ونصف القرن وفي 1982 ناقشت الفنانة الجزائرية حورية نياتي(34)، رؤية ديلاكروا للمرأة الجزائرية في عمل مركب من خمس لوحات يحمل اسم "لا للتعذيب" عرض لأول مرة عام 1990. ويضم العمل المركب تسجيلات لأغان جزائرية من غنائها وشعرا كتبته بالفرنسية.
وضعت المساعدة شريحة ضوئية جديدة. واستطردت جابريلا: أعادت نياتي صياغة رؤية ديلاكروا بمفردات حداثية. نحن أمام ثلاث نساء كما في لوحة ديلاكروا وفي نفس الوضع المسترخي الحسي الذي صوره لكن بعد إلغاء تفاصيل الوجوه وحذف الأطراف.
خلصت نياتي رسمها من عالم الحريم (الملابس والحلي) والتصورات الاستشراقية التقليدية ووضعت الأجساد في فضاء مجرد محدد بلمسات من الأحمر القرمزي والأزرق. وبذلك صورت الجسد المعذب للمرأة الجزائرية في أثناء حرب الاستقلال. و قوضت الرؤي الغربية السلطوية الموجودة في تصور ديلا كروا.
لحظت وقلبي يدق أن الركبتين تحولتا قليلا في اتجاهي وان ظلت نظرات صاحبتهما مثبتة على اللوحة المعروضة. ورأيتها تميل بخدها نحو رفيقها، وتدعكه بخده في رقة ثم تضع يدها اليسرى في يده. امرأته إذن وهما مشتركان في ما سيحدث. لكنه يغالب النعاس فهل تداري احساسا بالذنب لما ستفعله؟
مضت جابريلا قائلة: لقد تجسد جسد المرأة الجزائرية أثناء الحرب بين الجزائر وفرنسا كموقع للتعارض بين الخطاب الاستعماري الفرنسي والخطاب الوطني الجزائري. فالمرأة الجزائرية المحجبة ـ رمز الأمة ـ تجسد الفضاء المقدس والمنزلي الذي وجب حمايته وانتزاعه من السيطرة الكولونيالية.
لكن هناك تحالف حميم بين الحداثة والكولونيالية إذ اعتبرت الحكومة الكولونيالية الفرنسية إزالة الحجاب خطوة تقدمية نحو شكل أكثر أوروبية من التحديث. ذلك أن أحد العناصر المركزية للتبرير الإيديولوجي للثقافة الكولونيالية هو نقد العادات الثقافية والدينية للمجتمعات الشرقية وإبرازها على أنها تضطهد المرأة.
أغلق العجوز عينيه واستغرق في النوم محتفظا بيدها في يده. ثم حدث ما توقعته. انفرجت ساقاها قليلا ثم اتسع الانفراج بالتدريج ودققت النظر لأتبين معالم الفوهة السوداء التي تجلت لي. كيلوت أسود أم شعر عانة أسود؟ ثم بدأت تهز ساقيها برفق كأنها تدعكهما الواحدة في الآخرى. وهي لا تزال تحدق بعيدا عني بالطريقة ذاتها الي تسمح لها برؤيتي على حافة البصر.
انتبهت إلى حديث جابريلا. ووجدت أنها تتحدث عن لوحة أخرى من اللوحات الخمس للعمل المركب تصور إمرأة راقدة في إغراء على جانبها وقد استند نصفها الأعلى لمرفق بينما اختفت يدها الأخرى تحت انحناءة الفخذ. لكن هذا الوضع الإيروتيكي يفقد جنسانيته عندما نرى قدمي المرأة مقيدتين ووجهها بلا ملامح.
ختمت حديثها قائلة: عندما قامت الفنانة الجزائرية باجتثاث الوجه والأعضاء فإنها تخطت التجريد الحداثي بأن أعطته موضوعية بصرية وتاريخية. لقد غيرت صورة الحريم في القرنين 19 و20 وتحولت المرأة الجزائرية من كونها رمزا للحريم وكل بضاعته الجنسية والتقاليدية القمعية والسلبية وأصبحت رمزا لشئ آخر هو التعذيب الكولونيالي.
توقفت برهة ثم استطردت: إن نساء الجزائر كن يحاربن ويمتن وكن يعذبن. أما نساء ديلاكروا فكن أنصاف عرايا في رسوم لم تصور المعاناة والعذاب والقمع والتعاسة بل عبرت عن الموات والسلبية.
انتهت كلمة جابريلا. ورأيت المرأة تميل على أذن رفيقها العجوز وتهمس له فقام واقفا وتبعته إلى خارج القاعة دون أن ينتظرا المداخلة التالية.
هل كان الرجل عليما بالموقف وهذا جزء من جنسانيته الغاربة وعند العودة سيخدمها بفمه أو يشاهدها تستمني أم ستضعه في فراشه ثم تستلقي عارية أمام مرآة وتستعيد ما حدث مستخدمة يديها أو جهازا من الذهب؟ هل هي صائدة ثروة أوقعته في شباكها وتنتظر موته لتنعم بها. تقضي الوقت كله في الشمس والنوادي والسفر؟ أم ارتبطت به بشكل مرضي منذ سنوات واجدة فيه الأب وما زالت في هذا الارتباط وبالتالي أوجدت مسارب لطاقتها الجنسية؟
وقفت عجوز بعوينات طبية منزلقة على أرتبة أنفها وقالت إنها تريد التعليق على محاضرة جابريلا قادر.
قلت لها إننا سنستمع إليها بعد أن تنتهي كلمات المشاركين. ردت في حدة: أنا أريد أن أقول لها كلمة واحدة. فلولا الاستعمار ما كانت الرسامة تعلمت الفن ولا كانت البروفيسورة قد أتيح لها أن تتحدث إلينا.
