تطرح هذه القصة بلغتها الشفيفة، وحوارها الخلاق بين الواقعي والتاريخي والذي يتجاوز الحدود اللغوية والجغرافية، سؤال قدرة القصة القصيرة على الحوار مع الأسطورة، والسمو باليومي إلى مجال الشعر، كي يخلق الحاضر أسطورته. بصورة تتراكب فيها طبقات المعاني والتأويلات وتتطلب أكثر من قراءة كي يهتدي القارئ لمفاتيح شفراتها.

سوسنٌ

عاطف سليمان

يهفُّ نسيمٌ في عتمةِ الصبح، ينكُتُ حَصاةً هنا ويٌطيِّر ريشةً هناك. يهُزُّ غُصناً، ويشلحُ ذيلَ ثوب. يُؤنِسُ رجلاً بامرأة ويُؤنِسُها به، يُؤنِسُهما ويسْتوصي. وفي العتمةِ تُقدَحُ أبدانٌ وتُسقَى، وتختلجُ الروحُ كزهرة.

وعلى سُننِ عتمةِ الصبحِ يتبدّى ديابُ ويكونُ هو، وتتبدى ـانـﭽـيرا وتكونُ هي، والهوى طليقٌ يتغشَّاه ويتغشَّاها، في صباحاتٍ معمورةٍ بالأنسام.

يتنفسان وأصابعهما مشبوكة. يهمسُ لها، وتهمسُ له. ينثنيان. وفي عِناقهما يقترنان، يتناهى فيها، تتناهى فيه، يتناهيان، يتساكنان، يتحارثان، يُشرِقان، ومعاً يتكلَّلان؛ مُرتدَّان إلى كائنٍ وحدانيٍّ كاناهُ؛ هي ـانـﭽـيرا، هو دياب، ولقد أوْلَـتْهُ، وأوْلاها.

بدماثةٍ مالت ـانـﭽـيرا وأومأت برُكْنِ عينها اليمنى إلى دياب إيماءةً، بزاويةِ عينها لا غير، وهو لا يدري كيف فَهَمَ بسهولة أنها تطلب منه أن ينْسَلَّ فيخرج ليتمشَّى، ويغيبَ ساعتيْن أو ثلاث، حتى يتسنَّى لها أن تنفردَ بوحدتِها!

وإنها، لوقتِها، تتحرَّق إلى الاختلاء بنفسها كيما تتهيَّأ للاتصال روحياً بجِدِّها الياباني دايسوكي العائش في تايلند، الذي هو جدها لأمِّها، وتخطى عمرُه مئةَ سنة وسنتيْن اثنتيْن. وكانت، بالتعالُق الروحي، قد استشارته وقتما التقت ديابَ، قبل ثلاث سنوات، فأطلعته على صورة وجه فتاها، وأوحت إليه: هل تراها؟ فجاوبها: وأرتضيها. ولقد بَارَكَ التقاءَهما، لكنه عاد وحذَّرها، ثم عاد وتراجع عن تحذيره.

قبل احترارِ الضُّحى نزل ديابُ سُلَّمَ البيت وهو ساهٍ يحدِّق في رخامِ دَرجٍ نالَ منه حَتُّ أقدامٍ صعدت وهبطت لعشرات السنين. تفكَّرَ في حَتِّ قدميْه هو أيضاً، وتفكَّرَ كذلك بأنَّ عليه تفادِي وَهجِ الصيفِ الغالِب في الشوارع، هذا الذي يُصْمِيه مثلما يصميه الصخبُ.

وصلَ إلى الأرض ورفع عينيه فرأى في مواجهته كلباً نحيلاً رمادياً جاثماً فوق دِّكّة البوَّاب في باحة المدخل، وقائمتاه الأماميتان الرفيعتان مفرودتان ممدودتان أمامه، على مِثالِ حارسِ الموتى والجبَّاناتِ الكلبِ القديمِ أنوبيس. وكان أنْ تلقَّى من عينيْ الكلب الالتماعةَ الأبنوسية والنظرةَ الـمُنتبِهةَ الـمُتخطِّيةَ، التي كأنها تنفَذ في الـحُجُب. غَامَ، وانقبضَ قلبُه تَطَيُّراً، أتُرانا موتى ولا ندري! أنبأَ نفسَه بالغيمةِ التي لَمَحَها في عينيْ ـانـﭽـيرا قُبيل نزوله، إلا أن الطلْعةَ الرزينةَ لوجه الكلب الهادئ بدَّدت حِيرتَه وانقباضَه، فاستأنفَ تخطيطَه لأمورٍ طَرَأَ له أن يؤديها ومُشترياتٍ استحسنَ أن يتسوَّقها كيما يُزجي الوقتَ الفارغ.

سُرعان ما تلاشى الأنوبيسُ، بوداعتِه، من خياله، ونُسِيَ الموتُ ونُسيَّ الغيْمُ، غير أنه بعدما رجع في الظهيرة ودخل إلى ظِل الباحة وَجَدَ الكلبَ قابعاً، لا يزال، على حالته، وإنْ كان قد بدَّل موضعَه واتجاهَه فصار بمواجهة الداخلين. وقف ديابُ ومسحَ لزوجةَ العرقِ عن جفنيْه، وندَّت عنه انتباهةٌ إلى أذنيْ الكلبِ العاليتيْن المشرئبتيْن اللتيْن ربما كانتا، لِشأنهما، تتسقَّطان مَسامِعَ من أقاصي الأزمنة ومن أعقدِ الأمكنة، وتتلقَّيان، ربما، ما لا قِبل للبشريين به.

* * *

ستائـرٌ ثقيلة مُسدَلة تعزلهما عـمَّا حولهما كقشرةِ بيضة، فلعلهما نائمان، يتفلَّتان من نفوذِ صيفٍ مُتقدٍ يُزهِقُ بفوائضِه خواطرَ الإنسان. أيقظته من قيلولتِه خبطاتُ البوَّاب:

  • كلبٌ غريبٌ عضَّني.
  • أي كلب؟
  • كلبٌ شاردٌ، ضبطتُّه قابعاً على دِكَّتي، ولـمَّا تـخاشنتُ عليه لإنزاله اِلْتقمَ رجلي. عقرني.

