يروي لنا الروائي العراقي أهوال ما وقع لسكان الموصل وفيسفسائها العراقية التي حوت كافة الأقوام من أشوريين ويزيديين ومسيحين وكلدان وعرب واكراد، من خلال ثلاث شخصيات نسوية ينتمين إلى هذا الخليط وما جرى لهن في أسر الدولة الإسلامية المزعومة التي طلعت علينا من بطون الكتب ونفط الخليج.

بهار (رواية)

عامر حميـو

 

 

الإهداء

إلى كل أيزيدية عاشت المحنة وذاقت مرارتها:

ارفعي رأسك يا ابنتي، واحكي للناس بشاعة فعلهم!.

 

(1)

بدت الصالة فارغة من أهل الدار، إلّا من أشباح بنات ثلاث، كن يغرقن في صمت الغرفة وظلام ستائرها المسدلة، كانت ظلال أجسادهن تتراقص على ضوء شموع غرزت داخل كعكة عيد ميلاد، ودموع عيونهن تلمع بين الفينة والأخرى، على وهج الضوء الخافت.

رنّ هاتف إحداهن داخل حقيبتها، ففتشت يدها عنه بسرعة مضطربة وردت مرعوبة:

- بابا. . نعم أنا (بهار)(1) . . لا لا. . معي آمال و فيفيان. . خائفة. . كيف لا أخاف بابا !. . . .

نشجت من أنفها فحضنتها فيفيان باكية معها، وتكورت آمال جنبها وفيها إحساس بذنب لا تعرف له مصدراً، راحت تضيعه بطقطقة أصابع كفيها، لتداري حركة جسمها المرتجف رعباً، وأكملت بهار قائلة:

- بابا . . لا تقترب من البيت . . لا بابا. . سمعتُ صراخاً عند بيت عمو (شمو)(2) . . اسمعني . . ثلاثتنا سمعناهم يشتمون (طاووس ملك)(3) . . . . بابا . . اعترض عمو شمو. . . ألو . . ألو . . بابا . . بابا. .

انقطع صوت والدها من الطرف الآخر فأنزلت هاتفها على الأريكة، قربها، وراح الثلاثة يكفكفن دموعهن بيأس، لكنّ الهاتف عاد يرنّ من جديد، تلقفته من جنبها بيد مرتعشة أطاحت فيه تحت قدميها وتناثر ثلاثة أجزاء، فأرجعت البطارية داخله وناولتها آمال غلافه الخارجي، ودون أن ترجعه لمكانه ردت على الطرف الآخر وقالت:

- بابا . . لا ترجع . . جارنا قتلوه . . . قتلوا عمو شمو!. . .

كان والدها يعلم نيتها إقامة حفلة لعيد ميلادها الثاني والعشرين، وقد تعوّدَ أن يشرف بنفسه على إقامتها كل عام لها، منذ وفاة والدتها قبل عشر سنوات، ويرى الجهد الذي يبذله في التحضير لعيد ميلاد ابنته الوحيدة بهار، تعويضاً لها عن الفراغ الذي ربما ينتابها إذا احتفلت به، دون أن تكون والدتها حاضرة معها، بعد أن أكل مرض السرطان كل جسمها، لكنه في هذا الشهر نصحها أن تكون مناسبتها محدودة، وتقتصر على دعوة بعض الأصدقاء والصديقات، ثم رجع في الأسبوع الأخير وطلب منها أن تقيمها بدعوة صديقة أو صديقتين، وهو الذي حصل ودعت فيه أقرب صديقتين لها، آمال من منطقة القبة، وفيفيان من سهل نينوى، فيما كانت هي تسكن مركز محافظة نينوى، وكن ثلاثتهن يدرسن تخصص علم النفس في كلية الآداب، جامعة الموصل.

قال والد بهار متوسلا فيها قبل يوم من موعد حفلتها:

- اتركي هذا العام يمرُّ على خير يا ابنتي، وأنا أعدك. . سأقيم لكِ أحلى حفلة عيد ميلاداً. .

يظلّ يحكي عليها كل الناس. . تظلّ تحكي عليها سنجار والموصل كلها؟.

ثم أضاف يحاول إقناعها :

- عيب أهالينا قاعد يموتوا، ونحنا نحتفل بعيد ميلادك!.

لكنها أصرّت على إقامة حفلتها، فاضطر والدها إلى الرضوخ لرغبتها، واشترط أن تقام الحفلة في أثناء النهار ليتسنى له إرجاع آمال، قبل مغيب الشمس، لقسمها الداخلي بعد أن نزح أهلها خارج مركز المحافظة، ولكي يترك لهن فسحة من الحرية فقد أخبرها أنه سيقضي نهاره في قرية مجاورة لقضاء سنجار، عند أخيه الذي يسكن هناك.

ارتج باب الدار كأن أحداً يدفعه بيديه ورجليه عنوة، وطقطقت قطعة سلاح وهي تلقم بطلقتها، ثم دوى انفجار في شباك الغرفة تناثر على إثره الزجاج، كنتف القطن، وندت عن الثلاثة صرخة محمومة، لنجاة طريد ذئاب، وسط ليل الصحراء.

تدافعت أقدام كثر، وراحت تركل أشياء البيت ومحتوياته، وسمعن أبواب دواليب تكسر، فتكوّرن على بعضهن في الزاوية، وفيهن رغبة خوف لأن يشققن كوة في حائط الغرفة، ليلذن فيها رعبا، وكان لغط الأصوات يقترب أكثر من باب الغرفة، وسمعن من يصرخ على زميل له:

- خذ الحلي يا رجل. . الدار لذمي، أما سمعت الإعلان قبل يومين. . خذ ما يعجبك . . خذ تلك، ولا تبقيها. . .

وضحك الآخر باستهتار من يعبث انتشاء بانتصاره وقال:

- صدقت، لم يعجبهم شرطانا. . إذن فقد حق عليهم القتل، وعلى أموالهم المصادرة، وكل نسائهم سيصبحن سبايا لنا. توسلت فيفيان ضارعة فيهن أن لا يقلن أنها مسيحية، واعترى الرعب آمال وفيها تخريج شرعي لخوفها تحت مبدأ (التقية)(4) وقالت هامسة لهن :

- سأنْحَر دون رحمة. . لو علموا مذهبي.

ارتجف صوت بهار، وقالت موجهة لهن فيما يفعلن:

- فيفيان أنت اسمك من الآن (سيفي)(5) وآمال اسمها نرجس.

قالت آمال متعجبة بيأس من لا حيلة له:

-سنكون سبايا عندهم !.

فردت فيفيان مستفسرة ببلاهة:

- كيف نكون سبايا عندهم؟!.

لكزتها بهار بكوعها فسكتت فيفيان، وطوقن أجساد بعضهن بأذرعهن، وأصبحن مثل توأم نزل من بطن أمه لتوه، ملتصقا من كتفيه. حركت بهار ذراعها على كتف آمال، وانتبهت أنها لا زالت تلبس حجابها على رأسها، فهمست موبخة لها:

- نرجس انزعي حجابك يا مجنونة. . . أنتِ أيزيدية . . . إجعليه مثل الشال على رأسك.

مدت يدها لرأسها فعاودها تأنيب أن تعاف لبس قطعة تعودت أن لا تبارح باب دارهم دون أن يكون رأسها موشحا بها، غير أن التورية الدينية لمذهبها تسمح لها أن تفعل ذلك، إن أحسّت على حياتها خطراً، فطوحت بالحجاب عن رأسها، وتمتمت بصوت خفيض :

- ساعدني يا ربي . . بحق قالع باب خيبر عندك.

رمقتها فيفيان بنظرة استفهام ، وأرادت أن تسألها عن معنى الدعاء، لكنها تذكرت كوع ذراع بهار الذي جنبها، وتجنبت أن تكون بلهاء أمام صديقتيها، فصمتت على مضض، وكان حب الفضول داخلها، كأنه لقمة كبيرة نسيت حجمها، وما تذكرته إلّا بعد أن حشرتها داخل فمها!.

كانت فيفيان أكثرهن حباً لأن تسأل عما لا يستسيغه فكرها، ولا تعرف جذور نشأته، وتحس فيه غموضاً على ما تعودت عليه، فتبدو لزملائها في القسم مشاكسة أكثر، وما كان يجعلهم يتحملون مشاكسات أسئلتها عن عادات مجتمعات خليط الجامعة من الطلبة، أنها كانت تشاكس ببلاهة، وحب فضول من يريد أن يتعلم، ولم تكن تسأل وتجعل الآخر يخرج من عندها وفيه إحساس بالجرح أو شعورٌ بالنقص، ولا يراودها التعالي واستصغار الآخر، وإن أحست أنها جرحته، تتحجج بألف حجة حتى تبدو لطيفة معه، ويخرج من بعد كوب شاي، أو وردة تقطفها من أقرب مرج لمكانها، وفي داخله شعورٌ أن من شاكسته كانت قريبة لنفسه، كقرب شريانه من جلد جسمه!، كانت خفيفة الظل وتزيدها ابتسامتها التي لا تفارق شفتيها، إشراقاً أكثر وقبولاً كبيراً عند زملائها.

وعلى عكس طبائع فيفيان كانت بهار تبدو لمن لا يعرفها، منطوية على نفسها، وتحاول قدر ما تستطيع الابتعاد عن الاختلاط بغيرها، وما شارفت نهاية مرحلتها الأولى في قسم علم النفس إلّا وقد انتبهت لحالها، وراحت تطبق ما تعلمته في تخصصها عن الانطوائية في تغيير سلوكها العام، وتقرّبت في بداية مرحلتها الثانية من فيفيان وآمال، ولأنها تعوزها سلاسة القدرة على الاختلاط مع غيرها، التي تخفض قدرة الإنسان على التعامل مع استفزازات الحديث المباشر، وبديهية الرد دون تعقيد، فقد بدت كسمكة متخبطة في بركة ماء عكرة، كانت تتقرّب لآمال وفيفيان كطفلة صغيرة تتعلم المشي حديثا، وهي تتذكر بغصة كيف أنها لما سألت آمال عن وقت بدء المحاضرة التالية، ردّت عليها فيفيان وملامحها ممزوج فيها السخرية والتوبيخ قائلة:

- على الأقل قولي صباح الخير؟!.

فأجابت على استحياء، ولم تشعر حينها بالانزعاج من رد فيفيان :

- عفواً. . . صباح الخير.

كانت ترغب كثيراً بالردود (الماسوشية)(6) على أسئلتها، وفيها هاجس داخلي أنها لن تتعلم الاختلاط والقدرة على الاندماج بين الطلبة بأسلوب المجاملة والمحاباة، الذي يُعامل فيه الطلاب زميلاتهم، لكسب ودهن والتملق للجميلات منهن، فقررت أن تقترب لمن هي طالبة مثلها، ومن جنسها، حتى ترفع برقع المجاملة والتزلف عن علاقة الصداقة بينهن، ولأجل ذلك استمرأت صداقة فيفيان المشاكسة، وآمال الصامتة، تلك التي تنحدر من مذهب وبيئة سمعت من كبار السن في عائلتها من أنهم يخشون قومها كثيراً، دون أن يسجل التاريخ أنهم تأذوا على أيديهم، أو في ظل حكم تسيدوا الكرسي فيه، رغم أن هذه السيادة لم يحضَ فيها قوم آمال منذ حكم الإمبراطورية العثمانية للعراق، مروراً بنشوء الدولة العراقية تحت الانتداب البريطاني، وتعاقب الساسة على كرسيها، ولحد يوم أن قرأت بهار تاريخ قومها في وطنها وعرفت كل ذلك، فأحبت آمال قبل أن تتعمق الصداقة بينهما.

تحلّب ريق بهار وصور ذكرى تعرّفها بفيفيان وآمال تتراءى في مخيلتها، وأحست رغبة تنتابها في شرب قدح ماء، تبلّ فيه يبوسةِ تحجّر منها بلعومها، كانت مشاعرها مبعثرة بين أن تفكر بالمصير الذي ينتظرها، وبين أن تفكر بمصير صديقتيها الذي اختطّته حفلتها التي عاندت والدها في إقامتها، والظرف الأمني لا يعلم أحدٌ بسيناريو نهايته، وسط فوضى اجتياح مسلحين ملثمين، صَنْعتهم إقامة دولة، عرشها تتربع قوائمه على جماجم من يعارضهم في الرأي والفكر والدين والمذهب، وقائمة الممنوعات عندهم على الأهالي، كلما مضى على وجودهم في المدينة يوما جديداً، زادت وتشعبت تفاصيلها!.

كانت بهار تراقب وتسمع جوامعهم تكبّر كل يوم بحرام جديد، حتى أضحى الحرام سلعتهم التي لا يجيدون بيع غيرها، فمرة تكبّر الجوامع لحفلة قتل جنود اضطرّتهم ظروف المعركة أن يقعوا أسرى بأيديهم، ولما أحسوا أن الناس مغلوبٌ على أمرهم، وراضيةٌ عما يفعلوه بجيش بلادهم، تطاولت الأصوات وكبّرت في الجوامع مرة أخرى، لتعلن تحريم خلط ثمار الطماطم مع الخيار في كيس واحد، حتى لا تقترب الطماطم الأنثى من الخيار الذكر، فيقع المحظور، وتُرتكب الفاحشة !، ثم تفتّقت قريحة أدمغتهم عن إبداع جديد، حرمت فيه تدخين لفافة التبغ، واعتبرتها نوعاً من الإدمان، يلهي عن ذكر الرب الذي أتوا لينشروا دينه، في وقت تواترت الأنباء أن جلَّ ميزانية صرفهم على أسلحة القتل عندهم، تأتي من تجارة إدارات لهم تشرف على زراعة المخدرات، وتنميتها في أفغانستان!.

اعتصر قلب بهار لمّا تذكرت صوتا في الجوامع يكبر قبل أسبوع من لحظتها، بأن بيوت (الذميين) من المسيحيين والأيزيديين ستكون عقارات تتبع لدولة التنظيم، وثمة أصوات علت في حينها أن المسلحين سيفتكون بهؤلاء، إن لم يعلنوا ولاءهم، ويغيروا ديانتهم، وتجرّأ الكثير بوصفهم كفرة يستحقون القتل. لكن الأمر لم يصل لما وصل له اليوم وقتل فيه (شمو)، جار بهار، الرجل الذي كلّما ورد أسمه على سمعها تذكّرت كيف كان يلاعبها صغيرة قربه، ولا يفرّق بينها وبين ابنته، وتعجبت أن تتجرأ أياد وتقتل مثل شمو!. ومرت صورة (قدور) الأكل التي كان يأتيهم بها في اليوم مرتين. ظهراً وعصراً، طوال شهرٍ كاملٍ بعد وفاة أمها، وما ترك ما أصبح عنده طبعاً مثل الطقس الديني، إلّا بعد أن اقترح عليها أبوها أن يغادرا الدار، عند أخيه على أطراف قضاء سنجار، علَّ جارهم شمو يُرفع عنه الإحراج فيما داوم عليه وأضحى كعادة إجبارية، ينوء بحملها فوق ثقل الأعباء المادية لعائلته التي تكبرهم عدداً!.

حارت بهار لمن توجه لومها عندما رفض والدها أن يبارح البيت وإياها وقت دخول عناصر التنظيم لمدينة الموصل، رغم أن جارهم شمو نصحه أكثر من مرة بخيار النزوح ، ورغم مقدار الصداقة التي تربطهما معاً، لكن بهار تذكر أن أباها قال لصديقه شمو، حينها بإصرار طفل:

- (أشتقول عزيزي شمو!). . اترك بيتي إلي تربيت فيه؟.

اطرق ساعتها شمو برأسه قليلاً نحو الأرض، وقرر منهيا الحديث:

- الرب نصب الرأس، وما في غيره يفصله عن جسمي. . إلا بأذنه.

وكان يبدو لها ساهياً ويغلبه شعور بالشرود، وهو يرتل سطراً من (كتاب الجلوة)(7) هازاً سبابة يده اليمنى في وجه جاره شمو، ويخال من يسمع كلامه أن في نبرة صوته تحذير ووعيد لجاره:

(وما أسمح لأحد بأن يسكن بهذا العالم الأدنى، أكثر من الزمن الذي هو محدود مني)(8) .

فقرر شمو هو الآخر قائلاً بحزم:

- راح أُرحّل عائلتي، وأبقى أنا في البيت، والي يجرى عليك يجري عليّ أنا.

وأضاف ساهماً، كمن يحدث نفسه بمستقبل مجهول، لا يعرف كيف سينتهي:

(كل زمن له مدبّر وذلك بشوري)(9) .

انتاب بهار إحساس بالغبطة، رافقته رغبة ملحة لأن تبكي مرتمية على كتف والدها، كما كانت تفعل وهي صغيرة، في كل خصام معه، يتجاوز يوما كاملاً، ويحاول فيه الأب أن يتجاهل وجودها في البيت، وتلك كانت أقسى عقوبة تعودت أن تعاقب بها!.

(2)

خرجت الممرضة من غرفة بهار، بعد أن جست نبض قلبها مرة بيدها ومرة بسماعة كانت تضعها على أذنيها، وسجلت في ورقة تحملها، رقماً عن نبض قلبها، وتأكدت أن بهار تناولت دواءَها الذي أوصى به طبيبها، لتهدئة أعصابها.

كان الطبيب الذي يشرف على مراقبة حالتها النفسية، أملى عليها جملة من الإرشادات في الأيام الأولى لعلاجها، إن أرادت أن تتجاوز المحنة التي أصابتها، وكان من جملة الإرشادات أن تبتعد عن كل ما يذكرها بالظرف الذي عاشته، وثبّت بثّ جهاز التلفاز في غرفتها، على أحد القنوات الفضائية المخصصة لبث الأغاني حصراً، وأودع جهاز (الريموت ) عند الممرضة، وأوصاها أن لا تعطيه لبهار أبداً.

كانت بهار تراقب سلوك الطبيب النفسي، وتقارنه بالذي درسته في سنواتها الجامعية الأربع ، مع ما قرأته في مطالعاتها الخارجية، وغفرت له أن يحدد حريتها في اختيار القناة الفضائية، التي ترغب في مشاهدتها، وكانت تتفهم رغبته في إبعادها عن مشاهدة القنوات الإخبارية، وما تبثه من مقاطع مصورة لعمليات النزوح والتهجير، وصور القتل والتمثيل بالأقليات الدينية والمذهبية، لاسيما تلك التي تقطن المناطق التي اجتاحتها المجاميع المسلحة، وراحت تنشر الرعب بين أهاليها، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من أن تتذكر الأحداث، التي عاشتها، بساعاتها ودقائقها، وبعض المواقف في ثوانيها لاسيما الصعبة منها.

وغلبت مشاهد الدم والاغتصاب الجنسي الذي تعرضت له مع صديقتيها، على باقي المشاهد، التي تحتل مخيلتها، وغابت عنها كل اللحظات الحلوة وما عاشته في أعوامها الاثنين والعشرين عاماً المنصرمة من عمرها، ومضت كبرق الرعد، وألحّت عليها رغبة تفريغ الكبت الذي تعانيه في غرفتها، وأرادت أن تنسى التفكير بمصير والدها وجهلها بما حل فيه، رغم أنها أعطت اسمه كاملا (خديده درويش مراد)(10) ، لأحد المنظمات الإنسانية، وأوصتهم البحث عن مصيره بين النازحين في الداخل، والمهجرين في الخارج.

لكنها بتوالي الأيام على وجودها في المستشفى، خف الضغط عليها وأُعطيت حرية أكثر، ورُفعَ عنها منع زيارتها لصديقتها فيفيان في الغرفة المجاورة لغرفتها، فاستغلت تواجد الطبيب عندها وسألته:

- دكتور أريد رزمة أوراق وقلم .

رفع الطبيب نظره من على أوراق طبلتها الطبية التي يدقق فيها، وثبّت نظارة عينيه بإصبع يده، فوق أرنبة أنفه جيداً، ورفع حنكه للأعلى، ثم تشاغل بحك رقبته من الأمام وبدا مفكراً، و قال موجهاً كلامه للممرضة المرافقة له :

- رزمة أوراق وقلم.

انسحبت الممرضة لتلبية الطلب صامتة، والتفت الطبيب ناحية بهار:

- لا بأس . . .

رد بابتسار ثم أضاف مؤكداً:

- أنتِ كما فهمت. . طالبة علم نفس، مرحلة رابعة. .

ارتأت أن تهز رأسها، موافقة بالإيجاب، ورغبة منها في عدم مقاطعته فأكمل قائلاً:

- في الغرفة الأخرى صديقتك فيفيان، وهي نفس تخصصك. . والظاهر أنتما شاطرتان بعلم النفس !.

ردت مستفسرة، وقد علت الابتسامة شفتيها الجافتين:

- كيف عرفت؟

- فيفيان صديقتك هي الأخرى طلبت رزم أوراق وقلم. .

ثم استنتج علمياً:

- هذا يعني . . أنتِ وفيفيان تعرفان نصف طريق العلاج . .

صمت قليلاً وأضاف :

- ألم تدرسي أن الكتابة لمن يُقهر تفريغ لكبته الفكري والنفسي؟.

- نعم . . . أعرف ذلك.

- طيب، هذا يعني. . . أنتِ وصديقتك تشاركانني في علاج المشكلة.

ثم أردف موجهاً لها بفرح مُعالجٍ يصل لنتيجة واقعية مع مريضه، واعتراف من المريض أن المعالج يتقن تخصصه، ويرى قرب الشفاء له:

- كما أوصيت صديقتك . . اكتبي الوقائع التي جرت لكِ كما هي، ولا تطمري شيئاً في داخلك . . واجهي مشكلة قهرك النفسي كما هي، ولا تخجلي منها . . عندها فقط ستشفين .

طمعت أكثر وطلبت منه قائلة:

- دكتور . . هل يمكن نقلي قرب فيفيان أو نقلها قربي؟.

رد موضحاً:

- حالياً دعينا نبتعد عن المؤثرات العاطفية. . . اجتماعك بها طويلاً يسبب ضغطاً عاطفياً، يؤثر على سير العلاج. . . لكني أعدك بتلبية طلبك قريباً.

فقالت متوسلة بجزع:

- لكن دكتور. . . هي صديقتي المقربة، عشنا السبي سوية.

كان الطبيب هادئاً جداً، وهو يرد مبتسماً:

- أعرف . . ولهذا لا أريد لتقييمك واستنتاجاتك أن يتأثرا بتقييم صديقتك واستنتاجاتها. . صدقيني مواجهة كل واحدة على انفراد مع نفسها لما جرى لها، سَيُعجل بالشفاء سريعاً.

أحس الطبيب أن الأمر يستوجب أن يجلس على حافة السرير، ويضيف شارحاً:

- أنا شخصياً أتعاطف كثيراً مع محنتك . . لكني قبالة هذا لا أريد لعلاجي أن يفشل، واختلاطك بصديقتك سيكون من نتائجه أن أحدكما ستكون مؤثرة، والثانية ستكون متأثرة، ولو حدث ذلك فستكون نتيجة العلاج أن أحدكما ستُشفى، والأخرى تبقى منهارة نفسياً. . وخطة علاجي أريد لها أن تخرجكما سوية وبنفس النتائج.

طُرقَ الباب طرقاً خفيفاً، ودخلت الممرضة الغرفة ثانية، حاملة بيدها رزمة أوراق، وفي يدها الأخرى تمسك قلماً، فاتجهت نظرات بهار لما تحمله الممرضة، وفيها رغبة لأن ينهي الطبيب حديثه معها، ويتركها وحدها، ولم تنتابها خشية من وجود الممرضة، لو انصرف الطبيب، فهي عادة ما تنجز عملها سريعاً، وتنصرف دون أن ينتابها فضول الثرثرة الجانبية، ما لم يكن موضوعها أمراً يخص توجيهات الطبيب وإرشاداته لها، في التعامل مع طوارئ حالة بهار النفسية، وتقلباتها المزاجية.

(3)

اقتربت الأصوات من غرفتهن فانكمشن على بعضهن أكثر من ذي قبل، وكان ندم التسرع على ما فعلن يحاصرهن، مثل سرب دجاج تاه بعضه في مرج تيبس زرعه وسكنته بنات أوى، فكن يكتمن صراخاً مرعوباً يُفرّغ فزعهن، لكن خوف الكشف عن مكان الاختباء يمنعهن البوح فيه.

تحركت أكرة الباب واطلّ رأس أشعث، تدلت منه حزمة ضفائر شعر أسود لف بعصابة من جبهة الرأس، واختلط أسفل ذؤابات الضفائر بشعر اللحية المنفوش، وانفرجت شفتا فمه عن صف أسنان، بدت صفراء كلون السماء المغبرة، كانت نظراته مركزة على أيديهن المتشابكة فوق رؤوسهن.

دفع الباب بركبته وبدت إحدى يديه ممسكة ببندقية، وجّه ماسورتها باتجاه مكانهن، ثم تقدم بحذر نحوهن، مثل قط يحاصر فأراً، وأطلت رؤوس من ورائه ترقب المشهد بحذر مثله. وقال أحدهم بنشوة فرح:

- أبو براء. . كأني أشم رائحة سبايا .

علّق بندقيته على كتفه، وفرك راحة يديه، قبل أن يعصر شماله في يمينه وقال:

- أبو براء. . أصدقني القول، بالله عليك. . أهنّ سبايا؟!.

استغلّت فيفيان حركة أقدامهم. وجلبة تدافع أجسادهم داخل الغرفة، وتمتمت:

- ساعديني يا أمنا مريم. .

انتابها شعور في أن تدعو أكثر، لكنها أحسّت بيد بهار تقرصها من كتفها، فلاذت بالصمت خائفة، وشاهدت من تحت كتفها حذاء عسكرية دسّها صاحبها بينها وبين آمال ، وامتدّت يدٌ وأمسكتها من شعرها وراح صاحب الوجه والأسنان الصفراء الذي أطل عليهن بداية، يتفرّس في وجهها، وهو يلعق شفتيه بتلذذ، وقال رجل من ورائه:

- أبو براء قلت في الصباح أنك ستأخذ امرأتين من غزوة هذا اليوم. . . أعطني الثالثة؟.

قال أبو براء وإصبع يده يحذر وجه الآخر الذي تكلم:

- لا. . .

أفرد ثلاثة أصابع من يده وأضاف:

- الثلاثة سوية لي. . . ولن يشاركني مخلوقٌ فيهن أبداً.

أراد الآخر أن يعترض لكن صراخ أبي براء ألجمه، فلزم الصمت صاغراً:

- لا تحاول . . . على جثتي.

امتدّت أيادٍ كثيرة وأنهضتهن، ومشين يصرخن مع كل يد تتحسّس أجسادهن الفتية، وانتبه أبو براء للمضايقة التي يتعرضن لها، فأفرد ذراعيه على سعتهما واحتوى أجسادهن ملمومة على بعضها في حضنه، ليحمي غنيمة غزوته التي استأثر فيها لوحده، وسار فيهن باتجاه باب البيت، وندت صرخة عالية من بهار ردّدت صداها جدران البيت المهجور، وغطت وجهها بيديها لما حانت منها التفاتة جانبية، رأت فيها جثة جارها شمو مرمية عند عتبة باب داره، وثمة بركة دم حمراء، ترسّبت تحت جمجمته المهشمة. دوت محركات العربات معلنة نهاية الغزوة، بعد أن حُشرت بهار وصديقتيها في إحداها، وكانت حركة العربات بداية إعلان لبعض الأهالي المجاورين للانقضاض على محتويات البيتين ونهبهما، وراحت أبواق العربات تزعق لينفض الناس من طريقها، مخلفة وراء عجلاتها غيمة غبار، غطت على جثة شمو، التي استباحتها أقدام الناهبين، وفيهم من تلطخت ثيابهم بدمائها.

(4)

سأعذر نفسي على فكرتها المجنونة، لمّا طلبت أن أقيم حفلة عيد ميلادي هذه السنة، على الرغم من اعتراض والدي على ذلك، كون الوضع العام لمدينة الموصل وما يجري فيها عبارة عن مستشفى للجملة العصبية، تعجّ بمجانين ومرضى نفسيين لظروف كثيرة، وسأفترض لتوصيف حالة المدينة، إن إدارة المستشفى وحراس بوابتها الرئيسة، نسوا. . . أو تناسوا غلق البوابة بحذر وإحكام، وكان من نتيجتها أن إدارة المستشفى أُيقظت صباح اليوم التالي، على عربدة مجانين ومرضى نفسيين أطلقوا بالعشرات لشوارع مدينة نائمة تلك الليلة بهدوء وسكينة، وكان في المرضى الكثير ممن دفعهم الظرف النفسي، وعقدة السيادة والتسلط والرغبة (السادية)(11) بإيذاء الغير، لأن يخلق منهم مجرمين محترفين، وقطاع طرق يعرفون مسالك المدينة ودروبها كلها.

وكنت فتاة كسائر الناس التي تعيش في مدينتي، أتأثر في الذي يجري حولي، وقطعاً إن كان المجانين والمجرمون طلقاء في شوارع مدينتي، فان لم أكن مثلهم مريضة نفسياً أو مجرمة، فستراودني أفكار المجانين، وفوضى المجرمين المتخبطة، وكان من جنوني وتخبطي أني أقمت حفلة عيد ميلادي، وسط مدينة أصبحت تجارتها الرائجة فتح مدارس تعلم أهلها القتل والجنون، ويباع الموت بالمجان وسط شوارعها !.

غاب الآخر من حسابات أفق المجموع، وأطلّت الأنا شامخة برأسها، ولم نعلم من أي جحر مجاور سلكت درباً متعرجاً، لتنصب خيمتها أمام الملأ، بعد أن كانت تمشي محنية الظهر خلف الحيطان، تخاف من ظلها، ويسكنها رعب ظلها وجموع تريد أن توئد حلم يقظتها.

سكن السمٌّ مكبرات الصوت واتخمت فيه الجوامع، وفاض الزعاف من أبوابها، ثم سال لباحاتها ولمّا امتلأت هي الأخرى فيه، جرى لشوارع الموصل كلها، فخاطت فيه أرجل يعرف أصحابها كيف يجعلونه شهداً، لو عطشوا ورغبوا أن يشربوه، ولما نزّت سدود الشوارع ورشحت منه ، فاض على الأزقة، وامتلأت منه البيوت.

الواقع كنت قبل أن أسبى طفلة، وحق طاووس ملك كنت طفلة غرة قبل أن أُسبى !، أرى كل الرجال الكبار مثل طيبة أبي معي، وما فكرت يوماً أن أرى امرأة تتحول وحشاً على بني جنسها، وتكون سجانة على حريتهن، وتقايض فيهن وتبيع، حتى رأيت بأم عيني شلة نساء تجوب شوارع المدينة، لا يأمرن بالمعروف ولا ينهين عن المنكر كما يروّجن، بل كنّ يأمرن بالعنف وينهين عن التسامح والمحبة.

قرأت وأنا بنت الإعدادية كثيراً من الكتب التي تحكي عن السجانات وخشونة تعاملهن مع السجينات، لكني لم أشاهد أحداهن في واقع الحياة، ولا أعرف كيف خرجت لي أوصافهن من زوايا عقلي الباطن، مقرونة على أشكال (المؤمنات) اللاتي جندهن المسلحون ليحاسبن النساء، فأية امرأة تسير في الشارع دون حشمة كما يرين هي فاسقة بنظرهن، وقد يكون توصيف الحشمة أن نسمة هواء تجعل ثوب امرأة يلتصق على جسمها من الخلف، وهي تسير دون أن تشعر بذلك، فتكون داعرة تستحق الجلد أو الرجم، وقد تتحول الشريفة برأيهن فاسقة زانية وتستحق الرجم، بعد أن يصلهن همس أنها لا تشاطرهن رأي الانضمام، لفرقهن الجوالة في أسواق المدينة وأحيائها، لفرض النقاب على النساء الأخريات. كان الأمر برمته يبدو لنا في البداية كالنكتة، لكن عقوبات الجلد والرجم التي تطورت فيما بعد للقتل، في الساحات العامة، وسط جمهرة أهل مدينة تحولت قيم الغيرة والشهامة عندهم لعناوين، تؤدي بصاحبها إلى الدروب المظلمة وتكون نهايتها التهلكة، وهم بقدر ابتعادهم عنها، كانوا يتحولون راضين لمجموعة خراف ونعاج تتقاتل فيما بينها لتأكل وتتناسل، ولا تبدو مهتمة إن كانت الذئاب تحوم حولها.

وأصبح كل يوم جديد على المسلحين، فرصة كي يحكموا طوق سيطرتهم على الناس، وتطويعهم لما يبغون، وكانت الحياة تسير وفق الاجتهاد الشخصي لعناصر التنظيم، ونبوغهم لا يتعدى التحريم والتحليل، حتى خضع للأمر تحريم دراسة بعض المواد في المدارس الثانوية، وأضحت مادة الكيمياء على إثر ذلك مادة يحرم تدريسها، بحجة أنها تحول المادة من شكل لآخر، وهي ضرب من السحر، وعلى المؤمن تجنب ممارسته، لأنه شرك في قدرة من يقول للشيء كن فيكون!، وذلك يعد وفق حرامهم وحلالهم تدخل في مشيئة الرب، وأصبح القول بكروية الأرض جهلاً في التفكير وكفراً بالديانات وكتبها المقدسة، وحُرّمَ على أثره تدريس مادة الفيزياء، لأنها تبحث في علم الغيب، ومن ينجم في الغيب فقد كذب وإن كان غيبه صادقاً، وبات الجهل يسري ويصدّق بين الناس مثل عود ثقاب رُميَ في كومة قش.

تحت ظل مثل هذا الظرف عاندت والدي، وأقمت حفلة عيد ميلادي، لكني وافقت أبي على اقتراحه ودعوت صديقتين فقط ليشاركاني فرحتي، التي ما انقضت منها نصف ساعة إلّا ونحن سبايا عند عناصر التنظيم، وما خرجنا من باب الدار إلّا ونحن سلع رخيصة بيد أبي براء، وفهمنا أن خانة البشر التي كنا ننتمي لها قبل نصف ساعة قد ولت بلا رجعة.

