يرى الناقد المصري أن هذه المجموعة القصصية تأخذ بيد القارئ نحو رؤية تنويرية، تبدأ من الإنسان الفرد، لنصبح أمام رؤية إنسانية، يمكن تلخيصها في أنها «صراع الإنسان مع السُلطة». ويمثل المتمرد الباحث عن الخروج من دائرة التكبيل، والساعي دائما إلي الانطلاق والحرية اللحن الأساسي في القصص.

قسوة الآلهة .. والشخصيات المأزومة

شوقي عبدالحميد يحيى

علي الرغم من أن عنوان العمل – أي عمل – هو آخر ما يضعه الكاتب، محاولا فيه أن يُكثف رؤيته التي حمَّلها عمله، فإنه –العنوان – أول ما يقرأه القارئ فور تناول العمل، يسلط عليه سهامه في محاولة لفض بكارة العمل، إلا أن ما يصل إليه من خلال هذا العنوان، يظل في حيز التكهنات، التي ربما تقترب أو تبتعد عن الرؤية الحقيقية، أو المُتخيلة لذلك العمل. وهو ما يمكن قوله علي العتبات الأخري للعمل، والتي منها الإهداء. والذي كثيرا ما يصلح بوصلة القارئ في السير عبر دهاليز العمل. وعلي الرغم من أن الغالب أن يؤخر، من يتحدث عن العمل، الحديث عن تلك العتبات ربما لنهاية الحديث، إلا انني أراني مدفوعا – ولو بصورة مؤقتة – لاستقبال هاتين العتبتين تحديدا في البداية ، العنوان "قسوة الآلهة" ذلك العنوان اللافت، والإهداء {إلي النور الذي يكمن بدواخلنا، متدثرا بهدوء الموتي ... لعله يحيا}. لنستطيع أن نتلمس الشعور الذي ينتابنا، من تصور ذلك الصراع الخفي بين ضغط "القسوة" وما تمثله من قوة وعنف، علي ذلك النور القابع في الداخل "متدثرا بهدوء الموتي" فيما يشبه الاستسلام، "لعله يحيا" أي أن هناك محاولات لإحياء الميت، أو مقاومة "القسوة" وإن بدا علي تلك المقاومة "الاستحياء" أو الوهن، وهو منطقي جدا في ظل أن هذه القسوة، قسوة "الآلهة". فأني للبشر أن يقاوم الآلهة؟. إلا أن الإنسان – بطبعه – المتمرد، يظل يبحث عن الخروج من دائرة التكبيل، إلي تكسير الحدود والروتين، فيسعي دائما إلي الانطلاق والحرية. وذلك هو اللحن الأساسي الذي تتنوع حوله معزوفة "قسوة الآلهة"[1]. خاصة إذا ما ذهبنا مباشرة إلي قصة "قسوة الآلهة" لنتعرف علي كنه العنوان. حيث نواجه الثنائي الأساسي في المجموعة، أو المتكرر فيها، وهما الأب والإبنة، وإن ظهرت شخصيتان أخريان، هما الأم والصديقة، واللتان لم يكن دورهما يزيد عن دور (السنيدة). فنجد في هذه القصة الإبنة التي لم يتبق علي زواجها سوي عشرة أيام، وعلي الرغم من ذلك، يتحكم الأب في عملية خروج الإبنة، او التحكم في حركتها {وعليها أن تخرج من البيت قبل استيقاظ والدها كي لا تصطدم برفضه القاطع، ليس رفض شراء احتياجات الفرح، فالحقيقة التي لا تستطيع أن تنكرها أنه لا يبخل عليها بشئ، حتي لو جاء ذلك من أجل خلاصه من عبئها الذي يشعر بثقله الجاثم فوق كتفيه، لكنها موقنة من رفضه من أجل صديقتها التي لا يكل من تحذيرها من علاقتها بها، ولايكف عن الصراخ في وجهها منذ سنوات الدراسة البعيدة، في السر والعلانية، بأن هؤلاء الأغنياء ليسوا مثلنا في شئ}. ويكون دور الأم هنا، كيف ستخبر الزوج بخروج الإبنة والكيفية التي تستطيع بها إقناعه. وهي ذات الصورة التي نراها في قصة " الفرح" حيث يري الزوج (الأب) في منامه – حيث تلعب تقنية الحلم دورا كبيرا في شخصيات المجموعة – يري أن ابنته تجلس مع صديقتها علي ترابيزة أحد الملاهي، مع (زبونين) من طلاب المتعة المدفوعة الأجر، فيتمني قدوم اليوم الذي يستلم فيه غيره الأمانة، حيث يلقي عن كاهله عبئ ابنته، فيخرج منولوج الزوج (الأب) معبرا عن ذلك {لا يكاد يعرف متي بدأت قسوته معها في الظهور، ولا لماذا؟ .... وأن خير وسيلة لتربية البنات، خصوصا إذا كانت وحيدة، هي القسوة والشدة والمنع وإحكام السيطرة التامة والكاملة،..... مهما بلغ حد مقاومتها له، ومثلما استسلمت زوجته، وكل امرأة قادها مصيرها للتواجد داخل شجرة العائلة}. وكأنه يضع يدنا علي طرفي معادلة العنوان، والإهداء، وهما القسوة، والمقاومة. وليصبح الأب هو الإله في بيته.

