في تناوله لسردية النص الشعري في هذا الديوان الشعري الجديد يكشف الناقد المصري المرموق عن استراتيجيات تفكيك الصوت وتجدد الاستراتيجيات الجمالية في النص من خلال التريث عن عدد من نصوصه الشعرية الكاشفة، وتناول مستويات المعنى والدلالات المجازية المتراكبة فيها.

في سردية النص الشعري

تفكيك الصوت وتجدد النشوء الجمالي

قراءة لديوان «إيكاروس أو في تدبير العتمة» لعلاء عبد الهادي

محمد سمير عبدالسلام

 

ينسج علاء عبد الهادي – في ديوانه إيكاروس، أو في تدبير العتمة الصادر عن هيئة الكتاب 2016 – خطابا شعريا تأويليا تعدديا، ويمزج فيه بين الجمالي، والاجتماعي، والثقافي، وتفكيك البنى المركزية عبر الإيماءات المجازية للعلامات الجزئية من جهة، والتمثيلات الاستعارية للذات، وللصوت الشعري من جهة أخرى؛ فالتفاعل بين الآثار الجمالية للعلامة يفكك مركزية النص، بينما تتنوع التمثيلات التصويرية للصوت في تعددية الخطاب في صيرورة الكتابة، وعبر العتبات التي تتشكل – من خلالها – التجربة الشعرية نفسها في الوعي المبدع، ومدى اتصالها الدلالي بتشكلات الخطاب، والتداعيات النصية التي تمزج الجمالي، والذاتي بالتحولات الاجتماعية، والتراث الثقافي، والفاعلية الرمزية الجمالية، والثقافية، والكونية للحيوان.

ويومئ الشاعر – فيما يختص بعتبة النوع – إلى أن الديوان حكايات شعرية؛ ومن ثم يعزز من جماليات الحكي في نسيج قصيدة النثر، وإيماءاتها الكثيفة التي تمتزج بسرد اليومي، والاستعاري، والكوني، والجمالي الاجتماعي في آن عبر مستويات تأويلية، وتمثيلية عديدة من الخطاب.

ويراوح الصوت المتكلم - في عتبات الديوان - بين الإشارة إلى فاعلية المطارد، ثم حكايات الثورة والعاشقين، ثم إلى حكايات الصيد، والحيوان، والإشارة إلى المطارد بصيغة المفعول، والتي توحي بالتداخل بين التشكل الإبداعي للكينونة، والمحو، أو التأجيل المحتمل في آن.

وتشير عتبة العنوان / إيكاروس إلى بنيتي إغواء الصعود، والسقوط؛ وكأن الخطاب الشعري يومئ إلى التناقض الإبداعي ما بعد الحداثي بين الصعود، والغياب، وتعددية إيكاروس الاستعارية التمثيلية المحتملة.

ويبقى تصور إيكاروس محتملا في إغواء الفاعلية، أو إغواء الصعود الخيالي المؤجل، أو الممزوج بسؤال الفاعلية، أو سؤال الكينونة، وتشكلاتها الجمالية المحتملة نفسها في الأثر.

يقول:

"الوقت لا ينحني، وأنت لم تنحني لي ... والنص دمع؛ مسكوب فوق الجبين .. في خطوط يدي ..

ربما لم أعد من خلف الزجاج خبيئا

كالذاكرة ..

فهل كنت أوقف هذا الصفاء الغشيم – الذي لا يدوم – لكيما يدوم!". ص 11.

يطرح المتكلم الأسئلة، والعلامات التصويرية، والتشبيهات المحتملة حول كل من الكينونة، والفاعلية المؤجلة في النفي المتكرر، وفي اللغة الشعرية الاحتمالية للخطاب، والتي تؤكد مزج الأثر الجمالي للذات، بتجدد فاعلية التراث العالمي في علامة إيكاروس، واقترانها بتأويل المتكلم، وتمثيلاته للحظة الراهنة، وتحولاتها الثقافية، والجمالية.