كانت الكلمة التالية لمؤرخ شاب بعنوان "مواقع الذاكرة الكلونيالية". قال إن السلطات الفرنسية سعت خلال العصر الكولونيالي إلى غرس الفكرة الاستعمارية في البلاد وإثارة الحماس للمشروع الامبريالي. ففي الأقاليم وباريس أطلقت على الشوارع أسماء رموز الاستعمار من مستكشفين وقادة عسكريين وبعثات تبشيرية. وهناك تماثيل نصفية لهؤلاء الناس مثل الجنرال جاليني خارج الإنفاليد وداخله قبر الماريشال ليونيتي الذي قاتل في الهند الصينية ومالاجاش وصار حاكما للمغرب. وفي جبانة مونمارتر قبر الرسام المستشرق جوستاف جويوميت مزينا بتمثال لفتاة جزائرية. هناك أيضا نصب تذكاري لحملة مارشان في السودان وإن كان قد نسف في السبعينات.
وفي غابة فنسان يوجد مبنى ضخم شيد من أجل معرض 1931 باسم المتحف الدائم للمستعمرات. يقدم الاستعمار والحرب كمصدرين للفخر والمجد القومي. ومن الخارج تزينه صورة للعالم تصور الفوائد التي عادت على فرنسا من المستعمرات مثل المنتجات الزراعية والمطاط والخشب والأرز، وفي الداخل جداريات تصور ما قدمته فرنسا للمستعمرات: العدالة والطب والعلم.
ارتفعت يد معترضة وقال صاحبها: ليس هناك متحف بهذا الاسم.
ابتسم المتحدث وقال: لقد أعيدت تسمية المتحف باسم "متحف فرنسا وراء البحار" وفي السبعينات أغلقت كثير من قاعاته في محاولة لإخفاء الماضي الاستعماري. لكن يجري الآن في مارسيليا بناء متحف "النصب القومي لوراء البحار" وهو يؤدي نفس المهمة.
توقف ثم أضاف: يجب ألا ننسي أيضا أن الرئيس شيراك كرس نصبا للجنود الذين قتلوا في الحرب الجزائرية.
عقب علي حديثه رجل خمسيني محمر الوجنتين: في الحقيقة هناك ذاكرتان متنافستان. فقد أطلق اسم موريس أودين على أحد الميادين في باريس وهو عالم رياضي في الجزائر عارض الحرب وقبض البوليس عليه وعذبه ثم قتله. هناك في فرنسا تاريخ لمعاداة الاستعمار أيضا نراه في لوحة على شاطىء السين وأخرى في محطة مترو تحيي ذكرى الذين قتلوا أثناء المظاهرات ضد الحرب في الجزائر.
علق كريستيان قائلا إنها ملاحظة جيدة وهامة ففرنسا دائما لم تكن فرنسا واحدة. ولها تاريخ طويل من النضال من أجل الحرية والمساواة.
"وقف أحد الطلاب وقال أحب أن أستشهد بقول الأستاذ Thierry le Bars أستاذ القانون في جامعة Caen لم يكن الاستعمار الفرنسي إيجابيا على الإطلاق. فكروا في الوضع القانوني المحط للمسلمين في الجزائر، في مذبحة خمسة الاف جزائري في سيتيف عام 1954، في كافة التعساء الذين تحملوا جحيم الرق ليحققوا ازدهار جزر الكاريبي".
وعقبت ماريان قائلة: إن القانون المقترح إهانة للذكاء وإنكار للديموقراطية ورفض للواقع التاريخي وفرملة للحرية الأكاديمية. وفوق كل شئ يعرب عن "السخط على الضحايا".
قرأ كريستيان برقية موجهة إلى المؤتمر من جون مارك ايرو رئيس الكتلة الاشتراكية بالبرلمان قال فيها:المادة محل الجدل خطأ سياسي وعبث تعليمي. وهي لا تساعد بلدنا على انتقاد تاريخها بوعي. إنها تجمل صورة العهد الاستعماري القديم وتتجاهل أعمال العنف والنهب. لا يحق للمشرع أن يكتب هو التاريخ.
ثم قرأ البيان الذي وجهه أكثر من ألف مؤرخ وكاتب ومثقف طالبين إلغاء القانون الذي يدعو مدرسي التاريخ لتأكيد المظاهر الإيجابية للاستعمار الفرنسي.
وجاء في البيان: يفرض القانون أكذوبة رسمية على المذابح التي وصلت إلى حد الإبادة العنصرية وعلى تجارة الرق وعلي العنصرية التي ورثتها فرنسا.....والمعروف أن القانون ينتوي رد الاعتبار ل 200 ألف جزائري حاربوا مع القوات الاستعمارية الفرنسية.
ثم أضيفت مادة جديدة إلى القانون تطالب المناهج الدراسية بأن تعترف بالدور الإيجابي للوجود الفرنسي فيما وراء البحار وخاصة شمال أفريقيا.
وقال البيان: إن فرض نسخة رسمية للتاريخ تمثل اعتداء على الحياد التعليمي. لكن المعارضة الرئيسية للقانون تتمثل في أن الامبراطورية الفرنسية كأغلب أشكال الكولونيالية قد سببت آلاما ومعاناة بالغة.

(23)

اصطف الحاضرون ليمهروا بتوقيعاتهم بيان المدرسين ثم غادرت المبنى إلى الفندق تحت المطر. توجهت إلى مكتب الاستقبال فعرفت أن سيلين ليست في غرفتها.
صعدت إلى غرفتي وأخذت دوشا. ثم نزلت إلى البهو من جديد وتأكدت أنها ما زالت غائبة.
جلست في أحد المقاعد ثم قمت وتجولت في أنحاء البهو وعيناي تتنقلان بين مدخل الفندق وباب المصعد. وأخيرا ظهرت قادمة من ناحية البار في ملابس بيضاء تحت سويتر صوفي.
قلت لها: افتقدتك وكنت أفكر فيك طول الوقت. أدارت وجهها نحوي باسمة بعينين مكحلتين غامضتين. احتضنتها وقبلتها في خدها فأحنت رأسها وقبلتني في جانب فمي. وشممت رائحة خمر قوية.
