يرى الناقد المصري أن هذه القصص قائمة علي صوغ الكليات في أقل الكلمات، مستخدمة كل الحيل الجمالية التي تُحيل الجدول الصغير، إلي محيط متباعد الشطآن. فضلا عن قدرتها علي توفير المتعة، التي تُعد أحد أهم عناصر الإبداع، بصورة تضع قارئها أمام مساحة شاسعة، وتدعه يتأمل ويشاركها رحلة داخل النفس البشرية.

إنوما إليش .. والنوع الأدبي

شوقي عبدالحميد يحيى

 

"إنوما إليش .. شفة علي الأرض والأخري في السماء" ذلك هو عنوان المجموعة القصصية السادسة لمنة الله سامي. والذي لا يعكس جديدا في عوالمها القصصية، حيث درجت علي استخدام تلك العناوين التي تبدو غريبة علي أذن وعيني القارئ، والذي تعلن به منة الله أنها كاتبة نخبوية، بمعني أنها لا تكتب للعامة، وإنما تكتب لخاصة الخاصة. فكل أعمالها بدأ من العنوان، تتطلب من القارئ أن يتسلح بالمعرفة، وأن يضع المراجع تحت عينيه، كي يتتبع تلك الإشارات التي تتباعد ما بين الأرض والسماء، خاصة في مجموعتنا هذه، حيث وضعت أيدينا وأرغمتنا علي الرؤية من هذه الزاوية، حين وضعت الشق الثاني من العنوان "شفة علي الأرض والأخري في السماء. وكأنها تضيئ لنا الطريق الواصل بين الأرض والسماء، كمجال للبحث. فإذا ما أدركنا أنها قد ضمنت قصصها قصة معنونة بذات الشق الثاني من العنوان "شفة علي الأرض والأخري في السماء" كان علينا أن نسارع إلي قراءتها، علها تفتح لنا مجال الرؤية في قراءة المجموعة. فنتعرف علي معركة تدور بين الإله السوري "بعل" الذي تقول المراجع بأن من أهم وظائفه الدفاع عن البشر والآلهة، فهو في الملحمة الموسومة باسمه، بطل الآلهة وقاتل التنين )يم) وهو الرزّاق واهب المطر وصوته الرعد ووهو إله الخصب. حيث نشأ الصراع بينه وبين الإله "موت" إله العالم السفلي، والذي عاد رسولي الإله "بعل من عنده ليبلغاه { مولاي، الإله "موت" غاضب، فكاه عطشي لدماء جديدة، شفة علي الأرض وأخري في السماء، ولسانه يصل إلي الكواكب}. فتقول الأسطورة إذن أن إله الموت فاغر فمه، جائع لحصد الرواح، ظمآن للدماء.

  • فقد بدأت الأمور تتضح، أو في طريقها للوضوح. وقد تزداد وضوحا إذا ما عدنا إلي الإهداء في صدر المجموعة { إلي قلب الأمة الذي يئن ألما.. وينز دماءً طازجة، "تدمر" "حلب" .. مكتبة الموصل. إلي أمي والأم الكبري "يمّو". م.س

فإذا كانت الكاتبة قد صدرت مجموعتها بهذه الإشارة المباشر، وذلك الألم والدماء التي تسيل بين النهرين، سوريا والعراق. فقد تكشفت الرؤيا اكثر حول إختيار العنوان ، المُلغِز، "إنوما إليش" والذي يعني "قصة الخلق البابلية، أو أسطورة الصراع بين الآلهة فيما بين النهرين، وكأن الكاتبة تُرجع ما يحدث الآن علي أرض ما بين النهرين، لذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الحياة والموت، بين الإله "بعل" والإله "موت" الفاغر فمه فأصبحت شفة في الأرض والأخري في السماء . فانتصر "بعل" علي "موت" مرة، وإنعكست الآية مرة أخري ليستمر الصراع ، وتصرخ "عناة" أم الأرباب لغياب "بعل الذي ابتلعه "موت" ف{ تعاجلهما "شبش" .. يا ابن الآلهة "موت" إن بلغ مسامع "إيل" أنك تتقاتل و "بعل" فسيحطم بيتك وصولجانك، ويزيل ملكك وعرشك}. و {فجأة تعود الحياة إلي "بعل" فيري إخوته يتقاسمون ملكه. يُعمِل فيهم سيفه، يقتص لخيانتهم، ثم يستوي علي عرشه، وهنا تسترد الأرض لونها الأخضر، ويتراقص العباد تحت المطر المنهمر الذي يملأ ما جف من روافد الأنهار}. وكأن الكاتبة تضع النهاية المرتجاه، بموت الموت والخراب، وانتعاش الحياة من جديد فيما بين النهرين.