وعلي الرغم من أن السياق المباشر، هنا، ينسحب علي الرؤية الاجتماعية، إلا أنه انطلاقا من أن السياسة هي المنوط بها إدارة حياة البشر، وإنطلاقا من الرؤية التي تعبر عن السُلطة الأبوية، بانها السلطة البطريكية، أو السلطة الإلهية، أو اي سلطة، فإنه يمكن توسيع الرؤية، ليصبح الأب هنا هو السلطة السياسية، التي (تقسو) علي أفراد المجتمع، تلك القسوة التي – عندما يعجز المجتمع عن مقاومتها- فإنه يلجأ للهروب، وما نسميه الهروب الاحتجاجي، والذي يتمثل غالبا في الانسحاب إلي الداخل، الانسحاب إلي الذات، أو إلي الوحدة والفردانية، وهي السمة الغالبة في المجموعة، وهي الفردية المقاومة، أو الفردية الساعية للمقاومة. وهي الرؤية التي يمكن استخلاصها من العنوان الأخير في المجموعة "الأشياء الصغيرة" والتي يمكن النظر إليها بإعتبارها (المانافستو) للمجموعة، والتي يمكن إجتزاء بعض الجمل منها، وكأنها الكشافات المسلطة عليها، لتنير دهاليزها { الأشياء الصغيرة تشبه مصاص الدماء.. وهو يكمن في الظل. ويتغذي علي دمك الطازج في معية الخوف والوحدة} { وأنا علي شفا حفرة من الانفجار العظيم، بعد أن ضاق المكان بي} {أستطيع أن أحذرك من الوحدة، والخوف ... من الجلوس في الظل لاستدعاء الماضي}. حيث تلقي تلك الكلمات الموحية بظلالها علي أجواء المجموعة، والتي يمكن رؤيتها في المفردات { الخوف – الوحدة – الانفجار – استدعاء الماضي (بالطبع في مواجهة الحاضر)}.

وقد يكون من نافلة الحديث، القول بأن القصة القصيرة، هي أقرب الأنواع السريدة إلتصاقا بالشعر، الذي هو أكثر الأنواع الأدبية إلتصاقا بالنفس، وتعبيرا عنها، في اشد إلتصاقها بأوجاعها، تلك الأوجاع الناجمة عن الشعور الدائم بالوحدة، ليس لخلو الناس من حول الفرد، وإنما، وربما الأصعب منها الشعور بالوحدة وسط الآخرين. وقد لا أكون مبالغا إن قلت أن مجموعة "قسوة الآلهة" أقرب إلي الديوان الشعري منها إلي السرد القصصي. حيث يغلب علي قصص المجموعة، ذلك (الإحساس) بالوحدة، أو فراغ العالم من حول الذات الفردية، والتي تبين بصورتها الفردية ، خالصة في حالات النوم، أو في حالة الحلم، حيث يعيش الفرد، منفردا، خارجيا، بينما تضح الحياة من حوله، بعوالم، ربما لايستيطع التجاوب معها، أو معايشتها، وإن كانت تشكل حياته( في الحلم)، بل ويمتد أثرها فيما بعد الصحو، وكأن الحلم هو البديل للحياة الجدباء، والمساحة المتاحة لتحقيق ما عجز الواقع عن تحقيقه. فنجد كل القصص – تقريبا- تبدأ، أو تنطلق من حالة النوم. فعلي سبيل المثال، نجد انطلاقة قصة " فناء عظيم لجَدَّة وحيدة" والتي تعبر، لا عن حالة صحو واحدة، وإنما تؤكد التكرار، كفعل يومي، يموت فيه الإنسان { وأنا استيقظ كل صباح يعتريني شعور غريب وغامض، حتي أنني لا أستطيع تفسيره} وكأنه الصحو بعد الموت، حيث يقف الإنسان أمام عالم غريب عنه، ولا يستطيع تحديد ما إذا كان حزينا، أو خائفا { ما الذي يجعلني متعبا إلي هذا الحد؟} { وبعد الدوران الكثيف في فراغ الغرفة، أكتشف ربما بمنتهي البساطة، إنني مجرد إنسان وحيد}. لينفذ بنا الكاتب إلي جوهر الإنسان، الذي يأتي فردا، ويذهب فردا، بل إن – أيضا – يعيش فردا.