وقد تتفاعل العلامات الجزئية، وإيماءاتها المجازية في سردية الخطاب الشعري الكثيفة؛ لتفكك مركزية النص، وتؤكد الاختلاف، وتأجيل المدلول طبقا لتصور دريدا؛ فالعلامات تتشكل كإيماءات شعرية مجازية، وداخلية، وأسطورية؛ وكأن المتكلم يرى العالم مؤولا في اختلاف المدلول، وصيرورة العلامات الكثيفة الموحية.

يقول:

"كانت النافذة المبتدئة، رطبة كالقصيدة !

تصطاد كل شيء، فيدخلها كل شيء، لم تفهم أن الغربان لم يكن ريشها أسود، بل أصبح هكذا،

وأن الحنين الذي قفز من صوت الديكة إلى بيتها الطيني، قد لوثته المدينة،

لم تدر أن الشمس أضحت .. حبيسة العيون، والغرف المغلقة،

وبأن الهواء واهن كالبشر .. قد يترك الوقت، ويعتاد المكان،

وأن الخير لم تكن له أجنحة دوننا ..". ص 129.

تبدو علامة النافذة – في الخطاب – شعرية، وتصويرية، ومؤولة للعالم في إيماءات مجازية سردية كثيفة، تؤكد تفكيك المدلول، والتحول، والسخرية ما بعد الحداثية من المركز، واستقرار المدلول في الوعي، وعمليات الإدراك؛ فالمتكلم يؤكد شعرية النافذة، ونفاذها إلى تحولات العلامة، واستدعاء إيكاروس مرة أخرى، ولكن في الأجنحة الأخرى، وفي الشمس الداخلية، وتجسد الهواء؛ النافذة – إذا – تعبر الزمكانية، وتستدعي الماضي في شعريته الكثيفة، وتجددها في النزوع السردي إلى الاختلاف في تداعيات القصيدة.

وكان الشاعر قد أشار إلى ابتكار الشعراء للأسلاف في عتبة الوعي بإنتاجية القصيدة؛ فكتب:

"الشعراء يبتكرون أسلافهم، ويصمدون". ص 127.

إن إنتاجية الماضي تبدو – في النص – في تحول علاماته المحتمل إلى آثار جمالية لا تنفصل عن التمثيلات الذاتية، والبنى الثقافية، والإيماءات التي تؤجل مدلول العلامة في استبدالات الكتابة، واكتساب العلامة لتجدد إيحاءاتها الداخلية المؤولة.

تفكيك الصوت، وانتشار الأثر الجمالي للعلامة:
يفكك الصوت المتكلم بنية الحضور المتعالي في ديوان د. علاء عبد الهادي؛ فالهوية الذاتية تبدو تمثيلية، أو تقبل استبدال الحضور التمثيلي الآخر للحضور المتعالي، أو لمركزيته بما يحمله من خصوصية، أو ملامح تاريخية، أو ذاكرة؛ ومن ثم فإن شعرية الحضور المتعالي نفسه تبدو ممكنة، ولكن في حركتي الاختلاف، والإرجاء طبقا لتصور جاك دريدا؛ فالأنا لا يطابق مرجعية الحضور المتعالي، وإنما يطابق هوية تمثيلية أخرى، تعيد تأويل مدلول الحضور الأول للصوت الشعري، وتفكك مركزيته؛ يقول:

"لم تكن تطمئنه:

إذا كان أنت هو أنت الذي تحمله كل يوم، في

يقظتك،

وإذا كان أنت هو أنت الذي يحملك كل يوم، في

نومك،

فممن تخاف حين تكون وحيدا؟

ومن ذا الذي يكلمك ..

في الغرفة المظلمة". ص 70.

يومئ الخطاب الشعري هنا إلى قوة اللاوعي، وفاعليتها الخفية في تشكيل الأنا، وتفكيك فاعليته الأولى، كما يعيد إنتاج التطابق في الآخرية المحتملة للأنا، أو تعدديته التمثيلية التي ينطوي عليها مدلول الهوية الذاتية نفسه.

إن الأنا – في الخطاب الشعري – لا ينفلت من السؤال المصاحب للعلامة، وتأجيل المدلول؛ فالذات تنشئ الأخر التمثيلي من داخل سؤال الأنا، وحضورها التمثيلي الشعري في النص.