وبهذا، رغم إنغماس منة الله في عالم الأساطير، وما يبدو غريبا علي مشاعر ومشاكل القارئ الحالي، إلا انه في الحقيقة، تغوص في عمق الواقع، حاملة إياه إلي أعالي السماء، وكانها تقدمه علي مائدة إلي السماء، سائلة إياها، أيرضيك ما يحدث علي الأرض؟ وإلي متي سيظل يحدث ذلك؟. وكأن الكاتبة تقف بقدميها علي الأرض، وترفع أكف الضراعة إلي السماء، بعد أن اوجعها ما يحدث فيما بين النهرين.

غير انه يمكننا من خلال تقسيم الكاتبة لمجموعتها، الدخول إليها من مدخل آخر. حيث يمكن القول بأن علاقة الرجل بالمرأة بدأت من السماء، وانتهت بالأرض. حيث قسمت الكاتبة مجموعتها إلي ثلاثة أقسام : عوالم .. ثم .. كنعان .. ثم .. بابل. وحيث شمل القسم الأول مجموعة من القصص القصيرة، والتي تتناول حياة الإنسان، بشقيه، الذكر والأنثي، في محاولة للتغلغل إلي اعماقهما، وصولا إلي سر العلاقة بينهما علي الأرض. بينما تتناول في القسمين الثاني والثالث العلاقة بين عوالم السماء، قبل خلق الإنسان، وفق ما سنتعرف عليه، مرجئين سؤالنا الأكبر حول المجموعة لما بعد التعرف علي قصص القسم الأول:

عوالم

لم تشأ الكاتبة الشابة منة الله سامي، أن تسير في ركاب الموضات الكتابية، فتكتب ما سمي بالقصة القصيرة جدا، والتي شاعت بين عدد كبير من الشباب، وإن نزعت قصصها إلي الحجم الصغير، والذي قد لا يتجاوز نصف الصفحة، او بضعة سطور محدودة. ولا أن تسير في ركاب القصة التقليدية، السهلة التناول، أحادية الاتجاه. وإن احتفظت لقصتها بما يحقق لها الحركة، وإن كانت غير ظاهرة. ولكنها نجحت في أن تَخُط لنفسها لونا قصصيا يجمع ما بين ما يمكن أن نسميه الأصالة والمعاصرة. فأخذت من كلٍ ما يحقق رؤيتها للقصة القصيرة، القائمة علي صوغ الكليات في أقل الكلمات، مستخدمة كل الحيل الجمالية التي تُحيل الجدول الصغير، إلي محيط متباعد الشطآن. فضلا عن قدرتها علي توفير المتعة، التي تُعد أحد أهم عناصر الإبداع، القادرة من خلالها علي وضع قارئها أمام مساحة شاسعة، وتدعه يتأمل، وينتعش، ويستمتع. معها برحلة داخل النفس البشرية. حيث تعيش قصص منة الله داخل أعماق الإنسان، مع ما قد لا يخرج إلي السطح، وما قد لا يُري، فتجسده إلي أشياء وحيوات تتحرك وتتكلم.