شـَلَحَ طرفَ جلبابه، وأبانَ ربلةَ ساقه اليسرى فظهرت بها نُدبةٌ رقيقة ملساء جافة كالحة السواد، وبالقرب منها نقراتٌ أقل اسودادا.

  • ومتى كان ذلك؟
  • منذ سبع سنين.
  • سبعُ سنين! وتشتكي منها اليوم؟!
  • لـمَّا ظهر الكلبُ مجدداً تهيَّج الجرحُ القديم، ونَبَحَ فيه الوجع.
  • لكن، هل عضَّكَ الكلبُ اليومَ أيضاً؟
  • لا. إنما حَكَّ فحسب، من تحت جلبابي، ساقي المعضوضة، ومشى.

عَلِمَ ديابُ من البوَّاب أن الكلب لم يدخل البيتَ سوى في هاتين المرتيْن، لكنه ظل مُسدِّداً نظرتَه في جبين هذا الواقفِ أمامه آملاً في الاستنباءِ منه عن المزيد، ثم دخل وعاد وأعطاه نصفَ حِفنةٍ من المسكِّنات، كيفما اتُفق. وإذْ ذاك لاحت ـانـﭽـيرا بملامحها التايلندية من أقصى عتمة الصالة، وقد أتت من المخدع تتهادى في بيجامة النوم الوردية وتتثاءب وتترنَّح من نُعاسها الذي همدت فيه فور انتهائها من اتصالها المضني بجدِّها، وكان ديابُ المستلقي قد انسلَّ بخِفةٍ من جوارها، كيلا يُفيقها، مُجيباً غِلظةَ طارقِ الباب.

طَرَفَ البوَّابُ بعينيه تلقائياً إذْ لمحَ الطيفَ المتهادي في العتمة، وانصرفَ وهو يكاثرُ ضغينتَه ضد هذا الذي حَظِيَ بالأطايب، هذا الذي أعطاه نصفَ حِفنة.

* * *

في سنتيْها الخامسة والسادسة واظبت ـانـﭽـيرا على التأنُّق بزهرةِ سوسن ترشقُها لها أمُّها في الجدائل الصغيرة، ودَاومَ دايسوكي، بسنواتِ حياةٍ تجاوزت السبعين، على مرافقتها إلى حديقة الحيوان، ولطالما استعذبَ مرحَ الطفلةِ التي دأبت آنذاك على الانفلاتِ من يديه، والركْضِ وهي تزقزق، لَكأنها متحفِّزةٌ لاصطياد ما لا يُرى، إلى أنْ تقفَ ساكنةً، مُغمِضةً عينيها، على مقربةٍ من الحيوانات، متمايلةً برأسها جهة اليمين وجهة الشمال. وبمرور الوقت بَانَ له أن ـانـﭽـيرا تتسمَّع إلى ما سوف تعيدُ تمثيلَه لاحقاً أثناء لعبِها وحيدةً أو مع أطفالٍ آخرين، وأنها ببراعةٍ تقلِّد بشفتيْها وبطرقعات أصابعها أصواتَ رفرفاتِ أجنحة العصافير ودقاتِ قلوب الهررة والدببة والغزلان.

ما طال الوقتُ حتى تحاكى الأهلُ متباسمين، وقد غدا معلوماً أن ـانـﭽـيرا مرهفةُ السمْع إلى حدِّ أن حفيفَ ثوبٍ على بُعد متريْن منها بمقدوره أن يوقظها من نومها، فعاشت سنواتِها تلك محرومةً من النوم الثقيل، واستُبقيتْ، بلا حوْلٍ، في عيْشٍ لا قُدرةَ لها فيه على الجزْمِ بخصوص وقائع الحياة الفعلية؛ ذلك أنَّ الفارقَ الواهي بين نومِها ويقظتِها تولَّى دائماً خَلْطَ مناماتِها بمجريات الأحداث اليومية.

* * *

كانت ـانـﭽـيرا في الخامسة عشر من عمرها وقتما انشغفت بحبيبها الصبي ذي الشارب النامي والعينين اللامعتين، الذي غازلَها بهمْساتٍ خافتةٍ لم يسمعها سواها على الرغم من وجود صبيتيْن أخرييْن في المسافة بينهما فأهدت إليه، سِراً، جديلتَها الـمُسقاةَ بدموعها. وبإثر طيفِه، الذي لا يني يملأ الأفقَ أمامها كلما خطت في طريقٍ، تـخلَّق لها أسلوبُها الأبدي الخلَّاب في السيْر مُتهاديةً. ولقد أدمنت على مُطالعة ذلك الطيف الهائل العزيز وهو يرافقها طوال زياراتها اليومية لجدِّها في جناح المعقورين بالكلب في المستشفى، بعد أن نَهَشَه كلبٌ شارد. ولأيامٍ متتالية اعتاد الأطباءُ والمسعفون والممرضات رؤيتَها آتيةً بلباس المدرسة، بعد انتهاء دروسها، وحقيبتها في حضنها، وبين أصابعها وردة مُنداة تلاطِفُ بها وجهَ دايسوكي قبل أن تمسح بها على ضمادتِه وتضعها بجواره على وسادتِه، ولطالما هشُّوا في تلك اللحظات لابتساماتِه ولانوا لقهقهاتِه المنشرحة.

ذات يوم رجعت ـانـﭽـيرا إلى البيت قبل ذهابها إلى المستشفى لأجل تغيير ثيابها لأن الحيْضَ فاجأها أثناءَ الدرْس. وبينما هي لابثة على الباب تَهُّمُّ بفتحِهِ، تناهت إلى سمْعِها وشْوَشاتٌ، وما كان عسيراً عليها أن تتعرَّف على الصوتيْن، فبُهِتت، وجمُدت واقفةً تتسمَّع ويدها تُساكِنُ قلبَها وقد تعالى عَجيجُه، ثم كان أنْ أتتها غنجاتٌ ووحْوحاتٌ ولَغطٌ وألفاظ. نزل على بدنِها تبلُّدٌ ورَهـَقانٌ فقعدت على الأرض لتستفيق من كربها، وكان دمٌ يسيل على باطن فخذيْها نازِلاً إلى ركبتيْها فتحايلت حتى جفَّفته بطرفِ تنورة المدرسة، ثم مضت إلى المستشفى بلا طيفٍ في سمائها وبلا وردةٍ نديّة بين أصابعها، ولم تتوانَ عن إخبار دايسوكي بما سمعت. وبينما كانت تحكي هي له، كُلَّما خلت لهما الغرفة، راح هو يواكبُ ويُتمِّمُ كلامَها بإيماءةٍ عليمةٍ أو بنظرةٍ عارفةٍ فأدركت، مثلما أدركَ، أنه يدري ما بعقلها، وأن فؤادَه مُتعالِقٌ مع فؤادها باتصالٍ رائقٍ لا تَلزَمه كلمات. ولقد بكت في نشيجٍ فَرَضَ الصمتَ على الحاضرين، وما إنْ هَمَّت بالانصراف حتى لحقت بها ممرضةٌ لحظت أثرَ الدم، فحذقت أمرَه، وعاونتها.