إن الخطاب يفكك علاقة الأنا بالهو، والأنا الأعلى طبقا لتأويل فرويد؛ فلهذه القوى تمثيلات استعارية تفكك فاعلية المتكلم الأولى من جهة، وتؤكد تعددية الهوية من داخل التمثيلات الاستعارية المحتملة للصوت من جهة أخرى.

يتجلى الحضور الأول – إذا – كعلامة لها تمثيلات تأويلية، وشعرية في الكتابة، ومن ثم ينفك مدلول التطابق الذاتي في تعددية الصوت / العلامة في تداعيات النص، وأخيلته، وفي التصور التفكيكي للذات المتكلمة في القصيدة، وإيماءاتها المجازية، وأسئلتها ذات الإجابات المعلقة، أو المحتملة.

وقد تنفك بنية المدلول في العلامة انطلاقا من إيماء التشيؤ المجازية؛ فالصوت المتكلم يرصد المفارقة بين الإحساس بالأصالة، وقسوة تحولات التشيؤ في القصيدة؛ وكأن سؤال الكينونة يبدو غريبا في العالم الداخلي للمتكلم، وفي منظوره الإدراكي للعالم، وقد اتخد بعد التشيؤ التأويلي مادة للتأمل في تحولات الوجود باتجاه القسوة التكوينية التي تستبدل الكينونة الذاتية، وخصوصية الحياة في بنية العلامة.

يقول:

"وهذي الطيور، لم تك باقة من الريش يوما، لا تتعجب، كنا نسمي الطيور بأسمائها، بل كان الزمان زمانا! حتى لمن تركوه، وارتحلوا متعبين .. لم يك المكان قطارا، ولم يك الوقت – كالوقت – مهنة خاوية ..

مازلت أسأل هناك، صوب خفة هذا الفضاء الغريب:

هل كانوا بشرا يسيرون مثلنا.. ؟

ربما لم يكونوا، وكانوا ..

أو ربما لم يكونوا

ككل شيء هنا ..

حقائب جلد تسير .. حقائب جلد تسير .. حقائب جلد تسير .." ص 75، 76.

يستعيد المتكلم حالة من النوستالجيا، أو الحنين لروح الأصالة الشعرية في أصداء الزمكانية؛ وكأن دائرية الزمن كانت تسكن العلامة، والمنظور الإدراكي التفسيري لها في الوعي، ثم يرصد المتكلم تحول الحياة نفسها في الذات، وعلامات العالم باتجاه التشيؤ، أو لحظة الحضور المفككة، أو المستنزفة، أو المحتملة في شعرية الريش الشكلي، والقطار، والحقائب الجلدية التي تسير وحدها في المشهد، والتي تحمل إيماءة مجازلة لمدلول الوجود الشبحي المؤجل، وتوحي بلاغة التكرار بقسوة ذلك الحضور الشبحي، وسخريته من هوية الذات المتكلمة، ومن الحياة الدائرية في علامات العالم.

وقد يوحي الخطاب التفسيري التمثيلي للأنثى بالصمت العبثي للأشياء الصغيرة، والحياة الخفية الكامنة أو الهامشية في بعدها التصويري المحتمل أيضا؛ ومن ثم يوحي الخطاب بالتناقض ما بعد الحداثي بين العبث، والهارموني المحتمل الذي يسخر من قسوة الصمت في بنى العلامات المتعلقة بالأشياء الصغيرة، وما تحمله من شعرية الصمت، والحياة الموسيقية خارج الأطر الأولى؛ وهو ما يذكرنا بحديث فاتيمو في نهاية الحداثة عن انفلات الفن من إطار العمل الفني المحدد؛ فالأقنعة المعلقة تسخر من سطوة الصمت في علامة البيوت؛ يقول:

"كانت تحدثني: من قال إن للبيوت ذاكرة مفتوحة كالعطور،

على العكس تماما،

اسألوا الحائط المغلق، "موكيت" الحجرة النائم، أبواب البيوت الميتة، والشرفات الناعسة أيضا،

الستائر الواقفة، والهواء السديد الذي لم يرحب يوما بالقاطنين، كائنات الخيال الراقدة في غبار الزوايا ...

اسألوا الأقنعة المعلقة على الجدار، والضحك ...