لكزني أبو براء في ظهري عندما وصلنا بيتاً، كُتب على بابه الحديدي حرف نون بالعربية، وتحته كتبت عبارة(عقارات الدولة الإسلامية) وقال:

- أسرعي يا امرأة.

بحلق فينا قليلاً وسألني:

- ما اسمك؟.

قلت وبدت حروف اسمي تخرج متحشرجة:

- بهار.

- ادخلي تلك الغرفة .

ثم سأل آمال وفيفيان عن اسميهما، وأدخلهما غرفة أخرى وأقفل الباب عليهما، والتفت ناحيتي قائلاً:

- ألم أقل لكٍ ادخلي تلك الغرفة؟. . هيا.

دخلت مجبرة، وألفيت نفسي وسط غرفة نوم فيها سرير وثير، وثمة صليب محطم على أرضيتها، وأرعبتني بقعة دم تلطخ فيها فراش السرير، لكني تمالكت أعصابي وقد راودني شعور أنها أبْقِيتْ على الفراش لترعبني، وترعب غيري ممن سيصطحبهن أبو براء في قادم الأيام لينمن على السرير.

أغلق الباب وقال دون مقدمات:

- اخلعي ثوبك.

لم أتخيل أني سأغتصب بهذه السرعة، وعندما امتنعت عن خلع ثوبي تقدم مني وهوى بكفه على خدي، رماني كف يده العريضة أرضاً، وبدت أشياء الغرفة تدور حولي، وأحسست طنيناً ينتاب أذني التي ضُربت عليها. وبيدين مدربتين فضّ ذراعيّ الملمومتين على صدري، ومزق ثوبي إلى نصفين، وأصبحت عارية تحته، لا يستر جسدي إلا ملابسي الداخلية، تلك التي انتقيتها في الليلة السابقة لتكون قصيرة، وكان هاجسي لحظتها أني ربما سأرقص مع صديقتَيَّ في حفلة عيد الميلاد، وخطرت في ذهني فكرة أن النشوة قد تستبد فينا ونرقص بملابسنا الداخلية، وأنا كأي بنت أخرى أطمح أن أكون رشيقة، فيما ألبسه تحت ثيابي، فاخترت ثوب نوم أحمر يصل طوله لنصف فخذيّ ، وزيادة في التباهي انتقيت حمالة صدر سوداء ولباساً داخلياً يماثلها في اللون، ومعلوم عند البنات أن هكذا ألوان لو تمازجت مع بشرة بيضاء سيكون وقع جمالها وإغرائها لا يوصف، في نظر الآخر، ولم أعلم، ولا تخيلت أن الآخر سيكون أبا براء!.

مسكني من قدمي بيد ومن رسغي بيده الأخرى ونهض واقفاً، فأحسست أني كريشة بين يديه، ولو أراد أن يطوّح بي ويلطمني في جدار الغرفة، لوقعت على الأرض جثة هامدة، لكنه رماني على السرير، الذي اهتز تحت ثقل جسمي عدة مرات، وهمد خامداً، مثل استكانتي وتسليمي بأمر أني لا محالة مغتصبة هذا اليوم، ومغتصبي ليس الذي حكت لي عنه أمي، بل هو أبو براء!. وكم تمنيت وأنا مراهقة أن يعشقني شاب، مثل عشق أبي لأمي، ينتهي بأن لا يوافق أهلي عليه، فيختطفني لعدة أيام، يتزوجني خلالها ثم يرجعني لأهلي، ليضعهم تحت الأمر الواقع، فيقبلوا فيه ونكمل مسيرة الحياة سوية، وتلك عادة اجتماعية عافها قومي منذ عشرات السنين، وكثير من العائلات تعدُّ ذكرها وسط الأجيال الحالية من أبنائهم وبناتهم أمرا معيباً، ولا يفترض ذكره أمامهم.

أدار لي ظهره فتملكني هوس ثوري، أن أباغته وأنزع بندقيته منه وأصرعه بطلقة منها، غير أني انتبهت في أخر لحظة، أنه يضع حزام حمالتها بين رقبته وكتفه، والبندقية تتدلى تحت كتفه الآخر، فتراجعت عما أردت فعله، وراح هو ينزع البندقية، وأخرج مفتاحاً يتدلى بخيط معلق برقبته، ثم فتح فيه هيكلاً خشبياً، تداعت جوانبه، وبالكاد يتكأ على جدار الغرفة المواجه للسرير، الذي رماني عليه.

أفرغ البندقية من عتادها، وأغلق فيها عتلات الأمان ثم غيبها داخل الصندوق الخشبي، وأقفل عليها بالمفتاح .

كنت أرقبه خائرة القوى، وبالي مشتت بالخطوة الأخرى التي سيقوم فيها، وكان هو يتصرف براحة بال وطمأنينة، وربما كان فيه إحساس أنه محمي بآخرين، يرقبون خروجه منتصراً من حفلة اغتصابه لي.

فتح زنار سرواله الأسود، وجثا فوقي ثم استقام معتدلاً بجسمه، وامسك فخذيّ يعصرهما بشبق وتلذذ، فألصقت ساقي بقوة على بعضهما، وأحسست بغثيان ينتابني، كزَّ على أسنانه الصفراء، وراحت يداه تفتح ساقي عنوة، وأحسست بقشعريرة تنتاب جسدي، وهو ينزع عني لباسي الداخلي، كنت أحامي عن جسدي بذراعين، لم تتعودا على فكّ اشتباك أيد أخرى، تمرّست على تحسس أجساد النساء، واكتشاف جغرافية أنوثتهن، وسط تمنع الآخر، وعدم قبوله بفعل التحرش.

لما أولج فيَّ عضوه الذكري، ندت مني صرخة مكتومة، وأنا أرقبه يفض بكارتي.

كثيراً ما راودتني الرغبة في أن أفكر بفارس أحلامي، الذي سيأتي دافعاً ماسورة مدفعه، ليحطم قلعتي الحصينة، ويحررني من أسوار الفتاة، لأمشي معه في مروج سهل المرأة الأنثى، وإحساس بالثقة المطلقة ينتابني.

كان شعر لحيته على صدري يتحرك مع انخفاضه وارتفاعه فوق جسدي، يسحب الهواء من إبطيه ويعبئه في أنفي، وكانت رائحة أبطيه مثل رائحة بقايا أكل، رمي على مزبلة بأكياس سقطت عليها أشعة الشمس، في شهر حزيران، وعند المساء مزّقت الكلاب الجائعة، الأكياس وما فيها، لتنشر رائحة حمام، غسل فيه أهل الدار دون أن ينظفوه، من فضلات طفل رميت ملابسه فيه ولطخت أرضيته.

كان يحاول جاهداً أن يجعلني أشاركه شبقه، وهو يعصر نهديَّ ، وحاول أكثر من مرة أن يُقبّلني من فمي، ولمّا رآني أعظ شفتي وأسحبهما إلى داخل فمي، ترك تقبيلي وراح يرضع حلمة نهدي الأيمن بلسانه، حتى أحسست أن بعض لعابه بدأ يسيل على صدري، ودغدغني شعر لحيته الطويلة، وهو يتحرك بين نِهدَيَّ، وسرى في جسمي خدر كالنعاس، لا يوقظني منه طارئ، إلّا وجع داخل أحشائي، كنت ألوب بين يديه ألماً، مثل سمكة أخرجها الصياد على جرف الشاطئ وتركها تموت هناك، وكان هو يتلذذ بألمي متخيلاً أني ألوب نشوة منه.

منذ أصبحت طالبة إعدادية وما تركت (عيداً لخدر)(12) إلّا واحتفلت فيه . كان كل من يحيط بي من عائلتي وأقربائي، يحتفلون فيه كمناسبة تمر كل عام، إلّا الفتيات من عمري !. ولن أكون مبالغة لو قلت أن شعوراً ببهجة عارمة تهز كل جسدي، وحبوراً أحس أنه يجتاح كياني، ويغالبني يقين أني أتفوق على كل قرينات عمري، وأنا أدعو كل عام (بير لبنا)(13) ليرزقني فارس أحلامي، وكم تيبس لساني من أجل ذلك وأنا آكل (القرص)(14) وأتوسل ضارعة لمن يسقيني في منامي، شربة ماء تبل ريقي من أثر ملح القرص.

وابتلّ الريق لما تعرفت على( سكمان)(15) ويوم دخلت الجامعة كان هو في المرحلة الأخيرة وبذات التخصص الذي أدرسه، وأخلص لي طوال مدة دراستي على أمل أن يتقدم لخطبتي من أهلي هذا العام، ولو كان يعلم بالذي سيجري لي لأخذني وطار بي لأخر حدود الدنيا، ولأعاد أمجاد أعراف تختطف الحبيبة لأيام، ثم ترجعها لأهلها فيكونون أمام الأمر الواقع، ويتزوج الاثنان ليعيشا بمحبة وسعادة كما كان يفعل أجدادنا وجداتنا.

فيا إلهي. . . . . ألهذا اليوم توسلت وعطشت؟!. أليوم أبي براء عطشت وتيبس لساني؟!. أم أني فعلت ذلك ليوم سكمان!. رحماك يا ربي.

كان يفحّ زفيراً فيه نتانة كل الأرض مجتمعة، وتختلط فيه رائحة تخمر بقايا أكل تخلّف بين أسنانه دون مضغ، مع رائحة دخان لفائف تبغ، حرموها على الناس وأباحوها لأنفسهم!، ولو جمعت كل الصور التي شبهته فيها، لخرجت بلوحة سأرسم فيها كائناً خرافياً، لزج الملمس ذي رائحة نتنة، يضاجع فتاة دون أيّ إحساس منها، بلذة النشوة معه.

(5)

طُرِقَ باب الدار بعنفٍ وصاح صوت من خلفه:

- أبا براء. . . أبا براء. .

خرج أبو براء حافي القدمين، حاسر الرأس، صافقاً بقوة باب الغرفة وراءه، وقال بعد أن أرجع بإشارة من يده، حارساً خرج من غرفة جانبيه:

- نعم . . جئتك . . صبرك يا رجل. . صبرك.

دلف رجل آخر يلبس مثل كل مسلحي التنظيم، سروالاً أسوداً، وفوقه يعبأ جسمه بقميص، يصل لركبتيه أسود اللون هو الآخر، مفتوح النهاية من جانبيه، كان يتلفت دائراً بنظراته داخل أرجاء البيت، كأنه يبحث عن شيء لم يره سابقاً، وفيه شوق لأن يشبع فضول عينيه منه، وقد يُفهم سلوكه أن به رغبة في أن يحصل على شيء يخصه قيل له أنه موجود داخل البيت.

قال القادم دون كلفة، وبدا أنه على علاقة قديمة بأبي براء:

- يا رجل. . ثلاث نساء في يوم واحد.

ودفعه من كتفه مازحاً ثم أردف معاتباً:

- عشرة أيام لم أذق طعم الفراش، وأنت تلهو على ثلاثة أسّرة في يوم واحد!.

أراد أبو براء أن يرد، فعاجله القادم مضيفاً:

- على الأقل تذكّر. . بربك كم مرة سهلت لكَ مهامك داخل الموصل؟. . كم مره عرضت نفسي للخطر؟. . هُجّرتُ من بغداد، وتركت دراستي ، لابتلى بك وبمهامك!.

قهقه أبو براء عالياً، ورد ساخراً:

- ولاية بغداد لم تُهجِّرك. . . هَجَّرك بحثك عن دولة القومية العربية فيها.

فرد القادم محبطاً:

- أبو براء . . . الحال من بعضه!.

فقال أبو براء، راداً بحزم:

- اترك الكلام في هذا الأمر. . . أنا وأنت جنود الدولة الإسلامية الآن.

سأله القادم بغتة، وفيه رغبة في أن يدير دفة الحديث إلى موضوع آخر:

- أبو براء . . . يقال أن (السيدة)(16) هي المشرفة على إعدام الجنود في (القصور الرئاسية)(17) .

فقال أبو براء هامساً خوف أن يسمعهما حارس الدار:

- إن لم تكن هي، فالخط الأول لدائرة حمايتها، هو من يشرف... أما لو استبعدنا ذلك كله، فقطعاً هي تعلم بما يجري هناك.

دلف أبو براء راجعاً للغرفة، ثم خرج منها مسرعاً، وبدا يدخل قدميه في فردتي حذائه على عجل. دار على عقبيه وأغلق باب الغرفة، وأخرج مفتاحه المتدلي من رقبته، وأغلق فيه مزلاج باب الغرفة، بإحكام على بهار، والتفت ناحية القادم، وقال بعد أن أخرج مفتاحاً آخر من جيب سرواله:

- خذ هذا المفتاح، وأدخل تلك الغرفة. . فيها فتاتان. .

تلقف القادم مفتاح الغرفة من يد أبي براء، وافتر ثغره عن ابتسامة فيها تملق له وقال:

- سأختار التي تعجبني.

فرد أبو براء ناهراً:

- لا . . خذ التي أسمها نرجس.

قال القادم منتشياً:

- نرجس. . ولما لا. . . تبدو فاتنة من اسمها !.

لم يعلق أبو براء على ملاحظة القادم، لكنه التفت ناحية باب الدار، وصاح بصوت عالٍ:

- حرس. . . حرس. . .

خرج الحارس من الغرفة الجانبية مهرولاً نحو أبي براء وقال:

- نعم يا أمير.

راح أبو براء يصدر أوامره لحارس البيت:

- الأخ فاروق سيختلي بنرجس . .

ثم استدرك قائلاً :

- مهلاً . . . ما المانع لو أخذت وطرك منها قرب الثانية. . . جرب . . . . سيكون الأمر ممتعاً.

تمهل قليلاً، ثم قال محذراً فاروق:

- لا مانع أن تساعدك عليها. . . لكن إياك أن تمس الثانية أبداً.

فقال فاروق متضاحكاً، فيما راح ينحني أمامه بحركة مسرحية:

- سمعاً وطاعة يا أمير.

تبرّم أبو براء متضايقاً وقال موجهاً كلامه للحارس:

- سأخرج الآن لقضاء مهامي، مسؤوليتك أمامي اثنتان . . تحافظ على سيفي وبهار والثانية أن توصد الباب جيداً على البنتين، بعد أن ينتهي فاروق من نرجس. . . فهمت.

  • الحارس طائعاً، وسار أبو براء خارجاً من الدار، فيما دخل فاروق غرفة نرجس وسيفي، وأغلق الباب من ورائه بإحكام.

(6)

أخبرتني آمال ذات يوم، أن قومها وكل من يدين بمذهبها الشيعي، يعملون ب(مبدأ التقية)، وهو حسب ما فهمته منها، أن أصحاب المذهب هذا مجتمعين أو أفراداً، يبيح لهم مذهبهم أن يتكتموا على ما يؤمنون به، لو خيروا بين التصريح بالإيمان به، وبين أن تهدد حياتهم بالخطر، ويظهر أن تقارب مسيحيي العراق من شيعته، أجبرهم دخول تنظيم داعش لمدينة الموصل، أن تعمل بعض الأسر المسيحية، وكثير من الأفراد بمبدأ التقية الشيعي، وكثيراً ما كنا نسمع أن أحد أخوتنا في أبوة يسوع لنا، نزع الصليب من رقبته، خوف أن يحاسب، وتهدد حياته عند احد نقاط التفتيش التابعة للتنظيم، والتي تنتشر في شوارع مدينة الموصل، وعلى أطرافها الخارجية، وأغلقت الكنائس أبوابها يوم الأحد، وغدا طقس قداس يوم الأحد يقام سراً في البيوت، ومع كل يوم يمضي ينتشر الرعب بين أخوتنا، وكثير مِن الأسر مَنْ حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه، ونزح سراً إلى محافظات الشمال.

كانت مشكلة المسيحيين وقت دخول التنظيم واجتياحه للمدينة، أن رجالنا الكبار وعجائزنا، وجدوا صعوبة في هضم أن أحداً ما يريد أن يخرجهم من ديارهم عنوة، وبعضهم صرح أن الموت لو تقرّب لوريده لهو أفضل له، من ترك بيت فيه خزين الذكريات وعبق أيامه الحلوة والمرة !.

وفي الأيام الأولى لمحنة الاجتياح، شُمَّ حريق البلاهة يدخن في أدمغة كل شبابنا، وحارت عقولهم في متضادة( إن التنظيم يريد أن يؤسس دولة إسلامية، على أنقاض دولة إسلامية أخرى، درسوها بين طيات الكتب أنها هي الإسلام !) وحاروا بين أيهما الأصح! ورفرفت الأفكار فيهم على أوراق مناهج التاريخ، تحكي عن حكم إسلامي أموي أسس دولة، ينقضُّ عليه حكم إسلامي عباسي ليؤسس دولة!. ونشط النقاش واحتدم على شبكات التواصل الاجتماعي، بين اللادينيين والملحدين من جهة، وبين الإسلاميين من هذا الطرف ومن ذاك الطرف من جهة أخرى، وأثيرت شائعات عن تصفيات جسدية، لهذا الطرف من ذاك الطرف وبالعكس، لكنّ الدخان بقي يرتفع وينذر بنار لفحتها ريح حزيران، فاشتعلت هنا، وطارت منها جمرة لتشتعل هناك، وما غير الدخان ولا النار التي خلفته وكوت أيدي حامليها، إلّا من لعب فيها!، وكنا نحن المسيحيين نتباهى ببعدنا عما يجري، حتى صحت بعض البيوت منا على إعلانات، خُطتْ برسم قرب أبوابها على شكل دائرة، كتب في وسطها حرف (ن)(18) ، وتحتها عبارة عقارات الدولة الإسلامية!، وكانت تلك بداية جرس الإنذار للمسيحيين داخل مدينة الموصل. وحمداً للرب أن عائلتي كانت تسكن سهل نينوى، ذي الغالبية المسيحية، لكن المصيبة كانت أدهى من كل ذلك، وبدت المضايقة التي وصلت للتنكيل والضرب، وفي بعض الأحيان لقتل من يكتشف مسيحياً، وله ارتباط عمل أو دراسة داخل مدينة الموصل، وجرى الأمر قبيل دخول المسلحين لمركز المدينة بأيام، فيما بقيت أبواب جامعة الموصل مفتوحة ، لكن الدراسة فيها كانت مشوبة بالحذر والتوجس، على الرغم من أن الطلبة المسيحيين والأيزيديين والشيعة لم تكن أعدادهم بالحجم الصغير، مقارنة بالطلبة العرب السنة، أما الطلبة الأكراد الذين ذابت دياناتهم ومذاهبهم تحت يافطة القومية الكردية، التي يتباهون أنها كونت دولة مؤسسات، ليس موجود مثلها في قلب العاصمة بغداد ذاتها ، وأحسّ البيت قبل إحساسي أن الخطر على حياتي، بدأ يقترب مني شيئاً فشيئا، وصار لزاماً عليّ وعلى أهلي، أن نجد حلاً لمشكلة دراستي في جامعة الموصل، ومنهم من وقف بجانب اقتراح ترك دراستي لهذا العام، عسى أن تفرج الأمور، وتبان الرؤية وينقشع الغيم عن مصيرنا المجهول، لكن هذا الطرف جوبه بمن يردّ عليه، أني لو تركت الدراسة هذا العام فسيضيع علي تفوقي لثلاث مراحل على قسمي، فما بالك ووضعي الدراسي لهذا العام يتجه صوب أن أكون الأولى على قسم علم النفس كله !. ، واقترح قسم آخر أن انقل لجامعة أخرى، وقد جوبه بحجتين، الأولى أني لو نقلت لجامعة أخرى فستضطر عائلتي أن ترافقني هي الأخرى لمكان جامعتي الجديدة، والثانية أن أمر نقلي لن يحصل أبداً، لأن العام الدراسي لم يبق منه غير فترة الامتحانات النهائية، إذا علمنا أن هذه الأحداث جرت بعد دخول التنظيم لمدينة الموصل بخمسة أيام فقط.

استقرّ الأمر أخيراً على أن أكمل دراستي، وأعمل بمبدأ التقية الشيعي، ولا أصرح بديانتي المسيحية لأحد، وإن استوجبت حماية حياتي فلا مانع أن تكتمت على ديانتي، وانتابني حينها شعور بمهادنة للتنظيم وما يريد، ارفضها داخلياً، لكن حياتي ستنتهي إن لم أقبل فيها، وشيئاً فشيئا بدأت استوعب مقدار الظلم والحيف الذي تعرض له أتباع المذهب الشيعي، ليضطرهم الأمر في نهايته، ولكي يستمروا في الوجود، أن يأخذوا بمبدأ التقية، مستنبطة من كتابهم المقدس.

كان أهلي مثلي عاجزين عن استيعاب وتيرة الأحداث السريعة، وقد تجلّت حيرة العائلة عندما طلبت منهم أن يجدوا لي رداً، لو سألني طالب أو طالبة في الجامعة عن جواز مروري الديني والطائفي، الذي بات كل من هب ودب يسأل الآخر كما الآخر يسأله عنه!.

قلت أسال عائلتي ونحن مجتمعون على سفرة العشاء، وعبرة بكاء تعتصرني:

- وبماذا أرد لو سألوني عن ديانتي؟!.

لوّح والدي في الفراغ قرب وجهه، في الملعقة التي يمسكها بيده، وقال:

- إن شاء الله اتقولي من المريخ !. .

وأضاف متحسراً بجزع وحيرة:

- يا ربي نحنا وين، والمشاكل إلي بتوقع فوقنا وين!.

وزارني في الجامعة، وطلب من الأساتذة الذين حكيت له عنهم أن يثق بهم، وأوصاهم أن لا ينطقوا باسمي علناً، وهم يتلون قائمة الحضور، في بداية كل محاضرة لهم، وأوصيت من أخواني أن أكون حذرة، في النقاشات الدينية، وابتعد عن رسم شارة الصليب، إذا شاهدت مكروهاً أمامي، أو جنازة ميت، وزيادة في الحيطة والحذر، فقد اكتفيت بصديقتين فقط هما بهار الأيزيدية وآمال الشيعية، ولم أعرف معنى عبارة زميلٌ لنا علق فيها على صحبتنا نحن الثلاثة، إلّا بعد أن وقع الفأس في الرأس، كما يقول المثل العراقي الشائع.

قال الزميل عبد القادر وقتها، حينما مر قربنا ونحن الثلاثة نتقاسم أكلنا سوية، وكنا نجلس تحت ظل أحدى الشجيرات:

- الله يا محنة وطن.

كان بغضي لما يموج فيه الشارع العراقي من طائفية مقيتة، وشارع جامعتنا جزء منه، يضاف له تحذير أهلي، لأن أبتعد عن النقاشات العقيمة، منعني أن أعلق على ما قاله ذاك الزميل، وكم تملكتني الحسرة، وتحجّرت لقمتي في فمي، وأنا أقف عاجزة عن رد تشجيعي لروح المواطنة، التي أحسست إن كلمات زميلي عبد القادر تقطر منها!.

يا أمنا الحنون، أيعقل أن تقف ابنتك عاجزة عن الرد؟ وهي التي يسميها كل الزملاء والزميلات في القسم بالمشاكسة، لما لها من قدرة على توزيع ابتسامة وجهك، والمحبة التي أخذناها من كلمات يسوع الرب على كل الناس دون فرقة ولا تمييز؟!.

كانت كلمات الرب لحواريه أفضل عزاء لي وقت مصيبتي تلك، ولا أكون مبالغة لو قلت أن كل مسيحيي العراق، كانت لهم السلوى التي منحتهم قدرة أن يتحملوا كل الضيم، الذي لحق فيهم وهم يتذكرون عند الشدائد قول الرب(مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا)(19) .

إن ما يجعلني اكتب بعض الذي جرى لنا، سببان مقنعان للذي داخل قحفة رأسي، أولهما أن الطبيب المعالج لحالة الانهيار النفسي، التي أصابتنا أنا وبهار، شجع رغبتي في أن خرج مكنون أفكاري وأبثه بين سطور الكلمات، معتمدة على قاعدة أن المريض نفسياً، يستطيع أن يتجاوز ظروف مرضه، ويتعايش معها بشكل طبيعي، ولا ينفعل إزاء الصور المظلمة فيها، إن أستطاع أن يحاكي نفس الظروف مع ذاته، ويعيد صياغتها بأسلوب قد يصل إلى درجة حلم اليقظة، وذلك لا يتم ما لم يتواجه الإنسان المصاب مع خزين ملابسات مرضه، وظروفها فيما ترسب عنده في لاوعيه، وقد اقتنع طبيبنا المعالج أن الكتابة ستكون أقرب الطرق، وأقلها درجة إحراج قد نعاني منها، لو استخدم أسلوب المعالجة السائد، في جعل المريض نائما على ظهره، فوق سرير طبي، ونبش ما في داخل سريرته، عن ظروف الحادث وملابساته من قبل المعالج، ليصل المريض بعد عدة جلسات، لمرحلة التعايش والتقبّل، لما مر به وأوصله لسرير الطب النفسي.

وثاني الأسباب للكتابة، هو الطريقة البشعة التي تم فيها تغييب صوتنا الثالث. . . صديقتنا آمال.

(7)

سمعت عن بشاعة القتل، من خلال ما يحكيه الناس قبل دخولي للجامعة، وعندما دخلتها ازداد خليط الناس تنوعاً، وتنوعت معه حكاياتهم عن جرائم غسل العار، الأخ يقتل أخته لأنه سمع عنها شيئاً مريباً، أو أنها حملت من حبيب جبن عن تحمل مسؤوليته الأخلاقية، لما راح بطنها يكبر، وجرائم الشرف عن زوج قتل معشوق زوجته، على فراش غرفة نومه، ثم تنوعت لجرائم القتل على الهوية، وما فيها مما حكاه التاريخ عن أسلوب الحجاج بن يوسف في قتل المخالفين لسياسته على الشبهة وقصتها المعروفة، لكن كل الذي ذكرته كانت منابع معرفتي له على السمع والنقل بألسنة الناس، ولم يتسنَّ لي مشاهدة حادثة مما ذكرت بأم عيني.

ولم يدم وضع تلقي المعلومة على منواله السابق، فقد كبر فرخ الحمام، وما عاد عشه يسع حجمه، وبات لزاماً عليه أن يجرب الطيران، ويقع أرضاً، وعليه أن يصطدم بأغصان الأشجار المتشابكة وهو يرفرف، إن كان يريد أن يحلق عالياً دون أن ينكسر جناحه، وما ينطبق على فرخ الحمام، سينطبق علي فتاة اسمها فيفيان كانت تسمع عن القتل، وصار لزاماً عليها أن تراه بأم عينها، ولو اقتصر الأمر على رؤية جثة شمو جار بهار، المرمية عند عتبة داره، يوم صيّرتني الظروف أسيرة تساق كالنعجة، لتباع في سوق النخاسة، لهان الأمر علي وسهل تلقيه! لكن أن أكون حاضرة وشاهدة لحفلة موت، يرقص فيها القاتل على أكتاف الضحية ، فتلك ما لم أتخيلها ولم أفكر فيها إطلاقا!.

فبعد أن أقلتنا عربة التنظيم ثلاثتنا، وسط سخرية بعض عيون الجيران، وشماتة قد يكون مصدرها تملقاً لرجال التنظيم، وإرضاء لهم، وقد يكون مصدرها رغبة باستمالة من يمتلك البندقية، لأن يسمح للساخرين بإشباع رغبة صحراوية، للنكوص نحو عادة السلب والنهب، التي باشر فيها الجيران، لتكون ساحتها بيت شمو وبيت بهار، وسط كل ذلك أقلتنا العربة برفقة أبي براء، نحو دار تبعد عدة شوارع وسط المدينة، كان يقف على بابه رجل مسلح، حالما شاهد العربة فتح باب الدار، ثم أغلقها بعد أن هدأ محرك السيارة في الداخل.

ترجلنا وفينا إحساس بالذل، وأبو براء يلكز من تتأخر بماسورة بندقيته، مثل راع يسوق من تأخر من دوابه.

في اليوم الأول حُجزت أنا وآمال في غرفة، دون أكل وشرب، واقتاد أبو براء ثالثتنا بهار لغرفة أخرى. كان هاجس الخوف من القتل مسيطراً على آمال منذ الليلة الأولى، فهي ما أن دخلنا الغرفة وهدأ روعها، وراودها شعور بالسكينة، وبأننا وحدنا قالت بصوت مرتعش:

- أنذال . . . راح ينحروها مثل الذبيحة.

فقلت لأبدد فزعها وأنا أرتعش أكثر منها:

- لا . . لا راح يغتصبوها.

قالت بعصبية كأنها تريد أن تبعد طيفاً مزعجاً عن مخيلتها:

- أسكتي. . ستُذبح، ألا تسمعي صراخها؟.

ثم أضافت وهي تصغي لشبح الموت الذي تخيلته لبهار، فيما كان جسمها يرتجف، مثل رقصة درويش، أصابته نوبة عشق إلهي وقالت:

- اسمعي الصراخ!. . أنصتي . . . أنصتي فقط؟.

كان عِرقُ جنوب العراق ووسطه يجري في عروقها، ولون بشرتها السمراء أحْمَرّ، وغدا حنطي مثل لمعان حبيبات العرق على جبينها، أصِغتْ السمع بفعل إيحاء تخيلاتها لمشهد الذبح، وتراقصت أمام ناظري لقطة عابرة لدماء بهار تسيل على باحة الدار.

كانت مقاومة بهار في الغرفة الأخرى، لا تبدو كأنها لفتاة تُذبح، بل أن الأنين المصاحب لصراخها، رسّخ في ذهني مشاهد استحضرها عقلي، لفلم أجنبي تُغتصب فيه البطلة، وتبدر عنها حركات وأصوات سمعتها وأنا أغادر مشاهدة الفلم، لأصنع لي كوب حليب ذات مساء، وقطعاً كان تشابه الأصوات وأنينها بين ما سمعته وأنا في المطبخ، مع ما أسمعه الآن هو من استحضر تلك الصورة عندي، فهدأ روعي وتأكدت أن بهار تُغتصب، ثم حسمت الأمر أكثر وأنا أربط ما يجري الآن لبهار، مع قول أبي براء، لما سأله الآخر في بيتها أن يعطيه واحدة منا، كان يتلبس أبو براء وحشية الغابة وفحولة الصحراء، وبدت خياشيمه مفتوحة على سعتيهما، كأنه ذكر غوريلا نافسه ذكر آخر على أنثاه.

قال أبو براء وقتها للآخر ناهرا:

- لا... الثلاثة سوية لي. . . ولن يشاركني مخلوقٌ فيهن أبدا.

ومن يجعل النفس البشرية سلعة له، ومن مقتنياته، لن يفرط فيها بسهولة ويهدر دمها، دون أن يقضي حاجته منها، وأبو براء جعلنا بتصريحه لصاحبه من مقتنياته نحن الثلاث، وهو بالتالي لن يلجأ لقتلنا، في نفس اليوم الذي اقتنانا فيه، وهذا الاستنتاج لا أدّعي الذكاء فيه، بل هو ما يمليه منطق تسلسل الأحداث التي جرت.

أخذتنا الأفكار يميناً ثم ذهبت فينا شمالاً وهدّنا التعب والجوع، وفي محاولة منا للهروب من رعب الواقع وتخيلاته، لزمنا الصمت، وتشاغلت كل واحدة منا بأفكارها لوحدها، ولا ندري كيف هربنا إلى النوم مبكراً، وأشباح مصيرنا لليوم التالي تلاحقنا، لنصحو صباحاً على طرقات الباب الخارجي للدار، وثمة صوت يصيح على أبي براء، دخل بعدها القادم وتبادل الحديث مع أبي براء، وكان معظم همسهما يغيب عنا بين ردهات الدار، وقد يجري في غرفه لكننا كنا نسمع لغطاً بين أبي براء والقادم الصباحي، انتهى إلى أن يقترب الاثنان منا ونسمع أبا براء يهدي آمال للقادم الذي أسماه ب(فاروق)، وأوصى حارس الدار أن يحافظ عليَّ دون أن يمسني أحدٌ، ويوصد الباب جيداً علينا أنا وآمال بعد أن ينتهي منها فاروق. وكم اقشعرّ جلدي وأنا استمع لأبي براء يوصي فاروق أن يغتصب آمال بحضوري، ويعطيه نصيحة أن يطلب مساعدتي له في ذلك، وعجبت حينها لإنسان يستمتع بلذة جسدية يعذب فيها الآخر، ويبحث عمن يساعده في إضفاء نوع من التشويق له، ومساعدته فيما يرغب فيه!.

فُتح باب الغرفة ودخل فاروق علينا، وبدا كأنه شاب تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وهو أول مناصر لهم يلبس مثلهم، لكنه لا يحمل سلاحاً على كتفه، ولم يُربِّ لحية كثة كلحاهم، لما رآنا منزويتين في نهاية الغرفة، وقف أمامنا واجماً لدقيقة، ثم سأل آمراً:

- من منكما نرجس؟

فقالت آمال بصوت مرتعش :

- أنا.

أخرج فاروق هاتفه النقال والذي بدا كبيراً كحجم كفه، وأنار الضوء فيه، ثم أداره على جسم آمال، وصاح كالمنتصر:

- أهلاً آمال. .

واستدرك ساخراً :

- عفواً أقصد نرجس.

تقدم وئيداً نحو آمال، وبدا واثقاً وهو يمد يده إلى رأسها ويمسك شعرها بعنف، ليقول فيما كانت آمال تصرخ مرعوبة:

- تعالي يا بنت الكلب.

تشبثت آمال في معصمي متضرعة أن أنقذها منه، ولما دنوت لأحتضنها وأكون بينها وبينه كالسد ركلني على مؤخرتي، فاندفعت ليصطدم رأسي في حائط الغرفة الذي كنا عنده، ثم تكورت على نفسي عاجزة عن فعل شيء، ووقعت آمال على الأرض، وراح يجرها من أطراف شعرها.، وجسمها ممدد على طوله، إلى أن أخرجها من باب الغرفة، وأوصدته يد بإحكام من بعد خروجه.