ويتوحد الفرد مع الطبيعة، وكأنه جزء منها، وترتبط حركته بحركتها في امتزاج لا فرار منه، خاصة إن كان الفرد قد قضي وترا منها. فها هي (الجَدة) تتوحد مع { الشمس الطالعة من خلف سن الجبل القائم علي رأس البلدة، وئيدة وضعيفة خائفة في وجه الجدة كأنما تستأذن في الظهور، تنتظر الإشارة، حتي تبدأ الجدة في هز رأسها وئيدة في المبتدأ، وسريعة متلاحقة من بعده، وغائبة عن الوعي مثل سكران يستلذ بشرابه، او مريد توحد في الحضرة، حتي يكتمل الطلوع ويبدأ الميل} حتي تتداخل حركة الشمس مع حركة الجدة، وكأن الجدة هي الشمس، أو أن الشمس هي الجدة { لا تلتفت لأحد، ولا تكلم أحدا قط، طريقها عرفناه علي مر الزمن صوب الباب البراني}. ليوحد الزمن بينهما، وكأنها صيرورة الحياة، التي لا بد تسير. فبعد أن نسجت الجدة خيوط الحلم/ الذكري، بذلك الحصان الذي اختطفها الجد يوما عليه، تموت الجدة، ويبدأ الحفيد مسيرة تتجدد، مع استمرار الشمس { وحين فتحت الباب غمرتني مساحة شاسعة من ضوء لانهائي، وكأنني أستقبل بين ذراعيَّ الشمس ...... مخترقا ذلك السياج الواهي، الذي صنعته الجدة من حولي، لأنفتح علي فضاءات واسعة ولانهائية، لبراح عظيم}. وليؤكد الكاتب قدرته علي تصوير الحياة بصيرورتها، في مساحة وشروط القصة القصيرة.

ففي أولي قصص المجموعة "رجل كبير بحجم قطعة الشوكولاته" حيث نقع منذ العنوان في دائرة النسبية، فعلي الرغم من أن "الرجل كبير" إلا أنه رغم هذا الكِبَرْ، فإنه لا يتجاوز حجم قطعة "الشوكلاته". وهو الحجم الطبيعي الذي يجب أن ننظر للإنسان بموجبه إزاء الطبيعة، والذي يؤكده الكاتب في بدايات القصة {ومع الارتفاع الشاهق للعمارة التي أقطن بها ستبدو نظرتي أكثر عمقا، بحيث تظهر الأشياء صغيرة جدا، وفي حجمها الطبيعي}. فالنظرة المتعمقة تري الإنسان أو الأشياء صغيرة جدا، وهذا هو حجمها الطبيعي. إلا أنه يسعي للالتهام مباهج الحياة، يسعي الإنسان أن يكون فراشة تطير متنقلة من زهرة إلي زهرة. فالسارد بعد أن استنفد مباهج "مريم" ولم تعد تقدم له الجديد، سعي إلي "زهرة"، حيث يجد لديها الجديد.