على الرغم من أن ـانـﭽـيرا كانت فتاةً صغيرة لا تزال، إلا أنها فكَّرت برصانةٍ، وهي في طريق رجوعها إلى البيت، وأرجعت إلى الكلبِ الذي نَهَش جدَّها الفضلَ في ما أودى بها إلى معرفة ذلك السرِّ، بصرف النظر عن سوئِه.

لبثت على باب البيت من جديد مُنفطرةً، غير أن ارتياحاً غريباً كان يصَّاعدُ فيها من أعماقها يُلِينُ انقباضةَ شفتيْها. إنها في لحظتِها تأْلَـمُ ولا تألـمُ، ويتناوبُ على روحِها الحزنُ والاطمئنان، ويتحدَّدُ لها في مُحياها قبسٌ وأخاديدُ من قسماتٍ لا تحظى بها إلا راهبةٌ تدوسُ في الأكدار. ساءلت نفسَها فجأةً: لماذا عضَّ الكلبُ جدي؟!، وانتشأ لديها فضولٌ لمخالطة الكلاب، لكنها كذلك عزمت على توديعِ أهلها والرحيلِ النهائي عن البيت ما إنْ تتبدَّى لذلك الفرصةُ. وفي تلك الليلة فكَّرَ دايسوكي في أنَّ ما يلائمه هو ألَّا يستقر في قلبه أيُّ بُغضٍ للكلاب، وتَخيَّل أنه سيرعى كلباً صغيراً حالَما يعود إلى البيت. وفي اللحظات نفسها بتلك الليلة، كانت ـانـﭽـيرا ساهرةً تمسحُ دموعَ شجنها وتربُتُ على خديْها ربتاتِ حنان، وتتداوى من مصيبة نهارها، ورويداً رويداً التجأت إلى طيفِ جدِّها واستكانت إلى الراحة في هيأةِ وجهه الباسمة التي حَضَرَتها، وساءَها أنها غفلت عن تحضير هديةٍ تُبارِكُ له بها شفاءَه وتسلِّي أوقاتَه حين يرجع إلى البيت. وقد كان أنْ تدشَّنت الصلةُ الجديدة بينهما حينما اهتدت إلى فكرة إيواءِ كلبٍ صغير يكون هو بمثابة الهدية الـمُبتغاة.

* * *

حين حذَّرها دايسوكي، عبر تواصلِهما الروحاني، أخبرها أيضاً بأن ذلك الشخصَ – دياب – سيصرعَه! وهي لم تتوانَ فصارحت ديابَ بعلُومِها؛ «جِدِّي لأمي يرفضكَ.» «مَنْ؟» «يقول إنكَ ستقتلُه.» «ماذا!» بقيتْ هي جامدةً مُصِرَّةً على حالها. «ولماذا أقتله! هل أقتلُ شخصاً له على الأقل فضلٌ عليَّ بإيجادِ أمكِ في الحياة، ومن ثَم إيجادكِ أنتِ؟» بسبب احتدامِه لمعت عيناها مقرورتيْن، لا تطرفان، مُصوَّبتيْن على طرفِ أنفه. وأدركَ هو، مُجدَّداً، أن نعيمَه يطْفُرُ، إذْ يطفرُ، من طلاوةٍ تتلاحقُ عليه، هكذا، من رموشِها السود، من أسنانها، من الفلقِ في منتصف ذقنها، من وجنتيْها، من إشراقِها المفتوحِ عليه وعبوسِها الواصلِ به، وأدركت هي أنها هانِئةٌ وأن هناءتَها مَكينةٌ، وأنها تحبُّه، وتحبُّ نواياه وإيماناتِه، وأن نظرتَه، وقد استنامت على رموش عينيْها، تدقُّ لها دقاتٍ تحاكي قلوبَ الهررة التي أنصتت إليها وهي صغيرة، وأنها لأجلِهِ ستعصى دايسوكي إذا لَزِمَ الأمرُ، ولعلها أبانت له في التو، بتورُّدِ خديْها، أن رموشها تنفلقُ عليه. «حتى إنْ أردتُّ؛ فكيف سأقتله وبيني وبينه ما لا أدري من مسافات!» فجاوبته بشهْقةٍ مأمونةٍ: تريَّث، فإني أُنْبِئُكَ فحسب بما أنبأني. فتحَ ديابُ فمَه ليُكثِرَ الكلامَ فأغلقته له ـانـﭽـيرا داعِسةً شفتيْه بـخِنصرها، وهي تتبسَّمُ في تكشيرةٍ زائفة، اسكُتْ وإلا سأخبرُه بأنك آتٍ إليه. قالتها له بإمالةِ حاجبيْها وإغماضِ عينيْها، مُشهِرةً له نورَ وجهِها، ولقد قبضَ هو على خِنصرِها بشفتيْه، واختطفها في حضنِه، على أية حال.

* * *

صادفتها، ذات يوم، في كتابٍ استعارته إحدى زميلاتها من مكتبة المدرسة، صورةُ كلبٍ، ستعرف عنه لاحقاً أنه ابن آوى يُدعَى أنوبيس، ولقد رَاق لها اسمُ بلادِه حتى وَقَرَ لها أن حياتَها لن تكُفَّ عن الاقتران بهذه البلاد، بل لعلها شرعت في الاقتران بها فعلاً من خلف إدراكِها, ولاحت لها كمثلِ مَقصدٍ ترومُ الرحيلَ إليه.