كان فاروق يزعق خارج الغرفة، وبدا كأنه يُقنع الحارس بتصرفه العنيف مع آمال:

- هذه التي تدعي أن اسمها نرجس. . . بنت رافضية.

سمعت بعدها آمال تصرخ بلوعة، وغدا لغط الصوت يبتعد عن الدار شيئاً فشيئا، حتى لم أعد اسمعه.

(8)

اكتظّت ساحة في المدينة بالناس من كل فئات العمر فيهم، وغلب العنصر الرجالي عليهم، إلّا بعض مجندات التنظيم، وبدت تلك القلّة من النساء موشحات بالسواد، من رأسهن حتى أخمص أقدامهن، ولم يتجاوزن أصابع اليدين في أعدادهن، كانت رؤوس الناس تنحني لبعضها هامسة، بلغط تغلب عليه إشارة الأذرع، التي تنخفض لأسفل الأجسام، وتنحني الرؤوس نحو صدورها عندما يقترب مسلحٌ، ممن يحومون بكثرة حول الناس، وفيهم هاجس ريبة وشك بالجموع، التي يسوقها آخرون منهم لتنظمَّ للواقفين جبراً.

اخترقت الصفوف سيارة مسرعة، وتوقفت وسط الساحة ، ثم فُتح بابها الخلفي، وبدأ المسلحون ينزلون منها، نساء مربوطات لبعضهن في سلاسل تقيد معاصمهن لبعضها، وسرى همس بين الناس، فيما علت أصوات منهم تقول:

- سبايا.

- أيزيديات .

فرد عليهم صوتٌ من وسط الجموع:

- لا. . . زانيات.

صاح صوت من الخلف :

- اجمعوا الحجارة للرجم.

اصطفّت النساء المربوطات بالسلاسل، أمام الناس المحتشدة، وراحت العيون تأكل أجسادهن بشراهة نظراتها، وحاول بعض الشباب التقرب منهن، وكاد الناس أن يطبقوا عليهن بتجمعهم، مثل فكي كمّاشة، لولا دخول سيارة ثانية ترجّل منها مسلحون آخرون، وظهرت بينهم آمال منكوشة الشعر، وتبدو الكدمات الزرقاء واضحة على وجهها من أثر الضرب والتعذيب.

كانت تتكئ على كتف أحد المسلحين، الذي اقتادها لوسط الساحة، وضغط على كتفها فبركت على ركبتيها، وراحت تنوء بجسمها من آلامها، وفيها رغبة لأن تنكفئ على وجهها، غير أن يد المسلح الذي اقتادها كانت ترجعها لوضعها، كلّما مالت وانحنى رأسها.

اخترق الصفوف ثلاثة مسلحين، أحدهم يحمل ورقة في يده، ومكبر صوت في اليد الثانية، منكب عليه وهو يمشي، يحاول أن يفحص صلاحيته للعمل، وعلى اثر ما يصدره المكبر من صرير وأزيز، يعلو تارة ويخفت أخرى، تلاشت أصوات المحتشدين، وسرى الصمت رويداً رويدا بينهم، وفيهم ترقب للذي سيُعلن عبر مكبر الصوت، والفضول يدفعهم إلى أن يعرفوا أسباب القصاص، للمرأة الجاثية على ركبتيها، ولم يخالج أحدهم الرغبة من أن يسأل أو يفكر في نوع عقوبتها، فقد عوّدهم الأسبوع المنصرم للذي جرى في مدينة الموصل، واستباحة الدماء في شوارعها، أن لا يتعجبوا إذا طبق القانون وفق الاجتهادات الشخصية، وتراكم حالات القصاص أرهبهم، أن لا يستفسروا وان لا يعترضوا على نوع الفعل المُجَرّمْ، ولا قرار الحكم الصادر على أثره، والويل كل الويل، لمن يعترض منهم، على أية فقرة مما يجري!. تحشرج صوت المسلح في مكبر الصوت لما بسمل بلفظ الجلالة، فصمت كل المحتشدين، وسكنت الحركة عندهم، وتطاولت قامات القصار منهم، واشرأبت الأعناق، وراحت الأبصار تنتقل بين حامل مكبر الصوت وآمال الجاثية على ركبتيها.

تنحنح حامل مكبر الصوت، وكان رجل في الخمسين من عمره، له لحية بيضاء تبرز بوضوح، على وجه رأس رُكِبَ فوق هيكل جسم كله موشح بالسواد، وقال قارئاً ما كتب له في الورقة التي يحمل:

- بسم الله الرحمن الرحيم. . البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، ذلك هو حكم ديننا الحنيف على المتخاصمين في أي ادّعاء. . وهذه المرأة المرتدة، رافضية ادّعت أنها أيزيدية كافرة لتنجو من القصاص الذي يلحق بمن يقع منهم في أيدي جند الإسلام، بحجة أنها لو ادّعت أيزيديتها فستكون من السبايا وتنجو من الموت، وهو مصير كل رافضي مرتد، لكن الله فضحها على يد احد مجاهدينا الأبطال، ولو كانت مسلمة موحدة لطبقنا عليها حكم البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر، وأخوتكم في الجهاد استطاعوا أن يختبروها في فروض الصلاة وتلاوتها على نهج السلف الصالح، فأخزاها الله وأخطأت في تأدية ما طلب منها.

تنحنح ثانية دون أن يغلق زر بث الصوت عبر المكبر، فخرج ترجرج البلغم داخل رئتيه كأنه ضربات طفل يلهو بطبل، وقال مرتجلاً دون أن ينظر في ورقته:

- وقد أوصاني الحاكم الشرعي أن أدع مجاهدنا البطل يشرح لكم كيف مكّنه الله واكتشف هذه المرتدة متخفية بين السبايا، وبدوري سأترك مكبر الصوت له ليشرح لكم ذلك.

انسلّ فاروق من بين صفوف المحتشدين ودنا وسط الساحة، فناوله صاحب اللحية الكثة البيضاء مكبر الصوت، بعد أن فتح له زر بث الصوت، فقال فاروق:

- (بسم الله الرحمن الرحيم . .

تمهّل صامتاً قليلا كأنه يستحضر ما سيقوله، ثم أضاف :

- تربطني بالمجاهد أبي براء صداقة قديمة، وقد سمعت أنه يوم أمس جلب ثلاث سبايا، فركبني الفضول أن أراهنّ، ولمّا ذهبت لدار سكناه وسألته عن أسمائهن، قال وقد أشار لأحد الغرف في الدار:

- هاهنا تُحجز بهار . . وفي الغرفة الثانية تُحتجز سيفي ونرجس.

حيَّرني تفريقه بينهن في الحجز، وقد أخرج الشيطان رأسه من عبي، ليجعلني أشك بنوايا أخي وصديقي، ذاك الرجل المؤمن الصدوق، الذي ما أشكلت عليه شائبة مذ عرفته، فسألته متعجباً:

- لما لا تحتجز الثلاث سوية؟

أجابني وقد دمعت عيناي من رده في حينها:

- أوصانا ديننا بالرأفة فيمن يقع بأيدينا من المشركين، حتى يقضي الحاكم الشرعي في أمرهنّ، ورأيت أن لا أجعلهن يتزاحمن في المكان، فتركت لهن فسحة الراحة أكثر، وفرقتهن).

انبرى صوت أحد المسلحين من بين الحشود يصيح بأعلى صوته:

- تكبير.

فردد المحتشدون طائعين من ورائه ثلاث مرات:

- الله أكبر. . الله أكبر. . الله أكبر.

سرى همس بين الناس، وافترّت شفاه بعضهم مبتسمة، ورفع صاحب اللحية الكثة البيضاء يديه عالياً يستحثهم الصمت، فأكمل فاروق قائلاً:

- ربما غَلبة الحق هي من جعلتني أطلب من أبي براء وقتها أن يريني السبايا، ويا هول ما رأيت !.

ساد الصمت مرة أخرى، وقال فيما يده تشير إلى آمال:

- هذه البنت التي تبرك وسط حشدكم المؤمن، كانت قبل ثلاث سنين تدرس في جامعة بغداد، وفي كلية الآداب وتحديداً في قسم علم النفس، بدعة الغرب التي صدّروها لنا، وكنت أنا حينها في ذات الجامعة، لكني في كلية الشريعة، قبل أن أترك الدراسة فيها، بعد أن اتجهت العيون ضدي لعملي مع المجاهدين، ودفاعي المستميت عن نهج السلف الصالح، لكني في السنة الأولى كنت أعرفها دون أن تعرفني، بعد أن أقيمت حفلات فجور ودعارة في أروقة الجامعة، تحت مسميات (حفلة تعارف) ومرة (مهرجان شعري)، وفي كلتا المناسبتين كانت هذه البنت عريف الحفل، الذي يقدم وصلات فجورهم، ويُعرّف فيها الواحدة تلو الأخرى، وشاء الله أن يخزيها فانتقلت من جامعة بغداد لجامعة الموصل، كونها من منطقة القبة في ولاية الموصل الآن، وكلكم يعرف ما مذهب من يمثل نصف ساكني منطقة القبة!. رافضيون مرتدون عن دين أراد الله أن يعزهم فيه، فأبوا واستكبروا.

امتدّت يد صاحب اللحية الكثة، لتدير مكبر الصوت نحو فمه، وانصاعت يد فاروق التي تحملها، لما أُمِرَ به حركة، فنعق صوت صاحب اللحية الكثة قائلاً:

- وفي التحقيق معها تأكد لنا، بما لا يقبل الشك، أنها بنت رافضية انتحلت صفة بنت أيزيدية، واستبدلت اسمها من اسم آمال إلى اسم نرجس، وتخفت بين السبايا. .

دسّ يده في جيبه وأخرج الورقة، وراح يتلو فيها، ما انقطع إليه في بداية الأمر:

- والهيئة ممثلة بحاكمها الشرعي، ترى فعلها هذا فيه هدم لأركان أمن الدولة الإسلامية الفتية في ولاية الموصل، وتتوجس منه شراً، أن يكون أعداء الإسلام قد دسوا هذه المرتدة (لغاية في نفس يعقوب )، يراد منها زعزعة أمنكم وأمن ولاية الموصل.

تريث هنيهة ورفع رأسه، كأنه يريد أن يرى أثراً، لوقع كلمات الحاكم الشرعي على وجوه الحاضرين، فخيم الصمت على المحتشدين، وران الوجوم على وجوههم، وانزوى الصبية وراء الكبار منهم، فأكمل صاحب اللحية الكثة قارئاً:

- وعليه فقد أصدرنا بحقها الموت نحراً بحد السكين، لتكون عبرة لغيرها . . .

علا همس بين الحاضرين تحول لجلبة، ضاع فيها ما تبقى من قرار الحاكم الشرعي وتاريخ صدوره، وأحسّ القارئ أن زمام الأمر بات يخرج عن سيطرته، فصاح زاعقاً بأعلى صوته:

- تكبير.

وراح يردد مع المحتشدين ويده ترتفع وتنثني، لتشحذ الهمم تأييدا للقرار:

- الله أكبر . . . الله أكبر . . . الله أكبر.

تطوع فاروق وسحب سكيناً من وسطه، وتقدم نحو آمال صائحاً وسط الحشد بأعلى صوته:

- لو كانت موحدة ولم تشرك بالله، لطلبت منها أن تنطق الشهادتين، لكني أعرف. . . .

قاطعته آمال وقد ركبها يأس من نجاتها، فصاحت بأعلى صوتها:

- أشهد أن لا الله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله . .

استشاط فاروق غيظاً وارتعشت السكين في يده، وتراءت له عيون المحتشدين مبحلقة فيه، ووجوههم تبتسم سخرية منه، فوثب على آمال، وأسند ظهرها على ساقه، ثم آمالَ رأسها للخلف، فبرق نصل السكين لامعاً أمام عينيها، ومرق شريط الحياة في مخيلتها سريعاً، وتراقصت أشباح أحبتها أمامها، وارتفعت أياديهم تودعها، وأحست أن نصل السكين راح يحز رقبتها، وفيه حرارة لهيب النار تحت إبريق الشاي، فيما تحشرج الصوت في حنجرتها، وبانت فيه غرغرة تقول:

- وأشهد أن علياً ولي. . .

غار النصل سريعاً في لحمها قاطعاً الحنجرة، وضغط فاروق الرقبة بيد مرتعشة يرغب كسرها، ارتعش الجسد وأفلت من يده، فخرجت تكملة شهادتها دفقة دم تناثرت أمام جسدها.

هطل ضباب كثيف على عينيها، وابيضّت الرؤية فيهما، فتراخت جفونها وأسدلت على عينيها، ثم استكان رفس رجليها، وخرّ جسدها منكباً على وجهها، تعفّر الأرض بزبد لعاب راح يختلط بدمائها الحارة.

(9)

لم يجف دم آمال بعد عندما نعتها بهار متمتمة بصوت خفيض:

- أرقدي يا صغيرتي بسلام يحفظك طاووس ملك ومحبة (أيزيدا)(20) .

وقالت أحد السبايا تريد أن توصل المعلومة للأخريات، بأسلوب يفهم ظاهره أنها تكلم نفسها:

- يا مسكينة لولا تطوع الشرفاء هذا اليوم، وحماية موكب زميلاتك في الأقسام الداخلية، حتى وصولهن لسنجار، لسالت هذه الساعة عشرات الدماء مخلوطة بدمك!. . .

فهمست بأذنها التي يُربط معصم يدها بمعصم من تكلمت:

- من أوصل الخبر؟.

تقرّبت منها صاحبة بث المعلومة وقالت فرحة:

- أحد السبايا . .

ثم أضافت مشوشة بأذن الأخرى:

- البنت تقول أن فرحة كبيرة عمت سنجار كلها. .

قاطعتها ثالثة، مربوطة بالسلسلة من جنبها الآخر، وقالت متعجبة:

- كيف . . احكي أرجوك.

قالت صاحبة المعلومة وفيها فيض من حماسة ألمّت بنفسها، جعلتها تحكي بثقة أنستها محنتها للحظات:

- الليلة الفائتة.... الساعة الثالثة فجراً، عندما دخلت الحافلات وفيها الطالبات الناجيات!.

وأضافت مزهوة:

- قالت البنت: . . الحافلات كانت تقل معظم الطيف العراقي، ممثلاً بطالبات القسم الداخلي. .

قاطعتها رابعة من ورائها، مشككة بما سمعت:

- هذه كذبة. .

وأضافت شارحة اعتراضها:

- أسرُنا تم في الموصل، وهي تنقل أحداثاً جرت في سنجار.

صمتت قليلاً وسألت متعجبة:

- أيعقل هذا؟!.

فردت صاحبة المعلومة قائلة:

- البنت تسكن سنجار، لكنها اليوم جاءت تزور أقربائها، وأُسِرَتْ داخل الموصل.

قالت بنت خامسة كانت تستمع لهن:

- حمداً للرب . . . سنجار مازال فيها رمق.

فرددت بهار في سرها (يا ويلي . . يعني لو لم أقم حفلتي وأدعو آمال لكانت هذا اليوم في سنجار، هي وفيفيان!. . أين أنجو من نفسي وعقاب فعلتي من ربي؟ ).

رسمت فيفيان شارة الصليب، مشيرة بعينيها على صدرها، وافترت شفتاها تناجي روح آمال بصمت في داخلها:

- انتقلي إلى ملكوت السماوات، لتسكني بسلام، مع قديسات الرب يسوع المسيح.

انتابها غثيان عندما رأت فاروق أهال بيده التراب، فوق صفحة سرواله من الركبة، الذي تلطخ بدماء آمال، وتجشأت قليلاً وفيها إحساس بالقيء، راح يندلق بغزارة من فمها، ثم التقت عيناها بعينيه وهو يزيح كتل الدم المخلوط بالتراب عن سرواله بعود التقطه غير مبال من قرب جثة آمال، ودارت الجموع من حولها، وهوت روحها لقاع سحيق، ثم خرّت إلى الأرض مغميّاً عليها.

(10)

عند عتبات مراحلي الأربعة التي قضيتها في الكلية، بين طالباتها، سمعت ممن تتميز منهن بالشبق الجنسي، عن أن البغي لا ترى في كل ممارسة للجنس لذة تنتشي لها، لأن التكرار والتعود يجعل الجنس يغدو لها كأنه زفرة هواء، امتلأ فيها الصدر، وعافتها الرغبة أن تمتص الحويصلات الهوائية للرئتين ما تحويه تلك الزفرة، من سموم ثاني أكسيد الكربون المختلط ببقايا عفونة عوالق، تسبح بالشهيق الذي سُحب للداخل، واختلط بالبخار داخل القفص الصدري، وما صدّقت عضلات الحجاب الحاجز أن تنقبض سريعاً، لتلفظه خارجاً وترتاح منه.

وتعلمتُ من السبي أن القتل عندهم يوزع بالمجان، يساعدهم على ذلك قوانين تصدر من قيادات، لها أمزجة في سنِّ التشريعات، مثل أمزجة سائقي السيارات في لصق العبارات خلف سياراتهم، فهي في معناها العام تبدو حافظة لسير الحياة بين الناس، ولجعلها تبدو أكثر عدالة وصدقاً، في الوقت الذي تكون فيه حقيقة معظم أُوْلئك السائقين وإيمانهم، لا تعترف ولا تماشي سيرهم الذاتية، ومعاملتهم لأسرهم وفق ما تثقف له عباراتهم تلك.

ومادام القتل عندهم عادة يومية تُمارَس بطقس احتفالي، فان تناول الوليمة بشهية سيبدو جميلاً حتماً بعد أية حفلة لهم، وعلى أمزجة الآخرين أن تتبعهم في ذلك، وكان طبيعياً أن يرأفوا بحال السبايا وجوعهن، وكأن من يقتل ويمثل فيها من زميلاتهن، مثل ديك رومي ذبح ليلة عرس وعلى السبايا أن يمارسن طقوس الأكل والشرب والجنس، من بعد ليلة العرس تلك، كأن ذلك الديك قد وضع في القدر، وراحت النار تهرس لحمه، لتجعله أكثر طراوة وطيبة !.

كانت أعينهم صلفة في وقاحتها، وهم يوزعون مواعين رزٍّ فوقها قطع لحم، تخيلتها من فرط أجرامهم، أنها قطع لحم قُدّت من جسد آمال، وقُدمت لنا لنأكلها، ليحصلوا هم على فرصة تشفٍ فينا، من أنهم قتلوا آمال، ونحن من أكل لحمها!.

نمت ليلتي الثانية دون أكل، بعد أن قدّموا لي وجبة فيها قطعة لحم، ولا تفارقني حتى هذه اللحظة، صورة أن أتناول شريحة لحم أراها قطعة قدّت من جسد آمال! وهو وضع أضرني صحياً، حتى بت طريحة الفراش، رغم أني صارحت الطبيب النفسي بتخيلاتي تلك، والرجل كان كريماً، وهو يُلزم الممرضة بجلب وجبتي أكل، في كل وقت، واحدة لي وأخرى له، وكان ذكياً وهو يخفي محاولته طمأنتي، أن اللحم المقدم كان لحماً حيوانياً، حلله الرب ليتناوله الإنسان. ورغم ذكائه إلّا أنه بدا أبلها بطيبته، وهو يخبرني بتقزز بان على محياه، أن زوجته طبخت لي شريحة لحم خنزير، سيشاركني أكلها، ونسي أنه كثيراً ما كان يردد أدعية وآيات قرآنية، وهو يحدثني ليقنعني، أن ما فعله داعش في السبايا لم يكن يمت للإسلام بصلةٍ، وان تصرفهم لم يكن سوى تطرف في فهم آيات القرآن، وتفسيرها محض تخيل ووهم أن الله كان يقصد فيها ما ذهبوا لتطبيقه علينا نحن السبايا!

لكن مهنيته في تطبيق ما تعلمه من دراسة علم النفس، تجبره على أن يكذب هذه الكذبة البيضاء، من أجل أن يصل إلى أفضل السبل في علاجه لي، حتى فاتته حقيقة أخرى أن ما أتى به من لحم مطبوخ كان قطعة يشوبها الاصفرار، ونسي أن لحم الخنزير لو طبخ سيكون لونه أحمر مسوداً.

أكلت قطعة صغيرة من اللحم مجاملة له، وتركت المتبقي يلتهمه وحده، وهو يشجعني على أكل المزيد منه، بعد أن أصابني غثيان كاد يجعلني أتقيأ على الماعون وما فيه، وأحرج موقفه معي قبل أن أحرج موقفي معه، لكني أشحت بناظري عن الأكل، وابتعدت خلف ظهره، فتماسكت أحشائي أن أدلق ما فيها، ثم انسحبت لأنزوي على فراش سريري، وأدرت ظهري ناحيته، وما هدأ داخلي حتى سمعته يخطو مبتعداً عني، ويغلق باب غرفتي بصمت من ورائه.

كان بودي أن أناديه، أو أرسل خلفه الممرضة، ليرجع فاعتذر منه، واشرح له كيف أني أتخيل نصل السكين بيد فاروق يقطر دماً، ورأس آمال يتدحرج عند قدميه، وقد أسبل عينيه، كانت رائحة الشواء تذكرني بلحظات احتضارها، وشخير الدم في أوداجها كأنه خرير ماء عكر، ينزل من جانب ساقية، لم يلتفت الفلاح ليصون ما تهدم منها!.

كبر اشمئزازي من أكل كل شرائح اللحم المقدم لي، مع الوجبات التي يقدمها المستشفى الذي رقدت للعلاج فيه، وكانت درجة الاشمئزاز تفوق ما كان ينتابني وأنا أسيرة عند داعش، ربما لأن المعاملة الطبية التي أتلقاها من العاملين في المستشفى، والصور الجميلة، لا يطفو منها غير ربط شرائح اللحم المقدم مع صورة نحر آمال، في الوقت الذي لم أشعر بهذا القدر من الاشمئزاز اتجاه اللحوم وأنا أسيرة عندهم، لو قارنت صورة التخيل تلك مع كل بشاعة التنظيم وتجاوزه على إنسانيتنا، فالقتل اليومي، وأنهار الدم التي تسال في ساحاتهم، وسوقهم لنا كقطيع الأغنام كل يوم لمشاهدتها، ثم مشاهد الاغتصاب التي تُمارس ضدنا، بعنف وخشونة، لا تسمح لي أو لغيري، أن نستحضر صور تقزز من لحم أو غيره، ليجعل تفوق تأثيرها على الرؤية، عند كل السبايا، يغزو ساعات أيامنا العصيبة تلك!.

(11)

هوّم النعاس على عيني، وتعلقت بثوب أمي أكثر، وأحسست أن أرجلي الصغيرة بات نعلها لا يثبت في قَدَميَّ جيداً، بين صخور تملأ شقوقها قطع الحصى والحجر الصغير، وينبت في الفجوات بينها زرع يُسحق تحت ثقل جسمي، ويغدو كمادة هلامية فيها صمغ أتزحلق فوقه، ولا يشد قوامي الضعيف غير قوة أطراف أصابع يدي، التي تمسك طرف ثوب أمي الأبيض، ونحن ننزل مرتفعاً باتجاه (وادي لالش)(21) للحج.

انتبهت أمي لنعليّ ونهرتني على تدنيس قداسة الوادي، وتعجبتُ لرميها نعليّ خارجاً وهي المعروف عنها حرصها وتقتيرها، وجرّتني وراءها أرفل بثوبي الأبيض، عند عتبة الجسر في بداية الوادي، وراحت تركض بي ثلاث مرات فوق الجسر، لتطهير نفسينا من كل الأفكار السيئة للعقل والقلب، ولندخل المعبد نظيفتي القلب والسريرة وبنية صافية كما قالت لي وقتها، واتجهت بي إلى مزار (خفوري ريبا) المسؤول على سلامة السفر والطريق، وهو بمثابة استعلامات يُستأذن للدخول منها إلى المعبد.

ولجت بي أمي وأنا مبهورة إلى مكان أسمته (العين البيضاء)، فشعرت بجفاف تيبس له فمي، أراقب الماء يخرج زلالاً ويصب في حوض خارج العين، وأسرّت لي عند العين أن مكانها وماءها مقدسان، وهي أثرية مقدّسة كما باقي مزارات المعبد الأخرى.

تدانت أمي من المسؤول عن العين، خاشعة مبتهلة وقالت خجلة:

- عمّدها يا (بير)(22) .

كان البير رجلاً كبيراً تتدلى لحيته بيضاء طويلة، ويختلط شعر حنكه بشعر شواربه، يرفل بازار أبيض، ويلف رأسه بعمامة هي الأخرى بيضاء، يقف حافي القدمين قرب حوض الماء.

قال بصوت مرتفع:

- ليبارك طاووس ملك شعب (أيزيدخان)(23) . .

أضاف يخاطبني وهو ينحني على الحوض:

- اقتربي يا ابنتي؟.

لذت وراء أمي خائفة من مجهول لم أجربه، فدفعتني وانحنت هي على الحوض تغترف منه ماءً، تغسل فيه يديها ووجهها، وتهمس شفتاها بالخير والبركة لكل الناس.

انتبهت لتوجسي من الخطوة التي يدعوني إليها البير وقالت أمي تشجعني:

- اقتربي بهار . . . لا تخافي.

تدانيت من البير، أركّز نظري على يديه، لأتابع تحركهما، وينتابني فضول لأن أعرف أين سيضعهما على جسدي!.

اغترف البير حفنة ماء من الحوض، بكف رفعها فوق هامتي وراح يرش الماء منها على رأسي، جفلت من قطرات الماء المتساقطة فوق شعري، وتذكرت رفيقاتي في المدرسة، وأنا أتراشق الماء معهن عند الحنفية وقت فرصتنا وشواغر الدرس، ولمت أمي على اصطحابها إياي لحجها مع بداية العام الدراسي، وتمنيت أن أسال البير تغيير موعد الحج السنوي ليكون في العطلة الصيفية، فأرجع إليه ثانية في العام القادم.

أرجعني قول البير من خيالاتي المدرسية وقال مكرراً قول ما بدأ به :

- ليبارك طاووس ملك شعب أيزيدخان .

تراجعت لأنصرف من عند الحوض، لكن البير أضاف قائلاً:

- اغسلي يديك ووجهك يا ابنتي، كما فعلتْ والدتك. .

أذعنت لقوله مثل آلة يفتح زرها فتدب فيها حركة بُرمجت عليها مسبقاً، واغترفت الماء، مثلما فعلت أمي، وغسلت كفي مرة، واغترفت الأخرى لأغسل وجهي، فتساقطت القطرات على وجهي باردة، كأنها كرات ثلج عند سفح جبل سنجار في منتصف الشتاء.

قال البير كأنه يودعنا :

- سيرا على بركة الله في (طريق زقاق الخير)، ولا تنسيا أن تدعوا لكل الناس باليمن والخير.

فسرنا طائعتين على طريق زقاق الخير، كما أوصانا البير، وأمي تدعو بالخير لكل أقربائنا وكل من تتذكره من جيراننا.

أوصلنا طريق زقاق الخير لفسحة ساحة واسعة، تسمى (سوق المعرفة) فيها نياشين مقدسة، وهي بمثابة محكمة للحساب بعد الموت، وأوقفتني أمي بجانب حجرة في وسط الساحة تسمى(حجرة الحق والحساب)، وهي التي تقف بجانبها روح الإنسان يوم الحساب، لتحاكم على أعمالها الدنيوية، ودلتني صبية كانت تسير قربي، مشيرة بإصبعها وقالت:

- ذاك النيشان اسمه (نيشان القاضي)، والآخر اسمه (نيشان الميزان). .

سألتها مستفهمة :

- من علمك الأسماء؟!.

فقالت متباهية:

- أمي وأبي. . . نحج سوية كل عام.

وأضافت الصبية دون أن اسألها:

- أتعرفين ماذا يعني نيشان القاضي ونيشان الميزان؟

فقلت مجارية لها:

- لا. . أتعرفين أنتِ؟!.

ردت بغرور طفل يتباهى:

- نيشان القاضي، يعني أن الله هو المسؤول عن حسابنا يوم الآخر.. .

استردّت أنفاسها لحظة وأكملت قائلة:

- . . وأما نيشان الميزان. . فهو يعني أن الحياة امتحان للإنسان، ورسوبك ونجاحك فيها بقدر سيئاتك وحسناتك التي خلفتها وراءك.

ثم استعجلت خطاها لتلحق أبويها، وخلفتني وراءها مبهورة من قدرتها على تبسيط طقوس ديانتنا، ومعنى مناسك الحج فيها!.

اقتربنا من باب واسع كبير، فقالت أمي تحذرني :

- هذا (باب الأمير)، علينا أن نتخطاه دون أن ندوس على عتبته.

سألتها بفضول:

- ما السبب؟

فردت على فضول سؤالي وهي تحنو علي، وتمسح على شعري، وتعدل لي ضفائري:

- هذه العتبة تعني لنا الحد الفاصل بين الحياة الدنيوية والحياة الدينية. .

وأكملت وفي وجهها فيض من الصدق:

- على من يريد تخطيها، أن يُطهّر قلبه وعقله من الأفكار السيئة، قبل أن يدنو منها.

فحرت كيف أتخلص من أفكاري السيئة؟. . وأنا أضمر أصلاً فكرة أن أضع غراءً لاصقاً، حال رجوعي من الحج، خلف باب غرفتي لأعاقب قطة الجيران التي تفزعني كل ليلة، وهي توقظني من نومي بدخولها من الشباك، وخربشة أظافرها عند باب الغرفة من الداخل!.

تخطيت العتبة دون أن أدوس عليها، وقابلتني باحة منخفضة، سمّتها أمي (جلسة المعبد الرئيسة) وقالت كأنها عثرت على شيءٍ عزيزٍ طال البحث عنه:

- بهار . . . أخيراً وصلنا لباحة طقوسنا الدينية.

أردت أن أسال أمي عن الطقوس تلك، فدخل (قوّال) وراح يعطي الناس وصايا ونصائح إيمانية، وإرشادات تربوية واجتماعية. كانت أقواله تحض على التعامل برحمة وأخوة مع الإنسان، دون سؤاله عن دينه وما يعتنق من أفكار، وضرب مثلاً إذا جاءك شخص فقير ومحتاج، وطرق بابك يطلب مساعدة، فأعطه قدر المستطاع، دون أن تسأله عن ملته ومن أي درب جاء، وعلل القوّال سبب ذلك، أن الخير في سبيل الله يحق أن تعطيه لأي محتاج كان.

وقالت أمي شارحة:

- هذا طقس (بيت الصباح).. هو إرشاد ديني يحث الإنسان على النهوض المبكر، قبل شروق الشمس، لغرض الصلاة والدعاء والتهيؤ للعمل، ويؤكد على النظافة والإخلاص في النية، ومثله آخر اسمه طقس (بيت المساء). . وهو دعاء وتذرّع للخالق بقدوم يوم جديد، يعم فيه اﻷمن والسلام في بقاع المعمورة، وهو أيضاً إرشاد للسير في طريق اﻷولياء الصالحين والتقوى. . .

أرادت أمي أن تكمل، لكنها توقفت بعد أن دخل سبعة رجال دين روحانيين، وغدوا يرقصون على صوت الدفوف والشبابة، فهمست أمي بأذني قائلة:

- هذا اسمه (طقس السماء). . . وفيه أمر الله ملائكته السبعة بخلق الكون، وكل ملاك له دوره يقوم فيه بيوم واحد.

مكثنا قليلاً نرقب رجال الدين السبعة يرقصون، ثم دنت بي أمي من الباب الرئيس للمعبد، وبدت صورة أفعى سوداء ملصوقة على جانبي الباب الرئيسي، تقترب مني كلما دنوت منها. كانت عندي صورة واضحة عن الأفعى السوداء، التي لا يؤذيها الناس أبداً، ورسخت في ذهني صورتها، وكيف (فتكوكعت الحية وسدت الثقب)(24) ؟ كما جاء في مصحف رش المقدّس. وخلاصة القصة أننا نعتبر الأفعى السوداء هي من أنقذت البشرية يوم الطوفان، فقد تكوّرت وسدّت ثقب السفينة التي ارتطمت بحجر مسنن فوق جبل سنجار. أشارت أمي إلى صورة الأفعى، وأرادت أن تشرح لي معناها فعاجلتها قائلة:

- أعرف معناها . . جدتي حكت لي عنها كثيراً.

ولجت وأمي مع عشرات غيرنا إلى داخل المعبد، واقتربت من (الأعمدة السبعة) التي ترمز إلى ملائكة الله السبعة، وكانت الأعمدة مغلفة بستائر ملونة حولها.

أفلتت أمي يدي ورفعت ذراعيها تزور وتتضرع إلى الله وأوليائه الصالحين، كنت أسمعها وهي تطلب الأيمان، والستر، والسلامة، والرزق، قبل أن تختلط مع الناس الزائرة مبتعدة عني .

صحت عليها خائفة:

- ماما . . . ماما.

أيقظني طرق خفيف على باب غرفتي بالمستشفى، وصحوت من نومي أسأل مخبولة :

- أين أمي. . أين؟.

ربّت الطبيب بيده على كتفي وقال مبتسماً:

- لا تخافي . . لا تخافي، كان حلماً.

(12)

ران الوجوم على وجهي بهار وفيفيان، وهما يمشيان طائعتين مكسورتين جنب أبي براء، تاركتان وراءهما حفنة أشباح لأناس يبدون طائعين مثلهما، وهم يكبرون استحساناً لحفلة النحر، التي أقيمت في الساحة. . حول جثة آمال!.

حشرهما أبو براء داخل سيارة الجيب العسكرية في المقعد الخلفي لها، وأدار المحرك، وتلوّت زوبعة دخان خلف سيارة بدت أنها أنْهكت في مهمات صعبة، ولم يتنبّه من قادها سابقاً ويقودها الآن لأن يديم صيانتها، ويصون شباب محركها، قبل أن يغزوه شيب الدخان الأبيض، الذي بات يلف جسد السيارة كلها.

