يرى الكاتب أن سبب غياب وتغييب السيرذاتية للكاتبات العربيات يعود إلى المؤثرات التاريخية والاجتماعية التي واكبت فعل الكتابة عند المرأة العربية، وأحيانًا إلى التصور النقدي التقليدي الذي يصدر عنه بعض النقاد، وإلى ندرة النصوص السيرذاتية التي كتبتها المرأة العربية.

الكاتبات العربيات وسيرهن الذاتية

عبدالرحيم العلام

 

هناك غياب ملحوظ لدراسة السير الذاتية النسائية على مستوى الكتابات النقدية، بخلاف الاهتمام المكثف للنقد الأدبي، بالإنتاج الأدبي الموازي للمرأة العربية الكاتبة، على مستوى الأجناس الأدبية الأخرى، وتحديدًا الرواية منها.

ويمكن إرجاع سبب ندرة الاهتمام النقدي بالسيرة الذاتية النسائية بالمغرب، إلى الضعف الشديد للإنتاج السيرذاتي النسائي في الأدب المغربي الحديث، بخلاف ما كتبه الرجل في هذا الإطار، والذي يحظى باهتمام نقدي لافت وواسع.

ويكفي أن نذكر، هنا، السير الذاتية لكل من عبدالمجيد بنجلون وعبدالكريم غلاب، وعبدالقادر الشاوي، ومحمد شكري، على سبيل المثال.

هذا، في الوقت الذي حظيت فيه سيرتان ذاتيتان نسائيتان تحديدًا، هما (حملة تفتيش: أوراق شخصية) للطيفة الزيات، و(رحلة جبلية، رحلة صعبة) لفدوى طوقان، بالعديد من الدراسات، المفردة والجماعية، من قبل مجموعة من النقاد العرب، بمن فيهم الناقدات الإناث أنفسهن، وذلك من زوايا قراءتهم للنصّين السابقين، على الأقل، كسيرتين ذاتيتين تحديدًا، كما هو الشأن بالنسبة لدراسة محمد البحري لـ(السيرة الذاتية النسائية)، والتي اتخذ فيها من سيرة فدوى طوقان الذاتية نموذجًا للمقاربة والتحليل، كما ساهمت المرأة الناقدة بنصيب وافر من هذه الدراسات والقراءات حول ذات النصين السيرذاتيين.

ولربما يعود سبب ذلك التغييب إلى استمرار العديد من المؤثرات والشروط التاريخية والاجتماعية، التي واكبت فعل الكتابة الأدبية عند المرأة العربية، وأحيانًا إلى التصور النقدي التقليدي الذي يصدر عنه بعض النقاد، بما هو تصور عادة ما يتحكم في الخلفية المعرفية - النقدية، التي ينطلق منها الناقد نفسه، كما يمكن إرجاع سبب ذلك فقط إلى ندرة النصوص السيرذاتية التي كتبتها المرأة العربية حتى الآن.

ومن شأن المتأمل في التراكم الحاصل، اليوم، في الإنتاج الأدبي والنقدي السيرذاتي الذي كتبته المرأة العربية أن يلمس عن كثب مدى الطفرة الكمية والنوعية، التي حققتها المرأة العربية، الكاتبة والناقدة، على مستوى كتابتها للسير الذاتية، وأيضا على مستوى إنتاجها لخطاب نقدي أتوبيوغرافي مواز، سواء اشتغل هذا النقد على السير الذاتية، التي كتبتها المرأة، أو على تلك التي كتبها الرجل، وإن بقيت هذه الطفرة، حتى الآن، دون المستوى المرتجى، وخصوصًا على مستوى الكم، مقارنة بما أنتجته الكاتبة العربية من تراكم لافت على صعيد الأجناس الأدبية الأخرى (في الشعر والرواية والقصة)، وكتابة الدراسات الاجتماعية والمقالة الصحفية، مقارنة، كذلك، بعدد النساء المتعلمات اليوم في العالم العربي.