عقدت عزمَها على حيازة الكتاب بعد أن تعيدَه زميلتُها إلى المكتبة، وتربَّصت حتى أُعيدَ، فأخذته.

ـانـﭽـيرا، المنخطِفة بمصر القديمة، وقد انقضت سنواتُ مراهقتِها بقلبٍ ينبذُ الغرامَ ويراقِبُ، مُكتفيةً بالانخراط في تقديم المشورات الثاقبة لصاحباتها الوالعات بعُشاقهن، وساخرةً معهن - في مرحِهن وقصْفِهن - من صورتها التي راحت تترسَّخُ كفقيهةٍ وأستاذة في شؤون الوصال؛ تيقَّظَ قلبُها على غير موعدٍ، واهتاجَ مُتحرِّقاً إلى وَلَهِ الحب.

ومن غيرما رَويَّةٍ ألقت بنفسها إلى شاب مصري أوصلته رحلةٌ سياحيةٌ إلى بلادها. اكتفت هي منه باِسمِ بلاده، التي حفظت اسمَها القديم «حِتْ نِبس» وترنَّمت به، فاندفعت بلا تمحيص إلى الارتباط به، وعُومِل منها كأميرٍ مَسَحَ عن فمه للتو قطرةً مما أرضعته أمُّه إياه من حليب قصر شجرة النبق الخضراء، وأكبرت مُحيَّاه ورأته مُكلَّلاً أينما ذهبَ بسماواتٍ كُحليةٍ مُرصَّعةٍ بنجماتٍ خُماسيةٍ فضيَّة. لكنه ظَهَرَ وأسفرَ، فمزقَ الصورَ من كتابها مُبقياً لها فيه على هلاهيل، ونَهّرَها، وسَرَقَها، ولَطَمَها بفظاظةٍ فأفقدها رهافةَ سمعِها الخارقة. وإذْ لم تدرِ ماذا تفعل في ورطتها، قالت لنفسها سألتقطُ كتاباً بالصدفة كيفما اتُفق، وسأقرأه بتمعنٍ، واضعةً فيه لُبَّ قلبي، وسأتحصُّلُ حتماً منه على جوابٍ واقتداء.

بالفعل قرأت كتاباً اتخذته سِنادةً تسترشد بها وتتوحَّـى منها مَطلبَها، وتماهت مع ماورائيات حروفه وسطوره، اِستشفَفَته، وكان لها أنْ افتدت نفسَها وتخلَّصت من ارتباطها بعد أن تصنَّعت الجنون.

* * *

أطلقت زفيرَها. اعترفت، لنفسها، بالرعونة، وتقبَّلت خيبتَها، واستحقَقَت السَّكينة.

* * *

بعد ما استوى شبابُها، وعلى منهاجِ دَاوِني بالتي كانت هي الداءُ، وصلت ـانـﭽـيرا إلى مصر، تعاني من وجعٍ وصفيرٍ قديمٍ بأذنها اليسرى، يروح ويجيء، بأثر صفعةِ مُؤذٍ بليدٍ، مَسوقةً بفضولٍ وبمعارفَ عن ميراث قصر شجرة النبق الخضراء، ومُسَيَّرةً وِفقَ أملٍ غامضٍ ما سَبرت منه سوى الغبطة المكنونة فيه.

وقتما كانت ترتِّبُ بخيالها لسفرِها قيَّدت نواياها على ضرورة التزامها بمنتهى الورع، حتى المغالاة فيه، تجاه أسلاف هذا البلد المرتجى. وهكذا رُئِيت ـانـﭽـيرا، وهي تعبر صالةَ الوصول بالمطار، بشعرها الـمُنمَّق المرفوع والـمُزيَّن بزهرة سوسن، وبخطواتها المتضَّامة المحتشِمة التي تمسُّ الأرضَ مَسّاً رقيقاً فتكاد لا تدوسها، وبحذائها المعطَّر، لَكأنها تعبر به بهوَ معبدٍ، مرتديةً الكيمونو الأسود الفخم الـمُعطَى إليها من جِدِّها، والـمُقتنى لديه، طوال عمره، من صندوق عُرس أمه. أخبرت ديابَ فيما بعد «ويا للمهابة التي استشعرتُها تجاه سموقٍ لا يدانيه سموقٌ». وفي أولى ليلاتِها بقصر شجرة النبق الخضراء أيقظتها جلبةٌ تلو جلبة وضحيحٌ تلو ضجيج فتكدَّرت، إلى أن هفَّت بـخيشومِها رائحةٌ حلوة؛ صَغُبَ عليها تبيانُ أصلِها، ولعلها لو تفكَّرت مليَّاً لأدركت أنها رائحةُ حلوى أطفالٍ، على الأرجح، بقيت مدسوسةً في ثنايا ذاكرة صِباها، وتفشَّت فجأةً هكذا على غير سببٍ معلوم.

في شوارع وأزقة المدينة، وفي الصحارى المتاخمة لها، أمضت ـانـﭽـيرا نهاراتٍ وأماسيَ، مَرسولةً تسعى لأجل تفقُّدِ القططِ والكلابِ المشرَّدة، وإطعامِها، وسقايتِها؛ تُدلِّل الكلابَ الشبيهةَ بالأنوبيس، تمسحُ على رؤوسها، والعين في العين والقلب للقلب، وتوقِّرهم كقديسين.

وأمام إحدى عربات الذرة المشوية قُرب شاطئ النيل، بأمسية صيف، التقت ديابَ. نظرت إليه جانبياً، ثم استحيَت، إلى أنْ أفدحتها رغبتُها في اختلاسِ نظرةٍ أخرى فاختلستها، بمقاساةِ امرأةٍ ترمي بنفسها من سطح برج، رغماً عن خَفَرِها المستحكِم. وكان هو يُوالي النظرَ إليها، يُمسكها بنظراته من فرطِ خشيتِه أن تتطايرَ وتزوغ، غيرَ مُصدِّقٍ أن هذه التي رآها في مناماتِه وراودت خيالَه تقف لِصقه وتشتري مما يشتريه. هي لم تنظر إليه بأكثر مما في النظر من احتشامٍ، لكنها على الرغم من رائحة الدخان تنشَّقت رائحةً، تَلحَقها من مُجاوِرِها هذا الناظرِ إليها، هي الرائحة نفسها التي التقطتها إبَّان وسنِ فَجرِ يومِها الأول بالمدينة، من دون أن تدرك كُنهَها، وتفاجأت بأنها استكنهت للتو فحواها؛ رائحة حلوى المدرسة. اهتزت ـانـﭽـيرا طَرباً، وكانت ثمة نأمةٌ في هيأتِها تهمسُ همساً جليلاً إلى نأمةٍ في هيأتِه: استنبأتُ برؤياكَ.