مرق شبح السيارة يئن وسط شارع بدا خالياً من المارة، تتناثر على جانبيه قطع ملابس عسكرية تركها بعجالة من يلبسها، وسط الفوضى التي لفّت المدينة وضواحيها.

كانت قطع الملابس المتناثرة بإهمال تحكي قصة أخرى، لثاني انكسار للجيش، بعد انكساره في ورطة احتلال دولة الكويت، وبدت أشجار الرصيف متيبسة عطشى، يكسوها غبار كثيف يحكي هو الآخر قصة الأقدام التي مشت عليه خائفة وأثارته.

كان مرور السيارات كل دقيقة وأخرى في الشوارع يخلف وراءه تخلخلاً في ضغط الهواء، فيخلق عصف زوبعة تحرك قربها أي طاقية انتزعها جندي، تصوّر لحظتها أن رميها خلفه سينجيه من أسنان الضواري، التي ترقبه متربصة لتنهش لحمه حياً.

انزوت بهار عند نافذة السيارة الخلفية وراء السائق أبي براء، واتكأت فيفيان على حافة الزاوية الخلفية الأخرى، فكان ما تراه عين بهار يختلف عما تراه عين فيفيان.

انحدرت السيارة على حافة نهر دجلة، عكس اتجاه المياه، التي كانت تبدو لعيني بهار حمراء يطفو الزبد فوقها، وراودت مخيلتها أن ثمة كائنات برية تجاهد في أنفاسها الأخيرة، تحت سطح الماء عند قاع النهر، ترتفع منها فقاعات هواء، تقوّس وجه المياه وتختفي سريعاً لتظهر أخرى غيرها في مكان قريب، أرجعت بهار تخيلاتها لاختلاط رؤيا دماء اليومين المنصرمين مع هواجس خوف خالجتها، واستنتجت أن رؤية المياه حمراء، كانت بسبب ذلك، لكن قميصاً عسكرياً مرقطاً مر ينساب أمامها سريعاً فوق الماء، وبدا منفوخاً كأنه كرة، جعلها تفرك عينيها، خوف غشاوة قد تكون أصابتهما، لتستبين الرؤية ولتدقق أكثر في القطع التي راحت تطفو، وما تلبث أن تختفي عن ناظريها، مخلفة زبداً أحمرَ يختلط بفقاعات تتلاشى سريعاً، حال أن تظهر القطع ثانية.

اقتربت السيارة العسكرية من تقاطع فيه جسر يعبر النهر، فتريّث السائق قليلاً وهو ينظر ليمينه ويساره، وعينه تشخص باتجاه بداية الجسر، التي باتت ترتفع كلما تقدمت السيارة لتمر من جنبها، وأتاح تريّث السائق الفرصة لبهار حتى تركز نظرها على كومة ملابس احتجزتها إحدى عواميد الجسر الكونكريتية، المغروزة في قاع النهر.

كان ذراع الجثة يرتفع فوق كومة الملابس الطافية، كأنه يد مسافر يختفي جسمه في هيكل الطائرة، ولا يبان منه غير ذراع تلوح مودّعة لمن خلفهم وراءه في صالة المغادرة.

ندت عن بهار شهقة كتمها محرك السيارة، الذي امتص مزيداً من الوقود في تلك اللحظة، لكن فيفيان استطاعت أن تسمع بعضها، فكتمت شهقتها هي الأخرى واضعة كفها على فمها، واستدارت بكامل جسمها إلى حيث تنظر بهار، تاركة قطع الملابس العسكرية التي تتناثر على رصيف الشارع في جهة نافذتها، وراحت ترقب مشهد جثث الجنود الطافية على سطح الماء في نهر دجلة.

استطالت أجنحة الموت على شوارع المدينة، كجناحي طائر خرافي ينفث منقاره ناراً، سناها سم زعاف، وكانت صور الدم المنثور تزداد غزارة كلما تقدمت السيارة في عمق المدينة، ولاح لبهار ثمة جثة لجندي مقطوع الرأس، يرتدي بدلة عسكرية يغطي كتفيها الدم، معلق من تحت أبطيه بحبل، والجثة تتأرجح من شجرة زرعت على الرصيف وبدت مهملة، وزادتها حرارة فصل الصيف ذبولاً وانكساراً، وقد تدّلت الجثة تحت غصن، ثبتوا فيه يافطة كتب عليها بعجالة (هذا مصير الجيش الرافضي).

كان في نفس بهار شغف فضولي للمعرفة ، مثل كل جيلها الذي ولد زمن الحصار، وقد دفعها الفضول إلى أن تقرأ كل ما يقع بين يديها عن تلك الحقبة، التي وصفها الباحثون بحقبة الجوع والعوز والعري التي عاشها معظم العراقيين، ونجت منها فقط شريحة صغيرة قسّمت لفئتين، فهي أما الفئة الحاكمة، أو فئة التجار الاحتكاريين، وعائلة بهار كانت من غالبية الناس، وهي تتذكر إلى الآن كيف كانت تأكل خبزاً أرغفته سمراء مشوبة بالسواد، لكثرة الشوائب من أجناس النباتات الأخرى التي كانت تسحقها المطاحن الحكومية، مع طحين الشعير والحنطة، ويسلم الدقيق اسمر مسوداً للناس فيما كان يسمى (الحصة التموينية)!.

راودتها مقارنة محزنة حد الضحك، الذي افترّت له شفتاها مبتسمة، لمّا قارنت كلمات اللافتة التي علقت أسفلها جثة الجندي المقطوع الرأس، مع ما قرأته عن حرب الخليج بعد أن انكسر الجيش العراقي، ورجع الجنود من دولة الكويت، كل واحد منهم إلى محافظته التي فيها محل سكناه، سيراً على الأقدام متعبين ، منهكين، يطاردهم طيارو اثنين وثلاثين دولة، اجتمعت على جيشهم لتخرجه من مواضعه في صحراء دولة الكويت ومدنها.

كان الجنود يمرون بالمدن والقرى العراقية، التي انتفضت ضد السلطة، وحُررت أربع عشرة محافظة من أصل ثمان عشرة محافظة. كانت الناس لا تسألهم عن قوميتهم، ولا عن ديانتهم ولاعن مذهبهم، ولم تسجل حالة قتل واحدة ارتكبها أبناء محافظات الجنوب والوسط ضد أي جندي عراقي واحد أبان تلك الفترة، بل أن بهار تذكر جيداً أن ما قرأته عن تلك الفترة لم يسجل أن مواطناً عراقياً من الجنوب أو من الوسط حاسب جندياً عراقياً، منسحباً من الكويت، على انه ينتمي لجيش صدام، على الرغم من أن الأخير كان هو القائد العام للقوات المسلحة في حينها!

خرّت دمعة على خدها، وهي تراقب ملتحياً من المسلحين في أحد الساحات العامة، يشد جدائل رأسه بعصابة مثل كوفية حمراء، ويلبس لباس الأفغان، ويهش بسعفة في يده جنوداً عراقيين يرفعون أيديهم على رؤوسهم، وقد نزعوا عنهم قمصانهم العسكرية وأبقوهم بالبنطلونات المرقطة، وأوقفوهم صفوفاً ليصعدوا سيارات أعدتْ لغرض نقلهم نحو مجهول لا يعرفوه!.

كان المشهد برمته يبدو لعيني بهار كأنه تراكم لغيظ مئات السنين، كتمته ظروفاً تستدعيها سطوة مال وجاه وسلطة، وبدا العنف كأنه نابض حديدي جثمت فوقه صخرة كبيرة، وبسبب تعرية وسيل طوفان جاء بغتة، تزحزحت الصخرة وقفز النابض من تحتها، فكان له فعلان، أولهما أنه دفع الصخرة في اللحظة الحرجة لميلها جانباً، فأعطيت زخم قوة فوضوية هشّمت كل حجر وشجر يقف في طريق تدحرجها، وثانيهما أن النابض لمّا تحرر من ثقل الصخرة الجاثمة عليه، قفز نحو الأعلى فرحاً، وكسر كل أغصان الأشجار التي كانت ترفل بظلها على الصخرة.

قبل أن تنحرف سيارة الجيب العسكرية مبتعدة عن الشارع المحاذي لنهر دجلة، تريث أبو براء قريباً من أحد السواتر الترابية، التي أظهرت طراوة ترابها، وكتل الطين الرملي المتدحرج منها جانباً، أنها أنشئت حديثاً. تقدمت سيارة عسكرية أخرى، وغطت زوبعة الغبار خلفها سيارة الجيب، ثم قلبت حمولتها قرب الساتر، فتكومت جثث مجموعة جنود أنهكهم التعب، ولاحت آثار تعذيب على أظهرهم العارية، كانت آثار السياط على الجلود مثل أخاديد حمراء غائرة، على سفح جبل جرّده فصل الجفاف من خضرته، وبانت أضلعهم كالصخور الناتئة، وبعضهم تلون جلده ببقع دم سال منه خيط رفيع، واختفت نهايته عند منطقة الوسط، فتكونت منها بقعة عند نقطة الالتقاء مع قماش البنطلون العسكري المرقط لنازفها.

نزل ثلاثة مسلحين ملثمين من كابينة السيارة العسكرية، ونهروا الجثث التي مازال فيها نفس، و المكومة على بعضها، فبدت فيها حركة تشبث في الحياة، وسرت همهمة لرؤوس تتلفت مذهولة، منكسرة، وراح المسلحون يسحبون بعض الأجساد المنهكة، ليصفوها جنب بعضها، منكفئة على الوجوه، وتحاول بعضها أن تحتمي بالأخرى.

ترجّل أبو براء هو الآخر من وراء المقود، وألقم بندقيته عتادها، فالتفت عليه المسلحون الثلاثة بريبة، لكن مظهره جعلهم يطمئنون لنيته، واصطف الأربعة سوية مصوبين بنادقهم نحو أجساد الجنود، الذين تركوا كل أجسامهم مكشوفة للعراء، وكأن الطلقة إن أصابت جزءً منها، لن يموت صاحبها، مادام قد شبك كفيه على رأسه، ليتقي رصاصاً يتخيل أنه لو صوب على رأسه فقط سيصيبه بمقتل!.

أرعدت الدنيا وتثاءب رعبها فوق الأجساد، وانهمر الرصاص على الأجساد كالمطر، فرفرفت جثثهم مثل طير مذبوح، وارتجفت أطرافها، وفار الدم كالنافورة من بعض الرؤوس، وتصلّبت أجساد سال دمها كالوسادة تحتها، وتكوّرت أخرى على نفسها، مثل قضيب معدني تعرض لنار، كادت أن تصهره فالتوى محنيّاً لأسفله.

غطت فيفيان وجهها بيديها، وقالت في سرها فزعة:

- المجد لله في علاه. .

خفضت جذعها واتكأت على المقعد الذي تجلس خلفه، واستغلّت انشغال أبي براء مع المسلحين، وهم يجهزون على من بقي فيه نفس من الجنود، وراحت ترسم شارة الصليب وتمجد الرب.

وألحّ على بهار تساؤل صامت:

- ما بال الناس جنت هكذا؟. . أيعقلُ أن يُقتلَ حماة البلد، وتُشرعْ الحدود لغازيها !.

(13)

أرجعنا أبو براء للدار التي نُحتجز فيها، مخبولتين لما رأيناه في طريق العودة، نجر خطانا بتثاقل، وكانت معدتي فارغة وبطني خاوية، وجلد صرتي يكاد يلتصق على ظهري من شدة الجوع، غير أن نفسي لا ترغب في الأكل، وتعاودني الرغبة في التقيؤ، كلما تذكرت مشهد الدم الذي لا يفارقني أينما أدرت وجهي، وإسفلت الشارع الذي تدوسه قدماي ما عاد أسود، ولا حائط الدار عاد له لون الحجر المطعم بالتواء الاسمنت المطرز له، فقد كنت أرى حتى أكرّة الباب تقطر دما مثل رقبة آمال، وجثث الجنود الطافية في نهر دجلة!.

صاح أبو براء على حارس الدار آمراً:

- جهّز الحمام لتستحم هذه. .

وأشار ناحيتي ثم أضاف قائلاً:

- سيفي أمتي هذه الليلة.

دفعني برفق نحو الحارس وأكمل:

- دعها تغتسل مرتاحة. . . لا تزعج عروسي أبداً.

قادني الحارس إلى الحمام، فتح الباب وأدخلني ثم أغلقه بإحكام، وشعرت به يرقبني مثل قط أسود، يترقب فأراً لاذ بجحره خائفاً، وكنت أسمع لهاثه من وراء الباب، لا يقطعه غير تحلب الريق بين لحظة وأخرى شهوة لاغتصابي. خلعت ثوبي وعلقته منشوراً خلف الباب، لأسد فيه جانباً من ثقوبه التي يتلصص منها الحارس .

سال الماء بارداً على جسدي، وسرت في داخلي قشعريرة أصابت جلدي، رافقها صوت أبي براء يوجه الحارس:

- أعطها ملابس سوداء فضفاضة، تلبسها فوق ثوبها.

ابتعدت خطوات الحارس عن باب الحمام، وسمعت أبا براء يوصيه:

- وهات أخرى مثلها لبهار.

ساد صمت لا يقطعه غير خرير الماء على جسمي. فانتعشت روحي وفارقت الغشاوة عيني، وتشرّبت أنفاسي رطوبة الحمام، وأحسست بلزوجة في فمي كأنها صمغ يطبق لهاتي على لساني، وبدت تتزحلق شفتاي فوق لثتي، فعبأت كف ماء في فمي وتمضمضت، لأبصق صمغاً سال منه خيط على حنكي.

كانت الحرارة تخرج من خصلات شعري وأنا أفرك فروته بالمنظف، كأن يافوخي فوهة بركان يلفظ بخاره.

أدنيت قطعة حجر مربعة كانت داخل الحمام، وجلست عليها تاركة صنبور المياه المعلق في الحائط تنساب مياهه فوق رأسي برتابة، وذؤابات شعري تخر الماء على جسمي مثل شلال ينساب رتيباً بعد أن امتصّت الأرض رعونة أمواجه المتلاطمة، وسهوت مع أبي يصطحبني بسفرة سياحية علق منها الكثير في مخيلتي، لكن أحلى ما علق هي أجواء الربيع وشلال (أحمد آوى) في محافظة السليمانية .

كان الطريق للشلال متعرجاً، تكثر فيه الانحرافات الحادة، مثل ثنيات ثوب فتاة مراهقة، اشترته حديثاً وتخاف تخريبه لو جلست بملء ثقلها عليه!. كنت اجلس في المقعد الأمامي قرب أبي الذي كان يقود السيارة وئيداً، فتصعد فينا منحدراً جبلياً وتنزل آخر.

كانت الطرق الخارجية في السليمانية كلها مرتفعة، ويصيبك الدوار لو نظرت خارج زجاج نافذة السيارة، عكس طرقات الموصل، تلك التي تتميز بتعرجاتها وانحرافتها التي تجعلك مطمئناً، تنظر خارجاً ولا ينتابك الخوف أن تتدحرج فيك العربة التي تستقلها، والوديان فيها ليست بعمق وديان جبال السليمانية وانحداراتها المسننة بصخور ملساء، تخلو من التشققات التي ربما تمنحك بعض الطمأنينة والنجاة، إذا انزلقت السيارة جانباً وهوت للوادي، ولأن عقلي وقتها عقل طفلة مازالت تُراهق، فقد تخيلت النجاة تلك!

ركن والدي السيارة جانباً وترجل يجرني من يدي، ولم يكن لحظتها ثمة شلال في مدى بصري ، غير أن هدير أمواج صاخبة كان يتردد صداه في الفسحة التي توقفنا عندها. كان صوت مياه الشلال كأنه صوت قطار يسير آخر الليل.

لاح لناظرينا وادي يقطعه جسر طحلبي اللون أوقفني أبي في منتصفه، وأدار وجهي نحو الشلال، ويا لروعة تدفق المياه وتلاطمها عند منبع الشلال!. كانت المياه مجنونة ، صارخة ، جارفة، تنبثق من وسط الجبل، وتترك فيك شعوراً بأن في الجهة الأخرى للجبل ثمة بحيرة كبيرة تغذيها كل بحار العالم، ولا منفذ لتنطلق منه في سهول المدينة ومزارعها، غير تلك الفتحة في وسط الجبل. ومما يزيد المنظر استلاباً للروح انك لو أطلت النظر وتتبعت تلاطم الأمواج علّك تجد مكاناً تهدأ فيه وتنساب رقراقة، ثم عند الانحدار السهلي للجبل تعترض مياه الشلال صخرة تخرج وسط الشلال، مثل لسان يخرج دهشة لفم فتح مفغوراً لأول رشة مياه صبّت على وجه صاحبه!.

كانت الصخرة بحجم غرفة نوم صغيرة، تشطر الشلال نصفين وصدرها يصد المياه مثل مجرفة، تنتهي بصخور أصغر حجما تسندها من الخلف، فيبدو شكلها مثل ذيل أرنب يَقعُ عليه، فيخرج غضب الشلال زبداً ذا رغوة يتبعثر على جانبي الصخرة وذيلها، ويغذي رذاذها انكسار الضوء عليه، ليخرج قوس قزح يظهر لحظة ويختفي أخرى.

كانت على الجسر ثمة لوحة كتب عليها(احذر المكان زلق)!، ينتابك شعور وأنت تقرأها بالخوف من الغرق، وأنك لا محالة ستضيع بين تلك الأمواج المتلاطمة، وأن جسدك ستمزقه الصخور المسننة، قبل أن يعثر عليك احد وينتشلك ميتاً.

التفتُ يمين الشلال، فبدا لي منظراً آخر يشي برغبة بحيرة الجبل للانفجار، لكن شقوقاً أحدثها الضغط في الأرض الرخوة للسفح، خففت الاحتقان، وأضحت مع الشلال متنفساً آخر يلفظ زبده مثل نفس عميق لمدخنٍ شرهٍ. وبانت على الجانب بين الشجيرات بعض الينابيع تفور بالمياه، كأن تحتها مرجلاً يسخّن رغوتها ويغلي فيها، فتنفث سائلها كبخار القدر. ولو تطاولت ومددت رقبتك لترى ما يجري تحت الجسر، فسيقابلك منحدر ضيق تلتوي عنده مياه الشلال، ويسمع لها تحته دوي صاخب. وضيق فتحة الجسر في أسفله أغاظت التيار وجعلته يلتف حلزونياً ليهدر ماجناً بجنون مرة ثانية، وينساب بعد الجسر بمسافة قريبة، هادئاً رقراقاً، مثل ولد صموت ارّقه سلوك والده المتعصب لأتفه الأسباب، فانعكس الأمر على شخصية الابن، وبات رد الفعل على سلوك والده، أنه يركن دوماً للهدوء ويدمنه.

انحدر والدي نازلاً خلف الجسر، وعكس الجهة التي قدمنا منها، نحو بركة مياه مثل الحوض، تعج بشباب وأطفال في ملابس السباحة، وبعضهم في كامل ملابسه، يتراشقون بمياه الشلال، التي كانت رغم هدوئها وانسيابها بصمت، لكنها كانت لا تبقى كثيراً عند سيقان من يرفع حفنة منها، ليضرب فيها الذي يمزح معه في تلك البركة.

كانت الأسر وبناتها الصغار في مثل عمري يخوضون في المياه، على حافات هلال البركة الخارجي، وثمة آباء يدفعون أسرهم على خجل وريبة، ليندمجوا وسط البركة مع خليط الشباب والصغار الصائحين فرحاً، وكبار الشباب يحاولون إظهار مفاتن رجولة شابة، تريد أن تلفت انتباه البنات الكبار منا. انحنى والدي نحو المياه وغرف حفنة منها، ثم رشقني فيها ضاحكاً. . . .

انكمشت على نفسي داخل الحمام، بعد أن سمعت طرقاً خفيفاً، وصوت أبي براء فيه وقاحة شهوانيه، يدعوني للخروج سريعاً، وثمة ستارة سوداء تسدل على عيْنيْ لتبعد خيالي عن سفرة الشمال تلك، وتوقظني على واقع مظلم ينتظرني.

(14)

نَشّفتْ فيفيان جسمها بثوبها على عجل ممزوجاً بالخوف والترقب، وارتدت قطعها التي باتت مثل خرق بالية، وسحبت أكرّة باب الحمام بهدوء حذر، ثم خرجت ليقابلها رجل تجاوز العقد الثالث، شعر رأسه مرتب ومقصوص بانتظام وتناسق، يواكب لون وجهه المبيض الموضة السائدة لقصة الشعر، وترتفع فوق هامته نظارات شمسية، حليق اللحية والشارب حديثاً، تفوح رائحة عطرة من أردان قميصه الفضفاض، والذي طرز بأوراق شجر خضراء فاتحة، طبعت على قماش القميص الرمادي ذو الصوف الحريري، وتركت أطرافه مسدلة على بنطلون سمائي، وبان الحذاء من تحته أسوداً لامعاً كأنه يُلبسُ لأول مرة.

اختلطت صورة ابتسامة الرجل وأسنانه النظيفة البيضاء، في ذاكرة فيفيان، بصورة لابتسامة يغطي شعر اللحية غمازات الخدين فيها، وتنفرج الشفاه المبتسمة عن صف أسنان صفراء لاحت لذاكرتها أنها صادفتها وعايشتها كثيراً، ولم يدر في خلد فيفيان أن الواقف أمامها هو أبو براء بشحمه ولحمه! وأن هندامه الجديد هو من أدوات مهمته (الإنغماسية)(25) والتي كلفه فيها التنظيم، ليختم سيرته الجهادية ويفوز بالحور العين كما أبلغ بذلك، وجُهزَ لها أثناء ما كانت فيفيان داخل الحمام سارحة لوقت طويل مع ذكريات سفرتها.

كانت الابتسامة تلوح على محياه، باردة يغزوها الثلج، فتبدو باهتة كأنها ابتسامة مخبول، وسط عالم لا يعير له اهتماماً، ورغم هندامه الجميل وتناسق جسمه مع ما يلبس، لكنه بدا عند فيفيان رجل يقف دون اتزان، ويأتي بحركات لا تتناسب وشكل التحضر الذي يدعيه في ملبسه، فقد كانت له ذات الوقاحة في النظرات السابقة، ويديه تتلمس خبايا جسدها، كأنها مُلْك ورثه عن أجداده!.

والواقع أن فيفيان عندما كانت أصابع يديه تداعب نهديها بخشونة عند باب الحمام، كانت تشيح بنظرها لتبحث عن رجل آخر، فظ في سلوكه، ولا يقبل أن تمس أحداهن كما صرح ، رجل لا يدعي التحضر كهذا، وسلوكه يوافق الخرق المتربة التي تتهدل كيفما تشاء على كتفيه، ولا يعتني بكم قميصه أن كان مزرراً أم كان مفتوحاً، وذؤابات شعره مبعثرة بلا انتظام، وثمة ريح وغرة كأنها ريح ذكر الماعز وقت التكاثر، تعبأ المنخرين لو هبت نسمة هواء من ورائه وتخللت تلك الذؤابات !. كانت فيفيان لحظتها تبحث عن إنسان فظ لتدرأ فيه سلوك إنسان فظ آخر، ولم تعلم أن من تبحث عنه يقف أمامها، وأصابعه هي من تستكشف جغرافية جسدها!.

أخرج أبو براء صوتاً قانطاً يتصنع فيه ابتسامته البلهاء، وقال مشيراً بأصبعه إلى غرفة جانبية:

- ادخلي سرّحي شعرك هناك . .

بحلقت فيفيان فيه غير مصدقة أن الصوت يعود لأبي براء الذي أضاف قائلاً:

- تجملي جيداً، فالليلة عرسي عليك ، وغداً سيكون عند الحور العين.

اتجهت صوب الغرفة التي أشار لها صامتة، وسمعت خلفها طرق باب فتحه الحارس ودخل فاروق يصفر تعجباً لشكل أبي براء وقال:

- يعني الذي سمعته صحيحاً !.

سحبه أبو براء من يده وانتحى فيه جانباً يهمس بأذنه:

- رفيق فاروق، فكر لماذا كلفوا كل عنصر قومي مكنى باسم حركي في هذه المهمة؟. . لماذا لم يكلفوك أنت مثلاً؟.

فقال فاروق مندهشاً من أسلوب تخاطب اتفقوا تنظيمياً أن لا يستخدمونه أبداً:

- قبل أن تشرح لي . . قل لي أولاً لِمَ تستخدم التخاطب بكلمة(رفيقي)؟. . ألم يكن التبليغ صريحاً وواضحاً بضرورة انصهارنا بمسميات العهد الديني الجديد!.

أخذ أبو براء على نفسه أنه لم يوفّق في إيصال فكرته جيداً لمن يحسب أنه صديقٌ وفيٌّ له، ويعرف عنه كل واردة وشاردة وقال:

- اتفق معك أننا لن نعتلي كرسي السلطة ثانية إلّا بأسلوب التنظيم الذي يجري الآن، لكن ألا ترانا أصبحنا مطايا بأيديهم!. . .

أطرق يفكر وهزّ رأسه قائلا:

- هم بفعلة الانغماس، هذه التي أُمرنا بها، يريدون أن يفرغوا ساحة الموصل من كل عنصر قيادي بارز فينا.

وأقرّ مؤنباً نفسه قبل أن يؤنب فاروق:

- سيرثون العرش الذي نبني لهم فيه.

وأضاف :

- حرّضنا ست محافظات لأجلهم، وها نحن ينتهي أمرنا بين صراعات يختلقها عناصرهم معنا، ويفتعلون ألف سبب لنشوبها مع عناصرنا، والتكليف بمهمات لا رجعة فيها للذي ينفذها، وبين سندان مطرقة الجيش، وفتوى المرجعيات في النجف، التي بدت نتائجها تلوح في الأفق لغير صالحنا وصالح التنظيم. . .

فقال فاروق مسلّماً بما يسمعه:

- اتفق معك . . . لكن أما تستطيع أن تعتذر عن المهمة؟.

فتساءل أبو براء وفيه إحساس بأن ما يفكر فيه بدأ يجد له آذان صاغية عند فاروق:

- وغيري ماذا يفعل؟.

ثم أردف بيأس:

- غُلبنا على أمرنا، وانتهى المطاف.

فقال فاروق مستنتجاً:

- تحالفهم معنا تكتيك مؤقت .

فأكّد أبو براء جازماً:

- وبعد أن يستتب الأمر بأيديهم، نكون نحن قد تلطخت أيادينا بدماء الناس، أكثر من تلطخها السابق. . . عندها سينتهي أمرنا للأبد.

فقال فاروق عاجزاً:

- وما الحل برأيك؟

اطرق أبو براء قليلاً واضعاً يده على كتف فاروق وقال:

- لن أترك حلاوة الدنيا للشيشاني والأفغاني لانتحر من أجل دولتهم. . . وأنا أصلاً أخشى الموت لأجل قضية خاسرة.

أخذ شهيقاً ملأ صدره وأضاف مقرراً:

- سأهرب غداً.

قهقه فاروق وقال:

- إلى أين؟ ..في الجنوب جيش يرديك بطلقة واحدة، وهنا كما ترى بعينك. . . كل دقيقة تقوى شوكتهم ويشتد عودها.

فتح أبو براء عينيه على سعتهما وراح ينظر بعيداً ثم قال ساهماً:

- لا. . . . . سأهرب لجبال (مكحول)(26) ، فبعضها لازال عصيّاً بيد الرفاق.

- كيف؟

قرفص أبو براء أرضاً وراح يخطط بأصبعه على الأرض شارحاً: - مهمتي ستكون على وحدات الجيش في تخوم مدينة سامراء. أتقمص دور أخ يبحث عن أخيه الجندي المفقود، وفي أكبر تجمع يصادفني أنغمس فيه وأفجر نفسي بينهم.

كان يرسم على الأرض وهو يلهث متشنجاً، كأنه يعيش الحدث:

- أعطوني خمس حبات مخدرة لتشجيعي . . . علي أن أبلعهن دفعة واحدة، قبل التنفيذ بساعة. . . . . .

فقاطعه فاروق لاهثاً مثله:

- ومتى التنفيذ؟

أفرد أبو براء أصبع السبابة من يده اليمنى وعكف ذراعه ناحية الذراع الآخر وقال:

- غداً عصراً سأترجل من سيارة تقلني إلى قرب الوحدات العسكرية هناك.

استعجله فاروق قائلاً بعد أن بدا أبو براء يمط الحروف، وعافت نفسه الحديث في الأمر برمته:

- ها. . . أكمل. . . كيف ستهرب؟.

كزّ أبو براء على أسنانه غيظاً وقال:

- أمّا سأقتل السائق الذي سيرافقني وأخذ السيارة منه وأهرب. . أو أني سأهرب صباحاً!.

أخرج من جيب قميصه كومة هويات رسمية وبطاقات شخصية وقال:

- هذه كفيلة بإيصالي لجهتي المنشودة.

ترك فاروق أمر هروب أبي براء جانباً بعد أن ألمّ بكل تفاصليه، وقال مشيراً باتجاه غرفتي حجز بهار وفيفيان:

- والبنات؟.

- سأسلمهن غداً لدار الحسبة.

وفكر أبو براء أن يدرأ غدراً من فاروق يشي بخطته لعناصر التنظيم، قبل أن ينفذها فقال له :

- تعال لنقضي الليلة معاً في الدار. . أنا آخذ سيفي وأنت خذ بهار.

فقال فاروق مبتسماً بخبث:

- حقا!.

(15)

تلك الليلة أطبق الصمت على الدار، وما سَمعَ الحارس غير صوت رجلين يصرخان بجنون هستيري، اهتزا له شارباهما غيرة، فلم يعثرا على بطولة يفرغان فيها كبتهما، غير بطولة اغتصاب على سرير نوم، يرفض الآخر أن يشاركهما فيه!، وقريباً من هذا الشعور انتاب الحارس في ظلمة الدار، هوس أفكار تدعوه أن يشارك الآخرين فعلهم. واغتابت بهار وراء جدران غرفتها كبار السن في مجتمعها الأيزيدي، تلك المجموعات الصغيرة التي مازالت تنتشر في قصبات وقرى قضاء سنجار، وترى الغيرة والرجولة في طولِ شاربٍ ها هو يتدلى من وجه فاروق على صدرها، مثل ذنبِ قطٍّ يلاعب فأرة ليستغفلها قبل أن ينقض عليها ويلتهمها.

(16)

ومرة أخرى مثل قط يرقب فأراً راح فاروق يرقب خلسة عضلة ساق فيفيان، وفيه غصة لأن يفترسها في العراء، خارج الدار، بعد أن كُشِفَ ساق رجلها البيضاء كلون الجبن، وهي ترتكز على ساق، وترفع التي كُشِفتْ لتصعد إلى حوض السيارة من الخلف، تلك التي ستقلها وبهار لطريق مجهول آخر.

قفز ثلاثة مسلحين وركبوا معهن، ثم اتجهت السيارة وسط الزقاق لتركب الطريق العام ، وإطارات دواليبها تكاد لا تلامس إسفلت الشارع من سرعتها، اتجهت بهار صوب قرص الشمس التي أشرقت، ونصفها مازال يغيب عن ناظريها في الأفق البعيد، وراحت تصلي خاشعة بصمت دون أن ترفع يديها بالدعاء، واجتاحتها رغبة في أن تصلي بصوت مسموع، لكن عيون المسلحين المصوبة عليهن، منعتها حتى أن تتمتم هامسة صلاتها بشفتيها.

تجاوزت السيارة حي النصر واتجهت يميناً، فكانت مدينة ألعاب الموصل على يسار بهار تبدو فارغة مهجورة، وأوراق الشجيرات على جانبيها مغبرة، وسيقانها متهدلة عطشى، ولونها يشوبه الاصفرار، وراحت عينا بهار تبحث عن حياة الأطفال وذويهم وسط آلات الألعاب فيها، وانحرفت السيارة باتجاه اليسار مرة أخرى متجهة صوب الجسر الخامس لتعبر نهر دجلة إلى ضفته الأخرى، وعاد شكل الجثث الطافية فيه يخيم على المشهد فيشدّ الانتباه إليه على باقي صور المدينة والنهر!.

كانت السيارة لسرعتها ترفعهن والحراس وتسقطهم جميعاً أذا اعترض الطريق مطب اصطناعي، فكان اهتزاز الركاب وقفزهم في الحوض الخلفي للسيارة، مثل كرات يلعب فيها أطفال صغار، يرمونها لبعضهم ولا تسقط بين أياديهم، وتليها أخرى تسابق الأولى قافزة لاتجاه ثان، وبدا النهر هادئا على غير عادته، والمياه راكدة فيه، وفكرت بهار أن الجثث وتكومها عند عواميد احد جسور الموصل ربما سدت مجراه، وغدا النهر ممتلئاً بمياهه حدّ التخمة، وطيور النورس ترفرف على الجثث الطافية، كأن فيها رغبة في أن تحط فوقها ، لكنها قبل أن تفرد جناحيها وتحفز رجليها الممدودة، تلمّها لبطنها وتستثني عما أزمعت عليه، وتطير ثانية لترفرف على جثة أخرى، وتعيد طقس رفرفتها ثانية وثالثة قبل أن تتركها لتعبر إلى جثة ثالثة، ويدور سربٌ هناك ليمارس الطقس مجتمعاً، دون أن ينهش الجثث الطافية، فيبدو المنظر لعيني بهار كأن النورس يأخذ دور الحارس، وبفكرة خاطفة تخيلت بهار أن النورس يزف الجثث لمثواها الأخير، بطقس لا يجيد فعله أي طير آخر غيره!، وأحسّت بمقدار الجرم الذي يرتكب بحق النورس إذ يوصف بكنّاس الشواطئ، ولاحت لها جثةٌ عند جرف النهر بعيداً عن الجسر، وثمة طير كبير جاثم فوقها، يرفع رقبته ثم ينزلها على الجثة، ومنقاره يبقر فيها مثل مطرقة على سندان، ولم تحدد فصيلة الطير ذاك، لكنها خمنت انه نسر، جذبته رائحة الموت التي تفوح من جانبي جرف النهر.