وترجع أسباب تلك الضآلة، في الإنتاج السيرذاتي لدى الكاتبة العربية، إلى تضافر العديد من العوامل والأبعاد الحضارية والتاريخية والسوسيوثقافية والنفسية والإبداعية، تلك التي مازالت تعاكس رغائب المرأة العربية الكاتبة في الكتابة، وفي التعبير عن ذاتها ورغائبها، وعن تجاربها في الحياة والكتابة، وفي البحث عن ترسيخ وضعها الاعتباري ككاتبة لها إسهامها الخاص في بلورة الوعي، وإشعاع ثقافة أدبية حداثية، وهي الشروط التي أضحت اليوم معروفة ومتداولة بين النقاد ومؤرخي الأدب، ومن بينها على الخصوص استمرار الشعور بكون الكتابة السيرذاتية مازالت تعتبر ضربًا من المغامرة، وطابوها مازال يصعب اقتحامه بشكل مكثف ومباشر.

يحدث هذا على مستوى الكتابة السيرذاتية. فقط، دون غيرها من الاهتمامات الإبداعية الأخرى، كما مارستها المرأة العربية الكاتبة، على الأقل منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، على يد كاتبات عربيات أسهمن في تشييد أول ملامح الإبداع النسائي العربي، ونذكر من بينهن، على الخصوص، أليس بطرس البستاني، ولبيبة هاشم وزينب فواز. كما أنها الفترة التي عرفت الولادة الأولى للمجلات والصالونات النسائية، في لبنان ومصر تحديدًا.

إلى جانب ذلك، نجد أن ما حققته المرأة العربية الكاتبة على مستوى المنجز النصي السيرذاتي يكاد يتوازى مع ما حققته من تراكم نقدي حول خطاب الأتوبيوجرافيا، سواء على مستوى درجة الحضور والكم، أو على مستوى درجة الاهتمام بكلا الخطابين. ويكفي أن نشير، هنا، إلى النماذج التالية، سواء فيما يتعلق بالمنجز النصي من السيرالذاتية النسائية العربية أو بالمنجز النقدي الأتوبيوجرافي الموازي.

* * *

سيرة المرأة العربية
فعلى صعيد السيرالذاتية، التي كتبتها المرأة العربية، نشير إلى النصوص التالية، وتبقى هي المشهورة في المشهد الأدبي العربي حتى الآن:

(1)- (على الجسر) لعائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ)، دار الهلال، القاهرة 1967.

(2)- ويعتبرها البعض أول سيرة ذاتية نسائية في الأدب العربي).

(3)- (أيام من حياتي) لزينب الغزالي، دار الشروق، 1979.

(4)- (مذكرات طبيبة) لنوال السعداوي، دار الآداب، بيروت، 1980.

(5)- (رحلة جبلية... رحلة صعبة) لفدوى طوقان، دار الشروق، 1988.

(6)- (حملة تفتيش: أوراق شخصية) للطيفة الزيات، كتاب الهلال، القاهرة 1992.

(7)- (الرحلة الأصعب) لفدوى طوقان، دار الشروق، 1992.

(8)- (رجوع إلى الطفولة) لليلى أبو زيد، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1993.

(9)- (أوراقي...حياتي) لنوال السعداوي، دار الآداب، بيروت، ج3 ،2001.

(10)- (أوراقي) لفاطمة حسين، بدون ناشر، ط1 ،2001.

(11)- (حضن العمر) فتحية العسال، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2002.

أما على مستوى الكتب أو الدراسات المفردة، التي أنجزتها المرأة العربية الناقدة حول السيرة الذاتية تحديدا، فنشير، في هذا الإطار، على سبيل المثال فقط، إلى الكتب والقراءات التالية:

(1)- (طه حسين بين السيرة والترجمة الذاتية) لرشيدة مهران، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979.

(2)- (السيرة الفنية في الأدب العربي، حتى أوائل الثمانينيات) للدكتورة مها فائق العطار، مطبعة الداودي، 1995.

(3)- (فدوى طوقان...ظلال الكلمات المحكية) للكاتبة والباحثة ليانة بدر، دار الفتى العربي، 1996.