اسألوا الألم العجوز المندس في الفرحة، والسمك التائه في السماء". ص 89، 90.

تحمل علامات الأشياء الصغيرة – إذا – دلالتين رئيسيتين:

الأولى: دلالة الصمت العبثي الكامن في العلامات، والذي يوحي بالاستاتيكية في لحظة الحضور، ومدى استنزافها لتحقق خصوصية الصوت، أو الحياة الشعرية في العلامة.

الثانية: التناقض النيتشوي ما بعد الحداثي في تداخل التوافقية الموسيقية الخفية مع سكون الأشياء، وعلامات العالم؛ وهو ما يذكرنا بعلاقة بهجة أبولو، بتمزق دينسيوس وغيابه في تصور نيتشه عن الدراما الإغريقية؛ فالفرحة تمتزج بالألم، بينما تومئ كائنات الخيال، والأقنعة بحياة توافقية شعرية ما بعد حداثية خارج الأطر الفنية، والفيزيقية في النص.

دائما ما تأتي العلامة محولة، أو منفلتة من مدلولها الأصلي في الديوان؛ ومن ثم يؤكد خطاب علاء عبد الهادي الشعري الإيماءات المجازية التي تنبثق عن ديناميكية كل من الاختلاف، والإرجاء للمدلول الأول.

وبصدد تفكيك العلامة لسؤال الحضور، يرى جاك دريدا في كتابه في علم الكتابة أن الجوهر الشكلي للعلامة لا يمكن أن يتحدد إلا انطلاقا من الحضور، ولا يمكن تجنب هذه الإجابة إلا إذا تم الطعن في شكل السؤال نفسه، والبدء في التفكير في أن العلامة هي الشيء الوحيد الذي يفلت من السؤال المؤسس للفلسفة: ما هو؟.

(راجع، جاك دريدا، في علم الكتابة، ترجمة، وتقديم: أنور مغيث، ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة بالقاهرة، ط2، سنة 2008، ص 83).

ويناقش دريدا تفكيك تمثيلات العلامة للمركز، وإرجاءه، وعلاقة العلامة بالتأجيل، والاختلاف والإكمال، أو الزيادة، ويناقش الحضور من خلال دراسة هيدجر، ونيتشه، وروسو.

إن انفلات العلامة، وتمثيلاتها من المركز، يتصل بالإيماءات المجازية ما بعد الحداثية في شعرية الخطاب عند علاء عبد الهادي؛ فتمثيلات إيكاروس الأسطورية، وعلاقته بإغواء الصعود إلى الشمس، تكمن في انتشار الدال المتعلق بالشمس نفسها في تداعيات الكتابة، ودينامية كل من الاختلاف والتأجيل فيها؛ يقول في نص "وجهة يناير الأخرى":

"كانت كل البلاد مشمسة في الصباح، لكنها،

على عكس المتوقع تماما،

كان الصباح واحدا،

والشموس مختلفة". ص 96.

إن دلالات انتشار الشمس، وتعدديتها الكونية، وتجليها كقوة تحمل آثار التنوع الجمالي، والاختلاف، توحي بالتكرار الخفي لنموذج إيكاروس في الخطاب الثوري / الجمالي، والأسطوري المشكل للنص؛ فالصوت يتصل بأصداء العلامات الكونية، وأصوات الحكايات القديمة التي تفكك لحظة الحضور الحضارية، بينما تشير إليها في آن.

وقد يتصل الصوت بظلاله، وتمثيلاته الجمالية المحتملة في القسم الأخير / المطارد على وزن اسم المفعول؛ وذلك عبر إعادة إنتاج سؤال الكينونة، وتأجيل اكتمال خصوصية الحضور الشعري المتعالي، واستعادة بنى الحكايات القديمة المستمدة من اللاوعي، ومن أصداء التراث الثقافي.

السرد الشعري، والإحالة إلى تجدد النشوء الجمالي:
يشير الشاعر علاء عبد الهادي – في العتبة المتعلقة بالشكل – إلى سردية النصوص الشعرية؛ ويمتزج السرد الشعري هنا بكثافة الإيماءة المجازية ما بعد الحداثية، والتي يقابل إيهاب حسن حضورها، ووفرتها في مقابل التشبيهات، والاستعارة في النصوص الحداثية، وتحيلنا السردية هنا أيضا إلى تعددية الخطاب، والأصوات التمثيلية المتكلمة، والتي قد تصير شعرية كونية في القسم الخاص بحكايات الحيوان، والصيد في الديوان.