اجتازت السيارة تقاطع شارع الفاروق مع تقاطع شارع مستشفى ابن سينا التعليمي، وانبسط الطريق أمامها، وراحت تنحرف يميناً ليلتقي انحرافها بالطريق العام، وأدار السائق مقودها بزاوية حادة لتستقر على الطريق العام، وتعاود الانحراف بعد خمس دقائق بزاوية حادة أخرى نحو اليسار، لتدخل الحي العربي الذي شطره الطريق إلى قسمين، وكان واضحاً توقف الخدمات البلدية فيه، فقد تكوّمت أكداس الأوساخ على جانبي الطريق عند نهاية كل شارع فرعي ، وغدت المزابل مرتعاً خصباً للقطط والكلاب السائبة، وكان لانغلاق أبواب الدور على ساكنيها فرصة لأن تتعارك الحيوانات مع بعضها، وتتوحش على المارين قربها رغم قلتهم، وثمة لافتة تشير بسهمها في اتجاه السير الصاعد، قرأت فيها فيفيان عبارة (إلى مقبرة وادي عكاب). ولاحت منارات جامع الفاروق وجامع صلاح الدين على يسار الشارع، ومكبرات الصوت شاخصة في أعلاها على البعد ذاك.

كانت المقبرة على الجانب الأيمن، ويفصلها عن منطقة المشيرفة الشارع المتجه لسجن بادوش، وأشرقت الحياة أكثر نشاطاً في المقبرة، ودبيب من يدفنوا عزيزاً لهم يجعلهم مثل سرب نمل يعرف طريقه، عكس طرق المدينة التي اخترقتها السيارة وبدت فارغة، كأن من يخرج من ساكنيها لعتبة داره سيصاب بالجذام، لو تنفس هواء الشارع، ورفرفت الريح داخل أردان ثوبه.

انقبض قلب بهار، وراحت تدقق والسيارة مسرعة فيها بشاخص كل قبر يكون قريبا من عينيها، وتحشرجت اللوعة في داخلها ولازمتها عبرة بكاء، أن يكون اسم سكمان منقوشاً على إحداها، وأصبح كل من تشاهده في المقبرة جاء مشيعاً لجثمان سكمان، واستنكرت على القبر أن يكون لحداً له، وتخيلته يخرج من كفنه، وتطير روحه مرفرفة إلى وادي لالش، لتبقى هناك خالدة وتتحد بروحها يوم تموت، ليتقمصا معا روحي شابين ستلدهما بطنان آخران في قادم الأيام(27) .

زاغت عينها نحو جهاز الهاتف النقال بيد احد المسلحين، وتمنّت أن يكون عندها لربع ساعة آخر الليل، لتختلي فيه وتتصل على هاتف سكمان، وراودها تساؤل مزعج (ماذا لو رنّ هاتفه ولم يرفعه؟ )، وكَأنَ الاتصال سيحدث فعلاً! اهتزّ رأسها لاإرادياً لتطرد هذه الفكرة، واستحضرت تبريراً (قد يكون نائماً في ذلك الوقت)، لكن الوساوس أطلت برأسها سائلة (ماذا لو كان مقتولاً مثل عمو شمو؟!).

أشاحت بوجهها جانباً، ثم أنزلته على حجرها تحاول دفنه في صدرها، مثلما كانت تفعل مع صدر أمها إذا أزعجتها فكرة وراحت تطارد خيالها. وعادت تردد أرقام الهاتف النقال لسكمان، كأنها نشيد مدرسي تعيد قراءته في الطريق صباحاً، خوف أن تعاقبها المعلمة لو نست منه شيئا.

اقتربت السيارة من سجن بادوش، وانتحت على طريق غير مبلط راح يدور فيها حول السجن، واضطرّ السائق أكثر من مرة أن يركن السيارة على جنب ذلك الطريق، مفسحاً المجال لسيارات حمل تخرج من السجن، محملة بجثث موتى قتلوا على الهوية أثناء سيطرة التنظيم عليه.

كانت رائحة الموتى تزكم الأنوف، وثمة كلاب تفترس بعضها خارج أسوار السجن، وبعضها تلطّخت أفواهها بالدماء، وشاهدت بهار منظر الملابس المرمية خارج الأسوار تعود للواجهة أمامها، مثلما شاهدتها أولاً في شوارع المدينة، لكنها هذه المرة لم تقتصر على الملابس العسكرية بل تعدتها لملابس الشرطة المحلية، وملابس المدنيين، وانتابها إحساس بفجيعة من قتلوا ها هنا!.

توقفت السيارة عند باب السجن وأُمرت بهار وفيفيان بالترجل منها، وارتجلت بهار رأياً فيه نباهة، وقالت للمسلح الذي راح يسجل اسمها عند باب السجن:

- بهار خديده درويش. . .

وحاولت أن يحتك كوعها بخاصرة فيفيان وأضافت:

- وهذه أختي سيفي خديده درويش.

فك المسلح طوق السلسلة الحديدية من يديهما، ودفعهن داخل جموع السبايا في السجن. كانت أبواب الزنزانات مفتوحة على بعضها، وثمة هرج بين النساء، وفيهن فتيات لم يتجاوزن التاسعة من عمرهن، يرفلن بملابس سوداء فضفاضة، وتقدر أعدادهن بالمئات، وبعض النسوة مكومات حول مناقشة أمر ما، وأخريات منهن يقفن بالطابور على حمامات السجن، ولو لم تكن حيطان السجن لونها رمادي كالح، وأبوابه ذات قضبان عريضة مطلية باللون الأصفر، لتصور المشاهد انه داخل ليلة ظلماء، لكثرة لون سواد ملابس المحتجزات داخله.

اقتربت امرأة قاربت الثلاثين من عمرها وسألت بهار:

- من سنجار.

فردت بهار وعيناها تطوفان بين المحتجزات:

- لا. . . من داخل المدينة. . . من الموصل.

ثم سالت بهار مستفسرة بتعجب مشدوه:

- وصلوا سنجار!.

فقالت المرأة متهالكة عند الحائط:

- وصلوها ومن هرب إلى الجبل هرب، ومن لم يستطع قُتل وأُسرتْ نساؤه سبايا. . .

صمتت لحظة وأكملت:

- كل رجل أمسكوه . . . قُتلْ.

فقالت بهار متعجبة:

- أبهذه السرعة؟

أجابت المرأة باستسلام:

- وماذا نفعل ونحن عزّل دون سلاح!.

وأردفت شاكية هم القضاء كله:

- سنجار مدينة مذ وجدت وهي منزوعة السلاح.

تقربت منهما فتاة مراهقة وسألت بهار مرعوبة:

- اغتصبوك؟

فردت عليها المرأة الثلاثينية:

- تلك مسألة أصبحت قديمة.

توقف الحديث أثرُ هرجٍ ثار بين النساء، وتقربت مجموعة كبيرة منهن إلى باب السجن الرئيسي، وخرجت أصوات تقول:

- تأخر الفطور.

تحرك مزلاج الباب ودخل أربعة حرّاس، اثنان يحملان كيسين فيهما خبز، واثنان يلوحان بعصي في أيديهما، لتخويف النساء وضبطهن، وقال حارس منهم:

- شكّلن دائرة حول الساحة . . . . بسرعة.

تدافعت المحتجزات حول الساحة، وشكّلن دائرة خلا وسطها منهن، وتحرك الحارسان اللذان يحملان الكيسين عكس بعضهما، وراحا يوزعان أرغفة الخبز عليهن، ولاكت فكوك من استلمن حصتهن من الخبز، يابسة دون شيءٍ آخر تُلف عليه ليزدردها البلعوم سهلة طرية، وأدارت فيفيان رقبتها بين المحتجزات متعجبة، من سلوك لم تألفه وسط بيئتها التي تربت فيها، ولما تعبت وأحسّت أن ما من واحدة منهن تشاركها تعجبها فيما يحصل، رفعت رغيفها لفمها وراحت تقضمه بنهم مثلهن.

(17)

غدت الأيام رتيبة مملة في السجن، وتوزعت ساعاتها بين النوم والثرثرة، ومجاعة حولت بعض المحتجزات إلى وحوش ضارية فيما بينهن على كسرة الخبز الصغيرة، فكان ما يقدم من الطعام صباحاً هو ذاته رغيف الخبز المعتاد، وفي الغداء يقدم لهن الرغيف مع مرق ذي لون أحمر فاتح لاشيء فيه غير البصل، ومن تقع في صحنها قطعة بصل تكون صاحبة حظ ذلك اليوم!.

كان أهم ما يميز المحتجزات هو الخليط الاجتماعي الذي يحتوي على كل طبقات المجتمع الأيزيدي، إذ كان من بين المحتجزات مجموعات تنتمي لطبقة (الأمراء)(28) ومجموعات تنتمي لطبقة (البسميريين)(29) وثالثة تنتمي لطبقة (الشيوخ)(30) ورابعة تنتمي لطبقة (البيرة)(31) وخامسة تنتمي لطبقة (الفقراء)(32) ، وقد لا يَفرقُ أمر الطبقات عند فيفيان لأنها تراهنّ من السلم الاجتماعي نفسه، ولا تفرّق إحداهن عن الأخرى، لكن بهار كانت حاذقة بمعرفة المجاميع، فمرة من خلال أصول اللهجة ومرة من خلال أصول السكن الجغرافي، فسنجار المدينة كانت البوتقة التي تنصهر فيها كل طبقات المجتمع الأيزيدي، وإن التبس عليها الأمر كانت تصغي للثرثرة الجانبية التي تدور حولها، لتستنبط رواسب علل مجتمعها الذي عاشت وتربت فيه، وكان أكثر ما يزعجها أن من بين المحتجزات من كانت ترى انتسابها لطبقة الأمراء هو ما يعطيها الحق من أن تكون آمرة ناهية على المحتجزات، اللاتي ينتمين لطبقات أخر، رغم أن تلك الصفة رجولية بحتة في طبقة الأمراء، ولا يسمح للمرأة أن تتبوأ منصباً فيها أبداً، وتعتبر سلطتها وهيبتها عناية إلهية، وهي بسلطتها تحاكي تلك العناية الإلهية، وتستمد تمثيلها الشرعي من (الشيخ عدي)(33) ، في سيادة الرعية والحكم عليها!.

وبعيداً عن هذه التجمعات الطبقية التي تراها بهار، كانت فيفيان ترى في السجن صنفين من النساء والفتيات، صنف الموظفات والطالبات، وصنف ربات البيوت، وفي صنف الموظفات كانت تبرز الطبيبة، والمهندسة، والمدرسة، والمعلمة، والموظفة الإدارية، والمحامية، وهؤلاء كنّ يتصدرن مشهد المواجهة مع عناصر التنظيم، خاصة عندما يجنّ الليل على الردهات، وتنقطع الطرق عن حمل السيارات القادمة إلى السجن، وتستيقظ شهوات الحراس في استدراج كل محتجزة صغيرة في السن وذات جمال، فهم يبدون لطافاً مع الفتيات في بادئ الأمر، ومع أول اعتراض من المتعلمات يقومون برفس كل من تعترض طريقهم، ورغم أن المتعلمات أوجدن جذوة الاعتراض عند المحتجزات، لكن جولة الاعتراض تنتهي دائماً لصالح الحرّاس، الذين يأخذون الفرائس ولا يرجعونهن إلّا عند فجر اليوم التالي، وكانت الصغيرات منهن يرجعن بشعر منفوش، وقد تمرّغ كثيراً على الوسائد الصلبة، وبوجوه محمرة، ودائماً ما كانت فيفيان ترى الانكسار والخيبة تطغي على وجوههن، ويشتط الخيال عندها فتحول هيئة الشعر واحمرار الوجه إلى لسان حال يقول: أللذلِ والمهانةِ خُلقتْ في هذه الحياة؟!. وفي الجانب الأخر كانت فيفيان ترى صنف ربات البيوت أول مجموعة تهرع للعائدات فجراً لتطييب الخواطر، وتهدئة النفوس، والمواساة على تحمل الضيم، وكن يفعلن ذلك بأسلوب من خبرت الحياة، وتعلمت الصبر على حلوها ومرها، بحكم اشتراكهن مع أُسر أزواجهن في تحمل مسؤولية العائلة، وشظف العيش ومنغصاته.

وفي الليل يهجعن النزيلات كلٌّ إلى فراشها بمعد خاوية، يعتصرها ألم الجوع، ويخيم داخل ردهة السجن جو خانق، تزيده رطوبة الأنفاس انقباضاً على الصدر، تحسّ فيه النزيلة منهن كأن رأسها اغطس داخل حوض ماء، وما عاد في الصدر متسع للهواء، ولأن النزيلات كبيرات السن يعاف اغتصابهن عناصر التنظيم، فهن لا يخفن النوم في باحة السجن الخارجية، بينما تنزوي الصغيرات منهن داخل الزنزانات، وتكتظ فيهن حتى الزنزانات الانفرادية، ويغدو الهروب إليها مثل التسكع في منتجع سياحي!.

في سجن بادوش تناهى لسمع بهار احتلال التنظيم لقضاء سنجار، وحكت النسوة والفتيات الساكنات مركز القضاء يوم الاحتلال ذاك، فقالت ست (هناري)(34) مدرسة التاريخ، وبدت ساهمة تتذكر:

- بدأ القصف بقنابل الهاون قبل يومين من الاجتياح، وهبّ شبابنا ورجالنا يطلبون السلاح من المقاتلين الأكراد . . . أرجعوهم . . . . قالوا ارجعوا ودعوا الأمر لنا. . . كنا نعرف شجاعة وبسالة المقاتلين الأكراد. . . ركنا لدعواهم ورجع رجالنا. . .

فقالت زميلتها (خمري)(35) متأسفة بحرقة:

- المصيبة يوم الاجتياح . .

صمتت لحظة وأكملت :

- صباحاً. . . عند الساعة العاشرة بالضبط . . . جاءت سيارة فيها مقاتلون أكراد وراحت تجوب شوارع سنجار. . . . كانوا لا يرددون غير جملة واحدة . . انتهى كل شيء وسننسحب الآن.

فقالت هناري مقاطعة:

- خرج الناس بالآلاف تحمل ما خف وزنه وغلا ثمنه. . . لم تسعها سيارات القضاء كلها.

فأكملت خمري قائلة:

- لو أنهم انذرونا قبل يوم لكنا اليوم كلنا على جبل سنجار. . كانت الناس تزحف على طريق الجبل مثل سرب النمل. . كنا مرعوبين وما أحسسنا إلّا وسيارات عناصر التنظيم تطوقنا عند محيط القضاء. . آآآخ لو كنا مسلحين!.

تطوعت فتاة عشرينية وقالت :

- يا خاله . . ما فائدة الندم وقد قتلوا شبابنا وسبينا بالآلاف. . هاكْ انظري حولك !.

فاعترضت هناري شارحة:

- نحن لا نندب الحظ يا (روشي)(36) . . نحن نحلل مأساتنا . . عزاؤنا إنْ عرفنا أسباب إبادتنا (الرابعة والسبعين)(37) ، علَّ أجيالنا القادمة تتفادى الإبادة التالية!.

أطرقت هناري قليلاً، ثم رفعت رأسها وقالت جازمة:

- ستبقى الأجيال صامتة لوقت طويل، لكن التاريخ سيحكي يوماً ما أن إبادة قومنا الأخيرة كان أحد أسبابها، رغبة الساسة الأكراد في التوسع الجغرافي لتحقيق حلمهم في الدولة القومية.

فانبرت خمري مدافعة :

- هناري . . هذا القول فيه تجني كبير على الأكراد. . . ثم لا تنسي أن القومية الكردية هي قوميتك. . أيعقل أن يبيد الشعب الواحد قسماً منه!.

ردت هناري وفيها تحفز للدفاع عن موقفها:

- قطعاً لا. . . لكن في السياسة وتخطيطها يجوز ذلك.

سألت خمري رغبة في الاستزادة:

- كيف؟. . . تكلمي، فبودي أن أعرف.

قالت هناري شاردة بعينيها إلى ما وراء بوابة السجن الداخلية :

- امتناعهم عن إعطائنا السلاح، وقولهم انتهى كل شيء وسننسحب، وراءه اتفاق سياسي بتسليم سنجار للتنظيم ، ثم تحريرها فيما بعد بأيادي القوات الكردية، لتكون منطقة كردية وتُضم لحلم الدولة القومية.

فتمنّت خمري قائلة:

- ليتنا كنا منطقة تابعة للإقليم.

قاطعتها هناري محذرة:

- وأنا أتمنى ذلك. لكن ليس على حساب الدم الأيزيدي.

. ونامت فيفيان وبهار على همس هناري، وهي تشرح لمن حولها زمن كل إبادة وأسبابها، فقد كان تخصصها الدراسي في مادة التاريخ، يؤهلها إلى أن تكون معلومتها عند المحتجزات مثل مادة في دستور دائمي مغلق.

(18)

دخلت الممرضة غرفة بهار وأعلنت قائلة بوجه صارم مثل حارسة سجن :

- عندك زيارة.

خفق قلب بهار وتلعثم فمها بالكلمات، فعدلت جلستها على السرير، وسوت أغطية فراشها على رجليها، ثم قالت مستفسرة بإيجاز:

- من؟.

مشّطت أطراف شعرها بأصابع يديها، وتسمر وجهها على الممرضة تنتظر ردها، فقالت الممرضة، وقد تخلت عن صرامة وجه الحارسة الذي تلبسته قبل قليل، غامزة بعينها، وافترت شفتيها عن ابتسامة جميلة، وبحلقت في وجه بهار بحسد أنثوي قبل أن تقول لها:

- مقاتل بملابس مرقطة. . .

دارت على كعب حذائها بدلال نحو الباب، لكنها التفتت برأسها ناحية بهار وقالت بغنج:

- سكمان.

أخذتها المفاجأة على حين غرة، وترقرق الدمع في مقلتيها، واصطبغ لون وجهها المبيض حَماراً قانياً، وارتعشت أطرافها تحت غطاء الفراش، وسرى دبيب نمل راح يزحف على ظهرها، وأحسّت فيه يعتلي كتفيها نازلاً على صدرها، وقبل أن يتكوم على جبليه هرشت جلدها بأظافرها، ورفست برجليها الغطاء تزيحه، فارتبكت الممرضة ورجعت من عند الباب، وقبل أن تمتد يدها لتضرب جرس الإنذار قرب السرير أمسكتها بهار وقالت متلعثمة:

- لا تفعلي أرجوك.

هدأ روع الممرضة، وتراخت أطراف يدها عن الرغبة في الضغط على جرس الإنذار وقالت :

- فقط اهدئي ولن أفعل شيئاً.

لهثت بهار بصدر يرتفع وينخفض سريعاً، وقالت الممرضة وهي تناولها كوب ماء:

- تحبيه؟.

هزت بهار رأسها بالإيجاب وقالت الممرضة:

- من طرف واحد؟

فهزت بهار رأسها بالنفي، وقالت متوسلة فيها:

- أرجوك لا تدخليه الآن . . .

تريثت قليلاً وأضافت:

- دعيني التقط أنفاسي.

جلست الممرضة على طرف السرير متهالكة وقالت تطمئنها:

- لن أدخله قبل أن تسمحي له.

خفضت رأسها وأضافت بحنان:

- وإذا رغبتِ. . . أصرفه عنك.

فقالت بهار معاتبة:

- هل تعرفين كم انتظرت هذا اللقاء!.

اكتفت الممرضة بابتسامة فيها حياء، وافتر ثغرها مفتوحاً، وأكملت بهار تقول حالمة:

- انتظرته. . كما لم تنتظره امرأة في هذا الكون.

فردت الممرضة مطربة لقولها:

- الله. . الله، وتقولين فيه كلاماً كالشعر.

فأطرقت بهار خجلة، ثم رفعت رأسها وأزاحت خصلة شعر نزلت على وجهها، الذي ارتسمت عليه أمارات حزن وقالت:

- أتمنى أن لا يؤثر الذي جرى لي على حبه لي.

ردت الممرضة نافية بسرعة:

- لا . . لا، هو يبدو متلهفاً لرؤيتك. . . أكثر منك.

وخزت الكلمات بهار مثل شكة حقنة العلاج في يد الممرضة وقالت:

- حقاً . . . أتمنى ذلك.

عادت بهار لأمنياتها، وتوشح وجهها بالحزن ثانية، وتمتمت يائسة:

- الآن ما عاد سقف أحلامي كبيراً. . . فقط أراه لمرة أخيرة ولتنطبق من بعدها السماء على الأرض. . .

قالت الممرضة تعترض لتحفّز أمل بهار في الحياة:

- لكن. . .

قاطعتها بهار جازمة بحزم:

- لن تستطيعي إقناعي أبداً. . .

فأصغت الممرضة بيأس، واضعة كف يدها على خدها، ورغبت في أن تسترسل بهار في الكلام لتهدأ أكثر، لأنها أحست تأخرها كثيراً على سكمان:

- ستبقى البكارة لعنة تطارد المرأة الكردية، مثلما تطارد المرأة العربية، حتى وان كان فعل إزالتها جاء جبراً عليها.

أحسّت الممرضة أن مجرى الحديث بدأ يميل باتجاه التشاؤم، وقد يؤدي لموجة تشنج أخرى تنتاب بهار، ولا تعرف إلى أية نتيجة ستفضي فقالت محاولة أن تكون متمهلة وهي تتكلم:

- اتركي الوساوس جانباً . . . اهدئي قليلاً، وحاولي أن تستقبليه بوجه مبتسم.

وزيادة في طمأنتها قالت :

- افهمي يا مجنونة. . . لو لم يحبك، لما جاء لزيارتك!.

ثم أردفت محذرة:

- لا تجعلي من نفسك كائناً ضعيفاً أمامه. . كوني قوية، ولا تخسري الشوط.

بدت الممرضة حكيمة وتلبست ثوب الأم، وأحست بهار أنها قريبة منها، أكثر من أي وقت مضى وهي تكمل قائلة:

- الحياة أشواط متعاقبة، وأنتِ اجتزت شوط الأسرْ ومعاناته . . . بقي عليك الآن أن تجتازي شوط الاحتفاظ بمن سيكون شريك حياتك.

وتركت الممرضة مريضتها بهار مبهورة بوعي فتاة تكبرها في العمر قليلاً، وكانت تبدو لها سابقاً فتاة بلهاء لا تعرف من الدنيا غير أن تعمل تحت إمرة طبيب، لا تجيد إلّا أن تقول له في كل أمر (أمركْ عمي).

(19)

قبل تلك اللحظة كانت كل أجسام الرجال تبدو لعيني بهار تقطر قيحاً، وتفوح نتانةً، وأي جزء يظهر لها من أجسادهم تراه مثل جلد الحرباء تتلون حراشفه، رغم خشونتها، بلون المناسبة التي يقدمون على المرأة لأجلها.

لكنها في لحظتها إذ دخل عليها سكمان ببدلته العسكرية المرقّطة، ورغم أنه كان أشعث الشعر، وبدا عليه أن لا وقت لديه ليهندم شكله قبل أن يأتي، فهو كان في السادسة والعشرين من عمره، حليق اللحية والشارب، وذا بنية قوية يوم عرفته، ويمارس لعبة رفع الأثقال كهواية ينمّي فيها عضلاته، إلّا أنه بدا اليوم في شكله هزيلاً، يكاد بنطلون بدلته العسكرية ينزلق من وسطه، لولا نطاق الجيش الذي يشدّه، وترتسم على عينيه غشاوة حزن تمتلئ غيظاً، وأهمل حلق لحيته، وتدلّى شاربيه على شفته العليا، ليختفي جزء من الشفة السفلى تحت سوادهما الحالك، وبدت أطراف يديه ضامرة خشنة، ولاح لبهار شيءٌ من طين الأرض تيبس وبقي عالقا على جانب بدلته من غير أن يدري، لكن بهار انتابها إحساس أن الربيع أطلّ دفعة واحدة من باب غرفتها، مع نسمة هواء حزيران التي جاءت عقب دخول سكمان عليها، وجعلها غثيانها الدائم مما حصل لها، ترى عبق عرق بدلة سكمان كأنه رائحة مسك، هبت عليها من أردان ثوب أمها، فانتابها الدفء وأحسّت لأول مرة منذ أسرها بالطمأنينة والأمان، ولولا حياؤها من قادم انتظرته طويلاً لغفت وهو قربها!.

كانت اللحظات التي فصلت بين دخول سكمان على بهار، وبين بداية الحديث بينهما ثقيلة، وبدت الأجواء مكهربة، تخنق النفس، وترمي الأثقال على كاهلها كأنّها محكومة بالأعمال الشاقة، وثمة شرطي فوق رأسها يطلب منها عملاً يبدو عبثياً كلّما أنهت جزءاً منه.

كانت بهار كلّما فتحت عينيها على سعتهما لتستوعب وجود سكمان، كلما زادت غزارة الدمع تحت جفنيها، وأضحت مثل المياه وراء سد بحيرة متهالك، وأيقنت أن اقتراب سكمان منها أمطار رعدية على ذاك السد، وكلما اقترب أكثر كلما زاد احتمال انهيار جفنيها عن لملمة كثافة دمعها وسقوط آخر دفاعات ضعفها أمامه. وكان هو ذكياً بما يكفي فيما تخبئه نفس بهار، فتوقف عند حافة السرير وأطرق أمامها صامتاً دون أن يوجه سهام نظرات شوقه لوجهها.

كان طيلة فترة سنوات دراستها الجامعية يكتفي بزيارتها كل يوم أربعاء، تيمناً في العيد الأيزيدي، الذي يصادف أول أربعاء من كل سنة في شهر نيسان، وأربعاء أسبوعه كانت عيديهما معاً، وطيف بعضهما يبقى طرياً في فكريهما لباقي الأيام التي تليه.

أحسّ بها تنشج باكية ، وتأكد أنّ السدود انهارت، وفاضت مياهها تجرف صفحة خديها، فقال ناعساً:

- بهار. . .

ردت بذات الوتيرة، وصوت نحيبها ينغّم الكلمة:

- سكمان.

دار حول السرير واحتضنها، تاركاً لذراعيها تجرانه نحوها، ودموع عينيها تبلل رقبته التي دفنت فيها وجهها، وتسرّبت حرارة أنفاسها تحت قميصه، تلسع الكتف الذي ارتمت عليه. حاول أن يتركها تعصر رقبته دون مقاومة منه، كما يحلو لها، وانشغل هو يلملم شتات مشاعره ريثما تهدأ دقات قلبه.

أزاحها برفق عن كتفه، فأفلتت ذراعيها عنه، وأبقت رأسها عند رمانة كتفه، تعبئ ما استطاعت من عبق رائحته، كأنها تريد منه خزيناً لأيام مستقبل تخاف أن تضيِّعه فيه.

امتدّت يده ورفع حنكها، وقال مركزاً نظره على عينيها المحمرتين:

- أنت ملتاعة على ما جرى معك . . معك حق، لكنْ أنا اعتبرك محظوظة، إذ لم تعيشي اللوعة كلها !. . نحن الذين نجونا قبل أن نحصي أحبتنا ونعيش لوعة فقدانهم، كنا نعيش لوعة مدينة كاملة اسمها سنجار . . كانت تُنتهك أمام أعيننا، ولا نستطيع فعل شيء لها. .

هدأ روعها وأصغت حانية له:

- لو تفتحين دواخل نفسي اليوم ، لرأيت فيها مرجل حقد يغلي!. . كيف أصور غضبي على من أسر أهلي واغتصب نساء شعبي. .

توقف ليسترد أنفاسه وكزّ على أسنانه معلناً:

- الحقد ينبت داخلي مثل جذور أشجار البلوط بوادي لالش. . أسمعتي يوماً بيد قطعت شجرة بلوط في وادي لالش(38) ؟!. . أنا. . لو اقتلهم ألف مرة لا أشفي غليل حقدي، ذاك الذي ينبت داخلي مثل أشجار البلوط الهرمة داخل وادي لالش!. . وما أتيت لأضيع الوقت في ندب حظي . . . اسمعي. . .

بدا ساهماً، وهو يسرد تمنياته وأحلام يقظته عليها:

- هناك عند خطوط التماس معهم، أتمنى للدقيقة أن تكون دهراً لأقنص أكثر عدد منهم. . .

كان يتكلم جاحظ العينين، وبين لحظة وأخرى يزوي ما بين حاجبيه، ويغمض إحدى عينيه ليقتنص هدفاً خيل له:

- لو قيض لي لما تمنيت أن تنتهي حربي معهم. . . !.

ابتسم ساخراً مما سيقوله، وأشار بيده أمام وجهها، وراح يتأمل واصفاً:

- أنا الآن قناص، وربما كان أبي يعلم ما سأكون عليه في هذه المحنة. . ولهذا أسماني سكمان. . آه لو تعلمين ما أمنيتي!.

فرنت تنظر له، وفيها رغبة في أن تعرف عن أمنية له، تريد أن يبوح فيها دون أن تسأله:

- أتمنى أن يجتمعوا لي في واد كبير . . كبير. . وأنا أكون عند رابية تشرف على الوادي، ولا أريد شيئاً قربي. . لا أريد الأكل ولا الشرب!.. فقط أن يكون قربي كوم كبير من عتاد القناص. . يا رب كم سأتلذذ عندها بقتلهم!.

كان كلّما أسهب سكمان بتوصيف روحه الانتقامية، كلّما ازدادت بهار يقيناً من أن الظرف الذي خضع له الناجون، ودرجة الذل والهوان التي كانوا تحت وطأتها، لم تكن بأقل قسوة، ولا أهون ضيماً، مما وقع على كل الأسيرات جبراً.

صمت قليلاً ، ثم قال:

- المهم. . كما قلت أنا لم آت لأندب حظي. . أنا جئتك اليوم لأزف لكِ خبرين. .

فقالت فرحة، وفي داخلها تتمنى من ضربات قلبها أن تهدأ قليلاً، لتسمع ما يقوله سكمان دون أن ينغصها وجيب الضربات وطبلها من أن تسمعه جيداً:

- أرجوك سكمان . . قل أن أبي حي يرزق. . . صح!.

ابتسم سكمان وقال دفعة واحدة دون توقف:

- أشعرتنا منظمة شؤون اللاجئين أن والدك حي يرزق، وهو حالياً في السويد.

فردت بهار بفم مفغور متعجبة:

- في السويد!. . كيف وصل السويد ؟.

تأسّف سكمان وتمتم ناقماً:

- بعد أن كانت سنجار خيمتنا، أصبحنا اليوم شتاتاً في الأرض.

عتَّقت بهار دعوى سكمان بفكرها، وقارنت استهجانه من محنتها في بداية حديثه أنها مع قوله أن والدها حي يرزق، واستنتجت أنه يريد أن يزقها خبر آخر غير الذي أسرّ لها به فرجته متشككة:

- بالله عليك سكمان . . قل الحق!.

فقال سكمان مأخوذاً بالمفاجأة:

- ماذا؟.

فرجتْه خائفة، متوسلة:

- أحقاً أبي حي يرزق!. . . أم أن هناك شيئاً أخر جرى له؟.

انتبه لشكوكها فقال قاسماً بأغلظ الأيمان:

- والله وبالله وتالله، هو حي يرزق، ويعيش حالياً في السويد.

وأضاف عاتباً عليها :

- معقولة بهار. . بعد كل هذه السنين وتكذبيني!.

فقالت يائسة:

- بودي أن أصدقك، لكن ما رأيته يجعلني أشك، وسط هذا الكم الهائل من الموت، أجد والدي يعيش لهذه اللحظة. . . أيعقل هذا!

قهقه سكمان وأزف لها :

-إذن اسمعي الثانية. .

قاطعته خائفة:

- مهلاً . . ماذا بعد؟.

قال:

- سـأطلب يدك منه. .

عدّته يمازحها وقالت تجاريه:

- سيراك بطلاً مغواراً، ولن يرفض طلبك.

رد ببساطة:

- لا بطولة فيما أطلب . . . أتمنى أن يمنحني بركته، ولا يضطرني إلى أن أعيد مجد جدي وجده.

قالت واجمة وغشاها حزن :

- لا تسخر أرجوك، أنا الآن فتاة معطوبة بحكم المجتمع، وهو مضطر لان يوافق.

قطب جبينه وقال بغيظ:

- اسمعي . . اتركي سخافة خرافة الشرف الشرقي وافهمي شيئاً واحداً. .

كانت إلى تلك اللحظة تتخيل سكمان لازال يسخر منها، لكنها الآن تفاعلت مع الحديث، وأنصتت باهتمام له، فيما كان يكمل قائلاً:

- نحن أقلية تعرضت لإبادة منهجية، والواجب اليوم يدعونا إلى أن نحافظ على نوعنا. . شمسنا لابد لها من أن تشرق ثانية.

(20)

قضت بهار وفيفيان شهراً كاملاً في سجن بادوش، واستطاعتا أن تتخفيا ولا تواجهان عيون الحراس المتلصصة نهاراً، فمرة وراء أكتاف المحتجزات، وأخرى تدعيان المرض حال أن يسمعن بأبواب السجن التي تفضي على الزنزانات تُفتح، يصاحبها أصوات هرج وجلبة أقدام كثيرة، وثالثة يذهبن لدورات المياه ويتأخرن فيها طويلاً، ومع موجات الأسيرات الصغيرات اللاتي كن يفدن أفواجاً للسجن، استطاعت بهار وفيفيان أن تفلتا من الاغتصاب، لكنهن لم يفلتن من تجار النخاسة، الذين كانوا يأتون للسجن لاختيار بعضهن لقاء ثمن يدفع لمن بيده الأمر، وبعضهن يوهبن دون ثمن.