ولا يحرم الكاتب قارئه من متعة الحبكة الدرامية، التي تمنحه حركية اللحظة، وبُعدها الإنساني، حيث تتواطأ "أكرة الباب" التي {أتعب نفسه في البحث عنها، وأتعب عينيه في التدقيق حائرا حتي وقعتا عليها، فاختارها من بين عشرات الأكر الأخري، ... ويجعلها مفتاحا لجنته الخالدة}. ورغم ذلك تتواطأ "الأكرة" مع مريم، فتستجيب لها وتفتح باب الجنة لتري فعلته مع زهرة. وهي ذات "الأكرة" التي تعتبر الشئ الوحيد، واضح الرؤية في القصة التالية "صحو مبكر بلا جدوي" وسط كتلة من الضباب (المعنوي) الذي يخلف رؤية تلك التي أصبحت تلازم النوم وتسعي إليه، هروبا من ذلك الكابوس الذي يطاردها كل ليلة، منذ أن رأت تلك الرؤية (الهلامية) أو غير اليقينية، لذلك الذي يطارد أمها، ولتصبح هي ذاتها فريسته المنتظرة { لتقوم باتجاه الباب الضبابي الذي لا تبدو منه سوي الأكرة، بوضوح يتنافي مع كل العالم من حولها}. وحيث الربط بين الإنسان والمادة، أو الإنسان (داخليا) وموجودات الحياة (خارجيا).

الخيانة
تعتمد معظم المجموعة، كما اسلفنا، علي الأب والإبنة والزوجة، وفي محاولة، ولو داخلية، قد يبرر الأب قسوته بوجود الخيانة، لذا تلعب الخيانة دورا كبيرا في قصص المجموعة. فإذا كان السارد نفسه هو الذي خان مريم مع زهرة، في قصة "رجل كبير" فكان هو الفاعل، فإن الخيانة تقع علي السارد، أو الشخصية الرئيسة في قصص أخري. ففي قصة "صحو مبكر دون جدوي" كانت الخيانة، من الأم، تلك الخيانة التي (صَحَتْ) الشخصية الرئيسة عليها "مبكرا"، وفي ترجمة للعنوان، يمكن القول بأنها تعرفت علي خيانة الأم، في فترة باكرة من حياتها، غير أن تلك المعرفة، كانت بلا جدوي، فلم تستطع تغيير شئ، أو فعل شئ، وكأن الخيانة فُرضت علي حياتها، وأثرت فيها، دون أن يكون لها يد فيها. وهي نفس الرؤية التي يمكن أن نخرج بها من "طوق الحمامة" حيث تلعب الحياة نفسها دورا رئيسا في الخيانة، التي يراها السارد ممارسة بين حبيبته "فاطمة" والشيطان في "حمَامه". فاطمة، تلك التي صورها خياله البرئ الرومانسي بالحمامة، علي الرغم من أنها لا تبادله ذات النظرة الرومانسية، بل تنظر للأشياء نظرة زمنها، نظرة واقعية، حيث تري فيه لا يساير العصر، فتخلف موعدها معه، فيعود لبيته ليفاجأ بها في حمَامه مع الشيطان، يمارسان الرزيلة، ليصنع ذلك الجناس بين الحمَام، كمكان، والحمام، ككائن حي ورمز للسلام والمحبة، فيتحول هذا الرمز ذاته، لرمز الخيانة.

وفي قصة "الجانب الآخر من الشارع" تشتمل الخيانة، إلي جانب الخيانة الجنسية، المتمثلة في العلاقة الآثمة بين المجذوب والجارة التي غاب عنها زوجها، وإن خرجت عن نطاق الزوجة والإبنة، فإنها تحتوي خيانة من نوع آخر، متمثلا في أداء (الشيخ) لل(الهبل) أو (العبط)، بخداع كل الجيران الذين لا يعلمون خدعته، وفي ظل ذلك يستمرئ الخيانة، أو الانتقام من بداياته التعيسة الفقيرة، وتركْ أبيه له ولأمه، نهبا للفقر، والحاجة {قلتها من قبل وأنت تعزم العقد بين الزروع علي أخذ حقك المغتصب}. وهو الأمر الذي امتد بزمن القصة عن إطار القصة القصيرة التي برع في التحكم فيها في غيرها من القصص، لتغطي حياة بأكملها، كي تصبح أقرب للرواية منها إلي القصة القصيرة، خاصة أن القصة تنتهي بإنكشاف الخدعة للجميع. حتي علي الرغم من السرد الشفيف، الأقرب للإيحاء منه إلي التصريح، وعلي الرغم من تداخل الضمائر، حيث يبدأ بضمير المتكلم { لم أشعر بالعربات التي تمرق بالقرب حتي كادت تصدمني}، وبعدها بضمير الغائب والجارة التي غاب عنها زوجها لاتنام الليل، تظل تناديه لساعة – إرجع .. إرجع}، ليدخل بعده لضمير المخاطب { جاءت لحظتك الأخيرة، وتهربت الأمور من بين يديك}. وعلي الرغم من نجاحه –الكاتب- في التهويم والتداخل، الذي يلغي الإحساس بالزمن، غير أن القراءة المتأملة للقصة، تسفر عن ذلك الامتداد الكاشف لأبعاد الزمن.