ويقر جيرار جينيت مفهوم جامع النص بوصفه دالا على تداخل الأجناس، ويعزز من تنوع الحالات النسبية في ذلك السياق الجمالي الخاص بنظرية النوع، ويرى أن حالة التعالي حاضرة باستمرار في تاريخ الأدب؛ فهناك آثار أدبية – منذ الإلياذة – خضعت لمفهوم الأجناس، بينما تخلصت منه آثار أخرى مثل كوميديا دانتي، وإن المزج بين الأجناس، يعد بحد ذاته جنسا.

(راجع، جيرار جينيت، مدخل لجامع النص، ت: د. عبد الرحمن أيوب، دار الشئون الثقافية العامة ببغداد، وتوبقال بالمغرب، ص 91، 92).

وقد يختلط السرد الشعري – عند علاء عبد الهادي – بسرديات النشوء، أو بالتأريخ المجازي لبدايات تشكل النص، أو بدايات تشكل النشوء الكوني الجمالي، واتساع مدلول الكتابة في علاقتها بالوجود، وتجدده المحتمل في القصيدة.

يقول:

"وكانت هناك نصوص مبعثرة، لا يلمها أحد،

وخفق في الهواء غامض لكنه جميل ..

وكان هناك – تحت سطح الحياة – ضفادع كأنها بكماء .. لا يكف نقيقها، وقصائد تستهل كالرضيع ..

وكأنها متروكة دون قصد في الخفاء، ربما ترى،

لعلها تملأ العين .. كالدموع .. والغبار!

...

هل كان يجب أن تهرب إلى الضاحية، إلى ورقة بيضاء،

كيلا تعيش وحيدا". ص 39، 40.

إن الخطاب الشعري يؤرخ لولادة القصيدة في فضاء للنشوء الجمالي المتجدد بين العالم الداخلي، والفضاء الكوني، أو الاستعاري الذي يحيلنا إلى رمزية علامة الضفادع وارتباطها بالغناء في مسرحية أريسوفان؛ فالغناء يتجدد في نشيد الضفادع القديم، وفي ولوج ديونسيوس لعالم الموتى، والمفاضلة بين إيسخيلوس، ويوريبيدس، بينما تومئ هنا إلى الغناء، والصمت في آن، أو التداخل بين الحضور الجمالي والغياب المحتمل؛ ومن ثم تؤكد التناقض ما بعد الحداثي بين بعثرة النصوص، وولادة الذات في القصيدة.

إن القصيدة تبدو تمثيلا مجازيا، أو علامة تصويرية استعارية للصوت المتكلم نفسه؛ وكأنها تستنزف بنية رعب الوحدة، أو مركزية الحضور وحدها؛ والقصيدة تؤسس للإكمال، أو للزيادة المضافة للذات وفق تعبير دريدا.

ولم تكن لحظة النشوء الجمالي – في النص – بعيدة عن الأثر الجمالي للمشهد الكوني؛ إذ تجلت في أخيلة اليقظة المتعلقة بالهواء الذي يبدو كطائر استعاري شبحي أو كقصيدة كونية قيد التشكل في الوعي.

إن القصيدة تبدأ بكمون القصائد، وتناثرها، ثم تشكلها حتى تتجاوز الأطر حتى تملأ العين، وكأن تشكل القصيدة، وزيادتها التصويرية في الوعي تشبه الكريشندو، أو تصاعد الصوت الموسيقي في النص؛ فالصور تنتقل من حالة الخفوت إلى تشكيل مدلول الوجود الجمالي نفسه.

وقد مهدت عتبة الوعي بإنتاجية القصيدة - في مفتتح النص الشعري - إلى بنية النشوء الجمالي في صيرورة السرد؛ وكأن العالم يعيد اكتشاف جمالياته الأولى في تكوين النص الشعري؛ يقول:

"التفكير أقل من الفكر؛

هكذا يرتب العالم نفسه في القصيدة". ص 37.