فإذا ما تأملنا أولي قصص المجموعة "الضفة الأخري" سنجدنا أمام رؤية مكثفة لرحلة الحياة، حيث يدب في بدايات حياته علي الأرض بقوة ونشاط، يتجه نحو الحياة، والأفق المتسع مع زرقة مياه البحر المنفتح علي اللانهاية، فضلا عن الرؤية الأسطورية التي تحدثت عنها منة الله في القسمين الثاني والثالث من هذا الكتاب، والتي تري في الماء بداية الحياة، أو اصل الحياة. فالإقبال علي الماء يصبح إقبال علي الحياة، والعكس صحيح. وفجأة يتوقف الإنسان عن الحركة {تستدير.. تولي ظهرها زرقة البحر، تسعي لطفلة تُشيد قصورا من وهم}.لتنفتح الرؤي هنا علي أكثر من إحتمال.

فيمكن قراءة الجملة الأخيرة علي أنها تنقص كلمة (كانت) لتصبح {تسعي لطفلة (كانت) تشيد قصورا من وهم} لتصبح الرؤيا هنا هي (التذكر) حيث تصبح الساردة هنا تطارد صورة كانت عليها في الطفولة. ونصبح أمام رؤية تبحث عن الذات، وتبحث عن الأصول، وتبحث عن الجذور، وهو ما يعني التعبير عن رحلة الإنسان الأبدية للإجابة عن سؤال الهوية، وسؤال المصير، بل أسئلة المصير.. من أين .. وإلي أين.. وكيف .. ولماذا؟.

ويمكن قراءة الجملة علي أنها (كإنسان) يرتد به الزمن بعد الكبر إلي حيث الصغر[ ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون]. ولتصبح الرؤية هنا أيضا كلية، عامة، تشمل الإنسان، والخلق أيضا، وهو نا يتوافق كذلك مع إتجاه الكتاب في جزءيه التاليين كذلك.

كما يمكن قراءة الجملة علي أنها لحظة تأمل فيما كان طوال الرحلة، لنكتشف أنها لم تكن سوي الوهم، كما عبر عنها الشاعر علي محمود طه (أنا من ضيع في الأوهام عمره). وهنا تظل الرؤية عامة، إنسانية، حيث تصبح نظرة الإنسان – عموم الإنسان- عندما يقف عند قمة جبل العمر، وينظر للأسفل، ويتأمل كيف كانت الرحلة وهمية.

وهو ما يضعنا منذ البداية أمام الرؤية الكلية، التي تتأمل الإنسان والحياة والكون. وتحدد لنا منة الله المسار منذ البداية، حيث ترجمة العنوان – المُلغِز - والذي يعني قصة الخلق، أو قصة الكون. وإن نفذت إلي تلك الرؤية من خلال التوغل في الذات الإنسانية، وتحديدا "الذات الأنثوية".

الذات الأنثوية

من الطبيعي جدا أن تكون أعماق المرأة ورغباتها، محل التناول في مجموعة "منة الله" مثلما كانت في مجموعاتها السابقة، خاصة "حمراء مستديرة" .

ففي قصة "الجائزة" تشعر المرأة بأنه مع تقدم العمر، وترهل جسدها،في الوقت الذي قد يشعر الزوج فيه مازال يمتلك جسد شاب، لم يزل. فنعيش مع القصة فيما يشبه الحلم، بعملية تغيير للجسد، بتركيب الرأس علي جسد جديد لفتاة في العشرين من عمرها. وتشير الكاتبة بأن هذه رغبة المرأة قبل أن تكون رغبة الرجل في تلك الإشارة {أكثر ما تخشاه هو أن ينفر منه، تنسدل من زاوية فمها ابتسامة شاحبة، كيف ينفر من جسد صبية في العشرين وهو الذي أحب جسدها الكليل المتآكل}, لتؤكد رغبة المرأة بأن تظل تتمتع بالشباب، كي تبرق في عين الرجل (جسدا، فيما يحمل من معاني إجتماعية موروثة، كاشفة عن ذلك النسق الثقافي المترسب في الأعماق، والذي لا يري في المرأة إلا جسدا للمتعة السريرية، والتي تؤكد بأن هذه وإن كانت نظرة الرجل للمرأة، فإنها – المرأة – من يساعده وينمي لديه تلك الرؤية، خاصة إذا نظرنا لعنوان القصة، الذي إعتبر أن جسد الصبية ابنة العشرين ربيعا، هي الجائزة التي تقدمها المرأة للرجل. وحيث يصبح العنوان جزءً في متن القصة.