كانت سطوة القوة والمال في التنظيم تلعب دوراً كبيراً فيمن يختارون، والمحتجزات كن حرثاً مباحاً دون ثمن لمن يسموهم المجاهدين المهاجرين، وكان هؤلاء أصحاب كنى ولا يعرف لهم اسم ثلاثي كباقي البشر، فأسماؤهم تكون أما أبا فلان الأفغاني، أو الشيشاني، أو هي اسم علم مضاف له الانتساب الجغرافي، أو هم يكتفون بالكنية زيادة في التمويه على من يريد أن يكشف شخصياتهم التي كانوا يعرفون بها سابقاً، وكان أمر أسمائهم وكناهم يثير بهار أكثر مما يثير فيفيان، وكم أجَلّتْ بهار في داخلها شعب سلطنة عمان واعتدالهم، فهي طيلة أسرها لم يصادفها مسلحاً واحداً يدل اسمه أو كنيته على انتمائه لشعب هذه السلطنة الصغيرة!، وكانت بهار ببحثها وتدقيقها عن هذه الوقائع الصغيرة ومدلولاتها كأنها إعلامية، تجمع مادة لروبرتاج صحفي، وكانت تبدو لفيفيان نشطة بعملها، مجدة بسؤال هذه، والاستفسار من تلك.

سألتها فيفيان ذات مساء عن سبب بحثها، فقالت باعتداد في النفس، وخالتها كأنها تنجز عملاً مقدساً:

- نحن شهود عيان على فعلتهم، وسيحتاجنا التاريخ لنشهد عليهم ذات يوم.

وزّع العشاء ليلاً على عجالة هذه المرة، وبدا اهتمام الحراس بمن سيقدمون أكثر وضوحاً من المرات السابقة، وتناهى لغط بين المحتجزات، أن تجار النخاسة سيكونون خليطاً من التجار المحليين وتجاراً من الرقة، أتوا خصيصاً للمزايدة فيما بينهم على رهط كبير منهن، وأخذت الظنون معظمهن أن الطريق بات أكثر ظلمة، وصغيرات السن خفن كثيراً، وأخذت الندامة كثيراً منهن وخاصة ممن تميزن بينهن بتحليل الأحداث، وقيادة الأميات والصغيرات داخل السجن، وراودت شريحة المتعلمات هذه أسفاً وحرقة، على أجساد بنات شعبهن سيسري مسافراً عليها بساط أجساد الأجانب السحري، ليستكشف جغرافية الأجساد وينتهك حرمات أسوارها داخل حدود بلدهن، وأمام أعين من يفترض أن يكون حامياً لهن ومدافعاً عن حياضهن!. ومع تراكم الدقائق التي تلت العشاء تحول التثقيف علنياً، بعد أن كان همساً لرفض البيع وممانعة الخروج من أسوار السجن، وغدت لحظة النقمة على الحرّاس في أوجها، وازداد الحماس بين الطالبات الجامعيات، وأصبح في داخل كل واحدة منهن يسكن ألف ثائر ومضحٍّ، واشتعل نبراس الثورات العربية في روشي، وانسلت إلى حمامات السجن مع جلبة الأقدام وهي تفتح بوابات السجن للقادمين، وأحسّت أنها ستخطفها مخالب خفافيش الليل كما أسمت القادمين في سرها، كان الإحساس ينتابها بخوار قواها، وبأنها ستكون بعد دقائق كدودة، وستسحقها الأقدام بعد قليل إن فتر عزمها عما فكرت فيه.

صرخ حارس فيمن تجمهر منهن داخل باحة السجن آمراً:

- بسرعة إلى الغرف . . هيا.

كان يجأر بصوته ويلهث شخيراً من منخريه، مثل خنزير بري متعب عند بركة ماء، وراح السوط في يده يلعب متقوساً على ظهر كل واحدة قريبة من يده الممدودة. اختلط ركض المحتجزات وهمهمتهن بامتعاض القادمين وأحلامهم برؤية حور العين الأرضيات، يجلسن بانتظار إشارة منهم لتنفيذها، كمارد مصباح علاء الدين السحري.

كان الزهو يمتلك كل القادمين وفيهم شعورٌ أنهم أسياد الدنيا، وأن كل الأحياء التي تحبوا على الأرض ما خُلِقَتْ إلّا لتكون طوع أمرهم، ورهن إشارتهم!، وبعضهم شبك يديه خلف ظهره تبرماً، وآخر خالف أطراف رجليه واتكأ جانباً، يسند خاصرته بيد والأخرى يهزها استهزاءً من رداءة التنظيم وسوء الإدارة في السجن، وبعضهم عزاها لضعف شراسة الحراس، التي يراها من وجهة نظره، واجبة لضبط الأمور، والسيطرة على أعداد النساء الغفيرة، وكان فيهم من وضع يده على أنفه، لاتقاء حشرات راحت تحوم على الوجوه تحت مصابيح الإنارة، التي كانت تجعل ظلام الليل الدامس للسجن كأنه وقت الظهيرة.

علا صراخ روشي من حمامات سجن بادوش، ممزوجاً بعويل غريق خرج لسطح الماء أخر مرة قبل أن يغط عميقاً دون رجعة، وتراقص لهيب النار أكثر وهجاً من مصابيح باحة السجن، وخرجت كتلة مشتعلة تسبقها رائحة شواء لحم مخلوطة بدخان ملابس احترقت، واختلط سوادها بشحم الجسم، ثم راح يتطاير جانباً بشرر كأنه العاب نارية، تتطاير من يد طفل يلهو بها.

تكوّمت الجثة داخل الباحة ، وانتثر قليل من لحمها متفسخاً عن عظامه، وبعض القطع مازالت مشتعلة، وكلما رفست رجليها طلباً للنجاة كلما أطْفأ جزء من النار المشتعلة في جنبها، وتبخّرت منه حزمة دخان بيضاء تفوح رائحة تزكم الأنوف.

كان الهلع يخيم على المحتجزات وهن يرقبن آخر الحركات لجسد روشي، قبل أن يتكور الجسم على بعضه، وتتصلب الأطراف مسوّدة، وبدت عظام الفكين بارزة في وجه الجثة، وبانت الأسنان تلمع بيضاء وسط السواد الذي يغطي الوجه، وانتفخت بطنها وتشقق جلدها من عقدة مشيمتها، وتمازجت الرؤية عند بعضهن مع ألسنة لهب ودخان مازال يخرج بخيوطه البيضاء من جثتها، وتراءت لهن الأمعاء رمادية تتلوى بفعل الحرارة، كأفعى تبحث عن جحر لها وسط رمال صحراء تكوي بطنها، كأن جنيناً يرفس برجليه الصغيرتين تحت جلد البطن، وكلما رفس مرة ازداد الشق اتساعاً، وكادت البطن تنفجر لتندلق أحشاؤها خارجاً.

أصبح الجو خانقاً داخل السجن، وخيم الوجوم على المحتجزات، وغابت البسمة عن الشفاه، وبدا الترقب حذراً لما ستؤول له صرامة وجه آمر السجن وحراسه، بعد أن انكفأ القادمون على أعقابهم، ورجعوا بخفي حنين كما أتوا، لكن بنظرات استهزاء أكالوها للآمر، وقد ترجمها الأخير نظرات وعيد بالويل والثبور للمحتجزات، راح يكيلها لهن مع سوط يهزه كمهماز الفارس أمامهن، ضارباً فيه صفحة ساقه مثل خيال يريد أن يختبر جموح فرسه، قبل أن يمتطي صهوتها.

(21)

أُغلقت حمامات السجن وجرى تفتيش الزنزانات بشكل دقيق، وكانت حملة التفتيش فرصة للحراس ليشبعوا رغباتهم المكبوتة، وانحرافهم الجنسي، وبدا الأمر لهم نوعاً من الترفيه عن مكنونات طبيعية تراود كل رجل، وقطعاً هم يعتبرون مسكهم لمناطق أجسامنا الحسّاسة، نوعاً من الدغدغة التي تسبق المعاشرة، وهي وفق وجهة نظرهم إمتاع سنستجيب له، كانوا فوضويين ، شرسين، ووجوههم متعبة من طول الحرمان، وترهل الخدر يجعل ضعفهم واضحاً أمام اللحم المقدّد لجسم الأنثى، وكنا أمامهم مثل النعاج داخل أسلاك متشابكة وفي نفس كل واحد منهم يسكن ذئب ينتظر فرصة لينقض وينهش وليمته، فيبدون وديعين بتلك الهيئة، لكن أياديهم تحمل همجية خشونة الصحراء وجفافها.

صفّونا قبالة جدران باحة السجن، وباشروا حجة التفتيش عن الولاعات وعيدان الثقاب طوال تلك الليلة، وكانت ضحية التفتيش الست هناري، بعد أن أمسكوا بين طيّات ثيابها علبة تبغ وأعواد ثقاب، وكان عقابها مضاعفاً كما صرح آمر السجن، فهي أولاً امرأة تدخن تبغاً حُرّمَ على الرجال أصلاً، ثم عدّت محرضة روشي لتحرق نفسها .

أوقفوا هناري خارج صفوفنا، وبعد انتهاء حملة التفتيش جعلوها تبرك على ركبتيها، وسط باحة السجن، وحَمَّلَتْها السياط جرم التدخين، وجرم تحريض الأسيرات على العصيان، وأحداث الفتنة داخل السجن كما ادعوا.

كانت السياط تعزف لحنها على ظهر هناري وسط نشيج المحتجزات، ولحظتها رأيت كيف كانت السياط تتلوى كأنها تقع على مادة من فلين، وليس ما تجلده جلد امرأة!، فقد قرأت النظرة في عينيها، وشاركتني الإحساس بهار،كما أخبرتني بعد ذلك، أن عيني هناري كانت ترسل رسالة إصرار وتحد ضد جلاديها، وفيهما اعتراف أنها تتباهى أن تكون محرضة الفتنة داخل السجن!. كانت لا تشعر بالذنب وأبقت رأسها مرفوعاً تحدق فينا، وتحاول أن تُعلِمُنا بشد رأسها بين الفينة والأخرى، لترفع خصلات شعرها التي كانت تسقط على جبينها، وكأن أمر ما يجري خلف ظهرها لا يعنيها بشيء!.

عوقبت نزيلات السجن بغلق أبواب الزنزانات عليهن، ولم يعد الخروج للباحة متاحاً لنا إلّا ثلاث مرات في اليوم، وتكون كل مرة قبيل توزيع الأكل بنصف ساعة، وتستمر لنصف ساعة بعد توزيع الوجبة. وزارنا أكثر من شيخ ملتح بعد حادثة إحراق روشي لنفسها، وفي كل مرة كان القادم يخطب فينا أن الانتحار محرم ويعتبر مرتكبه كافراً، وارتسمت الدهشة بعيون المحتجزات على حديث كل شيخ كان يعيد تلك المعلومة على مسامعنا، والتي عارضت دعواهم في سبينا كوننا كافرات ونعتبر سقط متاع وغنائم حرب!.

واعتباراً من لحظة جلد هناري، منحناها حصانة بسلوكها وأُعطيناها تفويضاً كي تكون حكماً بين المتخاصمات، ويكون صوتها مسموعاً عند الجميع، ولا اعتراض على أمر تبت فيه، من غير أن نتفق على منحها تلك الامتيازات، فلو فكرت إحدى المحتجزات أن تحاول الهروب من السجن كانت هواجسها الداخلية تدفعها، دون تخطيط، إلى أن تستمع لرأي الست هناري في أمر عواقب ومحاسن خطوتها تلك!، ومباركة هناري لها كانت تعني الفوز برضاها ومحبة بقية المحتجزات، أما تلك التي تسألها النصح وتستهجن هناري ما فكرت المحتجزة فيه، فإنها لن تجني من الأخريات غير النبذ والإهمال، وقد تتطوع بعضهن وتدّعي كلاماً ترى أن هناري هكذا صاغته لطالبة النصح، وتداول الادعاء بين المحتجزات يجعله رأياً قد قيل فعلاً من فم هناري، وعلينا جميعاً الأخذ به. وكنت كلما تتبعت مثل هذا السلوك ووجدت في نهاية المطاف أن خيوط حياكته لا تنتمي لشخصية هناري، تذكرت نشأة الطوطم البدائي وتقديسه عند الإنسان!.

الغريب في الأمر أن زوار الليل انقطعوا بعد أن أحرقت روشي نفسها، لكن استهتار آمر السجن وحراسه بإنسانيتنا، كان يجري على قدم وساق، وما انقطع ليلة واحدة، وخضعت للتجربة بهار وافْلتُّ منها أنا، وكانت من تعيش تجربة الاستدعاء لإدارة السجن وقضاء ليلة الاغتصاب فيها تستأمن الاستدعاء مرة أخرى، مما يجعلني استنتج أن اغتصاب أي بنت تُستدعى لا يتم من قبل آمر السجن وحده، ولا من حارس أو حارسين من بعده فقط، بل ستنتهك أنوثتها تلك الليلة من كل الحراس مجتمعين أو فرادا !. والمُحيِّر في الأمر أن كل مَنْ خضعت للتجربة كانت تلتزم الصمت، ولا تحكي عما حصل لها، فيبقى الأمر طي كتمان نفسها، ويخيم الوجوم المريب على من لم تقاسِ المحنة، ويبقى التوجّس مخيماً عليها، وخوف المجهول يفرش أجنحة سوداء على مخيلتها.

فارقني النوم ليلاً وصادقت مروحة الهواء في سقف الزنزانة، وجرّبت مئات الطرق لقتل الوقت، وتابعت ريشة المروحة ساعات طويلة، وكانت أحلى الدقائق تلك التي أقضيها أرقب القمر يمر عالياً من عند نافذة الزنزانة، يذكرني بصخب الحياة خارجاً، وأضحى سطحه منتجعاً لأحلام يقظتي، ودون تخطيط وجدت لي بيتاً مشيداً على سطحه، ولأنني بنت أنتمي للأرض، وكنت لاثنين وعشرين عاماً أعيش مباهج هذه الأرض ومسرّاتها ، فان أحلامي لم تنس أن تُوجِدَ لي قرب البيت مخزناً مبرداً، ولا أعرف ممن يتزود بطاقته الكهربائية!، لكنه مليء بالمعلبات الجافة وكثير من المؤن الطرية، وكنت إذا دخلته ، تتعب قدماي، ولا تستطيع أن تنتهي لآخره، فتتركه أحلامي، واخرج منه لأهيم على وجهي فوق سطح القمر ثانية.

عاد زوار الليل بعد أكثر من ثلاثة أسابيع، ولم يعد مكوثهم مع إدارة السجن يطول، مثل المرات السابقة، فهم يدخلون قليلاً عند آمر السجن، وفيها قد يضيفهم على مشروب ينشط خيالهم الجنسي في اختيار محتجزة يرغب فيها خيالهم تلك اللحظة، وكثيراً ما كانوا يأتون وفي أياديهم توصية لآمر السجن من قيادي في التنظيم، يختار الشاري بغيته من بيننا، ونحن جلوساً مصطفّات عند جدران الزنزانة الأربعة، ويُتركْ وسط الزنزانة فارغاً عند مجيئهم، ليتسنى لمن يأتي منهم أن يتجول في الحظيرة مسترخياً دون مضايقة، ويختار الشاة بحسب نفوذه، أو إمضاء الشخص المُرسِلْ لورقة التوصية، أو على قدر ما يدفعه، وكان البيع يتم بين الشاري وشخص ترسله دار الحسبة، ويرافقهما آمر السجن، فيما يبقى الحرّاس عند باب الزنزانة يحملون السلاسل لتقييد من يقع عليهن الاختيار والمفاضلة.

حمدت الرب وشكرته كثيراً بعد أن سَلَمتْ في سجن بادوش من اثنتين، الأولى أني سلمت من الاستدعاء لإدارة السجن ليلاً، والثانية من موعد بيعي وبهار في سوق نخاسة بادوش، و لم يحصل حتى وقت شطر المحتجزات لنصفين، نصف بقي في سجن بادوش والنصف الآخر نقل لقضاء (تلّعفر)(39) ، وأنا وبهار كنا مع القسم الذي نقل ليُحجز في مدارس تلّعفر.

(22)

قَطّرَ الدم من رأس آمال المعلق في السقف وتَنَقْطَ فوق وجه بهار، وسال على جانبي انفها ليلتقي جدوليه عند شاربها، وسرى جدوله ببطءٍ على شفتيها، فأمتدّ نهره الصغير على صدرها، وتخثّر سواده القاني ليُحَمِرَ شفتيها، فنهض حارس من بين فخذيها يزرر سرواله على عجالة، وأرادت أن تحني ظهرها وتستقيم جالسة على السرير، لكن ركلة قدم الحارس الآخر أرجعتها نائمة على ظهرها، ليبرك من ركلها بين فخذيها، والتوى فحل أفعاه يدغدغ سرّتها، لكن الحارس أرجع الرأس لينزوي داخلاً للعمق بين الفخذين، وخرّ الدم ثانية على شفتيها، فابتسم الحارس وراح يلعق الشفتين بتلذذ، مكشراً عن ابتسامة متوحشة اختلط حمار الدم مع صفار أسنانه.

تثاءب الوهن في فكر بهار وتدلّى رأس آمال المعلق في السطح يستصرخها شدّ شعره، وعيناه تبحلق في أرداف الحارس، تنخفض وترتفع بين فخذيها، وارتفعت اذرعها تطلب نجدة الرأس العاجز عن مساعدة حاله وفَكُ أسر جدائله في السقف، فافترّت شفتاه وانتفخت أوداجه ونزّت أذنيه وسال لعابه دماً أحمر قانياً، تلطخ فيه ظهر الحارس الذي لازال ينوء فوقها، وأضحى الدم مياه تتشرب منها شعيرات نبتت على صدره، وراحت تتلوى كأنها طحالب لزجة غطت وجهها، وتسربت خيوطها الحمراء لفمها، تلتفّ لتتكوم فيه وتخنق شهيقها.

فزّت من نومها صارخة كالمجنونة:

- لا. . . لا. .

احتوتها فيفيان بين ذراعيها وسألتها مفزوعة هي الأخرى:

- أما زال الكابوس يراودك؟. . . لا عليك . . فأنا مثلك، اهدئي عزيزتي. . . صدقيني ليس من السهل نسيان ما يجري لنا.

مدّت بهار أذرعها كالمستغيثة وقالت:

- ماء. . أعطيني ماء.

تحرك لسانها يبحث عن كومة خيوط طحالب الدم داخل فمها، وتجشأت قبل أن يندلق ما في بطنها دفعة واحدة ليغطي مكان الحُرّاس الذين تناوبوا على ليلتها تلك بين فخذيها.

صرخت بهار ويدها تفتح أزرار ثوبها من الصدر:

- الطحالب تخنقني . . . أعطيني الماء.

ناولتها محتجزة كوب ماء، وقالت فيفيان تواسيها:

- الطحالب تراودك في منامك!. . ماذا تقولين عني وكابوسي يراودني وأنا في كامل وعيي؟.

أمهلتها تنهي شرب الماء، ولفّت لها بخرقة ما اندلق بين رجليها، وأكملت دون أن تسمع ردها:

- ما رأيك وأنا أرى قطع اللحم المطبوخ كأنها قُطِعَتْ للتو من جسم آمال؟!.

زوت مابين عينيها وأضافت متحسرة:

- يمر علي رعب كابوسي ويفزعني، وفي اليوم التالي أقول سأنساه، فأشم اللحم وقت غداء حُرّاس السجن، وأكاد لا أطيق الدنيا من بعدها.. آه. . أنا مثلك عزيزتي، لكن المكابرة تجعلني صامتة أكثر منك.

ثم احتضنتها وراحت تولول لها، كأنها أم تناغي طفلها حتى ينام، فتهز رجليها برتابة مثل المهد.

(23)

نُقلتُ وفيفيان صباحاً في عربة باص مدني تبدو حديثة، ومقاعدها تريح نفس من يجلس عليها، وتمنحه الحرية الكافية في أن يراقب جهة الطريق القريبة من الجانب الذي يكون فيه مقعده، وأصابني الانشراح لحظة نودي على اسمي واسم فيفيان ضمن المنقولات، وراودني شعور بفرح غامر أني سأغادر السجن، ولم أفكر بالذي سينتظرني في مستقري الثاني، بقدر ما انصبّ تفكيري أني سأمنح فرصة في أن أُغير صور الأشياء، التي تعودت رؤيتها في السجن، سأغيرها طوال مسافة الطريق لتسفيري منه إلى المكان الثاني!.

ولأني بي حاجة إلى التغيير في المشاهد التي تعوّدت عليها، قررت أن ألتهم الصور التي ستتلى على الطريق أمام عيني، مثل أكلة اشتهيتها وصنعتها يدا والدتي وأنا صغيرة، وأبعدت مناظر الدم، وتخيلات الاغتصاب، وتَناوِب الحرّاس على افتراس جسدي في ليلة الاستدعاء إلى إدارة السجن، كان الحرّاس مثل لاعبي الجري بالتتابع، ما أن ينهي أحدهم الشوط حتى يضرب كفّ من ينتظره ليسلمه العصا الرياضية عند نهاية الخط، ليستريح هو ويكمل المضروب دورته قبل أن يضرب ثالثاً يكون عند خط بدايته أولاً، وبساعات أخرى يشتطّ بي الفكر و كنت أتخيل تناوب الحرّاس على اغتصابي تلك الليلة مثل سرب نسور يحط على جيفة ، يغطيها نسرٌ واحدٌ بجناحيه ليمنع غيره أن يحطَّ عليها، حتى ينهش قضمة كبيرة بمنقاره، ويطير ليحطّ غيره ويفرد جناحيه ليأخذ قضمته كما فعل الأول، وكانت من تخضع للاغتصاب تعافها نفوس الحرّاس ولا ترجع لاغتصابها ثانية، فتعيش بقية أيامها في السجن مطمئنة منهم، لكنها تعيش مكسورة الخاطر، تحسّ المهانة والذل كلما وقعت عيناها على أحد الحرّاس، وراودتها ذكرى حركة أو فعل سلكه معها أثناء اغتصابها.

كانت رائحة ملابسهم ولزوجة تعرّق أجسادهم مجتمعة أحسّ فيها تهب على أنفاسي كلما رأيت أحدهم بعد تلك الليلة، فتمنيت أن اخرج للجحيم على أن أبقى قربهم، وكان يوم نقلي لتلّعفر مثل مناسبة سعيدة أتهيأ لها طوال أيام في صغري، واعتبرتُ توديع بوابة السجن توديعاً لآخر بوابة في آلامي، ووطّنت نفسي طوال الوقت الذي استمرّ قرابة الساعة في الطريق بين السجن وقضاء تلّعفر على التمتع بذلك الإحساس، لكن الصفعات انهالت على خدي توقظني من حلم الخلاص، عند قطعة المرور التي كتب عليها (بلدية قضاء تلّعفر ترحب بكم).

كان صمت الموت يخيم ثقيلاً على شوارع المدينة، وبدت كأنها مدينة أشباح، اخترقت عربة الباص شارعها الرئيسي وأصبحت أحياء المدينة على يميننا، وأغْلقتْ المحتجزاتُ نوافذ الباص واحدة تلو أخرى، بعد أن امتلأ داخله برائحة كريهة، وكلّما تقدمنا في العمق ازدادت الرائحة نتانة، وراجعت بعض المحتجزات معلوماتهن عن معامل الكبريت، ومعامل الأسمدة العضوية، إن كان إحداها افتتحت في القضاء وتسببت بتلك الرائحة!، لكن جثة طفل مرمية على الرصيف وثمة كلبان ينهشان ساقيه، استرعت انتباهنا وأجَّلتْ النقاش في مصدر الرائحة، ولمحنا خطفاً في زاوية شارع فرعي أجساد ثلاث نساء مكومة على بعضها، وإحدى الجثث كانت مبقورة البطن، وكومة أحشائها الداخلية تندلق عند ركبتيها، واعترضت الباص جثة رجل مرمية على الشارع، وفي رجليها حبل ربطتا فيه، وكانت تلك المشاهد كافية لان تلجم أفواهنا، ولم نعد نتساءل عن مصدر نتانة الهواء، لكن بشاعة الموت كانت في أشدها عند تقاطع شارع (قبلان تبه)(40) المؤدي لجامع بلال الحبشي، فقد تكومت الجثث مرمية على جانبيه، وقسم منها في وسطه، فتهامست بعض المحتجزات بأطراف حديث سمعت منه ثلاث كلمات(هؤلاء الشيعة التركمان)، واسْتَعلَمتْ بعض الرؤوس عن معناها فبعثت الألسن جواباً، مفاده أن مدينة تلّعفر تقطنها القومية التركمانية، ونصفهم من الطائفة الشيعية، التي يعدّها عناصر التنظيم طائفة مرتدة عن الدين، ويجب قتلها، ففهمت عندها أنهم من نفس الطائفة التي تنتمي لها آمال، ومصير أهل الطائفة هذه في مدينة تلّعفر أنهم قتلوا مثلها، فصحوت فزعة من حقيقة أني تمنيت استبدال سوءة سجن بادوش بسوءة أمَرُ منها، واشدّ وطأة على النفس!.

بعد أن تريث سائق الباص قليلاً عند تقاطع شارع قبلان تبه، ربما لخطة أعدت مسبقاً لتثبيط هممنا التي شحنتنا فيها ثورة الرفض عند روشي، أو هو مثلنا جميعاً مصعوقاً من مشاهد القتل الجماعي في شوارع المدينة، لكن احتمال توقفه لخطة أعدّت مسبقاً كان أكثر ترجيحاً عندي من كونه مصعوقاً مثلنا من هول المفاجأة، لأنه كان يعرف في أي درب يقود عربته، وهذا يعني أنه سلك الدرب غير مرة وتمرّس عليه، وهو قطعاً شاهد سابقاً ما صُعِقنا بسببه!. المهم أن السائق أسرع في الباص بعد أن اجتاز التقاطع، وراحت تغيب عن أعيننا مآذن جامع بلال الحبشي شيئاً فشيئا، حتى اختفت نهائياً خلف بيوت حي 7 نيسان السكني.

أبطأ الباص من سرعته، وبانت سحابة بيضاء ينفثها المحرك من ورائه، حتى استكان واقفاً عند باب إعدادية تلّعفر للبنين.

كانت المدرسة تبدو بنقاط التفتيش التي تُحيطْ سياجها الخارجي، كأنها قلعة حصينة، ووجوه الحرّاس وراء المتاريس سمراء صارمة، والشفاه متبرمة، وأياديهم خشنة، مثل أيادي فلاحين طال استخدامها في مسك مجرفة الحرث، وهم لا يعرفون أقرب المقربين لهم أثناء التفتيش، وتدقيق هويات من يدخل للمدرسة، ومن يخرج منها، وكأنهم يحرسون مجرمين عتاة، لكن تلك الصفات تتغير حال أن تقع نظراتهم على الجميلات من المحتجزات، ويبدو التودد واضحاً على محياهم، وتنفتح المناخير في أنوفهم، فتحس خواراً ولهاثاً عند دورانهم على من ينفردون بها منا، مثل دوران الثور على بقرة تطلب الفحل، ولأن المحتجزة يؤخذ على أمرها، ولا تعرف ماذا تفعل، غير أن تنكمش على بعضها عند أقرب حائط لها ، فهي تبدو لهم عندها مثل بقرة استكانت، راضية لما سيفعله الفحل فيها!.

أمّا الحياة داخل إعدادية تلّعفر للبنين فكانت صباحاً بعد الفطور بحوالي الساعة يضرب جرس المدرسة، وعلينا التجمع حينها في باحتها، مثل تجمع الطلاب في أثناء فترة الاصطفاف الصباحي في المدارس العراقية، ويدخل علينا تجّار النخاسة، وسط الساحة قريبا من السارية التي رفعوا عليها علم تنظيمهم، وتبدأ عملية اختيار التجّار لمن يرغبون في شرائها، يتبعها عرض من وقع عليهن الاختيار على مأمور الحسبة في التنظيم، لتحديد أثماننا، ولا يخلو التحديد من تأثير العلاقات الشخصية عليه، وقد يصل الأمر إلى أن توهب البنت الأيزيدية دون ثمن، كأنها إرث يمتلكه المأمور، وله فيه حقٌ إلى أن يهبه لمن يشاء، وعلى من توهب أن تستجيب صاغرة، مؤدبة، ذليلة.

بعد انتهاء جولة تجّار الرق والعبودية بيننا كل صباح، والتي كثيراً ما تستمر حتى موعد أذان الظهر، فتدخل نساء التنظيم المسلحات، ويقمن بتعليمنا الصلاة عنوة، ومن لا تطبق ، أو يتعبن في تعليمها، أو هي تخطأ كثيراً في أثناء التعليم ، يصار إلى حرمانها ذلك اليوم من وجبة الغداء، وتحجز في صف دراسي عُدَّ مسبقاً كسجن للمعاقبات، ثم يطلق سراحها قبيل فترة العشاء لتأدية صلاة العشاء، فان أخطأت مرة أخرى، حرمت ثانية من وجبة الأكل، فضلاً عن أن وجبة الأكل هي في أساسها لا تكفي لسد رمق من يتناولها، يكفي لان نتعلم فروض الصلاة مجبرات، بشطارة طالبة لديها حلم أن تكون متفوقة بين زميلاتها، فلا تنام ليلها، لتحقق حلمها ذاك. وباختصار شديد فقد كانت الحياة في الإعدادية موزعة بين الأكل، وتعلم الصلاة، وحضور سوق النخاسة صباحاً، ويبقى الوقت بين تلك النشاطات يقتصر على اجترار ذكريات الطفولة، والتلمظ فكرياً في ذكرى حرية قديمة، أضحت حلم كل واحدة منا، ولأن قواسم الذكريات المشتركة بيننا كانت مفقودة، فكلنا مضطرات أن ننكص نحو الطفولة، نسترجعها ونقارن فيها بين أفعال الواحدة ضد الأخرى، فمن تقول كان أبي يشتري لي كذا وأنا صغيرة، لابد من أن تنبري لها أخرى لتحكي عن تقتير والدها، أو أمها، أو أخيها عليها، وتعيش الحسرة على فقدان تحقيق رغبتها، كأنها مازالت صغيرة ومن حرمها يقف شاخصاً أمامها الآن!، أمّا من انبرت وتذكرت ما كان يُنفذ ويشترى لها، فنراها وقد فغرت فاهها متعجبة مما جرى للمحرومة ، مبتسمة ، ساهمة، كأنها تمسك حاجتها تواً.

كان القلق الوحيد في إعدادية البنين تلك، ينصب على كل محتجزة تخلو بنفسها، وينهشها التفكير في الذي سيقع لها، لو انبلج صباح الغد التالي وكانت ممن يقع عليها الاختيار، ليشتريها شخص قد يسافر فيها خارج حدود العراق، والخوف لم يكن من الموت، لأن حجم الهول وكثرة الأشلاء التي كنا نراها في كل محطة نصل إليها، تجعل الموت رفيقا نتوقع رؤيته بعد ثوان من لحظتنا التي نعيشها، لكن الخوف كان مما يخبئه المجهول، وسنكون مضطرّات لأن نعيش تفاصليه، عكس الموت الذي يحل ضيفاً دون أن يطرق بابنا ويستأذننا الدخول، ومخالبه كأطراف النسر، تختطف الطريدة لتطير فيها، وتنهشها بتلذذ على حافة جبل عال، والموت بين مخالب النسر أفضل للطريدة، من تركها تفلت من بينها نحو الوادي السحيق، متقطعة بما ارتطمت به من صخور مسننة، وهي تهوي سريعاً نحو القاع، معذبة في كل لحظة تسقط فيها.

وإن كنا قد خرجنا من همّ قلق الاستدعاء للإدارة في سجن بادوش، فقد وقعت المحتجزات برتابة الحياة وأفعالها المتكررة في إعدادية تلّعفر للبنين، وجعلتنا تلك الأيام التي قضيناها في داخلها، نحس كأننا آلات مبرمجة على حركات يراد منا تأديتها ثم تركن الآلة على الرف، لتعرض وقت مناسبة أخرى، قد تطول وقد تقصر، على ضيوف لهم منزلة خاصة عند أهل الدار، تستوجب أن تعرض عليهم أعزّ الأشياء، ومن ضمنها العاب أطفالهم، فتنزل من عند الرفوف ليتمتعوا بحركاتها المبرمجة، وقد تمتد لها يد منهم، فوضوية، عابثة، لا تلتفت لصيانة الآلة والاعتناء فيها بقدر ما تهتم في الترويح عن نفسها.

ورغم رتابة ما سأذكر أيضاً، لكنه يمثل بنداً في تجمعنا، وأحد أسباب نبذنا لخلافاتنا الشخصية مع بعضنا، عندما نجتمع لاستذكار سيرة، وأسرار من بيعت منا صباحاً، وفارقنا المجهول معها، وربما ونحن نسترجع أيامها معنا نتذكر عنها معلومة كنا غافلين عنها، وتتأسّف محتجزة أن المعلومة تلك فاتتها ولم تنتبه لمن تمتلكها، ثم تعرج على أسباب أسفها أنها لو علمت قبل رحيل صاحبتها لكانت قد اعتنت فيها، وأولتها كثيراً من وقتها. وأسلوب الندب هذا لمن نفارقهم، طبيعة إنسانية تأصلت في النفس البشرية عند كل الشعوب، وهي في ظاهرها تسلط الضوء على مقدار التسامح والطيبة التي يتحلى فيها النادب للراحل، لكنها في باطنها هي تعني أن النادب يندب تفاهة استقرائه لما كان يجري حوله، دون أن يلتفت له، بمعنى ثالث هو يندب مقدار غبائه، وعدم قدرته على التفاعل مع المحيط الذي كان يعيش فيه.