وتوحي عتبة المفتتح بالمزج بين النشوء، وتجدد دورات الوجود، في السياق الجمالي، وفي الكتابة، وعلاقتها بتجدد الصوت في العلامة، وفي الأثر الشعري.

الخطاب التمثيلي في حكايات الحيوان:
تشير حكايات الحيوان إلى تجاوز مركزية الوجود الإنساني فيما بعد الحداثية من جهة، والاتصال الزمكاني بين الأصوات، والإيحاءات الجمالية الكونية، والثقافية، والجمالية من جهة أخرى؛ إذ يمكننا معاينة مخلب الذئب / أبي جعدة في عوالم اللاوعي، أو في العوالم الفنية، والحكايات، وفي أخيلة الهواء، بينما تستعاد تناقضات أنثى الضبع / أم عامر من التراث الثقافي العربي، وتؤول في الخطاب الشعري من داخل إيقاعها الصاخب، وعلاقته بالضوء المحتمل في تناقض تكويني ثقافي وكوني أيضا.

يقول في الخطاب التمثيلي التعددي للذئب:

"وجها لوجه، قابع أنا معك، أعس في وسادتك، أو تحت فكرتك، ما بين حلم مترف .. وكابوس أمر، وجهان أنتما، لن تعرفا إذن، "لما" أنا (هنا)، إلا إذا أدركتما لماذا كنتما (هناك)،

أنا المرائي، وشكسبير مكروه الصفات، لاكني الشعراء، حتى يبصقوا، لكنني أقوم .. سيدا من نومهم، من ريقهم، سأخدع الأبطال في حكايتي، وأعتلي منصتي، بعد الستار، سيعيش في الكتاب مخلبي". ص 215.

للذئب – إذا – حضور داخلي / كوني في الخطاب الشعري؛ فصورته التي تستمد من عوالم اللاوعي تكتسب حضورا ذاتيا منشئا لخطاب آخر داخل الذات المتكلمة؛ إنه ذئب تمثيلي يعيد تشكيل لحظة الحضور انطلاقا من كثافة الماضي السحيق، وتجدده في علامات القصيدة، والتراث الفني المتحول، أو المؤول في لحظة الحضور، وتجديدها لإيماءات الذئب الفنية التي تسخر من مركزية الخطاب الإنساني المنتج لصورته، وتوحي بتحولاته، واستبدالاته الممكنة في إنتاجية الكتابة، وفي المنظور الإدراكي التصويري للوجود.

وقد أعاد المتكلم قراءة أنثى الضبع / أم عامر انطلاقا من إيماءات حكمتها الحمراء الصاخبة، وعلاقتها المتناقضة بعلامة الضوء، وكذلك يقيم النص نوعا من التناص مع صورتها في التراث الثقافي، وقد ارتبطت بغدرها إزاء مجيرها.

يقول:

"وفوق أم عامر، كان الدم دانيا كالنور، حين ترضع الصغار ..

الفك سوته الرياح، والملامح في الظلام لا تضيء، والقلب لا يحب دهن العود، والسواك، والخزامي، والعطور؛ فصفاتها كالحكمة الحمراء لا تجير، لا "تصنع المعروف في غير أهله"

وتكره أم عامر، كظلها المسحوق .. أطياب الكلام، والطهارة، والبديع، لكن عينيها مضيئتان". ص 222.

يعيد الخطاب الشعري تمثيل أم عامر في السياق الثقافي الإنساني الكوني؛ فيكسبها الإيماءة المجازية التفسيرية حين تتجلى كالحكمة الصاخبة الحمراء، ويضمن النص بيت ابن عم مجير أم عامر، وكانت قد قتلته غدرا؛ وهي هنا قوة استعارية فاعلة، ومجددة لتاريخ الصخب في لحظة الحضور، وفي حكايات المتكلم، ومنظوره الإدراكي التفسيري الذي يمزج بين حضور الحيوان في تجاوزه لتمركز النص حول خطاب إنساني، وإشكالية عودة صوره المجازية، والثقافية في صيرورة النص.

 

msameerster@gmail.com