أسعفته بديهتُه، على غير اعتيادٍ، إذْ وجدَ نفسَه يبادِرُها بانتقاء كوز الذرة لها. أنا من برج التنين، قالت. أنا من برج الكلب، قال. تنين وكلب أيتوافقان؟ إلى المداولات إذاً. كنتُ ناصِحةَ صاحباتي في الغرام. كنتُ أشعرُ دائماً أني أنتظرُ. أطلعته على صورة جِدِّها، وعلى صور كلابٍ، وعلى صورة الصبي ذي الشارب النامي. وَضَعَ إصبعاً على صورة كلب: هذا يمثِّلُني، قال. ويمثِّلني، قالت. مشيا في الشوارع؛ خطواتهما خطوات صديقيْن قديميْن، ثم أوصلها إلى مدخل بنايةٍ، تقيمُ هي في بانسيون بأعلى طوابقها.

* * *

نَقَلا أشياءَها إلى بيتِه، وخَلَطا ما لها بما له، وسكنت أمواسُ حلاقته وقمصانُه مع جواربها وزجاجات طلاء أظافرها، وغَدا هو ـانـﭽـيرا ودياب، وغَدت هي ديابُ وـانـﭽـيرا، وتضافرا.

يقعُ الحبُّ أولاً بين اثنين ثم، في سياق الحب، يُكتشَف التعارُف. أحسَّ ديابُ حالاتِ ـانـﭽـيرا من تبايُنِ عَبقِها، وكان مرأى بشرتها، في حد ذاته، يُطلِقُ له شذاها. واستشعرت ـانـﭽـيرا البهجةَ في كلماتِه العادية التي يتكلمُ هو بها مع الناس، فنطقت سريعاً لُغتَه بلهجتِه لَكأنه أمُّها ولَكأنها طفلتُه اللمَّاحة، ونظرت إليه وقد تخلَّى كيانُها له عن الخفر.

* * *

في الليلة همست ـانـﭽـيرا له «هلَّا كتبتَ؟ اكتُبْ عنهم كتاباً». هَمَسَ لها «عن مَنْ؟» «القُدامى». «أيُّ قُدامى!» «أهلُكَ؛ أصحاب الأنوبيس». «لستُ مؤهـَّلاً، وتعوزني التفاصيلُ والتأويلاتُ الصائبة». «سأدلُّكَ، أشعرُ أني سأدلُّكَ، وسأعاونكَ مثل دابةٍ تحفظُ خرائطَ طريقٍ لا دراية لها عن كُنْهِه، أوافيكَ منه بالصواب، وأنقله إليكِ وإنْ لم أفهمه. ستفهمه أنتَ، وترتِّبه». «إذاً أكتبُ عن إيزيس وأوزوريس». «هل معهما كلبٌ؟» «معهما ابن آوى الذي كان بلا رفيقة، ولم تُقرَن به قرينة». «إنْ كنتَ تقيَّاً اسْتجِب». تبسَّمَ، وتبسَّمت، وناما وهما يثرثران.

مثل مَنْ تلقى الأمرَ أنْ اكتبَ كتاباً؛ بدأ يجاهد ليستبصرَ سِككَ كلماتِه عن إيزيس وأوزوريس، وبدا له أنه يتلقَّطُ معاني تتجاوز المتوفِّر في مراجعه. ولو أن أحداً استنكرَ عليه تطاولَه فيما لا يُعنيه: «كيف تجرؤ؟» لَجاوبَه «إنَّ امرأةً تضوؤني». وبينما هو يجهِّز ويصنِّف مادةَ كتابَه، صار النومُ يطبق فجأةً على جفونه ويُنعِسه، ففَهَم أن ذلك يعني وجوبَ أن ينامَ ليتسنَّى له عند استيقاظه حَل أمرٍ يعرقله، أو يعني أنه ماضٍ في الكتابة الخاطئة وعليه التوقُّف، والتحرِّي. وفي أكثر من مرة انزلقت الكتبُ التي يطالع فيها ووقعت أو انغلقت من تلقائها أو تفككت صفحاتُها وتطايرت، خاصةً تلك المراجع التي يكون قد بدأ أيضاً يتشكَّك في نزاهتها، فصار ذلك يروق له ويُطمْئنه، موقِناً بأن هذه الحوادث ما هي إلا لإشعارِه بصدق حدسه في أمرِ هذا المصدر أو ذاك. وبالإجمال فلقد غدا يشعر أن الكتابَ الذي هو عاكفٌ عليه هو كتابٌ محروسٌ، وأن له فيه شركاءَ ذوي يقظة وسطوة يرتادون يقظتَه ومناماتِه، ويحدبون عليه.

كلما نهضَ إلى كتابتِه اليومية كانت ـانـﭽـيرا، بخِفةٍ، تحتجبُ في موضعٍ أخْلَته في المطبخ يتسعُ لمقعدٍ أو لحقيبةٍ كبيرة، وكان هو وحيداً يُؤخَذُ إلى المعاني فيتصيَّدُ كلماتٍ لا تني تصطفُّ في سطورِها، وكانت السطورُ في تتاليها تُماثِلُ ضوءاً يتراكبُ في طبقاتٍ وطبقاتٍ، بعد مطلع فَجْرٍ، وينتشرُ في سواه. وما إنْ يضعُ قلمَه ويكفي أوراقَه حتى توافيه ـانـﭽـيرا، تتلقَّفه بحُضنها، لا تُرخيه، لا يُرخيها، ومعاً يتزحزحان إلى أن يقعا على حشيِّةٍ لهما فيُجرِّدها وتُـجرِّده ويعتركان في هواهما بعنفٍ هو الرِّقة وبنَهَمٍ هو النهم وبشوقٍ ليس يبرحُ ولا يبرأ.