أمسكت بيدها فخلصتها في رفق قائلة: لا تلمسني كثيرا.
أبديت دهشتي فأضافت: هذا يزعجني.
داريت كسوفي قائلا: أنا من شعب بدائي يتعامل بالحواس.
كررت: أنا أنفر من اللمس.
أشعلَت سيجارة وجذبت أنفاسها في عمق ثم تطلعت في ساعتها وسألتني: تحب أن ترى جانبا من النشاط الذي أقوم به؟
قلت في حماس: جدا.
قالت إنها تسجل مع مجموعة من الشباب شريطا صوتيا لاستخدامه في الدعاية للمؤسسة التي تديرها.
اتجهنا إلى الخارج. قلت لها: هل يمكن تقبيلك أو احتضانك دون لمس؟
أشارت بيدها إلى رأسها وقالت: ذهنيا.
أخذنا تاكسي إلى مبنى قديم في ميدان فوش. ووقفنا أمام الباب لتدخن سيجارة جديدة ثم ولجنا قاعة تسجيل صغيرة بها مقاعد قليلة تجمع بها عدد من الشبان.
قدمتني إلى رسامة ألبانية نحيفة وجزائري يدرس الفلسفة، ومصري متخرج من معهد السينما، وطالب أدب فيتنامي وسنغالية طويلة ممتلئة ذات شعر أكرت ولبناني لا يتكلم العربية وفتاة حمراء الشعر من مونتنيجرو وتونسي ضخم يحمل درجة جامعية في الدراما.
جلسنا متجاورين. خلعت سترتها فكشفت عن بلوزة بيضاء من القطن تلتصق بساعديها وتغطيهما حتى الرسغين.
تجمع الشبان حول جهاز التسجيل يعدون شريطا يتألف من همهمات وأحاديث مختلطة بكل اللغات تتداخل وتتآلف بالتدريح إلي أن تغلب عليها اللغة الفرنسية.
مددت يدي خلف ظهرها وربت علي البلوزة في خفة. ثم استرخيت في مقعدي. أغمضت عيني بعد لحظة وشعرت بالرغبة في النعاس.
مالت علي متسائلة:
ـ تحب أن أعيدك إلى الفندق لتستريح؟
أجبت بالنفي ثم فكرت أني تسرعت في الإجابة.
هل؟
غادرت مقعدها وانضمت إلى الشبان. وأخذت تتحرك بينهم وقد ضمت ساعديها إلي صدرها. كانت ترتدي بنطلونا أبيض وحذاء من الكاوتشوك فوق جورب سميك أبيض اللون. وكان البنطلون ضيقا ومكسما على فخذيها وساقيها. وعندما تنحني لتهمس بشئ لأحد الفنيين أو الشبان مديرة ظهرها لي كانت مؤخرتها تتجلى في كل بهائها، دون أي انبعاجات أو ترهلات جانبية.
ربما لم تكن ترتدي كيلوتا لكن بالتأكيد لم يكن على ظهرها أثر لسوتيان.
شعرت كأنها تقدم لي عرضا مبهجا. وربما رسالة إلى نوع اللقاء الذي نقترب منه في ليلتنا الأخيرة.
تمثال المرأة الفرعونية العارية بخصر ضيق يتسع عند الحوض بانسياب تدريجي وعانة بارزة ثم فخذين ممتلئين متلاصقين.
بدت راضية عن سير التسجيل واقترحت أن نذهب. ارتدت سترتها وخرجنا. تطلعت إلى ساعتها وقالت: ما زال أمامنا وقت على موعد العشاء. ما رأيك في أن نشرب قهوة؟
مشينا نبحث عن مقهى وذراعي حول وسطها وظهر فخذها الصلب يصطدم بفخذي. توقفنا أمام واحد واكتشفنا أنه لا يسمح بالتدخين. فواصلنا السير حتي عثرنا على آخر. جلسنا نشرب قهوة كابوتشينو. وأخرجت إصبعا من زبدة الكاكاو دهنت به شفتيها.
تحدثنا عن الكتب والروايات التي تفضلها. واكتشفنا أننا نقرأ لنفس المؤلفين.
قالت: أنا أحسدك لأنك ما زلت تعمل.أما أنا فأفكر في التقاعد لأني مللت عملي وأريد أن أتفرغ لكتابة مذكراتي.
طلبت عنوانها الإلكتروني فأعطتني بطاقتها. وسجلت لها عنواني فوق برنامج المؤتمر فوضعته في حقيبتها.
أخذنا تاكسي إلى الفندق وجلسنا في البار. أخذت بيرة وطلبت لها كأسا من الويسكي جرعته مرة واحدة فطلبت لها كأسا آخر.
جرعت الكأس الجديد على مرتين ثم وضعته على المائدة وقالت لي:
ـ أنا مصابة بالسرطان.
ابتلعت المفاجأة وقلت في هدوء: وماذا في ذلك؟ إنه شئ عادي هذه الأيام.
لم تكن هذه الإجابة ما توقعته مني.
مضيت قائلا: الواحد يسمع عن قصص العلاج الناجح. كل ما في الأمر أن بعض أنواع العلاج والجراحات تفقد المرء شهيته للجنس.
قالت: السرطان لم يؤثر علي جنسيا بل بالعكس. لكني أكره البتر والتشويه للجسد.
قلت لها وأنا أتحاشي النظر إلى صدرها المسطح إني توقعت شيئا من هذا القبيل.
قالت: هذا سهل فهو يبدو في الوجوه.
قلت: لا فوجهك شديد الحيوية.
قالت إنها خضعت للعلاج النفسي طوال ثلاث سنوات. لكنها استفادت من التجربة رغم ما تمثله من ضربة سيكولوجية للمرأة.
ران علينا الصمت ثم قطعته قائلة: هل تذكر حديث فريدة عن أسطورة القوة الجنسية للرجل العربي.