(24)

رنَّ جرس المدرسة صباحاً، وخرجت المحتجزات من الصفوف الدراسية متثاقلات، وراح الحرّاس يستعجلوهن الخروج وكَثُرتْ أيديهم التي تحمل العصي، تطرق الأبواب ووراءها عيونهم تسترق النظر، على جسم من لازالت ممددة على الأرض، وغشاوة النعاس تغطي جفنيها، ولم تنتبه للملمة أطراف ثوبها، وستر فخذيها، وكان عبق رائحة تعرق النساء داخل الصفوف، ممزوجاً بلزوجة دم الحيض لبعضهن، وفيهن من يحين موعد دورتها الشهرية ليلاً، دون أن تنتبه له، يجعل روائح الدماء تطيّرها الأغطية وهن نائمات، فتكون مباحة لنسمات الهواء القادم عبر نوافذ الصفوف، يطوف فيها، لتسكن الزوايا، فتجعل الجو خانقاً عند من تنام هناك، لكنها رائحة زكية تثير الشهوات، وتوقظ حصان فحولتهم صباحاً، فيغدو الجنس كأنه قريب وقع في أسر قريبه، ويكون الحرّاس صباحاً بين عناصر تنظيم يراد منهم أداء دورهم، كحرّاس أشداء على المحتجزات، فيما تنتابهم الرغبة في التمتع بالأجساد الممددة ببذخ أمامهم، تفوح منها رائحة الشهوة المغرية لأنوفهم !.

احتكّت أجسام عناصر التنظيم مفتولة العضلات، فيمن تأخر من المحتجزات، وبعضهن دُفِعَتْ وتَوارَبَ باب الصف عليها، لتُعصر الأجزاء الحساسة في أجسامهن، ولا يتركن إلّا بوعد خائف، أنهن سيكنّ طائعات عند أول فرصة تسنح لمن عصر جسمها، لأن يختلي فيها حتى يقضي وطره منها.

كان الحرّاس يعلمون أن المحتجزات كنّ حرثاً مباحاً للمجاهدين، وهنّ ما وجدن إلّا ليتمتع بهن كلّ مجاهد، كملك يمين أباحته فتوى شيوخهم، واعتبرته من نتاج غنائم المؤمنين المنتصرين، واختلاس النظرات من قبل الحرّاس، وانتهاز الفرص للاختلاء في بعضهن لم يكن حشمة من المتواجدات، ولا هو ردع ديني، وبسبب قلّة إيمان منهم يلجئون إلى استراق النظرات، كأنهم مراهقون يبغون لذة دون التفكير بعواقبها!، بل كان بسبب أوامر صدرت لهم أن يكونوا حرّاساً فقط، يحافظون عليهن دون مساس، ليكافأ بهن مجاهدون آخرون يذودون بأنفسهم عن دولة الخلافة، وهن يمثلن مصدراً اقتصادياً مهما لرفد التنظيم بأرباح تحسب بالعملات الأجنبية، والحرّاس في نهاية الأمر يعدّون مجاهدين من الدرجة الثانية، وفي البعد عن خطوط التماس والخطر، وكان جبن المواجهة والقتال يدفع الكثير منهم إلى أن يكونوا حراساً في الخطوط الخلفية، ويجعل للوساطة دورً مهماً فيمن يتبوَّأَ وظيفة حارس في الخلفيات، لكن تفشي هذه المعلومة بين عناصر التنظيم ومعرفتهم بدرجة جبن الحرّاس وتخاذلهم، تجعل الحرّاس ناقمين على بقية العناصر، لاسيما من يكونون منهم في خط المواجهة والتعرض للقتل، وهم في نهاية الأمر ضمن غابة، يَغلبُ فيها القوي ويُسحقَ فيها الضعيف، واختلاق الذرائع للتمتع لا يعدم أن يُوجدَ أسبابه، وتبقى المحتجزات في المحصلة هنّ الحلقة الأضعف في الصراع، وأوامر التنفيذ ونهاية ثقلها الأعظم تُسلط على كاهلهن، وعليهن تحمل التحرش الجنسي وانحراف الحرّاس لذّة منهن أو قسراً عليهن !.

اصطفّت المحتجزات داخل باحة المدرسة، ووقف مديرها عند سارية العلم متباهياً بكرش بطنه، يتمايل مزهواً بينهن، ويسترق النظر من تحت جفنيه ليختار من سيقربها في الليل لتكون خليلته.

نزل إلى درجات الساحة رهط رجال ملتحين، يُحوّطَهمْ رهط آخر، بدا مثل حراس شخصيين لهم، فاستقبلهم المدير بشوشاً:

- أهلاً أبا قتادة . . لو كنت أعلم أنك من سيأتي لفرشت لكَ الدرب زهوراً يا شيخنا.

رد أبو قتادة محمرّ الوجه:

- استغفر الله . . استغفر الله.

شبك المدير ذراعيه حول كتفي أبي قتادة، واحتضنه قائلاً:

- لو اكتفيت باتصال لبعثت لكَ من ترغب بها، دون أن تكلف نفسك عناء الطريق.

كان واضحاً للمحتجزات أنّ ما يجعل المدير مهتماً بالرجل أنه ذو شأن في التنظيم، وبدا أبو قتادة غير مهتم بنفاق المدير، مكتفياً بالعناق ردا له، وانشغل بتفحص المحتجزات، ثم راح يباشر توزيع هداياه على المرافقين له، كأنه في عجلة من أمره، مانحاً لكل رجلٍ امرأة هو يختارها، ثم جعل بهار وفيفيان من نصيبه، من بين الصفوف الأخيرة للمحتجزات، وترك المدير وسط الباحة كالطفل لا يعرف ماذا يفعل، تلفّه غبرة الأرجل المهرولة تسبق أبا قتادة.

خيم الوجوم على المحتجزات، والقين نظرة الوداع الأخيرة على أكتاف الراحلات عنوة، وراحت أجسامهن تختفي عن مشهد الباحة شيئاً فشيئا، وهيكل أبي قتادة يتوسط كتفي بهار وفيفيان ليختفي وراء باب المدرسة الرئيسة، وحينما استقرّت بهار في سيارة الجيب لم تر أثراً لجلبة الحرّاس الذين أتوا مع أبي قتادة، كأنهم تبخروا وما جاء فيهم أبو قتادة ليحموه من عوارض الطريق عند مغادرته المدرسة، بل لأجل أن يفرض سطوة على من يدير المدرسة، وما فيها من محتجزات!.

تشهد إعدادية تلّعفر للبنين بين الفينة والأخرى، زيارة لا يعلن عنها لأبي قتادة، ينتقي خلالها من تعجبه من محتجزات المدرسة، ولعلاقاته الواسعة مع قيادات التنظيم فإن أحداً لم يتجرأ على أن يسأل عن مصير من يأخذهن معه، بعد كل زيارة يقوم بها، ورجح الحرّاس أن يكون مصيرهن البيع لطرف آخر، بعد أن يقضي منهن وطرً، و هكذا يعرّج على المدرسة ليأخذ غيرهن، حتى إنّ مأمور الحسبة في أثناء جرد المحتجزات لا يعلق شيئاً، لو قيل له إن فلانة وفلانة أخذهن أبو قتادة!. غير أن أحد الحرّاس همس في أذن صاحبه، وصوته يرتعش خوفاً قائلاً:

- يقال إنه مفوض من الأمير (أبي بكر البغدادي)(41) .

فرد صاحبه رافضاً فكرته:

- لا. . أنا شاهدته في الفلوجة قبل سنة يفاوض الأمريكان لإسقاط شحنة أسلحة في الصحراء.

امتقع وجه صاحبه وقال متضايقاً:

- وهل الأسلحة التي غنمت من الموصل قليلة حتى نفاوض الأمريكان على غيرها.

فقال صاحبه موضحاً:

- أولاً كان ذلك قبل سنة من الآن، وثانياً الحرب مطحنة تعجن الإنسان ومعدن الأسلحة.

ثم أضاف واجماً مثل شيخ هرم:

- أبو قتادة السعودي هو أحد الأطراف التي تديم زخم المعركة.

فرد صاحبه مستعلماً:

- بمعنى آخر هو رجل سياسة. . أليس كذلك؟

قهقه الحارس وقال كأنه يستهزئ بصاحبه:

- هأ هأ هأ. . . بل هو رجل ظلٍّ، لا يرغب في الأضواء ، لكنه يعيش صخب الحياة كاملاً. .

ربت على كتف صاحبه وأضاف مؤكداً:

- راقبه ، وأتحداك إن رأيته يحمل سلاحاً بيده.

هز صاحبه رأسه موافقاً:

- نعم لاحظت ذلك. . هو يفعل ما يشاء وهناك من يحميه. .

فقاطعه الحارس واضعاً سبابته على صدغه وقال:

- لعلمك. . أبو قتادة يعيش في مزرعة على أطراف المدينة من الشمال من دون حراسه. . . هو فقط يحتاج الحرّاس أثناء تجواله . . . أتعرف لماذا؟.

فقال صاحبه ببلاهة وباختصار:

- لماذا؟

رد الحارس مزهواً بما سيفشي به:

- ليجعلنا مرعوبين . . نقول بعد أن يتركنا، من هنا مر أبو قتادة.

(25)

اتجه أبو قتادة بسيارة الجيب على الطريق العام خارج المدينة مسرعاً، وأخذت عجلات السيارة تلتهم الطريق، كأنها في سباق مع الزمن، وكان الطريق فارغاً من حركة المدنيين وعرباتهم، لكن جانبه الداخل إلى المدينة كانت لا تمر دقيقة إلّا وشاهدتْ بهار سيارة عسكرية تمرق منه، بعضها يمتلئ حوضها بعناصر من التنظيم، شاكين بالسلاح، متأهبين لدخول معركة وشيكة، جلهم من الشباب الذين دخلوا حديثاً للتنظيم، وجوههم تفضح رغبتهم في خوض معركة، لم يجربوها بعد، وفيهم من يتفحص بندقيته، كأنه طفل أصابته الدهشة للعبة يمسكها أول مرة.

كانت السيارات العسكرية تدفع فيهم نحو العمق، ليكونوا وقودَ حرب لم يتمرس عليها إلّا الذين يجلسون في الكابينة مع السائق، وهؤلاء لا يتعدون الاثنين أو الثلاثة عناصر تُميز خبرتهم في القتال من ارتدائهم لملابس التنظيم كاملة مع عصابة يشدون فيها جدائل شعر رؤوسهم، ولحاهم كانت تتدلى على صدورهم مثل لحى فحول الماعز الكبيرة، وتتحرك مثل مكنسة نافضة غبار الطريق الذي علق فيها، مع كل مطب يعترض عجلات السيارة.

وفي الجانب المعاكس للجانب الداخل ثمة عجلة عسكرية أخرى تمرق من جنب الجيب، يغمز سائقها لبهار، دون أن يلحظه أبو قتادة، ويحاول أن يخفف سرعته، فيتجاوزه أبو قتادة بالجيب، مع التفاتة من رأسه تفسرها فيفيان كأنها تقول(لا تكن شاطراً معي)! يرافقها بوق لسيارة ثالثة يريد سائقها أن يفسح الطريق له، فيكون طلبه إنقاذا لموقف سائق العجلة العسكرية، ليتحاشى غضب أبو قتادة الذي بات يتحول لمزاحمته في أثناء السير، فيخفف سائق العجلة العسكرية من سرعته، ويترك فسحة لسائق الثالثة ليمرّ منها وهو يلوح بيده متضايقا، يعقبه أبو قتادة، ليتركوا سائق العجلة العسكرية مخففاً من سرعته خوفاً منهما.

انعطف أبو قتادة على يسار الشارع قبالة نقطة تفتيش، وشاهدت بهار بعض حراس نقطة التفتيش ممن جاؤوا مع أبي قتادة للإعدادية، الذين تعجبت لتبخّرهم عندما استقلت سيارة الجيب هناك.

نهض حرّاس نقطة التفتيش احتراماً لأبي قتادة، الذي انحرف من عند النقطة ليسير على طريق ترابي دون أن يرد على أيدي الحرّاس التي رُفعتْ تحييه، وبدا لبهار جانبا الطريق تملأهما الصخور بأحجام متنوعة، فيهما الصخرة الكبيرة بحجم سيارة الجيب وفيهما الصغيرة بحجم كرسي يجلس عليه إنسان، مشكلاً ذلك الخليط من الصخور عائقاً لمرور أية عجلة يريد سائقها أن يتجنب الطريق الذي نُصبت فيه نقطة التفتيش.

كانت معالم المنطقة واضحة أمام فيفيان وبهار، وشُيد على البعد فوق رابية بيتٌ منفردٌ، بدا معزولاً عن صخب العجلات، ووحشة الشوارع المقفرة من ساكنيها، في المدينة التي خلفاها وراءهما، وترامت أشجار الكالبتوس في سفح الرابية مبعثرة تشي أنها نبتت دون أن تتدخل يد الإنسان في غرسها، وامتدّ واد ضيق بين سلسلة رواب، راح يزداد عمقاً كلما ارتفعت سلسلة الروابي علواً، لترتبط بجبال من جانبيها، قدّرت بهار المسافة بين البيت وتلك السلسلة الجبلية، مسافة ليلة كاملة سيراً على الأقدام إلى الغرب من البيت، وخفق قلبها حنيناً لجبل سنجار وأحست أن تلك السلسلة المترامية هي الحبيب المنشود، أو من يوصل لدربه، وأضمرت بفكرها خميرة هروب في اتجاهه، إن كان مستقرّها هذه الدار المشيدة على الرابية، لو حالفها الحظ وتوافرت فرصة الهروب تلك!.

لاح سياج الدار عالياً كلما اقتربت سيارة الجيب منه، وظهر الطابق الثاني وجزء من الطابق الأرضي واضحاً من أعلى السياج، وبقيت باحة الدار يلفّها علو السياج غموضاً، يثير الرهبة في النفس، ويدفع فكر بهار إلى تخيل الدار كأنها سجن بادوش. وتشرّبت من لوحة الطبيعة ما استطاعت، تريد أن تحفظ المشهد، ينازعها الحنين ذاك لأن تفعل شيئاً، بدا يترقرق كالحلم أمام عينيها، رغم أن الوقت لم يصل لظهيرة اليوم الذي تعيش الحلم فيه!.

نبح كلب عند الباب خلف سياج الدار، فانتبهت بهار له، والتفتت تراقب مكمنه، قبل أن تتوقف سيارة الجيب قبالة المدخل الرئيسي، ولم يكن ثمة حارس عند الباب، فترجل أبو قتادة بنفسه وشرّع نصفي البوابة على مصراعيهما. هبّت نسمة غربية باردة، ضربت وجوههم والتوت هاربة بسرعة خلف سياج الدار، انتهزها أبو قتادة فرصة للتودد إليهن وقال:

- الله . . جميلة نسمة الهواء من جبلكم ذاك. .

وأشار للغرب حيث ينتصب عالياً جبل سنجار، فتثاءب الحنين في صدر البنتين، واستيقظت وجوه الأحبة ترنوَ إليهما، وتحولت حدة البصر في عينيهما أكثر قوة من عيني زرقاء اليمامة، فارتفعت أيادي الأطفال فوق الجبل تحييهما، وتوكّؤ شيوخ كبار على عصي الخيزران يحاولون مساعدتهن، وانفتحت أذرع النساء العجائز لتحتضنهما، لكن الصور اختلطت بدموعهن، وغابت وسط سراب لفّ الجبل البعيد، مع نسمة سموم حارة لفحت وجوههن، وفيهن أمل أن سنا النسمة الباردة سيدور على الدار، ويمخر الوادي بين الروابي، ويصعد الجبل ليتزود ثانية بالبرودة، محملة هذه المرة، بروائح الأحباب، وعبق تراب الصيف على وجوه الأطفال، ليرجع ساكناً الدار لا يبرح منها.

قاد أبو قتادة السيارة عبر البوابة لتتكشّف أمام الضيفتين ساحة كبيرة جرداء، عدا كومة مواد إنشائية لُمّت على بعضها عند جانب الدار من اليمين. وما لبث محرك الجيب أن بكى ناحباً، وصمت دون ضجيج بعد أن أدار أبو قتادة المفتاح عكس التشغيل، وتركهن في السيارة ورجع يغلق البوابة الرئيسة، ثم عاد وأشار لهن أن ينزلن ويتبعاه إلى داخل الدار.

وهي تسير في الرواق المفضي إلى الصالة كان ثمة كرسي بدا أكبر حجماً من باقي الكنبات، يتوسط الصالة، شعرت فيفيان كأن أرجلها تسير لتصافح مستعمراً يتربع عليه، وجزمت في داخلها أن الدار مغتصبة، وتأسّفت أنها لم تدقق في أرضية الباحة خارجاً، فربما كانت دماء صاحب الدار وعياله، منثورة هناك تطير فيها نسمة الهواء لتدخلها عنوة من نوافذ الدار، تسكن غرفه، وتكون شاهداً على من دخلها، دون أن يستأذن أهلها.

هزّت فيفيان رأسها لتنفض عنه استنتاجات تؤرقها لو جارتها في تخيلاتها، لكنها حمدت الرب وأثنت عليه، كونها عاشت في كنف عائلة اهتم أفرادها بمكتبة كانت عامرة بكتب علم الاجتماع، وعلم النفس، قبل أن تدرس التخصص بسنوات كثيرة، وكانت تلك الكتب لها الفضل في أنها منحتها صغيرةً قدرة تحليل النفس البشرية، واستنباط العلل الاجتماعية، من السلوكيات الخاطئة للإنسان.

كانت معظم الغرف منزوعة الأقفال، ولا تتوفر مئونة طرية في الدار، ما جعل بهار تستنتج إن شاغل الدار أبا قتادة، لا يأكل فيها أو أن الأكل يأتيه مطبوخاً من الخارج، لكنها لمحت قرب شباك المطبخ ثلاجة كبيرة، واستغربت من صف مواعين الأكل منتظمة على الرف، كأنّ يداً نسائية أشرفت على ذلك، وخمنت أن المطبخ سبق وأن استضاف أكثر من بنت غيرهن.

وفي الأيام الأولى لتواجد فيفيان وبهار، كان كل شيء في الدار يلفّه الغموض، مثل الغموض الذي يلفّ شخصية أبي قتادة، لكن توالي الليالي فيه، جعل الغمامة تنقشع شيئاً فشيئا، وعرفن من مراقبة الزائرين له وهيئاتهم، أنه رجل لا يجيد الحرب ومعاركها، لكنه يعيش منها، وبعض الهمس مع أصحابه الليليين افهمهن أن الرجل يراها مرحلة، لابد من أن يستغلها، ويجني أرباحاً منها ، ولأجل ذلك لا بأس في أن يتلبس هيئتها، وتُكنى بأسماء شخوصها، ونافقهم فيما يرغبون فيه، وعنده بعض المذلة والهوان، خير له من أن تدوسه الأرجل وتسحقه الأقدام.

كان أبو قتادة شارب خمر بامتياز، وتأكد للبنتين أنه ما اختار هذا المكان القصي عن المدينة إلّا ليعيش لذة الحياة وامتيازها، ولم يلتزم بوقت لمعاشرة إحداهن، بل كان الأمر يبدو مثل النزهة، متى ما راق مزاجه، وتحلّب ريقه على حركة تبدو من إحدى البنتين، صاح فيها لتتبعه، وهو عادة يستخدم غرفتين في الدار، واحدة له ولمعاشرته، والثانية تشغلها بهار وفيفيان، ولا يحتفظ بسلسلة مفاتيح كما يبدو للوهلة الأولى، بل كان يعلق خيطا في رقبته تتدلى منه ثلاثة مفاتيح للبوابة الرئيسة ولغرفة بهار وفيفيان والثالث لغرفته، أمّا استقبال الضيوف، فيجعله فيما يطلق عليه المضافة، وكانت تبدو لبهار إن صاحب الدار بالغ في حجمها، وهي تمتدّ على طول الجانب الملاصق للبيت، وتفضي له من المدخل بباب واحد فقط، يجعل ما يدور فيها بمعزل عما يدور في باقي غرف البيت وملحقاته، ولا يسمع ما يُحاك فيها إلّا لمن خطط لأن يسترق السمع، وذلك لم يتوفر إلّا لبهار هذه الليلة عندما أخرجها أبو قتادة مترنحاً من الغرفة واقفل على فيفيان، بحجة أن الضيف يريد شاياً.

وفي المطبخ تعجّبت من ذائقة تناول الشاي بعد أن يتناول الإنسان كأس الخمر، وتساءل داخلها عن مقدار الجنون الذي يركب أبا قتادة وضيفه!، لكنها أعدّت الشاي وانسلت للمضافة في هدوء وسكينة، وفيها رغبة في أن تنجز ما طلب منها بسرعة وترجع لغرفتها، خائفة من أن يدقق فيها الضيف وتهيج الرغبة عنده، فيطلبها لتعاشره، مثلما فعل فاروق في آخر ليلة لهما عند أبي براء.

المفاجأة كانت عندما لم تشاهد قنينة أو كأساً على الطاولة أمامهما، ورأت شريط حبوب يقبع وحيداً على الخشبة أمامهما، وثمة حبتي دواء ترقدان خارج الشريط بانتظار يدي أبي قتادة وضيفه اللتين تلقفتاهما لتستقرا سريعاً في فميهما، مع ملاحظة من أبي قتادة:

- ابقي قريبة في المطبخ، فقد نحتاجك بشيء آخر.

كانت جملة أبي قتادة كافية، لأن تنشط ذهنها وتستفزّه، ليحلل كل كلمة نطق فيها، ورأت مقطع (ابقي قريبة في المطبخ) تعني أن تكون في متناول أيديهما، لكن الرأي الآخر في داخلها، أشكل عليها ظن السوء، فردت عليه تناجيه(اخرس . . ألم تسمعه يقول: فقد نحتاجك بشيء آخر؟).

انزوت في المطبخ شاردة بذهنها ناحية الغرب وتمنت أن يتقرب جبل سنجار في هذا الليل الدامس، وتساءلت: ترى استراه كما رأته أول مرة دخلت الدار؟ وكيف ستكون نسمة الهواء لو هبت من ناحيته؟.

صبّت كوب شاي لها وراحت ترسم صورة لما يبدو عليه شكل جبل سنجار هذه الليلة، ووقف الجبل شامخاً أمام عينيها يحجب الرؤيا عن الأفق، وتلألأت الأضواء وهاّجةً، يمتد النور منها ليجعل الجبل مثل كعكة عيد الميلاد، تلك التي تركتها قبل أشهر في بيت أبيها، بيضاء تزوقها ألوان الفرح وكلمات الرب تمجد الحياة على الأرض، وتبارك لمن يعيشها بسلام مع الآخرين.

جأر صوت أبي قتادة يدعوها للمضافة، فاندلق كوب الشاي أمامها على رف مواعين الأكل، وانسحب التأمل خائفاً، ينزوي وراء ستارة المطبخ، ريثما تعود بهار من المضافة وتفرغ له.

دخلت على مضض وكل ما يشغل فكرها أن أبا قتادة سيطلب منها أن تختلي مع الضيف في أحد الغرف. لمّا دخلت كان شريط الحبوب معقوفاً مثل الهلال على الكنبة أمامهما وضاعت نصف حبّاته، وبدا الرجلين خلف الكنبة مثل خروفين هزتهما سيارة نقل لمسافة طويلة، كانت أطراف يديهما خائرة مرتخية جنبهما، وجفنيهما مثقلين بالنعاس، وتهدلت شفتيهما، وكان ثمة لعاب يسيل من فم أبي قتادة، يزيحه بكم قميصه بين لحظة وأخرى، ويشمر ساعده بحركة لا يسيطر عليها مرفق يده، فيطوح فيها جانباً لتصطدم الكف بجانب الكنبة ويصحو مردداً بهلوسة لا يعرف غيرها كلّما آلمته أصابع يده:

- بهار.

كانت بهار تقف قبالته متشنجة، يغالبها فرح مكتوم ممزوجاً بشك فيما ترى، وعيناها تبحثان عن سلسلة المفاتيح في رقبته:

- شدّي شالاً . . . ارقص...ص...ي.

حاول أبو قتادة أن يسيطر على مخارج الحروف لتخرج الكلمة متناسقة، وفيها رنين موسيقى، لكن القدرة للسيطرة على ذلك خانته ، وراح يتلعثم محاولاً أن يلملم كلمات الجملة بصعوبة وعسر، وقفزت فكرة لرأس بهار أن تجاريهم ريثما ترتفع نسبة المخدر في أجسامهم، ثم ترى أمرها منهم، وحانت منها التفاتة للساعة المعلقة على الحائط، فوجدتها وقد قاربت التاسعة مساءً.

لفّت بهار جسدها تُدَوِرَهُ وقالت مغتصبة ضحكة ملؤها البكاء:

- سأرقص لك الليلة حتى الصباح.

وأضافت تشجعهما بذكاء من تعرف تأثير كوب الشاي عند مدمن حبوب المخدرات:

- أمهلاني فقط لألفّ الشال على وسطي، وأجلب لكما كوبي شاي.

رنت لهما تراقب ردّة فعلهما على جملتها الأخيرة، ولما شاهدتهما مستكينين يلعب كوب الشاي الأول فعله بما تناولاه من شريط الحبوب، اختطفت الحبات المتبقية فيه، وهرولت للمطبخ تعد الكوبين الجديدين.

كان الشريط فيه أربع حبات فقط، رمت اثنتين في كل كوب ومزجت الخليط جيداً، كأنها تمزج ترياق زهرة الحياة، جاء به (كلكامش)(42) ليعطيها الخلود في دنياها. وضعت الكوبين في الصينية ، ومشت متريثة، تحمل قطعتي ماس صغيرتين تخاف أن يفلتا من بين يديها، ويضيعا بين الأشياء حولها!.

قالت تتصنع الغنج:

- ستشربان الشاي من بين يدي.

كان الشاي بارداً فتناولاه منها بأياد مرتعشة، كادت أن تسكبه على الأرض، لكن بهار أعانتهما ليوصلاه قرب فميهما، مترجرجاً يرتطم على حافتي الكوبين مثل موجة عاتية تحاصرها الصخور على شاطئ البحر.

لمّا فرغا من شربه تهالكت قربهما، ترقب فعل الكوبين أن يزيدا خدرهما قوة وتأثيراً في نفسيهما. كانا يجودان بنفسيهما كفارسين أثخنتهما جراح المعركة، وتيقّنت بهار بعد ربع ساعة أن حبوب التخدير سرى مفعولها في الرجلين وباتا لا يقويان على تحريك يديهما، فقالت تملؤها الغبطة:

- أبا قتادة. . يا أبا قتادة.

اقتربت من أبي قتادة، ووسّدت كتفيه على حجرها، ثم وضعت كفها داخل صدره كأنها أم حنون تربت لوليدها وتناغيه، وبقي الرجل ممدد الرجلين، لا يبدي أي حركة تنم عن وعيه في الذي يجري حوله.

عثرت أصابع يديها على خيط المفاتيح الثلاثة في صدره، فأخرجتها سريعاً، وأزاحت رأسه عن حجرها، ثم نهضت راكضة لفيفيان تصيح فرحة:

- فيفيان . . فيفيان . . اجلسي يا مجنونه. . سنهرب!.

عالجت القفل الذي عصى واستكبر عليها، بيد مرتجفة، فيما كانت فيفيان داخل الغرفة قرب الباب لا تعرف ما الذي حصل، وانتابها شعور أن منقذاً ما وبقدرة قادر، استطاع أن يهزم التنظيم، ويخلصهن!، لكنها تذكّرت صياح أبي قتادة على بهار في أول الليل وإخراجها من عندها، ورسمت مشهداً تقوم فيه بهار بذبح أبي قتادة وضيفه، غير أن مشهد ذبح آمال عاد لمخيلتها، فلم تتمنَّ لعدوها أن يُفعل به كما نُحرت صاحبتها، ورغبت من بهار من أن يكون قتلهما سريعاً بواسطة طلقتي مسدس، غير أن فكرة المشهد لم تعجبها أيضاً لعدم مطابقتها للواقع، فهي لم تسمع صوت إطلاق نار منذ مدة طويلة تمتد للفترة ما قبل احتجازهن في سجن بادوش.

انفتح قفل الباب ودخلت بهار مخبولة تحضن فيفيان غير مصدقة، وتدور فيها وسط الغرفة وتردد:

- سنهرب . . سنهرب . . . سنهرب.

كانت فيفيان عكس بهار، رابطة الجأش، هادئة ، تحاول لملمة شتات فكرها، فسحبت بهار من يدها، وراحت تستكشف ما حدث بعينيها، ولما وصلت عند الرجلين اختصرت بهار لها كل الذي جرى بجملة واحدة:

- حبوب مخدرة مع كوب شاي حلو جداّ. . كوبا شاي لكل واحد .

وأشارت فاردة أصابع يدها اليمنى أمام وجه فيفيان:

- خمس حبات لكل واحد منهما. . تقريباً.

نبهتها فيفيان محذرة:

- تعالي نسحبهما للغرفة، ونقيدهما هناك. . ثم نقفل عليهما الباب.

فقالت بهار تشاركها التخطيط:

- سآخذ هاتفيهما النقالين، وأنتِ ابحثي عن شيء في المطبخ، لنسكت فيه كلب الحراسة.

اعترضت فيفيان :

- لا . . . لنسحبهما أولا ونقيدهما . . حتى إذا حدث واستيقظا نكون مسيطرتين عليهما. . تمالكي نفسك، وكوني شاطرةً.

هزّت بهار رأسها موافقة، وراحت تردد في صمت رقم الهاتف النقال لسكمان، كأنه أغنية صباح لفيروز.

(26)

بزغ القمر قرصاً أحمراً من الشرق، واستبشرت بهار فيه خيراً، وقدّرتْ أنه سيكون قرصاً أبيضاً بعد ساعتين وسينير الدرب أمامهما في الوادي بين سلسلة الروابي، وخمنت أن أرغفة الخبز السبعة مع ست قناني ماء، ستكون كافية لهن، حتى يصلن جبل سنجار، إن جرى سيرهنّ بانتظام ولم يكتشف عناصر التنظيم هروبهن، وخاصة حرس نقطة التفتيش عند نهاية الطريق الترابي للدار، وتفاءلت بالرقم سبعة لأرغفة الخبز، واعتبرته فألاً حسناً في طريق عودتهن لوجوه أهلهن وأحبتهن، وانتصب شبح والدها أمامها يستحثها السير، وتذكرت وجه سكمان، فتوجست شراً أن ينقطع الإرسال ولا تستطيع الاتصال فيه، إن توغلت كثيراً في الوادي، فأخرجت الهاتف النقال واتصلت، ونبضات قلبها تخفق صدرها ضاربة فيه، مثل هدير مدفع في خضم معركة ضروس.

تهلل البشر على محياها، وصوت رنين الهاتف تسمعه واضحاً، قوياً، وانفتح الخط من الطرف الآخر مثل صوت شلال هادر:

- نعم . . تفضل.

خنقتها العبرة ولهوجت قائلة:

- مرحباً سكمان. . . أنا بهار .

اضطرب الهاتف في يدها، فضغط أصبعها على زر مكبر الصوت، وجاءها صوت سكمان كأنه قبالتها:

- بهار. . . بهار التي أعرفها!.

قالت مسرعة بخوف:

- نعم أنا بهار . . . لا أدري متى ينقطع الاتصال بك، لكن يجب أن تعلم أنا وفيفيان صديقتي هربنا من التنظيم قبل نصف ساعة. .

قاطعها سكمان :

- أين أنتما الآن بالضبط؟.

قالت حائرة:

- كل الذي أعرفه نحن إلى الشرق من جبل سنجار، وقرص القمر خلفنا الآن. . . لكن قل لي: . . كيف نعرف سيرنا بالاتجاه الصحيح؟.

قاطعها ثانية، لكن ليوجهها هذه المرة قائلاً:

- أغلقي الخط الآن وسأتصل أنا بكِ دوماً . . لا تجيبي على أي اتصال آخر من غيري. . مفهوم؟

قالت طائعة، وغشاها إحساس بالأمان، رغم حلكة ظلمة الدرب الذي تسير فيه:

- مفهوم، لكن قل ماذا نفعل الآن؟

فأجابها مطمئناً:

- لا تخافي . . خمس دقائق وسأتصل بك مرة أخرى. . أنا الآن ضمن أفواج حماية الجبل. . فقط اصبري، وسأعاود الاتصال ثانية.

أغلق الخط، وهطل الرعب كالمطر عليهن، بكت فيفيان، واحتضنتها بهار ترتعش، ومرّت الدقائق الباقية، وكل دقيقة تساوي دهراً عندهما، وأصبحت أشكال الصخور أمامهن، كأنها أشباح فلم رعب قرفصت تشاهده، وفرائصها ترتعد خوفاً.

رنّ جرس الهاتف أخيراً وفتحت الخط سريعاً وقالت:

- سكمان . . أنا خائفة. . ماذا افعل؟.

فقال سكمان شارحاً :

- أتركي الخوف جانباً، وانتبهي على طلقة مسدس تنوير حمراء، إن رأيتماها، أكّدا الأمر وسنرمي طلقة أخرى لكنها خضراء. . . ها. . نرمي طلقة التنوير؟.

ردت مسرعة :

- إرم.

انشقّ أفق الجبل أحمراً قانياً، وبزغت كرة حمراء، ذيلها يكاد يصفر، وشهقت في الوادي عالياً، كأنها إعلان حرب تطلب ثأراً لمن مات دفاعاً عن سنجار، فصاحت بهار في عمق الوادي تخاطب فيفيان:

- أنظري فيفيان. . ذاك جبل سنجار.

سمعها سكمان وسأل مستفسراً:

- أهي بعيدة عنكما؟.

أسرعت بهار تقول:

- بالعكس . . . خمد ضوءها فوقنا تماماً.

فشجعها سكمان شارحاً:

- ممتاز . . مجموعة إرشاد الناجيات سترمي طلقة خضراء لتؤكد الأمر.

بكت بهار، مستشعرةً أنهما أصبحتا من الناجيات، وكل أهل سنجار تقف الآن تراقب طريقهما وتدعو لهما بالسلامة:

- ارموا. . . ارموا.