(4)- (الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث) للباحثة فوزية الصفار الزاوق، مطبعة الوفاء، تونس 1999.

(5)- (فدوى طوقان: نقد الذات، قراءة السيرة) للباحثة والكاتبة ريم العيساوي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1999.

(6)- (السيرة الذاتية في الأدب العربي) للناقدة تهاني عبدالفتاح شاكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2002.

(7)- (مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث: بحث في المرجعيات) للدكتورة جليلة الطريطر، مركز النشر الجامعي ومؤسسة سعيدان للنشر، تونس 2004.

إلى جانب صدور كتاب آخر عن السيرة الذاتية باللغة الإنجليزية، هذه المرة، بعنوان: (العمى والسيرة الذاتية، دراسة لأيام طه حسين)، للناقدة فدوى ملطي دوغلاس، صدر عن دار النشر برينستون، نيوجرزي 1988.

كما أنجزت الباحثة السعودية أمل الخياط التميمي بحثًا أكاديميًا حول السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي الحديث، ممثلة بنصوص تنتمي إلى مجموعة من الأقطار العربية، من لبنان ومصر وفلسطين والمغرب والخليج، ويعتبر من أهم الأبحاث التحليلية، التي تتناول السيرة الذاتية النسائية تحديدًا في بعدها النصي المتعدد، خارج بعض الدراسات السابقة، التي ركزت على نص سيرذاتي بعينه، كما هو الشأن بالنسبة لسيرة فدوى طوقان الذاتية.

عدا ذلك، نشرت مجموعة أخرى من الدراسات والقراءات الجديدة، التي أنجزتها المرأة العربية الناقدة بصدد جنس (السيرة الذاتية) بشكل عام، وبصدد نصوص سير ذاتية بعينها، قديمة وحديثة، رجالية ونسائية، ومن بينها دراسات لكل من: ماري تريز عبدالمسيح (عن (حي بن يقظان) ويمنى العيد (عن (أرابسك)، ولها أيضًا دراسة عن (السيرة الذاتية الروائية) وهدى الصدة (عن (مذكرات منيرة ثابت) وسعاد عبدالوهاب عن (الرحلة الأصعب) وزهرة جلاصي عن (أوراقي) وشيرين أبو النجا عن (رحلة جبلية...رحلة صعبة) و(حضن العمر)، ولها أيضا دراسة عن (السيرة الذاتية تحديدًا، لباحثات وناقدات عربيات) أخريات.

ومن شأن المتأمل في هذا التراكم النقدي الأتوبيوجرافي النسائي، بشكل عام، أن يلمس عن قرب مدى انفتاح العديد من خطاباته ومقولاته على المنجز النظري والنقدي الغربي، الفرنسي والإنجليزي على الخصوص، من زاوية استلهام وتشغيل بعض مفاهيمه ومعطياته النظرية الجوهرية، كما حددتها (نظرية الأتوبيوجرافيا). وكما تبلورت منطلقاتها خصوصًا عند المنظر الفرنسي فيليب لوجون، أو عند غيره من المنظرين والنقاد الغربيين، كجورج ماي وجورج كيسدورف وجان ستاروبنسكي وإليزابيت بروس، على وجه الخصوص.

كما نسجل كذلك انفتاح تلك الدراسات على المنجز السيرذاتي العربي، القديم والحديث، وكذا على المنجز السيرذاتي الغربي، بل ويتجاوز بعضها هذا المستوى ليتناول نشأة السيرة الذاتية عند الأمم القديمة، كما في دراسة مها فائق العطار السالفة الذكر.