اعترضتها ساخرا من الفكرة: الأمر يتوقف على سلامة الغذاء وبذلك يكون الأوروبي أقوى من الناحية الجنسية.وربما كان الحرمان الناتج عن الأوضاع الاجتماعية هو المسئول عن اهتمام العربي المبالغ فيه بالجنس مما ساهم في تشكيل هذه الأسطورة.
أضفت بعد لحظة: علي أي حال لا أظن أن الفرنسيين أقل اهتماما بالجنس من العرب قياسا على اعلانات الشوارع وبرامج التليفزيون.
لمحت إميلي تمر من أمام البار فقلت لها بسرعة: أنا سعيد بهذا الحديث.
قالت: أنا لا أتحدث عادة بهذه الصراحة لكني استرحت إليك. فأنت تجعلني أضحك.
قلت: مهرج يعني.
قالت بسرعة: أبدا.
قلت: إحساسي نحوك هو نفس إحساسي في أول تجربة عاطفية لي في سن العشرين عندما كان الحديث يدور وقتها بلغة العيون.
ضحكت ساخرة.
اقتربت منا إميلي بصحبة ماريان التي ارتدت فستان سهرة رغم أن شعرها لم يكن مرتبا. استفسرت عن فريدة فقالت إميلي إنها سافرت منذ ساعتين.
قلت لها: أنا في حاجة إلى يوم إضافي لإقامتي وسأدفع تكلفته. لم تبد حماسا. ولاحظت أن سيلين تجاهلت الأمر تماما وتشاغلت بتقليب إحدى المجلات.
أجرت إميلي مكالمة تليفونية ثم ابتسمت متأسفة:الوقت متأخر لذلك والحل أن تذهب إلى المطار في موعدك وتحاول بنفسك.
دعوتهما إلى نبيذ ودق موبايل سيلين فقامت وانتحت جانبا وسمعتها تتحدث بانجليزية ركيكة. خالجني الشعور أنها تحدث عربيا فأرهفت السمع لأتبين شيئا من حديثها دون جدوى. وتضايقت.
انسحبت اميلي لأنها متعبة.وبقيت أنا وماريان إلي أن انضمت سيلين إلينا فانطلق ثلاثتنا إلي الخارج.
أخذنا تاكسي وفي الطريق حكت لنا أنها سافرت إلى الخليج عدة مرات فتأكدت شكوكي في هوية من هاتفها.
كانت ماريان هي الداعية وصحبتنا إلى مطعم أنيق بقاعة مستديرة وواسعة تزينها صور الممثلين السينمائيين وكانت مضاءة بأنوار قوية. وغلبت ملابس السهرة على الحضور.
جلست أنا وماريان متجاورين في مواجهة سيلين. تأملت المائدة المجاورة وسرعان ما تخيلت دراما صغيرة حولها. كان يشغلها كهل أبيض الشعر أسمر البشرة ومعه امرأتان سمراوان بملامح عربية. وكانت احداهما عارية الساعدين اختلط في شعرها اللونان الأسود والأصفر وترتدي بنطلونا ضيقا من جلد النمر رغم بدانتها. وغرقت المرأتان في حديث مشترك متجاهلتين الرجل الجالس معهما والذي كنت ألمح قدميه تهتزان في عصبية تحت المائدة.
التقط إحداهما وأصرت علي إحضار صديقتها معها؟أم التقط الاثنتين سويا في وعد بليلة ساخنة؟
طلبنا زجاجة نبيذ أبيض. ومشروم بالثوم والبقدونس مع ربع بطة لكل منا.
سألت ماريان بعد أن تبادلنا الأنخاب: هل ستحضران مظاهرة بعد الغد؟
استفسرت عن طبيعة المظاهرة.
قالت: إنها مظاهرة كبرى دعت إليها المنظمات اليسارية ومنظمات حقوق الإنسان احتجاجا على إجراءات وزير الداخلية ساركوزي ومطالبة بإنهاء حالة الطوارئ في باريس.
قلت: للأسف أنا مسافر في الغد.
تطلعت إلى سيلين لأري رد فعلها لكنها كانت تجرع الكأس الثاني من النبيذ.
قالت ماريان: تردد أن ساركوزي ينوي تكليف محام يدعي كلارسفيلد باجراء دراسة متعمقة حول القانون. هل تعرفان من هو؟
هززنا رأسينا نفيا.
قالت: إنه مناصر نشيط للاستعمار.وحصل من ثلاث سنوات علي الجنسية الإسرائيلية وأدى الخدمة العسكرية في صفوف الجيش الإسرائيلي أثناء الانتفاضة معلنا أنه يثأر لأجداد المحرقة. كما أنه يناصر حرب استعمار العراق بشدة.
سألتها عما قادها إلي حركة مناهضة العنصرية.
ضحكت: لقد ولدت بانفصام. فأمي كتالانية أسبانية وأبي كتالاني فرنسي ثم تزوجت رجلا من كورسيكا. وفي عام 86 صرت أنا وهو علي ناحيتين متعارضتين فانفصلنا. إنضممت إلى كوميونة وناصرت اليسار المتطرف وعندما انتهت هذه الموجة مارست التحليل النفسي.
تناولت رشفة من كأسها بينما ملأت سيلين كأسا جديدة.واكتفيت بكأسي الأول كي أظل محتفظا بوعيي.
استطردت ماريان: صعود ميتران إلى السلطة جردنا من الدافع. فأخذت أبحث عن مشروع لحياتي وعملت بعض الوقت في المكتبات الاقليمية. وأخيرا وجدت نفسي ـ وزوجي الثاني أيضا ـ في حركة مناهضة العنصرية.
قلت: فريدة تقول إنه يشبه تمثال دافيد.
ضحكنا. وطلبت سيلين زجاجة أخرى من النبيذ مضت تجرعه في شراهة.
هل تعد نفسها لليلة بلا كوابح؟
التقت عيوننا فعلت وجهها ابتسامة غامضة.