أنا سنبلة صفراء
إذا كنا قد رأينا أن العنوان الأخير في المجموعة "الأشياء الصغيرة" هو خلاصة التجربة والتي يمكن الخروج بها من تلك المجموعة المتجانسة، فإننا نري أن قصة "أنا سنبلة صفراء" –تلك القصة المُلغِزة، هي دستور المجموعة، حيث تصبح باقي قصصها، هي القوانين، أو المذكرة التفسيرية التي تفصل وتوضح أبعاد ذلك الدستور. حيث تشتمل كل عناصر القص في باقي المجموعة. فيها "الوحدة" أو الفراغ، فيها الشباب، فيها مياه الدُش المتخللة لأجزاء الجسم، وتأثيرها، بدلالاته، فيها الرغبة التي يلعب الشيطان فيها دورا، فيها التهويم والإيحاء أكثر مما فيها من التصريح، وإن بلغ فيها حدا أكبر، حيث كانت مفاتيحها أقرب للإنغلاق أكثر مما فيها من الإنفتاح. حيث دخلها العديد من الإشارات التي قد تبدو متباعدة، مثل السنبلة الصفراء، النادل، ماسح الأحذية، فضلا عن الإشارة غير المسبوقة – في المجموعة – لخارطة فلسطين، فيها الإشارة الدينية {ترميني بحجارة سجيلية}. حتي أن الربط بين كل تلك العناصر، قد يحتاج الرؤية الثقافية، التي تستدعي تلك الدلالات المتباعدة، وصولا لرؤية كلية، للقصة، وللمجموعة.

الحدث الرئيس في القصة، هو اتفاق تم بين السارد وفاطمة علي الدخول في التجربة الحسية، بعد أن تجاوزا المرحلة الرومانسية {ظللنا معا نلتقي كل يوم، ونتحدث في كل شئ، أفرغنا كل دواخلنا ولم تعد بنا رغبة سوي أن نصل إلي تخوم لم نطأها من قبل}. واتفقا علي اللقاء. وتأرجح الشيطان الموسوس بين الخارج والداخل، حيث تلبس السارد، مُوِسوسا ومهيمنا. ويلعب نادل الكازينو دوره، بما يوحيه (النادل) من إيحاءات إجتماعية، حيث يلعب – في التصور الجمعي – دور الوسيط في بعض عمليات التواصل، أو تحقيق الرغبات { الشئ الوحيد الذي أعاطنيه النادل، وأنا جثة همد حسُها في قارعة طريق مظلم، أن سكب عليَّ من روحه فأنبت داخلي الحس واليقظة}. ونعرف أن السارد يعيش وحيدا، لا يؤنس وحدته، ولا يُتعش وجوده سوي شلال مياه الدُش، وكأنه يعيش الفراغ والوحدة، فيلعب النادل دوره في إحياء الأمل في دخول الحياة المشتهاه. غير أننا في النهاية نتبين أنه – النادل – قد أبي قطف الثمار {قلتُ، أنا سنبلة صفراء أبَي النادل حصد حباتها}. حيث السنبلة التي اصفر لونها، هي السنبلة التي اكتمل نضجها، وتنتظر القطاف. وحيث أن صاحبنا قد نضجت رغبته، لكنه يعجز عن تحقيقها، ربما لطول الكبت، والانحباس، وحيث "فاطمة" {هي من يمتلك مفتاح الصندوق المغلق، فلم تشأ منحي دون مقابل تحتاجه، وتعرف يقينا أنني الآن لا أملكه} في إشارة رمزية لذلك (الصندوق) المغلق الذي تمتلكه، ولا تفتحه إلا من شاءت. وهنا يبرئ –السارد – الشيطان من الحث علي تلك الخطيئة، وإنما هي الحاجة الإنسانية التي كبتها الحرمان، وطال فيها القهر، حيث تحولت الرغبة لتحقيق الذات، لتحقيق الخروج من الأسر {عرفت أن احتياجي لفاطمة لم يكن غير احتياج للحرية} وكأن احتياجه إلي فاطمة، لم يكن – بالدرجة الكبيرة – إلا رغبة في الانعتاق من أسر الرغبة.