* * *

وإنَّه لَكتابٌ كالكتابِ، وإن السوسنَ لَهو على هيأةِ لُوتس، وديابُ يتذكَّرُ عبلةَ وعنترةَ والإبلَ في تَعاقُبِها بالأزمانِ كيفما رأتها الفتاةُ ذات الذراعيْن القصيريْن، ويتذكرُ حديثها مع الفتاة الأخرى الوسيمة التي كانت، آنذاك، تـمِسُّ بيدِها الكتابَ ذلك الْـمَسَّ، وتمسحُ عليه مَسْحَ كاهنةِ، وتستحضرُ القوْلَ من شوائبِه؛ لا بد أن يموتَ الحبُّ مرةً ويدورَ فإن انبعثَ فهو ‏حُبُّ.

* * *

لعشرين سنة، ومنذ أن أهدته ـانـﭽـيرا كلبَه الأولَ عشيةَ شفائِه، تشبَّث دايسوكي بالإبقاءِ على كلبٍ في صُحبته. ولئن كان ذهابُ ـانـﭽـيرا عنه قد أفْتَرَهُ وأزْهقَ الأيامَ عليه فإنه آخى نفسَه مع كلبه الأبيض، الأخير، وأكلا وشربا وتكلَّما سوياً، وأوْقفَ نُزهاتِه عليه.

خرج يتنزَّه عصراً مع كلبه الأبيض، وشاهدَ الفتيات يمرحن في أذرع الفتيان، ولَكأنه شاهدَ ـانـﭽـيرا بينهم، وتذكَّر ما كان يقوله دائماً لها تعزيةً عن نكدِ زواجها الأول الحبُّ يقعُ أولاً بين الاثنين، ثم، في سياق الحب، يُكتشَف التعارُف. شعرَ أن ـانـﭽـيرا حاضرة حوله بكثافةٍ، وتلقَّى بالفعل فوراً تخاطراتِها، وقد أُتيح لها الانفراد بنفسها بعدما أومأت إلى دياب لينزلَ من البيت ويغيب ساعتين أو ثلاث. إذْ ذاك تركَ الكلبَ يتسكَّع حوله وجلسَ يتابعُ ما يتراءى له. أنفذت ـانـﭽـيرا أفكارَها إليه فأخبرته بأنها لا تعلم لماذا يندلعُ في قلبها حنينٌ هائلٌ إلى حبيبها القديم؛ الصبيِّ الذي اكتشفت تلاعُباتِه بالصدفة وتبيَّنت صوتَه واستمعت إلى تغزُّلاتِه في غيرها، فقوَّضَها لـمَّا كانت في الخامسة عشر. صارحها دايسوكي بأنها رعناءُ تتحامق. أخبرته أنها، لوقتها، تحيا في الحب برواءٍ وصفاء، ومع ذلك يأتيها ذلك القصفُ، لا تدري من أين، ويُلِحُّ عليها ويغريها بالارتداد. فأخبرها بأنه مُستاءٌ ومُغتاظٌ منها. وأجابته بأنها هي أيضاً ساخطةٌ على نفسها لكنها لا تعلم كُنه السطوة التي تقتلعها وتحْرِفُ فؤادَها هكذا. انتابَه الكللُ من التخاطُرات التي تنقل المعاني والأفكارَ بحذافيرها بين ذهنه وذهنها دفقةً واحدةً، التخاطرات التي باستغنائها عن الكلمات تتواردُ كاملةً، مُطابِقةً للأصل، دقيقةً بما يفوق القدرةَ البشرية على احتمالها، فلا فرصة لأجل بعض التخفُّف بمدعاة القصور في استعمال الكلمات أو التعويل على إساءة التعبير، وما من إمكانية للتراجع، أو للتعلُّل، أو للعتب على سوء الفهم.

لم يشعر، إثر ذلك، بالنقمة على حفيدتِه النائية إنما أحسَّ بوَقْدةِ اشتياقٍ إليها تفعمه، حتى إنه بكى. لكنه مستاءٌ من كوْن ـانـﭽـيرا الهانئة في غرامِها تتذمَّر من نعيمِها وتناوئُ صراطَها، ورَاعَهُ الظنُّ بأنها، لخجلها منه، ستتباعد عنه، على الأرجح، إلى الأبد، وأنها إنْ رجعت فستتحاشى لقاءَه مثلما أنه، هو، لن يقوى على هجْرِ الكلب والطيرانِ إليها. سآخذه معي إليها. بدا مُرتاحاً، لا مراء، إلى ذلك الحل الذي بَرَقَ في خياله. إنه سيسافر إليها، ولقد تقرَّر له، في وجدانِه، بينما عيناه تتطلعان إلى الشَّفق، أنه سوف يمضي صوبَ الغرب، فعساه يلتقي صغيرتَه، ويرى وجهَها بعينيه، ويحادثُها لِساناً إلى لسان.

وفي الليل، وقد استوت له تفاصيلُ فكرةِ سفرِهِ، حكى لكلبه الأبيض، بصوتٍ واضحٍ، عن كل ما جال بخاطره، وبدا الأبيضُ مُنصِتا.