سألتني ماريان: هل تظن أن هناك مستقبلا للقومية العربية؟
قلت: طبعا فلغة الشعوب العربية ومصالحها واحدة. المشكلة في تفاوت درجات التطور الاقتصادي. القاعدة الصناعية مثلا هي التي ستؤدي إلي نجاح الاتحاد الأوروبي.
اعترضت سيلين: لا أعتقد فالحروب هي الأكثر توقعا بين بلدان الاتحاد الأوروبي. السياسات والمصالح متعارضة بين 51 دولة مستقلة. السياسة الزراعية مثلا. وهناك دول جديدة من أوروبا الشرقية ستنضم بعد سنتين كما أن إسرائيل تطالب بالانضمام. المصالح ستتضارب.
بدا لي أنهما تناقشتا في ذلك من قبل وأنه رأي شائع. فاستأذنت منهما لأدخن في الخارج. وغادرت المطعم ووقفت قرب أحد الطاعمين المدخنين. تمنيت أن تلحق بي لتدخن وأتمكن من تقبيلها. وشعرت بالندم لأني لم أستجب لنصيحة صديق لي وأحمل معي قرصا من الفياجرا.
انتهيت من التدخين بسرعة وولجت المطعم. ولمحت وجها مألوفا إلي مائدة تتوسطها زجاجة شميانيا. ولم ألبث أن تعرفت في صاحبة الوجه على إبنة رئيس البنك المصري الذي سهل لشركاء صديقي دانييل الاستيلاء على 52 مليونا من الجنيهات. وكانت قد هربت إلى فرنسا.
قامت سيلين بمجرد اقترابي لتدخن بدورها. وسألتني ماريان عن مستقبل الحركات الثورية في العالم العربي.
أجبت باقتضاب متجنبا الدخول في نقاش عقيم سيؤدي إلى سؤال عن الظاهرة الاسلامية. وأنقذتني سيلين بعودتها إذ حكت عن وليمة بلا كحول حضرتها في بلد خليجي لا تذكر إسمه. وبالطبع لم تكن هناك خمور مع الطعام. لكن قرب نهاية الوليمة وزعت على الجالسين زجاحات كوكاكولا ممتلئة بالنبيذ الأحمر.
وكأنما ذكرتها القصة بالشراب فأفرغت ما تبقى من الزجاجة في كأسها وأشارت إلى النادل طالبة زجاجة جديدة. وعندما أحضرها ملأت كأسها وجرعته في شراهة ثم أشعلت سيجارة.
جاءالنادل علي الفور ينبهها فاعتذرت وأطفأت سيجارتها. واستأنفت النقاش مع ماريان في عصبية حول الإتحاد الأوروبي.
وبعد قليل أشعلت سيجارة مرة أخرى فصدرت كلمة استهجان من سيدة متعجرفة سبعينية تجلس بعيدا. وجاء النادل مرة أخري فاعتذرت من جديد.
شربنا قهوة ثم غادرنا المطعم وتوقفنا حتى تشعل سيلين سيجارة جديدة. ثم سرت خلفها وأنا أتأمل ردفيها اللذين سيصبحان سريعا في يدي. كان الجو باردا والهواء لاسعا فلفت السويتر حول صدرها وضغطت بساعديها فوقه ولفت رقبتها بإيشارب وردي مشجر. اقترحت أن نمشي قليلا فقالت إنها تشعر بالبرد.
عبرت الطريق وأحضرت سيارة تاكسي. ونزلنا أمام الفندق بينما واصلت ماريان إلى منزلها. وبينما كنت أودعها جرت سيلين إلى داخل الفندق.ولحقت بها عند المصعد.
ولجناه وأغلقت الباب ثم اقتربت منها لأحتضنها لكنها فاجأتني دون أن تدفعني بثورة: ما هذا الكلام الفارغ الدي قلته عن الاتحاد الأوروبي والوحدة العربية. ثم تعصبت ونرفزت وقمت واقفا.
تطلعت إليها مذهولا. وشعرت بأن وجهها قد اتخذ أبعادا أكبر.
قلت: لم أفهم.
قالت: أنت تفهم جيدا. وواصلت ثورتها وتبينت قولها فجأة: أنا أكره أبناء المهاجرين، ولا أريد أن أعمل معهم.
ثملة؟ أم جنت؟
ـ أنت تريد أن تنام معي. طب وبعدين؟ ع الناشف؟ أم سأخلع البنطلون والكيلوت؟
قلت: لن أفعل شيئا لا ترغبينه.
قالت: طبعا.
قلت: أريد فقط أن أحتضنك.
مدت يدها وفتحت الباب وغادرت المصعد فخرجت وراءها. وقفنا أمام بابه المفتوح وواصلت ثورتها وهي تتلفت حولها لكن أحدا لم يهتم بنا من الجالسين في البهو. ومر بنا نادل دون أن يلتفت إلينا.
قلت: اسمعي. تعالي نصعد إلى غرفتي.
قالت: لا.
ـ إذن غرفتك.
قالت لا طبعا. أنت شخص ساذج.
بدأت أغضب.
تستفزني عن عمد؟ مازوخية؟ لكني لم أصفع امرأة في حياتي ولا حتى رجلا.
ولجت المصعد فهممت بمتابعتها.
قالت: لن أصعد معك وحدنا.
وقفت لحظة تتطلع إلي داخل المصعد بوجه شاحب.
شخصية أخرى تماما.
أشرت لها بيدي قائلا: تفضلي وحدك.
ترددت لحظة وهي تتأملني ثم قالت: سنلتقي في عالم آخر أو لا نلتقي.
أغلقت الباب وبقيت واقفا. ثم أخذت المصعد الآخر. خرجت في طابقي ومضيت إلى غرفتي. أشعلت سيجارة وجلست على حافة الفراش.
لن أتصل بها ولن أصعد إلى غرفتها ولن أمدد اقامتي. هل ستتلفن وتعتذر أو تأتي وتطرق الباب وتبكي؟
اتصلت بالفندقي طالبا ايقاظي في الخامسة صباحا. أشعلت سيجارة جديدة و مضت ساعة دون أن يدق التليفون أو الباب. فخلعت ملابسي ببطء وأعددت حقيبتي الصغيرة، واطمأننت علي نقودي وجواز السفر. وأدرت التليفزيون.