علي أنه يمكن القراءة بتأويل آخر، حيث دخل الشيطان السارد، حين شعر بالتفاخر، فاصبح هو ذاته الشيطان، أو أن الشيطان تلبسه {سكنت لحظة، هززت بعدها رأسي تفاخرا، وهنا هبط من مكانه العلوي ودخلني} ويؤكدها – السارد – في النهاية بما يتفق مع ذلك {فهل يجب أن أحترق.. أو يحترق مكاني.. أو تحترق كل الأمكنة}. وكأن الشيطان عندما لم يستطع تحقيق مراده من وقوع الخطيئة، فكأنه يحترق، وفقا للمفهوم المجتمعي. ثم يأتي دور "صديقي ماسح الأحذية" والذي {أخبرني النادل بأنه رجل طيب قلبه، رغم أن كل الناس يعاملونه علي كونه مجرد ماسح أحذية} وهو ما يوحي بنظرة {كل الناس} له علي أنه مجرد ماسح أحذية، تلك المهنة التي تشير إلي تدني الدرجة. فإذا كان السارد وماسح الأحذية {دائما معا ومنفصلان إلي الأبد} ليتحول ماسح الأحذية إلي التماهي مع تلك الرغبة المشتهاه، تلازم الفرد دائما، غبر أنها (الرغبة)، وصاحبنا، منفصلان فلم تتحقق له أبدا. أما كون { لصديقي ماسح الأحذية وجه خارطة فلسطين الحديثة} فلم تزد – في تصورنا – عن الإشارة - غير المؤثرة - لذلك التشوه الذي أصاب خارطة فلسطين، حاليا، ولم يعد يعرف أحد، أي منها يتبع من، وسط انقساماتها بين فصائلها الكثيرة، وبين إسرائيل. لتبقي القصة في النهاية – والمجموعة – صراع بين الرغبة، والتحقق، لا لفعل الشيطان ووسوساته، وإنما لأنها طبيعة إنسانية، يسعي الإنسان، لتحقيقها، الحصول علي الحرية، حرية الإنطلاق، والطيران. ولتتحول المجموعة إلي صراع الإنسان، الفرد، وبين القوي المهيمنة عليه في صورة السلطة المسيطرة، بقوتها.. وقسوتها، حيث يسعي السارد في البحث عن شئ لا يعرفه في داخله: { لكن داخلك بدا ممتلئا بحتمية البحث عنه ، شئ جديد يتيح لك امكانية الطيران بعيدا}.

اللعب بالضمائر
تلعب الضمائر دورا كبيرا في تحديد مركزية السرد، وموقف السارد. وفي مجموعتنا هذه، والتي يكاد ينحصر فيها السرد بين عناصر محددة، تكاد تكون واحدة في معظم قصص المجموعة، والتي تنحصر – إلي جانب ما أشرنا إليه في جانب الشخوص – حيث تكاد تلك الشخوص أيضا تنحصر، أو تنحبس داخل مسرح، قد لا يخرج – خارجيا – عن إطار الجدران، التي تشتمل المسافة بين حجرة النوم والحمام، ومياه البانيو، الذي يلعب بدوره، دورا مهما في كشف خبايا العمل، حيث غالبا ما يلعب – ماء البانيو- دور التخلص من التوتر، أو القلق، تكرار تسربه لحنايا الجسد، الأمر الذي يمكن معه تصور ذلك الماء المنسرب في ثنايا الجسد العاري، بأنه ماء الحياة، خاصة أن العلاقة الجسدية، أو الحسية، تأخذ – أيضا- جانبا ملحوظا في غالبية القصص، إن لم يكن كلها. بالإضافة إلي ما يعتور تلك الشخوص من حالات قلق، أو عدم تواؤم، أو عدم تحقق، وكأن شيئا خارجيا (يقسو) عليها بالضغط والتحديد والإعاقة، بينما، الداخل، يموج بالرغبة المكبوتة والساعية للإنطلاق أو الطيران، والتي تصل حد التصريح المباشر في قصة "رجل كبير في حجم قطعة الشوكلاته" حيث نقرأ:

{فوق سور سطح العمارة العالية، أقف علي أطراف أصابع قدميَ، رأسي مرفوع في مواجهة السماء، وذراعاي مفرودتان عن آخرهما، أشعر أني خفبف للدرجة التي تؤهلني للطيران بحرية مطلقة}.