يحدث ذلك، دون أن تغفل تلك الدراسات تفكيرها الموازي، أيضًا، في المنجز النقدي السيرذاتي العربي، وإن كان بعضها يشتكي من ندرة الدراسات العربية المتصلة بهذا الموضوع، الأمر الذي أكسب هذه الأبحاث والدراسات والقراءات أبعادًا معرفية دقيقة في التحليل والاستنتاج. ومن شأن مثل ذلك الاهتمام والتفاعل أن يدعما كذلك، كتابيًا ونظريًا، المشروع الأتوبيوجرافي العربي، بشكل عام، في أبعاده الكتابية والنقدية، وأن يدحضا بعض الطروحات، الغربية والعربية، خصوصًا تلك التي ما فتئت تواجه التراث الأتوبيوجرافي العربي، القديم والحديث، عبر التقليل من قيمته، في محاولة منها أن تنفي عنه شكل السيرة الذاتية.

* * *

الخروج عن القيود
من ثم، فإن اقتحام المرأة العربية الكاتبة، وكذا إقبالها المتزايد على كتابة السيرة الذاتية، يبقى اقتحاما وإقبالاً جريئين ولافتين للتأمل والمتابعة، خصوصًا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار. هنا، ما سبق هذه المرحلة الزمنية والإبداعية لدى المرأة العربية الكاتبة من إرغامات عديدة ومتنوعة، كانت أصلا تكبل ارتباطها المباشر والعلني بالكتابة عمومًا، كما تحد من رغبتها التاريخية الملحة في امتلاك سلطة الكتابة وشروطها، أو بالأحرى إقبالها على البوح من خلال الدخول في مغامرة كتابة سيرتها الذاتية، أمام خصوصية وضعها العام في مجتمع عربي ذكوري غير متجانس، على اعتبار، أيضًا، أنها مغامرة محدودة في الزمان وفي المكان، خصوصًا أن هذا الجنس الأدبي (أي السيرة الذاتية) يستلزم، من بين شروط أخرى تقليدية للكتابة السيرذاتية، التحلي بـ(الصدق) و(الأمانة) في السرد والبوح بـ(الحقيقة)، في ارتباط هذه الخصائص جميعها بسرد (الحياة الشخصية) للكاتبة. دون أن نغفل، هنا، ما يمكن أن يطبع الفضاء السيرذاتي العام، كذلك، من خيال وفنتازيا، من وجهة نظر بعض المتخصصين في هذا الجنس الأدبي (فيليب لوجون تحديدًا)، وذلك لاعتبارات متعددة، منها ما له علاقة باللغة وطرائق التعبير والتذكر والانتقاء، ومنها أيضا ما له علاقة بأمور أخرى، عادة ما يتدخل الكاتب نفسه في بلورتها وصوغها إبداعيًا لحظة استقطابه واستبطانه لذاته ولتجاربه في الحياة وفي العالم.

كما أن هذا الجنس التعبيري، أي السيرة الذاتية، مازال يفرض، إلى اليوم، صعوبة الكتابة فيه واستحالتها لدى معظم الكتّاب العرب، هؤلاء الذين مازالوا لم يتخلصوا بعد من سلسلة العوائق والإرغامات التاريخية والاجتماعية والذاتية والنفسية والثقافية، التي تكبل إقبالهم، بشكل مكثف ومباشر وجريء، على كتابة سيرتيهما الذاتية، مع بعض الاستثناءات، تلك التي لا تخلو من أهمية على مستوى درجة البوح، وسرد التجربة، وتعرية الأسرار، وتشريح الذات، والكشف عن عيوب المجتمع والمؤسسات، والنماذج السيرذاتية، الصادرة، خلال العقدين الأخيرين، في العديد من الأقطار العربية، أضحت معروفة، حيث أصبح يلتقي عندها الأديب والشاعر والناقد مع المفكر وعالم الاجتماع، وغيرهم: (عبدالمجيد بنجلون، محمد شكري، عبدالقادر الشاوي، جبرا إبراهيم جبرا، هشام شرابي، محمد عابد الجابري، عبدالرحمن بدوي، لويس عوض، أمين مازن، إحسان عباس، إدوارد سعيد، سهيل إدريس، عبدالرحمن مجيد الربيعي...وغيرهم).