عثرت علي قناة اخبارية أوروبية أعلنت استمرار حرق السيارات منها 13 سيارة وسط باريس و18 باصا في سانت اتيين.
أغلقت الجهاز وأدرت الراديو ثم أقفلته. أطفأت الأنوار تاركا نور الحمام. شعرت بالبرد فأدرت مفتاح التكييف الساخن إلى أقصاه ولجأت إلي الفراش. أغمضت عيني لكن وجهها ظل أمامي وكلماتها تتردد في سمعي. كنت غاضبا لكن كلما تذكرت وقفتها المترددة أمام مدخل المصعد قبل أن تلجه وتختفي، رق قلبي لها.
نمت قلقا. في الخامسة استيقظت واغتسلت وحملت حقيبتي وتأكدت أني لم أنس شيئا. فتحت الباب وفوجئت ببرنامج المؤتمر الذي أعطيته لها بعنواني علي الأرض أمام الباب. التقطته ووجدت سطرا بالقلم الرصاص أسفل عنواني، استغرق مني بعض الوقت كي أفك حروفه: "ردي أنك بالضبط انسان ساذج ومتخلف". وضعت البرنامج في حقيبة يدي، ومضيت إلى المصعد بخطوات ثقيلة.

تمت

من المؤلف

لأن هذه الرواية تقوم على التخييل فان المؤتمرين المذكورين لم يعقدا في الحقيقة وإن كان انعقادهما واردا كما أن مؤتمرات مماثلة قد انعقدت بالفعل. وبالمثل فإن الشخصيات المذكورة أيضا هي شخصيات روائية وإن كان من الممكن أن توجد في الواقع مثل الدكتور شكري أستاذ التاريخ المقارن والشخصية الرئيسية في رواية أخرى لي هي "أمريكانلي".
أما أحداث الشغب فقد وقعت بالفعل في نفس التوقيت المذكور في الرواية وبدأت في 27 أكتوبر واستمرت حتى نهاية نوفمبر 2005.
وكان اثنان من نواب الجمعية الوطنية الفرنسية قد تقدما في 5 مارس 2003 بمشروع قانون يقضي بالاعتراف العام بالعمل الإيجابي للفرنسيين الذين عاشوا في الجزائر أثناء الوجود الفرنسي. وفي البداية لم يصدر عن نواب اليمين واليسار رد فعل عندما نوقش في الجمعية الوطنية في 11 يونيو 2004. وفي 16 ديسمبر صوت الاشتراكيون في مجلس الشيوخ للقانون بحيث تم اقراره في 10 فبراير 2005 وهنا بدأ ظهور المعارضة له، وخصوصا لكل من المادة الأولى التي توجه الشكر للذين ساهموا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في الأقاليم الفرنسية القديمة، والرابعة التي تطالب باعتراف المناهج الدراسية بالدور الايجابي للوجود الفرنسي فيما وراء البحار، وتقدير تضحيات مقاتلي الجيش الفرنسي في هذه الأراضي. والمادة الثالثة عشرة التي تعطي حق المطالبة بتعويض عن كافة الإجراءات العقابية السابق صدورها ـ على خلفية أحداث الجزائر ـ ضد من يتمتعون بالجنسية الفرنسية. وبعد تصريح للرئيس الفرنسي شيراك طلب رئيس الوزراء دو فيلبان من المجلس الدستوري في25 يناير 2006 حذف المادة الرابعة دون مناقشة. وفي 31 يناير 2006 وافق المجلس الدستوري علي طلب رئيس الوزراء.
ويوجه المؤلف الشكر لكل من هايدي تويليه الأستاذة بجامعة السوربون، وأمينة رشيد الأستاذة بجامعة القاهرة، وكليمنتين حبيب الرب، ورانيا فتحي، علي ماقدموه من عون أثناء العمل في هذه الرواية. كما يشكر ريشار جاكمون علي ملاحظاته القيمة عن المخطوطة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ راجع تفاصيل علاقة الراوية بالدكتور حلمي عبد الله في رواية "أمريكانلي" الصادرة عام 2003 عن دار المستقبل العربي بالقاهرة.
(2) ـ في السابع والعشرين من شهر أكتوبر الماضي (2005) كان ثلاثة شبان من مراهقي حي كليشي سو بوا ـ وهو من ضواحي باريس الفقيرة المكتظة بأبناء المهاجرين ـ قد انتهوا من لعب كرة القدم مع أصدقائهم، واتخذوا طريق العودة إلى بيوتهم. ورأوا الشرطة تعترض المارة فخشوا أن يتعرضوا للتحقيق الطويل، الذي يواجهه شباب المنطقة من الشرطة، إذ تطلب منهم إبراز بطاقات الهوية، وتحتجزهم عدة ساعات، ثم تشترط أن يأتي أهاليهم لتسلمهم. لتجنب ذلك قرر الشبان الثلاثة الهرب. فتسلقوا حائطا للاختباء في محطة كهرباء. وبعد نصف ساعة انقطعت الكهرباء عن المنطقة وأعلنت الشرطة أن هذا الانقطاع تم نتيجة صعق شابين اختبآ في المحطة، هما زايد بنا وبونا تراوري اللذين يوحي اسماهما بأنهما من أصول أفريقية. وعلى الفور انفجرت أعمال العنف في الضاحية، وامتدت إلى أماكن أخرى. كما انضم إلى المحتجين أبناء الجيل الثاني من المهاجرين البرتغاليين، وشباب كثيرون من الفرنسيين الأصلاء.
(3) ـ تضم باريس 9 ملايين نسمة (يعيش مليونان ونصف مليون نسمة منهم في قلب المدينة، بينما يقطن الضواحي التي تحيط بها ستة ملايين ونصف المليون نسمة). وتتكون هذه الملايين التسع من العديد من الأعراق والأجناس أكبرها وأشهرها كتلتا المهاجرين من الشمال الإفريقي (الجزائر والمغرب وتونس) والشرق الأوسط، والمهاجرون الأفارقة.