* * *

سيتذكَّرُ ديابُ طلوعَ الفجرِ، ذاك الذي بكت فيه ـانـﭽـيرا. كانا مُعزَّزيْن في الفردوس الحصين؛ منضوييْن في طقسٍ خريفيٍّ حُلو تحت سماءٍ مُلوَّنة، وفجأةً بكت هي طويلاً من دون أن يستطيع هو تبيانَ السببِ. بحُرقةٍ بكت ـانـﭽـيرا التي، في تقواها، تُغدِق روحَها في كل أمرِها، بحُرقة. غامَ وجهُه وانكمشَ. حاول مواساتَها، وما فَلَحَ في أن يرقأ دموعَها وقد باتت منيعةً، فما بالها تقاوم مواساتَه وتستكينُ ظاهرياً لـِعناقات صدرِه ولِربتاتِ يدِه، بينما تتملَّصُ، في داخلها، منهما. تهاوى قلبُه في أخدود، مُدرِكاً أن ـانـﭽـيرا تُفقَدُ منه، وأنه هشٌّ، يتفتَّتُ في جوارِها بهشاشتِه، مُستبعَداً بالنشيج ومغلوباً بالصمت الثقيل، وقد تتابعت نظرتُه بتكرارٍ مُضنٍ على طلاء أظافرها والرسوماتِ المنمنمة فيها حتى همدت وانعتمت، وجَمُدَ عقلُه لا يقوى على المبادرة بأي عملٍ لإنقاذ العالَـم الذي يتداعى ويتلاشى من أمامه، أم تُراه لا يقوى على الرغبة في استنقاذه! تزحزحت هي بعيداً عنه مسافة إصبعين، ثم قالت له بعد لعثماتٍ إنها تريدُ العودة إلى بلادها. سأذهب فقط لثلاثين يوماً ثم أرجعُ إليك. لم تخبره بأن حياتَهما معاً قد انكفأت بلا عِلةٍ وبلا نُذُرٍ، وأن كل مشترَكٍ بينهما صار يغادرها وينسربُ من دواخلهِا مثل دَمٍ يتدفقُ منزوفاً من شريانٍ مقطوع. سيتذكَّرُ ديابُ ذلك الفجر وكأنه يعاينُ ممثلةً تتخارجُ مستفيقةً من تَقمُّصٍ، لتنخلع فتمضي إلى حيث لن توافيها أيةُ ذكرى من حياتهما إلا كما لو أنها ذكرى باهتة في زمنٍ آخر، لامرأةٍ غيرها. أيحدثُ أن ينتكسَ الحُبُّ من تلقاء نفسه ويفرغ! أم أنه ليس سوى قذى القلبيْن، الشارد الطائش المهمَل، إذْ يتلاقى حولهما ويتضامُّ، ثم يُـثالِثهما، ويتحيَّنُ، إلى أنْ يقضمَهما قضمةً مُهلِكة!

لأيامٍ وأسابيع أبقت ـانـﭽـيرا حقيبةَ سفرها الخضراء جاهزةً، منتصبةً على عجلاتِها، منزويةً في ركن المطبخ. ولأن حياتيْهما استُؤنِفت إلا هوْناً وانتظمت إلا هوْناً واستدفأت إلا هوْناً؛ بل حتى إنها فاجأت دياب بحفظها وغنائها أغنية فكروني كاملة بحلاوةٍ، وداومت على الدندنة بها كل يوم.

حبَّذ ديابُ أنْ يُـخاتِلَ فيُبدي لنفسِه استجهالاً إزاء حقيبةٍ باتت فعلياً مُرتكزَ انشغاله. آثرَ، عنوةً، اجتنابَ الحديثِ عن سَفرِها فأُرهِق بكوْن التجاهُل، ويا للحظِّ، يستبقي وجودَ الـمُتجاهَل ويحميه. استمرأ اسْتراقَ النظرِ إلى الحقيبة ومراقبة غُبارٍ يوالي التراكُمَ فوقها وإطفاءَ لونِها، من دون أن يزيله أحدٌ، وكأنما ذلك باتفاقٍ، بل كأن الغبارَ قد أُوكِل إليه إحرازُ الحلِّ، وأنه يوماً بعد يومٍ سيقدِر على طمْسِ الحقيبةِ، وتبديدِها كُليّاً، كُرمى لمن يأمل في ذلك. وقُبيل مساءٍ عاديٍّ، صعدَ ديابُ الدرجَ، ودخلَ بمفتاحِه، واستنشقَ هواءَ عتمة الصالة الذي داومت ـانـﭽـيرا على حرْق بخور اللوتس فيه. كان دياب قد فكّر وهو يُدوِّنُ عن إيزيس، بعدما وقعت في محنة غياب أوزوريس، بأن رُعبَ الفراقِ ترادفُهُ رائحة. أعساه شمَّ رائحةَ فُراق! أتُراهُ شعرَ بأن ثمة عبقاً قد انتُزِعَ من حِزمتِه وغابَ، ذلك أنه هجَسَ فوراً بكوْن ـانـﭽـيرا لم تخرج فحسب إلى مكانٍ قريب بل رحلت نهائياً، فمَرَقَ إلى المطبخ، وبمعونة ضوء المصباح الصغير بانَ له مكانُ الحقيبة خالياً، والبلاطاتُ، التي ظلت مُخفاةً تحتها، جافيةً وبرَّاقة.

أمضى هو صبيحةَ اليوم التالي في المطبخ ينظرُ خطوطَ العجلات الصغيرة على الأرضية المغبرة. يسترد، بالجنون، المشهدَ الذي جرى أثناء غيبتِه، ويستجلي هيأةَ ـانـﭽـيرا حينما كانت تجر أو تدفع حقيبتَها، خارِجةً بها.

حَظِيَ بالعثور على زهرةٍ مُجففةٍ باليةٍ، لعلها لم تكن سوى السوسنة التي انشبكت بجدائلها يومَ حطت على أرض قصر شجرة النبق الخضراء، وعلى شعرةٍ سوداء ثخينة طويلة، نظيفة، التقطَها من الأرض وعقَدَها على خنصره كخاتم.

بعد الظهر أيقظته من تهيؤاتِه خبطاتُ البوَّاب:

  • ضيف. ضيف لحضرتِها.

خمَّنَ ديابُ أن البوَّابَ، ربما، لم يلحظ خروجَ ـانـﭽـيرا بحقيبتها الكبيرة. أيكونُ لم يعلم برحيلها؟ أم أنها هي التي لم ترحل! انفصمَ ديابُ، وتَاهَ، وغمغمَ:

  • وأين هو؟
  • أجلستُه على الدِّكة.

شَلَحَ البوَّابُ طرفَ جلبابه، وهو ينصرفُ، وأبانَ ربلةَ ساقِه اليسرى، وقد بدت بلا سوءٍ، وضحك سعيداً:

  • راحِت.

* * *

نزلَ ديابُ، فرآه دايسوكي وعرفه وبَشَّ له وعانقه، ورفضَ الصعودَ إلى البيت. وبخفوتٍ نبحَ كلبُه الأبيض الصغير القابع في حِجره وهو يرمق دياب، فمسحَ دايسوكي على عُنقه، مبتسماً بحياءٍ إلى دياب.