تحدث هذه الاستحالة، أيضًا، حتى لدى كبار الكتّاب والشعراء العرب، هؤلاء الذين ما فتئوا يصرحون، في كل مناسبة يطرح عليهم فيها سؤال السيرة الذاتية، باستحالة كتابتهم - لحظة ذلك التصريح على الأقل - لسيرهم الذاتية، ونخص بالذكر، هنا، كلا من نجيب محفوظ وأدونيس، على سبيل المثال فقط، لاالحصر، وإن اقترب كل واحد منهما، في بعض كتاباته الأخرى، من استيحاء (فضائه السيرذاتي)، بشكل أو بآخر، دون أن يقبل عليه بالشكل التعبيري المباشر والمتعارف عليه، كما في رواية (المرايا) وفي كتاب (أصداء السيرة الذاتية) بالنسبة لروائي كبير هو نجيب محفوظ، وفي كتابته لـ(سيرته الشعرية الثقافية) في كتابه (ها أنت أيها الوقت) بالنسبة لشاعر كبير أيضًا هو أدونيس. ولهذين الكاتبين، في هذا الصدد، بعض الآراء الموازية المبررة لتحاشيهما كتابة سيرتيهما الذاتية الصرفة، وأهمها على الخصوص ما قد يواجهانه من إرغامات اجتماعية وسياسية، وغيرها.

إذا كان الأمر على هذا النحو عند بعض كتّابنا الرجال، فما بالك عندما نقارب الوضع نفسه عند كاتباتنا، دون أن نغفل الإشارة، هنا، إلى أن الكاتبات الغربيات، بدورهن، قد عانين، في بداية علاقتهن بالكتابة عن الذات بشكل عام، من صعوبة الإقبال على كتابة سيرهن الذاتية بشكل صريح ومباشر. غير أن واقع الأتوبيوغرافيا النسائية اليوم، في أوربا تحديدًا، قد تجاوز هذه الوضعية، وأصبح نقاد الأتوبيوغرافيا يتحدثون عن (ما بعد حداثة الأتوبيوغرافيا النسائية).

والأهم، هنا، بالنسبة للكاتبات العربيات، ممن أقدمن على اقتحام مغامرة كتابة السير الذاتية، هو أنهن، في كتاباتهن السيرذاتية، لم يسقطن في شرك ذلك الشكل التقليدي المميز لعدد من الكتابات السيرذاتية العربية التي هيمنت لفترة مهمة، منذ بدايات هذا النوع من الكتابة في عشرينيات القرن الماضي، ربما يعود السبب في ذلك إلى حداثة الكتابة السيرذاتية النسائية - مقارنة بما صدر من سيرذاتية ذكورية في وقت سابق - هذه التي تكون قد استفادت مما طال شكل الكتابة السيرذاتية بشكل عام، سواء في أبعادها الكتابية العربية أو العالمية.

وهذا التحول في شكل الكتابة السيرذاتية النسائية العربية الحديثة هو ما توقفت عنده العديد من الأبحاث والتحاليل التي عنيت بدراسة نصوص معينة من مدونة السيرة الذاتية التي كتبتها المرأة العربية، من قبيل النصوص السيرذاتية التالية: (حملة تفتيش: أوراق شخصية) للطيفة الزيات، و(رحلة جبلية - رحلة صعبة) و(الرحلة الأصعب) لفدوى طوقان، ولربما يعود سبب ذلك الاهتمام أيضًا بهذه النصوص، أو غيرها، اعتبارًا لما جاءت محملة به من صيغ تكسيرية للمألوف والسائد في كتابة المرأة عن الذات عمومًا، وفي كتابة السيرة الذاتية خصوصًا.