عدد المهاجرين الشرعيين لفرنسا، والذين تجنسوا بجنسيتها، وحصلوا على إقامات قانونية، وانخرطوا في القوى العاملة الفرنسية بشكل دائم ومقنن، حوالي 5 ملايين إنسان، أما المهاجرون غير الشرعيين الذين لم يسووا أوضاعهم بعد فيقدرون بحوالي نصف مليون، يمثلون صداعاً مستمراً في رأس الحكومات الفرنسية المتعاقبة، والبرلمان، والمجتمع بأكمله، ما بين مؤيد لبقائهم ومعارض لتواجدهم، (من مقال لحمزة قناوي).
(4) ـ راجع "أمريكانلي".
(5) ـ راجع تفاصيل العلاقة مع جمالات في "أمريكانلي".
(6) ـ راجع تفاصيل اليوميات في "العمامة والقبعة" من نشر دار المستقبل العربي بالقاهرة 2007.
(7) ـ الترجمة العربية صدرت سنة 2000 في القاهرة عن المشوع القومي للترجمة من اعداد كاميليا صبحي.
(8) ـ يرأس هذا الفريق الدكتورة مديحة دوس، ويتألف من الدكاترة إلهام ذهني، وناصر إبراهيم، هنا فريد، عزة محمود، وباتسي جمال الدين التي تولت اعداد الكتاب. وصدر باللغتين العربية والفرنسية عن دار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة سنة 2005 بعنوان "الحملة الفرنسية علي مصر، مذكرات ضابط من جيش الحملة".
(9) ـ راجع د. ناصر ابراهيم في الطبعة المذكورة سابقا من مذكرات هوويه.
(10) ـ يشيرإلى معركة بواتييه التي وقعت عام 237 م عندما التقى جيش المسلمين بقيادة عبد الرحمن الغافقي بقوات الأفرنج بقيادة شارل مارتل. ووطد انتصار الأخير امبراطوريته لمدة قرن من الزمان.
(11) ـ Francois Furet
(12) ـ Jean Tranieet j.c. Carmigniani: Bonaparte: La Campagne d.Egypte, Gerard Watelet,1988
(13) ـ Roger Dufraisse; Napoleon , Que sais je, Presse Universitaire de France. 1987
(14) ـ Joel bregeon,L Egypte Francaise au gour de Jour ,Perrin1991
(15) ـ Bonaparte en Egypte, Patrice Bret, L.histoire 190.1995
(16) ـ راجع الدراسة الشاملة عن هذا الموضوع في كتاب (الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير) ج 1 و2، للدكتورة ليلي عنان أستاذ الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة، كتاب الهلال 1998، وتعتبر أول كشف لتناقضات المؤرخين الفرنسيين الجدد.
(17) ـ Peter Gran, The Islamic Roots of Capitalism, Egypt 1760 - 1840, Syracuse University press,1979
(18) ـ صدر الكتاب باللغة العربية بالقاهرة سنة 1966 في ترجمة بديعة لفؤاد أندراوس.
(19) ـ من جملة رجال الحملة الذين يزيدون على 50 ألف لم يعد إلى فرنسا سوى 23 ألفا أو أكثر قليلا، بينهم 3000 مريض.
(20) ـ راجع الدراسة التفصيلية للدكتورة ليلى عنان بعنوان: "كيف وظف نابليون الفن للدعاية لحملته علي مصر"، "مائتا عام علي الحملة الفرنسية"، القاهرة 2008.
(21) ـ اقتصر ت الأوراق علي المواد التالية من القانون التي وصفتها بأنها مثيرة للجدل:
المادة الأولي: "تعرب الأمة عن امتنانها للنساء والرجال الذين شاركوا في المهمة التي أنجزتها فرنسا في الأقاليم الفرنسية القديمة في الجزائر والمغرب وتونس وفي الهند الصينية كما في الأراضي التي خضعت لاحقا للسيادة الفرنسية".
المادة الثالثة:" يحظر توجيه إساءة لشخص أو جماعة أو التشهير بهم بسبب انتمائه الحقيقي أو المزعوم للهاركي (الجزائريين المتعاونين مع السلطات الاستعمارية) أو بسبب كونهم من قدامى أعضاء التشكيلات الإضافية أو الاحتياطية".
المادة الرابعة: "تعترف المناهج الدراسية، بصفة خاصة، بالدورالإيجابي للوجود الفرنسي فيما وراء البحار، وبالأخص في شمال أفريقيا، وتمنح لتاريخ وتضحيات مقاتلي الجيش الفرنسي، في هذه الأراضي، المكانة الرفيعة التي يستحقونها".
المادة الثالثة عشر: "يحق للأفراد الذين يتمتعون بالجنسية الفرنسية، في تاريخ نشر هذا القانون، والذين علي خلفية أحداث الجزائر خلال الفترة من 13 أكتوبر 1954 إلى 3 يوليو 1962 قد أدينوا، أو فرضت عليهم عقوبات صدر عنها عفو عام، أو اجراءات طرد إدارية، أو احتجاز أو إقامة جبرية، والذين اضطروا نتيجة لذلك إلى ترك نشاطهم المهني (...) يحق لهم المطالبة بتعويض إجمالي".
(22) ـ الجيش الفرنسي السري هو التشكيل العسكري الذي كونه فرنسيو الجزائر للدفاع عن تبعية الجزائر لفرنسا ومقاومة مخططات ديجول للانسحاب منها.
(23) ـ في عام 1990 أقر البرلمان الفرنسي قانونا اقترحه النائب الشيوعي جايسو Gayssot يجرم التشكيك في حقيقة المحرقة (الهولوكوست) التي تعرض.لها اليهود إبان العهد النازي. وطبقا لهذا القانون لا يستطيع الباحثون مناقشة وقوع المحرقة من عدمه.