وفي قصة "تمثالي الحزين" نقرأ:

{ وهو يسير فوق الحبل فاردا ذراعيه علي طولهما، لكن حلم الطيران الذي كان يراود عيونهم}.

لذا، كان استخدام الضمائر المختلفة، داخل القصة الواحدة، بل داخل الجملة الواحدة، له دور مهم في التعبير عن ذلك الصراع الداخلي الخارجي، لتشتت تلك الشخوص.

ففي السرد بضمير المُخَاطَب، في قصة "الجانب الآخر من الشارع"، يتحدث السارد، عن المجهول، الذي يتبين فيما بعد أنه يُخَاطب الشيخ {حين وطأت قدماك أرض الشارع كان سيفك المسلول، الذي شهرته في وجه الدنيا منتقما من كل الجميلات، يجتذبك إلي ليلة تجمع فيها التعب والوسخ، وتتمدد بكل عضلات جسدك، المشدود لصحراء اللذة، فوق الفراش النظيف، وفوق الجسد المشع بياضه في العتمة، والمكتنز باللحم الطري} ليحيلنا الكاتب إلي رائعة الطيب صالح في "موسم الهجرة إلي الشمال" حيث راح مصطفي سعيد يُعمل آلاته في النساء الإنجليزيات، انتقاما من الاستعمار الإنجليزي للسودان. فكذلك يفعل (الشيخ) أو إن شئنا، مجذوب القرية الشهير، والذي يُعرف عنه (عموما) في أدبياتنا، بقدرته الجنسية، واستغلاله بواسطة بعض العوانس، أو المطلقات، أو المتعطشات للرجل، وهنا نجد من تستغله،هي، الجارة الغائب عنها زوجها، والتي هي البنت التي أحبها يوم كانت في الكتاب، ينسدل شعرها علي كتفيها، وذاق لحمها صغيرة، ولم ينسها. فتصنع تلك الحيلة كي يروي عطشها، وظمأه، المنتقم الجائع، وكأن بينهما شفرة نداء { نداؤك الطويل الزاعق الذي يجعلها تهب من قعر النوم ومن قعر البيت كي تتصلب علي عتبة الباب، وتتنهد تنهيدة الانتظار الطويلة}. ويختفي المجذوب طوال الليل، بينما تزداد حركة الجارة طول الليل، لتخرج للشارع في الصباح {وجهها يغني تحت جدائل شعرها المحلولة، المغمورة بالبلل، وهي تضرب وجه الشارع بماء كثير يكفي لحموم نصف أهل البلدة}.

وكما أن استخدام ضمير المخاطب، للحديث مع النفس، يؤكد الانقسام النفسي، أو الانفصال النفسي. وهو ما تعانيه معظم شخوص المجموعة، خاصة السارد في قصة " تمثالي الحزين"، والذي رأي السارد نفسه فيه أشبه بالتمثال الحجري ، الصامت، إلا أمام المرآة التي راح يحدث ذلك الواقف أمامه فيها. وهو الرجل الخمسيني، أمام محاولات "أسماء" العشرينية الجريئة، علي الرغم من تحرقه إليها، ورغبته الشبقية فيها، وارتفاع صوتها بداخله. ثم يزداد التشقق النفسي، عندما ينقلب الضمير إلي الغائب، فيتحدث السارد عن نفسه بضمير الغائب { هكذا أتاحوا له تجربة جديدة لم يكن لينالها أبدا}. ثم سرعام ما يعود لضمير المخاطب، وفي ذات الفقرة {يداه راحتا تتخبطان في الهواء بحثا عن عباءته القديمة، حتي وجدها فتشبث بها، هكذا كف عن بث ندائه المقابل بداخلك، فاحسستَ أنتَ بمزيد من الحرية، والقدرة علي الجري}.