قيم وقضايا إنسانية

كما يعود الاهتمام بالسير الذاتية النسائية إلى ما يتضمنه بعضها من قضايا وقيم إنسانية، ومن غنى في الدلالات والمعاني، إلى جانب استثمارها الفني للعديد من الخطابات والأجناس، الأدبية وغيرها، المتخللة، الأمر الذي يضفي على بعضها نكهة خاصة وبعدًا جماليًا يميزها على مستوى اختراقها لبعض قواعد هذا الجنس الأدبي كما نظر له الغربيون، فمثل هذه الخصوصية في بعض النصوص السيرذاتية النسائية، والمعاناة التي كابدتها المرأة العربية الكاتبة من جراء اقتحامها لكتابة سيرتها الذاتية (تجربة فدوى طوقان)، هي التي دفعت بالشاعر سميح القاسم، في تقديمه لسيرة فدوى طوقان الذاتية (رحلة جبلية.. رحلة صعبة)، إلى القول إنه: (منذ (أيام) الراحل العظيم طه حسين لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة).

كما تجدر الإشارة، كذلك، إلى أنه أمام تغيّر الأوضاع العامة للمرأة العربية داخل مجتمعاتنا وتزايد الدعوات والحركات والتنظيمات النسائية والاجتماعية، المنادية بتغيّر النظرة الثقافية للمرأة العربية، وتنامي مشاركة المرأة وفاعليتها في المجتمع المدني، وإن كان هناك من يرى أن ثمة تراجعًا اليوم بخصوص بعض المكتسبات التي حققتها الحركة النسائية بين 1920 و1960، كما هو الشأن لدى خالد بسام، في كتابه (نسوان زمان)، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعمان، عام 2002.

* * *

إغراء الحكي
كان لابد، إذن، لهذا الشكل من الكتابة (السيرة الذاتية) أن يجلب إلى إغرائه الفاتن المزيد من الكاتبات العربيات، وكذا المزيد من القرّاء ومن اهتمام النقاد بالسير الذاتية النسائية. ويكفي أن نذكر، هنا، على سبيل المثال فقط، التجربة الجديدة مع كتابة السيرة الذاتية بالعربية، لكل من الكاتبة الكويتية فاطمة حسين، في سيرتها الذاتية (أوراقي)، وإن كان هذا النص أقرب إلى شكل المذكرات، وهو الجنس التعبيري نفسه الذي كتبت فيه الكاتبة المغربية مريم التوفيق نصها بعنوان (ذكرياتي في الاتحاد السوفييتي)، الصادر عن دار الأمان، الرباط 1999، كما كتبت فيه حميدة نعنع (من دفاتر امرأة)، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1992. إلى جانب التجربة الكتابية السيرذاتية الجديدة للكاتبة المصرية فتيحة العسال في نصها الصادر بـ (العامية)، بعنوان (حضن العمر)، وتلك (ثورة) شكلية أخرى في اختيار لغة الكتابة السيرذاتية لدى المرأة الكاتبة، في المشهد الأدبي العربي.

الأمر نفسه يمكن قوله بخصوص سيرذاتية نسائية لكاتبات عربيات، كتبناها بلغات أخرى، غير العربية، وقد حققت بدورها تراكمًا نسبيًا وتلقيًا كبيرًا، ومن بينها، على سبيل المثال فقط، تلك السيرة الذاتية الجريئة، المكتوبة بالفرنسية، للكاتبة المغربية رشيدة اليعقوبي، بعنوان (حياتي.. صرختي) (منشورات إديف، الدار البيضاء 2002، الصادرة في طبعتها السادسة)، والسيرة الذاتية المكتوبة بالإنجليزية للكاتبة الفلسطينية غادة الكرمي، بعنوان (في البحث عن فاطمة) (دار فرسو، 2002). وغيرها من السير الذاتية الأخرى، المكتوبة بلغات أجنبية، لكاتبات عربيات أخريات.

كما أن من شأن التأمل في نماذج معينة من التراكم اللافت الذي حققته المرأة العربية الناقدة والباحثة، في زمن قياسي (أي خلال ما يقارب العقد من الزمن فقط)، في مجال دراسة السيرة الذاتية تحديدًا، أن يفتح أمامنا مجالاً مواتيًا لمقاربة جوانب من هذه الخطابات والدراسات النقدية، وكذا استخلاص بعض الأسئلة الأساسية المرتبطة بكتابة السيرة الذاتية، في الأدب العربي تحديدِا، من منظور نقدي نسائي عربي هذه المرة.