(24) ـ الترجمة العربية لمواد القانون للدكتورة رانيا فتحي
(25) ـ محمود مختار هو رائد النحت المصري الحديث صاحب التماثيل الشهيرة: "نهضة مصر" (1928)، "سعد ذغلول"، "الخماسين".
(26) ـ راجع "أمريكانلي"
(27) ـ المرجع السابق.
(28) ـ كان الإبن الأكبر لأحد مهرة الصناع وبرزت موهبته الخارقة في الرياضيات و في سن السادسة عشرة قُبل بمدرسة المهندسين الحربية على الرغم من ضعة مولده. وقام بالتدريس بها بعد ذلك وأنشأ بها فرعا جديدا في الرياضيات هو الهندسة الوصفية. ثم عين عضوا في أكاديمية العلوم عام 1780، وأصبح مساعدا للافوازييه أبي الكيمياء، الذي شهد لمونج باكتشاف تركيب الماء من الهيدروجين والأوكسجين. وفي ظل الثورة عمل وزيرا للبحرية، وألف كتابا سمي "نصائح لعمال الحديد عن صناعة الصلب في أفران التمليط". وعمل في لجنة للموارين والمقاييس أدخلت النظام المتري، واشترك في تطيير بالون في الجو، ووضع مع برتوليه طريقة لاستخرج ملح البارود من التربة العادية. وألف كتابا عن فن صناعة المدافع، وكان عضوا نشيطا في نادي اليعاقبة، وأهم مؤسسي مدرسة الفنون الهندسية، لكنه لم يحرك إصبعا ليساعد شريكه لافوازيه في النجاة من المقصلة. وفي مايو 1796 عين هو وبرتولليه أعضاء في لجنة حكومية لفحص التحف الفنية والاثار في البلاد المفتوحة. وأوفد إلي إيطاليا حيث توثقت علاقته ببونابرت. وكانت اللجنة تتولى فحص المجموعات الفنية والمتاحف، وتحدد ما يسلم منها للجمهورية الفرنسية. وجولة عابرة في متحف اللوفر تدلنا علي نجاح اللجنة التي يرجع إليها فضل حصول فرنسا على لوحة الموناليزا. وقد ذكر مونج لزوجته أن نقل التحف إلى فرنسا تطلب 300 صندوق كبير. وكان مونج في طليعة من أبلغهم بونابرت بمشروع الحملة على مصر، فبدأ في سبتمبر 1797 ـ وهو في الثانية والخمسين ـ في جمع الخرائط والمذكرات عن مصر، وفي مارس من العام التالي طلب منه نابليليون جمع حروف عربية للطباعة، وطابعين وصفافين للحروف، واختار أربعة طلاب من بين طلاب الطب المشارقة في روما، للعمل كمترجمين. ثم اختاره نابليون عضوا في الحملة، وعهد إليه بمهام خاصة وعامة منها الإشراف علي شحن 800 زجاجة نبيذ من قبو شقيقه جوزيف و4000 زجاجة من نابولي وعربة فاخرة ذات عنانين لبونابرت.
(29) ـ كونت فرنسا علي مدى تاريخها الحديث إمبراطوريتين استعماريتين. بدأت الأولى في أعقاب الكشوف الجغرافية. وأسفرت حروب فرنسا الطويلة في القرنين 17و18 عن فقد أكثر مستعمراتها فلم يعد لها في الهند سوى مراكز تجارية قليلة بينما ضاعت في أمريكا أقاليم كثيرة منها كندا ولويزيانا. ولم يكن فلاسفة التنوير كلهم ضد الاستعمار، ولم يطلبوا التخلي عن المستعمرات مثل مونتسكيو. بل أن فولتير الذي أدان الرق، وافق علي ضرورة الإستيلاء على كورسيكا، وحبذ استعمار لويزيانا.
الإمبراطورية الثانية بدأت بغزو الجزائر، واتسعت في عهد نابليون الثالث، حتى اكتملت في عهد الجمهورية الثالثة (1870 ـ 1940) حيث كونت فرنسا في أفريقيا اتحاد أفريقيا الغربية الفرنسية، واتحاد أفريقيا الاستوائية الفرنسية، ومستعمرات شرق أفريقيا وشمالها، وفي آسيا اتحاد الهند الصينية الفرنسية (فيتنام ولاوس وكمبوديا).
(30) ـ Pascal Planchard
(31) ـ صدر الكتاب عام 2007 بعنوان "ضحايا التفجيرات النووية الفرنسية يتناولون الكلمة". وقال إن التجربة الأولى وقعت في 13 أكتوبر 1960 والثانية في ديسمبر من نفس العام. وإن فرنسا أجرت 210 تجارب نووية قبل سنة 1966.
(32) ـ Niall Ferguson:Colossus: The rise and Fall of the American Impire
(33) ـ فنان الرومانسية الأشهر(1798 ـ 1863). صور الثورة الفرنسية في لوحة خالدة باسم "الحرية تقود الشعب" كما زين برسومه جدران القصور الملكية. بعد الثورة. وفي عام 1832 ذهب إلى المغرب في رفقة مبعوث فرنسي. وقضيا ثلاثة أيام في مدينة الجزائر التي استولت عليها فرنسا قبل عامين. وفي الميناء التقي ديلاكروا بمهندس عاشق للرسم سمح له بدخول حريمه.. وكان بذلك أول رجل أوروبي يتاح له رؤية الفضاء الداخلي للمرأة الجزائرية.
(34) ـ ولدت عام 1948 واعتقلت في الثانية عشرة من عمرها سنة 1960 لكتابة شعارات معادية للاستعماروالاشتراك في مظاهرة ضد الوجود الفرنسي في الجزائر.. اشتهرت بأعمالها المركبة التي تجمع بين الكولاج وفنون الكمبيوتر وعروض حية تقرأ فيها أشعارها. وجمعت بين التجريد والتعبيرية مما يشير إلى اتجاه حداثي ثان. تعيش وتعمل في لندن.