السطح الشفاف
من القدرات السردية التي تتوافر للبعض دون غيرهم، ما يمكن أن نطلق عليه "إنطاق الصمت" حيث يتحول الصمت إلي كلام وحركة فوارة، وحوارات تدور، وسجالات تتنازع النفوس، ويظل الصمت كغشاء شفاف يكشف عن ذلك العالم الخفي تحت السطح. ومن أجمل الأمثلة لذلك، في قصة "الفرح" حيث يمارس الزوج الشرقي رؤيته في إدارة الحياة العائلية، وكيف تتردد الزوجة وتتحسب في الحديث مع الزوج، في أمر الإبنة، التي تتحسب أن يثير غضبه، يدور ذلك الصراع الداخلي الذي يصوره الكاتب، برومانسية عالية:

{وعلي ترابيزة السفرة الصغيرة، التي تحوطها ثلاثة كراسي خشبية قديمة، بدأت الزوجة في التململ وهي تقدم له ذات أطباق الطعام التي يتناولها كل يوم تقريبا، فعرف أنها تكتم حديثا لا تعرف نقطة بدايته، نظر إليها في صمت قاس، وجعل يأكل في هدوء مترقبا لكلمتها الأولي، وعلي أي هيئة ستكون، الزوجة التي خبرته من طول العشرة وصلتها الرسالة، فبدأت تتحسس طريقها نحو الكلام بهمس وحذر، وهي تحاول استخراج ما بقي من أسلحة أنوثتها التي انتهكت تماما ليلة البارحة، ورغم مجاهداتها العظيمة، إلا أنها فشلت في العثور علي نقطة بداية مناسبة تتسلل بها داخله في تؤده، كانت كلما اختارت كلمة تري غضبه متجسدا أمام عينيها مثل وحش كاسر ومترقب، فآثرت الجلوس تحت سطوة الصمت} حيث لم يكتف الكاتب بتصوير ذلك الحوار مع النفس ، وإنما زاد الضغط، حين عبر عنه خارجيا كذكلك في {سطوة الصمت}.

وفي قصة "تدليك ذهني" يعبر الكاتب عن المتعة الحسية التي تتولد من التدليك (الجسدي) المادي، بذلك التعبير الشفاف المبتكر، والذي ينتقل عبر تضاريس الجسد، وفتحاته، مبطنة، حيث يتفتح فيها الضوء (الحياة) :

{وكلما زاد إحساسها بالملامسة العنيفة لليد الهلامية التي تهزها في كتفها ومؤخرتها، زادت سرعة جريان الصحو باتجاه عينيها، وعندما بدأت جفونها في الارتعاش، والابتعاد عن بعضها...} وتستمر عمليات (الصحيان) أو الإفاقة، من النوم، أو من الخدر، المستغرقة فيه، بمرحه وصخبه الحسي، والتي غفلت فيه عن ابنتها، التي أوكلت فيه أمرها ل(خادمة عمرها) التي {تعرف أن حضن خادمة العمر كان الأقرب دوما لابنتها من حضنها} حيث تعرف أن بينها وبين ابنتها جبال، لن تسطيع تخطيها. ولتتحول القصة كلها إلي كتلة متحركة من المشاعر (الجسدية)، التي بها تخلفت عن المشاعر الروحية التي هي أصل العلاقة بين الأم وابنتها.

إلي جانب إحتشاد المجموعة بالعديد من التعبيرات الطازجة التي تعيد للقارئ القدرة علي الدهشة، مثل

{عندها تكون الشمس تستعد كي تركب سفينتها، وترتحل نحو العالم السفلي}ص77.

{يدلق الليل سواده وسكينته، وتصب الشمس بياضها وحرها}ص81.

وبصفة إجمالية، نستطيع القول بأن المجموعة الثالثة للقاص والروائي محمد صالح البحر، "قسوة الآلهة"، تقفز به إلي درجات عالية في مصاف كتاب القصة القصيرة، التي لازالت تقاوم عوامل التعرية، وتعيد للقارئ دهشته المفقودة، فضلا عن الأخذ بيده نحو رؤية تنويرية، تبدأ من الإنسان الفرد، الذي هو الخلية الأولي في تكوين المجتمع الإنساني، لنصبح أمام رؤية إنسانية، يمكن تلخيصها في أنها "صراع الإنسان مع السُلطة"، جديرة بالقراءة والتأمل.

 

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - محمد صالح البحر – قسوة الآلهة (مجموعة قصصية) – روافد للنشر والتوزيع – ط1 2017.