انشقّ أفق الجبل ثانية، لكن بلون خضرة الأرض هذه المرة، وتلونت سحب الصيف فوق رأسيهما بالصبغة نفسها، وانبثق غصن الزيتون يلوح لهما سلاماً آمناً، فصاحت بهار ثانية:

- ها هو. . ها هو، فوقنا تماما.

سألها سكمان بغتة، بسؤال بدا لها غريباً أول الأمر:

- بهار. . ماذا تلبسن الآن؟

غشيها الحياء وصمتت، فرد سكمان موضحاً بإسهاب:

- بهار . . الوقت يسرقنا، وقد ينقطع الاتصال معك، أرجوك اتركِ أفكار المراهقة جانباً وردي على أسئلتي؟

تريث قليلاً وأكمل قائلاً:

- ستتحرك الآن مجموعة منّا، وفيهم قنّاصون، وأنا أحدهم، وقد يبزغ الفجر قبل أن تصلا، ولابد لنا من أن نميز شكليكما عند بزوغ الشمس. . . قولي، ماذا تلبسن الآن؟

فردت يائسة:

- سكمان . . نحن الآن قطعتان من سواد. .

قاطعها سكمان:

- جيد . . أبقيا الآن على سوادكما، ولا تتكلما، سيرا باتجاه الجبل صامتتين، وسنرمي لكما كل ساعة طلقة حمراء.

ثم أضاف محذرا:

- لا تستخدما مصباح الإضاءة الموجود في الهاتف.

وبعد صمت قليل:

- أسرعا. . سأغلق الهاتف . . مع السلامة.

قارنت بهار في داخلها مقدار الرعب الذي تعيشه، مع الذي كانت تحس به وقت أن كانت بيد عناصر التنظيم، وتعجبت للكم الهائل من الرعب الجاثم الآن على صدرها !، وأحست بكرة خيوط تربط رجليها لكل الاتجاهات، وصاحت الصخور في جانبيها وعوت بوجهها، مثل ذئاب مفترسة، ومادت الأرض تحت قدميها، لكنها كانت تسابق فيفيان في سيرها دون أن تشعر، وينتابها هاجس في أن رجليها لا تطاوع ما بداخلها من خوف، وطوق مثل الهلال يسحب كاحل رجليها، ويجذبهما قطب مغناطيس للأمام، ويدعوها حضن جبل سنجار فاتحاً ذراعيه، ليضمها بشوق إليه.

فقدتا الإحساس بالزمن وأضحت ساعة المقياس له عدد طلقات التنوير، وكان حجم أرغفة الخبز وقناني الماء يشعرهما جبلاً يحملنه في عبيهما، ولولا الاتفاق المبرم مع سكمان لنزعن الجبة السوداء عن أجسادهن، ليخففن عبأ الحمل على أكتافهن، لكن عبور طلقة التنوير كل مرة أبعد من التي سبقتها خلفهن، أسعد قلوبهن، وبات درب حريتهن أسهل، وانقشعت غمامة الرعب بثقل عنهن، وزاد اطمئنانهما لسهولة التجربة أن قرص القمر راح يتعامد على رأسيهما عالياً، فغذين السير سريعاً خوف أن يعانق القمر جبل سنجار، فينساهما، ويترك ضوء قرصه يغشى عينيهما ولا يعودان يريان ما يقابلهما، وكانت إن تعبت فيفيان وتخلفت سحبتها بهار وراءها، وان تخلفت بهار استحثتها الخطى فيفيان صامتة، والتزما بوصية سكمان أن يصمتا، فكانت أصابع يد بهار تكلم أصابع يد فيفيان، وربما كانت تلك الساعات أكثر الأوقات التي خفق فيها قلباهما وجلاً، وخوفاً، ورهبةً، وخشيةً، وترقباً، وكانت الفترة التي تفصل بين شعور وآخر، كافية لان تصرع ثوراً بسكتة قلبية، واستحضرت فيفيان سيدتها مريم العذراء لتكون شفيعة لها وينقذها الرب من محنتها، ولا تدري كم مرة نذرت لإناء التبرعات النحاسي في الكنسية، إن نجت واجتمعت بأهلها مرة أخرى، ورغم علمها بأن أهلها قد يكونون آمنين في مكان آخر، وستتعب كثيرا قبل أن تجد أحداً منهم، لكنها أحست أنهم في انتظارها على جبل سنجار، فاتحين أذرعهم، وينتظروها ليُربتوا على كتفيها، وينسوها كل الذي جرى لها.

رنّ الهاتف صامتاً وأضاء رقم سكمان شاشته، وانبثق المنقذ يرتعش في كف بهار، كأنه الأفعى السوداء التي يحكي مصحف رش المقدس عن تكورها في ثقب السفينة، وجاءها صوت سكمان عبر الأثير ليسكب فيضاً من الأمل على صدرها:

- رمّشي إضاءة لي بمصباح الهاتف، فقد أرقبه بمنظار قناصتي الليلي.

طاوعته بهار صامتة وداست على زر المصباح في الهاتف، عاجلتها طلقة من عند الجبل سمعت بهار أزيز رصاصتها قرب رأسها، فارتعبت وطار الهاتف من يدها ساقطاً على الأرض دون أن ينكسر، قرفصت عنده، وأطفأت المصباح ثم قالت:

- أنا قريبة جداً . . جاءتني طلقة من عند الجبل.

فقال سكمان خائفاً:

- دقيقة. . لا تشعلي الضوء ثانية . . انتظريني لأخبر نقاط الحراسة الأمامية كلها.

انهمر فيض رصاص من بعض نقاط التنظيم من جانبي بهار وفيفيان، رداً على طلقة الجبل، وتأكدتا أنهما تسيران في مسافة تفصل بين نقطتي حراسة، سيكون من السهل على عناصرها قتلهما لو بزغ الفجر عليهما، وراحت تدقق في ساعة الهاتف النقال لأول مرة، وكانت غبطتها كبيرة لما شاهدت الوقت في الهاتف يشير للثانية وخمسة دقائق، وحسبت الوقت بين الانطلاق ولحظتها تلك، فوجدته أربع ساعات وخمس دقائق، واطمأنت أن موعد الفجر مازال بعيداً، والمقاتل على سفح جبل سنجار الذي باستطاعته أن يرقب مصباح هاتفها، قادر لأن ينقذهما لو بزغ الفجر ولم يصلا، لكنها قدّرت المسافة بينها وبين سفح الجبل الذي بدأ ضوء القمر يتلألأ عليه قبل أن يغيب ورائه، أقل بكثير من الوقت الفاصل بين لحظتها وموعد انبلاج الفجر وشروق الشمس.

كانت فيفيان أكثر نضجاً، وأعمق وعياً من بهار، خاصة في تعاملها مع ظرف الهروب وملابساته، والتفتت بهار في حالات صمتها لدرجة الانهيار ونوبات البكاء التي ألمّت فيها، وفي البداية غبطت فيفيان على قدرتها في التحكم بمنظومة أعصابها، وكيف تكفكف دمعها قبل أن يسيل ويفضح ضعفها!، لكن بهار أرجعت انهيارها باكية بين ساعة وأخرى، لما يعتمل في داخل نفسها من صبابة الشوق لوجه سكمان، فهو بعد أن ضاعت ملامحه عنها، وبدا العثور عليه في شبه المستحيل، غدا الآن قاب قوسين أو أدنى من ذراعيها لتمسكا فيه، وصوته يعلو وينخفض مثل نوتات الموسيقى عند شحمة أذنها، والهاتف ينقل صوته كأنه عود يعزف لحناً حزيناً، وخشخشة الذبذبة في الأثير، كأنها لحن ناي بين يدي راع لماعزٍ على سلسلة رواب تفضي لسفح جبل سنجار.

رنّ الهاتف مرة أخرى، وانساب صوت سكمان عبر سماعته قائلاً:

- بهار. . أين أنتما من الرصاص الذي انهمر علينا قبل قليل؟.

فهمست بهار بنبرة أخافها ذكر الرصاص:

- انهمر من خلف جانبينا.

خشخش صوت الهاتف من الجانب الآخر، واستقام واضحاً، كأن سكمان قريباً، يقف بينها وبين فيفيان وقال:

- جيد. . المجموعات كلها أبلغت أن تُوقفْ الرمي للساعة القادمة تحسباً للطوارئ، وسأتقدم مع اثنين من رفاقي في الوادي للبحث عنكما. . افتحي مصباح الهاتف باتجاه الجبل، ولا تديريه على الجانبين أبداً، عندهم قنّاص لا يخطأ هدفه.

ثم أضاف مسرعاً، خوف أن ينسى المعلومة التي أراد أن يزفها لبهار:

- أنتما قريبتان جداً من نقاط الحراسة الأولى للجبل. يفصلكما أقل من ألف متر تقريبا، سأغلق الآن. . افتحي مصباح الهاتف بعد خمس دقائق. . مع السلامة.

أنير الطريق أمامهما بضوء شحيح، وقفز أرنب بري قربهما ، فندت صرخة من فيفيان كتمتها سريعاً، وتعثرت أقدام بهار بجذع شجرة صغيرة على جانبها، واصطدم رأسها بساق ناتئ فيه، فأحست بطنين أصاب جبهتها، وانحرف المصباح على يمينها، أرجعته خائفة، وعاجلها أزيز من خلفها لطلقة لم يسمع لها صوت، ارتطمت رصاصتها بصخرة بدا شبحها كبيراً أمامهما، فلذن وراءها سريعاً، وراح ينبض قلبها خوفاً، وأصبحت الثياب على جسمها أثقل وزناً، وانتابها خوار في قواها، فأسندت ثقل جسمها على كتف فيفيان، طاردة فكرة أن تتهالك على الأرض تعبة، وتمنّت أن تدوس قدماها على غصن لتجعله عصاً تتوكأ عليها، لكن أمل النجاة كان يستحثها السير، وراحت تسابقها السير فيفيان، فتضطر لتتنحى جانبها حتى لا يحجب جسم فيفيان ضوء المصباح عمن يبحثون عنهما. واطمأنّ قلباهما لهاجس أن تكون الصخرة الكبيرة قد حجبت أفق سيرهما عن مرمى البندقية، التي استهدفت طلقتها رأسيهما قبل قليل، فاتخذتا طريق السير باستقامة، ليكُنَّ وراءها في المسافة المتبقية حتى وقوعهما بين الأيدي التي تبحث عنهما لتحميهما من بطش تلك الطلقة وفتكها، إن أعيد رمي ثانية غيرها.

مرّ وقت طويل وهما تسيران قدما على طريقهما، وخمّنت فيفيان أن الوقت المقرر للإضاءة، من مسدس التنوير، فات موعده كثيراً، وكانتا في حالة ترقب تخطف الأنفاس، وأصبح حفيف ثوبيهما مزعجاً، ويثير الضوضاء قربهما.

هبّت نسمة ريح صفرت في الوادي، فنعقت بومة في الخلف، وعوى كلب اجبره الرصاص أن يحتمي بين صخور الوادي بعيداً عن المدينة وضوضائها، واقترب قرص القمر من قمة الجبل، فتلوى الطريق أمام عينيهما كأنه أفعى طويلة التفت بين صخور الجبل.

تناثر الحصى بعيداً أمامهما، وشعرتا أن ثمة أرجل تقترب منهما متعثرة فيه، لوحت بهار بمصباح الهاتف، وانتابهما فزع شديد، فكمنتا وراء صخرة كبيرة ترقبان الأقدام المتعثرة، توقفت حركة الأقدام وخمّنت بهار أنهم ربما كمنوا وراء صخرة يرقبون إشارة المصباح، فنهضت وأخرجت طرف ذراعها من جانب الصخرة ولوحت بضوء المصباح، فهمس صوت خفيض فيه ارتعاش فرحة:

- بهار. . . بهار.

نهضت بهار وفيفيان من وراء الصخرة كاشفتين جسميهما للقادمين، وصاحت بهار دون خشية:

- سكمان . . . أنت سكمان.

فقال سكمان بلغة تعودت سماعها أيام تعرفت عليه في الجامعة:

- اخفضي صوتك يا مجنونة.

نحبت فيفيان وانهمر الدمع على خدي بهار دون أن تبكي، اقتربت المجموعة منهما، وراح أفرادها يرددوا كلمة(سلامات) بالتعاقب، وارتمت بهار تنشج في حضن سكمان، وذراعاه تربت على كتفيها.

أسند أفراد المجموعة بهار وفيفيان على أكتافهم، وكانت أوصالهما ترتجف لكل يد تمتد لإسناد جسميهما، وأفكارهما مشوشة مضطربة، وبان انتفاض أوصالهما ترتجف مثل سعف النخيل، وتشوش همسهما على شكل صور راحت تراود خيالهما عن مقاطع قتل واغتصاب، وراود بهار كابوس رأس آمال المعلق في السقف يقطر دما مرة أخرى بين فخذيها، وبدت إمارات الانهيار النفسي عليهما، وردود الفعل المرتابة في سلوك من يسعفهما وتطوع من بينهم ليحمل على ظهره من لا تقوى على السير، لكن بهار رفضت ذلك مستفزة، وفي داخلها إحساس أن أيدي المنقذين قد تتحول بقدرة قادر لأياد تشبه يدي أبي قتادة، التي كانت قبل ساعات تريد أن تسلمها لقمة سائغة بين يدي ضيفه ، فتحركت الأقدام تحثّ الخطى إلى الجبل، وأوعز سكمان لصحبه قائلا:

- بسرعة، مستشفى الصليب الأحمر، مخيم النازحين . . . . هناك خلف الجبل.

(27)

طُرِقَ الباب وانسلت من خلفه فيفيان، نشطة، ترنو الابتسامة من شفتيها، وتسوي بأصابع كفها اليمنى، كالمشط، خصلات شعرها المتساقطة على جبينها، فركت يديها كمن تمسك شيئاً على أخرى، وتريد تأكيداً منها لا تراجع فيه:

- هيا إحكي، بسرعة. . بسرعة.

ثم انتبهت لما بين يدي بهار فأضافت:

- أغيثيني يا أم يسوع . . وفوقها تدبجين أوراقاً، وأنا آخر من يعلم!

فقالت بهار تجاريها الأسلوب نفسه الذي تحكي فيه:

- والله وبالله وتالله، أنا أشبه بنتاً في الغرفة المجاورة اسمها فيفيان. .

نقرت بهار بكفها على كومة الأوراق في حضنها وقالت:

- إن كنت أنا أدبج ورقة واحدة، فتلك تدبج عشرات الأوراق. . تعرفينها طبعاً!.

فردت فيفيان ضاحكة وقد أسقطتْ بهار صيغة البحث والتساؤل، منها:

- يا ملعونة، أيعقل أن أغلبَ من يعينها الرب والحبيب. . أنا الضعيفة المسكينة؟!.

ضحكن معاً، وحضنت فيفيان على جلستها فوق السرير، ربتت كتفي صديقتها، وأزاحت جسمها عن مكانه قليلاً، ثم أشارت لها قائلة:

- تعالي . . . تعالي، هنا قربي.

قفزت فيفيان على السرير وكاد جسمها يلاصق جسم بهار، وقالت محاولة أن لا تنسى استنطاقها الذي دخلت فيه:

- يقولون رنين الهاتف لا ينقطع عن غرفتك. . . لاسيما آخر الليل.

فردت بهار مندهشة من معلومة تخرج إلى ممر المستشفى دون أن تبوح بها لأحد:

- كيف وصلك الخبر؟. . من قال ذلك؟ ، أنا لم أصرح فيه لأحد!.

أجابت فيفيان حالمة بلحظة مثل التي تعيشها بهار ليلاً:

- همسك، والضحكات المكتومة في ليل المستشفى.

قالت بهار مسلمة:

- طيب . . موافقة. . همسي والضحكات المكتومة في ليل المستشفى لا أنكرها، لكن من سمعها، وأوصلها لكِ؟!.

قرصتها فيفيان من خدها ودندنت في أذنها:

- أما سمعتي أن كل الأصوات ليس لها جناحان تطير بهما، ولا يحس الآخر فيها، إلّا همس العاشقين له جناحا نسر، مفرودين، وصفقهما يحمرُّ منه الخدان، وتكتنز الشفتين، ويجف الريق، وتسرق العصفورة غفلة ما يلوكه اللسان!.

ضحكت بهار وقالت مبهورة:

- يا سلام!. . . صرتِ شاعرة بقصتي.

ترقرق الدمع في عيني فيفيان وفاض الصدق فيهما:

- وحق الرب وأمنا العذراء، فرحت لكِ كثيراً.

شكرتها بهار وأسرت لها:

- أمس اخبرني بقدومه اليوم، لكنه تأخر كثيراً. . .

قاطعتها فيفيان تريد أن تبعد عنها شبح التشاؤم:

- بودي أن أراه يزقزق لكِ، وأنا قربكما.

- لن يفعلها لو مُلِكَ الدنيا وما فيها. .

صمتت هنيهة وأكملت:

- ثم من قال لكِ أني سأسمح بذلك؟!.

دخلت الممرضة وقالت باقتضاب بعد أن ألقت التحية سريعاً:

- عدّلي وضعك. . سيمر الطبيب على غرفتك.

أرادت فيفيان أن تتركها، وتوجّست أن يمر الطبيب على غرفتها ولا يجدها، فأشارت لها الممرضة بالبقاء وقالت:

- لا فرق بين الغرفتين، مادمتما معاً.

سوّت الممرضة أغطية السرير، وغطت رجلي بهار فوق الركبتين، وأسندت ظهرها بالوسائد متشاغلة معها ريثما يدخل الطبيب، وجلست فيفيان على كرسي بجانب بهار تقلب في أوراقها، مبتسمة مرة ويكفهر وجهها في المرة الثانية، وأرادت أن تداخل بهار في الذي استطاعت أن تقرأه من أوراقها، لكن باب الغرفة طُرق ودخل الطبيب، فأجّلت فيفيان نقاشها لما بعد خروجه، إن تذكرت ذلك.

راجع الطبيب طبلة علاج بهار ونقر بقلمه عليها ، ثم أرجعها لمكانها وقال:

- من خلال المتابعة، ونتيجة لاستقرار حالتيكما، أصبح من حقيكما أن تغادرا المستشفى غداً إذا رغبتما في ذلك.

ثبت نظارة عينيه على أرنبة انفه، ودقق النظر في وجهيهما ليراقب ردة فعلهما على قراره، وقال موجهاً كلامه لبهار:

- وأعتقد يا ابنتي بهار، وراء هذا الباب من يسأل عنك.

خفق قلب بهار وغشاها الحياء، فقالت مدارية أن لا تكون عيناها بعيني الطبيب:

- هذا زميلي في الجامعة، أسمه سكمان ، وهو من ساعد في إنقاذنا. . عندك فيفيان سلها.

دارى الطبيب ابتسامة أرادت أن تترشح على غمازة خديه، وعض على شفته السفلى، ليتحاشى انفراج فكي أسنانه البيضاء فيفضح أمره وقال ملمحا:

- سأتجاوز السؤال عن مصدرك في الحصول على معلومة وجود سكمان في المستشفى ، وأقول إنه موجود في ضيافتي منذ أكثر من ساعتين. . .

تشتت ذهنها وأحست أن في الأمر ريبة، وردت على الطبيب ناسية أنها قبل دقيقة أنكرت له أية علاقة لها مع سكمان، غير زمالتها الجامعية:

- منذ ساعتين في ضيافتك ، ولا يأتي عندي!. . اقصد يزورني.

فأخذ على الطبيب وأحس أن ما خطط له سينكشف سريعاً، فيما فكرته تقتضي أن يغذي دماغها بمعلوماته شيئاً فشيئا:

- أراد أن يزورك منذ أول قدومه، لكني استبطأته . . أدردش معه.

ولكي يقطع نقاشاً قد يفضي لمنزلق آخر أشار على الممرضة أن تدخل سكمان :

- دعيه يدخل. . . اسمعي ، أقصد سكمان.

وأشار بيده محذراً الممرضة التي انسلت من الغرفة خفيةً، لتغيب دقيقة وترجع يعقبها سكمان ببدلته المرقطة قائلاً:

- صباح الخير. . كيف الحال بنات؟.

كان يبدو رابط الجأش، لكنه بدا لفيفيان كأنه يؤدي دوراً طُلب منه، وكان لا يفتأ يحك أرنبة أنفه تحسساً بين كل فاصل حركة تبدر منه أو من غيره، دار على نفسه، وقال دون أن يركز نظره على بهار:

- بهار تتذكرين عندما قلت لكِ أن أباك موجود في السويد؟. . صح؟

واعدّ الطبيب كلمة (صح) التي نطق فيها أخر كلامه لفتة ذكية منه، ليستنطق بهار ويجعلها تجاريه، فردت عليه باقتضاب:

- صح.

وأضافت واجمة:

- أكمل.

قال:

- وصلته معلومة إنقاذك، وهو في الطريق إلينا.

فقالت ضاحكة ببشر:

- والدي سيأتي إليَّ.

فقال سكمان سريعاً:

- ما رأيك؟

نست نفسها ثانية وقالت:

- انتهت نصف مشكلتي برؤيتك، وسينتهي نصفها الثاني برؤية والدي.

أدار الطبيب ظهره لها حتى لا تُحرج وقال:

- وربما سيأتي اليوم ليصطحبك معه.

صححت للطبيب قائلة:

- بل سيصطحبني وفيفيان.

وعاندت كالطفل:

- ولن أبرح مكاني دونها. حتى تجد أهلها. . وعهداً عَليَّ سأبحث عن أهل آمال وأمنحهم أملاً في موت ابنتهم. . . .

ورفعت رزمة أوراقها أمام أعين الموجودين وأكملت:

- سأحكي لهم قصة موتها، وكيف ظُلمت مرفوعة الرأس.

أغرق الدمع عيني فيفيان، وقالت تواسي نفسها قبل أن تشكر بهار:

- أهلي موجودون، ثم هم كثر ، ولابد لي من أن أجد أحدهم حياً يرزق.

كفكفت دمعها براحة يدها وأضافت:

- المحنة محنتك أنت!. . فليس لك في الدنيا غير والدك و. . سكمان.

رد سكمان سريعاً:

- ستكون بمقلة عيني.

عبّأها الوجد وفاض فيها الحنين فأجابت على استحياء:

- تسلم عينك.

استغل الطبيب حالة التضامن مع بهار وأسَرَّ لها باسطاً يديه كأنه يخرج آخر ما في عبه:

- بهار. . . والدك في غرفتي، استعدي لاستقبال أحضانه.

غطّت بهار وجهها المحمرّ بيديها، ثم رفعتهما عنه وشخصت عيناها على بلاط الغرفة شاردة الفكر.

(28)

قبل ظهر ذلك اليوم، شاهد العاملون في المستشفى فتاتين تخرجان من البوابة الرئيسة للردهات الخشبية، وفي أيديهن رزمة أوراق، بصحبة رجل كهل خط الشيب مفرقه وانحنى ظهره، وشاب ممشوق القامة، يلبس بدلة عسكرية مرقطة.

28/6/2016

هوامش:

((1 بهار: أسم علم كردي لأنثى، ومعناه ربيع في اللغة العربية.

(2) شمو : اسم علم كردي للرجل، مشتق من يوم شمي أي يوم السبت.

(3) طاووس ملك: رمز الديانة الأيزيدية، ويمثل فيها نور الخالق العظيم، المكلف بإدارة وتنظيم شؤون الكون.

(4) التقية: روي عن الإمام الصادق وهو الإمام السادس عند الشيعة الإمامية أنه قال "التقية ديني ودين آبائي" و "من لا تقية له لا دين له" والتقية عند الشيعة الإمامية منهجٌ، يلجؤون له دفعا للضرر عنهم وعن أتباعهم وحقنا لدمائهم. وما زالت التقية سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم، وكل إنسان إذا أحس بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم، ويتقي في مواضع الخطر.

(5) سيفي : أسم علم كردي لأنثى، ومعناه تفاحة في اللغة العربية.

(6) الماسوشية :التلذذ في إيذاء النفس.

(7) كتاب الجلوة: كتاب مقدس في الديانة الأيزيدية.

(8) كتاب الجلوة الفصل الثاني.

(9) كتاب الجلوة الفصل الأول.

(10) خديده: اسم علم كردي للذكر، مشتق من كلمة (خدي) التي تعني الله.

(11) السادية : التلذذ في إيذاء الغير.

(12) عيد خدر:عيد الزواج والتمني، مثل عيد إلياس وعيد النبي.

(13) بير لبنا:البير في اللغة الكردية يعني المسن/ العجوز، إلا أنها تأتي بمعنى الكاهن أو شيخ الطريقة في التراث الأيزيدي. وبير لبنا يعده الايزيديون، إلها للزواج والتمني، يتم التوسل إليه في عيد خدر إلياس وخدر النبي.

(14) القرص:قرص معمول من طحين القمح المحمص، مع كمية من الملح الزائد كي يتحسس آكله برغبة كبيرة لشرب الماء، يقوم الشباب (العزاب) من كلا الجنسين بتناوله في ليلة العيد، مسلوقا بعد عجنه، ويتوجه كل ولد أو بنت أكل القرص بالتوسل لبير لبنا لتحقيق أمنيته بالزواج، ومن يشفي غليل صاحبه بجرعة ماء في المنام سيكون من نصيبه مستقبلا.

(15) سكمان :اسم علم كردي لذكر، وتعني في الكردية : الهداف/الذي يجيد التصويب.

(16) السيدة : تسمية كانت تكنى بها رغد صدام حسين، أبان فترة سقوط الموصل بيد تنظيم داعش، وما رافقها من مجزرة راح ضحيتها جنود عراقيون، يدرسون في قاعدة سبايكر هناك، وأدلى من تورط في دمائهم إثناء اعترافاتهم، بعد سنة من وقوع الحادثة، أن رغد كانت على علم بتلك المجزرة، وأشاروا لها بكنية (السيدة).

(17) القصور الرئاسية: القصور التي بناها صدام حسين في المحافظات، أبان فترة حكمه للعراق، والمقصود في الإشارة التي وردت هي القصور المشيدة في قضاء تكريت، والتي جرت فيها الإعدامات الجماعية، لما تعارف عليه في حينها (بالمجزرة الجماعية لجنود قاعدة سبايكر العسكرية)، والتي اتهم فيها أعضاء من حزب البعث، وقيل إنها تمت بإشراف من رغد صدام حسين (السيدة).

(18) حرف (ن):حرف كان يضعه تنظيم داعش على عقارات المسيحيين في مدينة الموصل، داخل دائرة للدلالة على أن العقار يخص أحد النصرانيين، كما يعبر أفراد التنظيم عندما يشيرون لأملاك أي مسيحي، تقع تحت سطوة دولتهم هناك.

(19) إنجيل متي الاصحاح5/39.

(20) أيزيدا: زمن السومريين والبابليين هو الخالق العظيم رب العالمين، وله معبد في بورسيبا ببابل، على نهر الفرات، ومنه اشتقت كلمة الأيزيدية، لكن أمر الاشتقاق هذا فيه نقاش واختلاف بين الباحثين في أصل الديانة الأيزيدية واشتقاق اسمها.

(21) وادي لالش:الوادي المقدس عند الطائفة الايزيدية، يقع بين ثلاث جبال، جبل مشتيMeştê وجبل هزرتيHizretê وجبل عرفاتErefat، على بعد 15كم شمال مدينة شيخان، وشمال شرقي جبل شنكال، بمسافة125 كم تقريباً، ويبعد 200 كم من مدينة شنكال الوقعة جنوب الجبل بكيلو متر واحد تقريبا . وفي الوادي يوجد قبر عدي بن مسافر، الذي تحج له الطائفة كل عام، ولا يدخله شخص منهم ما لم يكن حافي القدمين، حتى ينهي طقوس الحج كلها ويخرج من الوادي، وذلك تبركا وتقديسا للوادي ومن فيه.

(22) البير: (في اللغة الكردية تعني المسن/ العجوز إلا أنها تأتي بمعنى الكاهن أو شيخ الطريقة في التراث الأيزيدي) راجع كتاب ميثيولوجيا الديانة الأيزيدية لهوشنك بروكا الصفحة 112.

(23) أيزيد خان:أيزيد اسم من أسماء الله في الديانة الأيزيدية، وخان تعني الشعب في اللغة الكردية، ويكون معنى دمج الكلمتين شعب الله.

(24) فتكوكعت الحية وسدت الثقب) مصحف رش الفصل الخامس السفر: 49.

(25) الإنغماسية : اشتقاق من اصطلاح الإنغماسي، وهو كل إرهابي يتقمص شكل المجموعة، ويتخذ تصرفاتها عنوانا لسلوكه، لينغمس وسطها ويفجر نفسه انتحاريا عليها.

(26) يقــع جبــل مكحــول وســط الجــزء الــشمالي مــن العــراق، باتجــاه شــمال غــرب وبامتــداد ( 37 )كــم مــن منطقــة الفتحــة الواقعـة شـمال قـضاء بيجي، التـابع لمحافظـة صـلاح الـدين، والتـي تبعـد 240 كــم شــمال مدينـة بغـداد .

(27) هناك اعتقاد في الميثولوجيا الأيزيدية أن روح الأيزيدي تبقى داخل دائرة وادي لالش المقدس مادامت لم يخرج صاحبها عن دين الأزيدية أو مروقه وخروجه عن الإيمان بالله.

(28) طبقة الأمراء:هي الطبقة التي لها الحق المشروع دينيا في تسلم السلطتين الدينية والدنيوية، وهي الطبقة الآمرة الناهية في كل صغيرة وكبيرة بين أبناء الطائفة الأيزيدية. وتعتبر قرية (باعدرى) في قضاء الشيخان العراقي، مركزا لأسرة الأمراء، وفيها قصر الأمارة.

(29) طبقة البسميريين: البسمير في اللغة الكردية يفيد بمعنى ابن الأمير أو قريبه، والبسميريون في هذا المعنى هم آباء عمومة طبقة الأمراء، لكن سطوة طبقة الأمراء في مجتمع الديانة الأيزيدية، جردهم من صلاحية الطبقة الثانية .

(30) طبقة الشيوخ:طبقة لها قدسيتها وحرمتها الدينية والاجتماعية، وبيوتهم لها قدسية هي الأخرى لدى الأيزيدي، ويتم التبرك والطواف فيها أيام الأعياد والمناسبات، وفيها توجد النياشين والرموز الدينية لطاووس ملك، والشيخ آدي الذي سيرد التعريف به لاحقا في الهامش 33.

(31) طبقة البيرة: تقع على عاتق هذه الطبقة مهمة تربية الأجيال الأيزيدية تربية دينية سوية، ولهذا السبب ليس للبير مربٍ كسائر الأيزيديين لأنه هو المربيّ، وبالإضافة لهذه المهمة فأن البيرة يؤدون مهاما أخرى كغسل الميت، وترتيل الأدعية الخاصة على المرضى، لشفائهم وتطهيرهم من الأمراض.

(32) طبقة الفقراء: وهم الزاهدون والناسكون وتاركو الدنيا، الذين يهجرون ملذاتها ويتوجهوا لعبادة الله والسجود له.

(33) الشيخ عدي: آدي وهو الشيخ عدي بن مسافر ولد عام 1075 م، في قرية بيت فأر بالقرب من مدينة بعلبك في لبنان توفي ودفن عام 1162م في وادي لالش بين جبال سنجار في العراق، في الخلوة التي بناها بنفسه وسكنها مريدوه من بعده وأصبحت مكان حجهم كل عام، ويشتهر مدفنه بقببه الثلاث المخروطية الشكل والتي تقع في محيط قرية باعدرى.

(34) هناري: اسم علم كردي لأنثى وتعني رمانة في اللغة العربية.

(35) خمري: اسم علم كردي لأنثى وتعني أنيقة في اللغة العربية.

(36) روشي: اسم علم كردي لأنثى وتعني ثقافة في اللغة العربية.

(37) إشارة لعدد الإبادات التي تعرض لها الأيزيديون عبر التاريخ.

(38) الديانة الأيزيدية تحرّم قطع الأشجار، أو قتل أي حيوان يقطن غابة وادي لالش الكثيفة بأشجارها منذ القدم.

(39) تلعفر: مدينة عراقية، تعني تل التراب وتأتي بمعنى أخر تل الغزلان، وقد تكون سميت بتل الغزلان لوجود حيوان الغزال بكثرة فيها سابقا، أو لما يعرف عن هذا الحيوان وقوفه على التلال والروابي لو أحس الخطر، أو أراد أن يستكشف المنطقة التي يرعى فيها. وتلعفر المدينة قضاء يقع في شمال غرب العراق، ويتبع لمحافظة نينوى التي يبعد عنها حوالي 65 كيلو متر، ويبعد عن جبل سنجار حوالي 25 كيلو متر.

(40) قبلان تبه: قبلان اسم لعشيرة تسكن قضاء تلعفر، وتبه في اللغة الكردية تعني التل، فيكون معنى قبلان تبه: تل قبلان.

(41) أبو بكر البغدادي : هو إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري السامرائي، وشهرته أبو بكر البغدادي، قائد تنظيم القاعدة في العراق والمُلقب بأمير دولة العراق الإسلامية، وهو المسؤول الأول عن الإبادة التي تعرض لها الأيزيديون في العراق عام 2014، باعتباره أمير منظمة داعش التي عدت دوليا منظمة إرهابية متطرفة، تستخدم العنف، والتهجير، والتفجير، والقتل على الهوية، والسبي، ضد كل من يعارضها فكريا، ودينيا، ومذهبيا.

(42) كلكامش: ملك سومري أسطوري ظالم، وهو خامس ملوك أورك، بعد صراع ومعاداة ونزال فيه خديعة منه بواسطة خادمة القصر شامات، مع البطل الأسطوري المتوحش انكيدو، ينتصر فيه الملك كلكامش، ليكونا صديقين مقربين بعدها، لكن موت انكيدو يدفع كلكامش لأن يبحث عن سر الخلود، ويحصل على زهرة الحياة التي فيها الخلود لكن ترياقها يضيع منه، ويكتشف في النهاية أن الخلود ليس بالأعمار، بل في الأعمال، فيعدل عن ظلمه.