جلسا على دِكَّة البوَّاب متجاوريْن، لكنهما ظلَّا يريان بعضهما البعض. تكلَّم دايسوكي، ولم يفهم دياب، ثم تكلم مرةً ثانية، وسكتَ. تكلَّم ديابُ، ولم يفهم دايسوكي، فلم يُزِد وسكت. ونقَّلَ الكلبُ نظراتِه بين المتكلميْن.

قال دياب، في نفسه، إن وجهَ الضيف، بجفونه المرتخية، يشبه، هوناً ما، وجهَ كاتبٍ من معارفه؛ اسمه كذا كذا.

قال دايسوكي، في نفسه، إن حبيبَ حفيدتي، هذا، مألوفٌ إلى قلبي، وإني أرى وأتفقَّدُ دواخلَه بسهولة، وأستطيعُ مخاطرتَه بلا لَبْسٍ، وإنه لَحزين.

كانا ساكتيْن، والبوَّابُ في غرفته يُعدُّ الشاي لثلاثة أشخاص. التفت دايسوكي أكثر جهة دياب، وابتسمَ، ثم حمل كلبَه الأبيض الصغير الممتثِل ووضعه في حِجر دياب.

تذكَّر ديابً الأنوبيسَ، وتـخيَّله جاثماً بجواره لِصقه، قُربَ يُسراه. تذكَّر ذلك الصباح. تذكَّر الأيامَ، وـانـﭽـيرا، والحقيبةَ، وكلَّ شيء.

تذكَّر دايسوكي الصبيَّ الذي كانت ـانـﭽـيرا تُواعِده في سرية مُطلقة، فأخفت عن الجميع – ما عداه – أمرَه.

النهاياتُ ليست إلا مقدماتٍ لنهاياتٍ أخريات، والنهاياتُ الأخريات تأخذُ دورها كمقدماتٍ جديدة لنهاياتٍ فمقدماتٍ بلا آخر. كانا يتفكَّران بالأمر نفسه حين حطَّ البوَّاب حاملاً إبريقَ شايٍ وأكواباً تتخبَّطُ ببعضها.

تجهَّم دايسوكي مُتململاً لمرأى الرجل الذي حطَّ بالأكواب الثلاثة، ولَحظَ ديابُ الإشاحةَ فأنزلَ الكلبَ الأبيض الصغير وقام واقفاً، وشكرَ البوابَ معتذِراً له عن عدم تلبية دعوته إلى الشاي، وطابَ لدايسوكي ما أتاهُ دياب، وبدءا الصعودَ على السلم، والكلبُ يمرحُ وينفذُ من بين ساقيْ دايسوكي، ويدورُ حوله، ويصعدُ وينزل.

عند الطابق الثاني، قبل ثلاثة طوابق من الوصول، لم يمانع دايسوكي في أن يحمله دياب الذي تهيَّبَ من أن يضع رجلاً تجاوزَ عمرُه المئة سنة على كتفيْه. رفعَه فكاد يُسقِطه وقد لمسَ عظامَه مُخلخَلةً تحت أصابعه مثل عِظام عصفورٍ مأسور. أتعلمُ أننا صاعدان إلى بيتٍ خالٍ من ـانـﭽـيرا؟ ألا يصيبُ الإقرارُ بذلك المرءَ بالدمامة؟ لو أنها هنا لَصرخت من مفاجأة رؤياك، ولَقفزت ورقصت والتمعت عيناها بالبنفسجي. أنا، بعدُ، لم أدركُ ذهابَها فكيف سأخبركَ إذاً به! وهل لي أن أحكي لكَ حكايةَ الحقيبة؟ وصلا إلى الطابق الرابع، والكلبُ يمرحُ ويُدِخلُ رأسَه بين ساقيْ دياب ويُمرِّرُ جسمَه. بين الرابع والخامس كان ديابُ قد أتعبَته خاصرتُه تعباً خفيفاً فحسب، لكن الدرجات المتبقيَّة كانت قد بدت له قليلة بما حرَّضه على التغاضي عن إنزال دايسوكي لالتقاط الأنفاس، فنَفَثَ وعَبَّ، وواصلَ الصعودَ بعزيمة.

ما كان لأيِّ سوءٍ أن يحدث لو أن الأمرَ تعلَّق بالتعب وحده، غير أن ديابَ الذي أحنقته مثابرةُ الكلب على اللعب انساقَ إلى فقدان صبرِه. وقبل سبع درجاتٍ من الوصول إلى الطابق الخامس نَقمَ ديابُ على الكلب الذي ماطَلَ في التزحزُح من أمامه بعد أن خرج من بين ساقيه، فنَخَسَه بقدمِه، وحين همَّ بتجاوزِه تحرَّكَ الكلبُ أيضاً، في اللحظة نفسها، فداسَ عليه ديابُ وتعثَّر، وأوقع دايسوكي، ووقع عليه، وانْهَبَدَا.

* * *

الكلبُ الأبيض الصغير، لا يقربُ طعاماً، مكروبٌ في غَي متاهتِه المبهَمة، عالِقٌ على درجاتٍ رخامية؛ يطلعها وينزلها ويطلعها وينزلها ولا يني يتشمَّمُ. يلهثُ ولا ينبح لَكأن نباحَه قد يعيق وصولَ مَددٍ مُنتظَر.

ديابُ يستلقي في فراشه. تفعمه رائحةُ حلوى أحبتها ـانـﭽـيرا، فينهضُ ويحضرُ السوسنةَ الجافة البالية ويتملّاها على راحة يده اليسرى ويداعبُها بأنامله فتحيطه خيالاتٌ من إيزيس وأنوبيس وحورس وأوزوريس يُهيلون عليه زهراتِ لوتس أبيض من لدن الزمنِ القصيّ. وـانـﭽـيرا، في المكانِ القصيّ، تتلفَّتُ، وتدورُ بوجهها، صوب الجهات قاطبةً، فلا تأتيها، إذْ تخاطِر دايسوكي، سوى هيأةُ دياب.

 

(9 أبريل 2018 - القاهرة ، عابدين)

(نقلاً عن جريدة "الأخبار" اللبنانية، العدد 3448، السبت 21 أبريل 2018)

atif_sol@yahoo.com