وعلي الرغم من توقف القصة – ظاهريا – عند وصف موقف معين، هو تخيل استبدال الجسد، الأمر الذي قد يحيل القصة إلي الجمود، إلا أننا إذا ما نظرنا إلي مقدمات تلك اللحظة، او ذلك الموقف، ونتائجها المتوقعة، سندرك أن حركة تمت ، اضمرتها الكاتبة، وضمنتها ذلك الموقف، وهو ما يشعرنا بما يمكن تسميته بالحركة داخل السكون. وهو ما يحافظ للقصة القصيرة علي أحد اهم خصائصها، ويخرج بها عن تلك التي تسمي بال ق ق ج.

وحدة الروح أو الانفصال الفردي

نستطيع تلمس وحدة الروح، او الوحدة وسط المجموع، في العديد من قصص المجموعة. ففي قصة "وله" مثلا نجدنا في عربة أتوبيس، الشارع قد تحطم من جراء عمل إرهابي. الناس تصعد وتهبط، إلا أن أيا منهم، لا يشعر بصاحبنا-سائق المركبة - وما يعيشه الإنسان (الفرد) مع نفسه {ولا يزال السائق العاشق يلهب قلب حبيبته بكلماته بينما يلف العربة صمت ثقيل}. أو أنه رغم هذا الصخب وهذه الحركة، فإن السائق الذي انفصل عن العالم من حوله، ويعيش عالمه هو الخاص، مع من يحب، عبر الهاتف الجوال.

وفي قصة "خواء" حيث ضريح الإمام علي، أو مرقد الإمام علي، وبينما القضبان المحيطة بالمرقد، تحمل بصمات، وتضرعات ملايين الأرواح، تنفصل هي عن كل ذلك العالم، { تحاول أن تحل وثاق شفتيها المطبقتين اللتين جففهما الاشتياق}. تتضرع إلي الله أن يمن عليها بلقاء الحبيب، الذي تشعر بالخواء من دونه. تتلمس بيته، علي الورق، تتلمس فيه الاكتمال، والأمان، والسكينة، ولو لبضع سويعات.

وفي قصة "جان بجان" والتي يتطلب الدخول لعالمها أولا، ضبط التشكيل لئلا يُدخلنا عدم التشكيل في دهاليز أخري. فالعنوان بالتشكيل "جانٌ بجانٍٍّ" وهو ما توضحه القصة نفسها، والتي تأتي أطول قليلا في المساحة الكتابية. حيث تذهب المرأة إلي (الزار) لتُخرج الجان من جسدها. وفي غمار إنهماكها، وغيبوبتها (المعنوية) تشعر بلمسات ذكورية علي جسدها، ، تخترق الحواجز الفاصلة بين عالمها وعالمه المخيف، وحينها تقوم إمرأة أخري بذبح ديك رومي، تتناثر دماؤه عليها، تتناثر الدماء الحمراء علي رأسها، فتُلهب حواسها {طالبة الخلاص الذي يتباعد عنها، ويتصارع علي جسدها هياكل من عالم آخر، فتقبع روحها في استسلام وخوف}. إذ بينما ذهبت المرأة للخلاص من جانِ يركب جسدها، فإذا بجان آخر ( وهو جان الإنسان) يركبها، { فتقبع روحها في استسلام وخوف}. وحيث يمكن أيضا قراءة الاستسلام والخوف، علي أنه استسلام لما تراه الإشباع، المحرومة منه، والمتطلعة إليه . أو أنه الاستسلام القانع بأن هذا الجن الإنسي، بما يفعله (من لمسات ذكورية تقتحم مخبوءها) هو الوسيلة لطرد الجني العلوي من جسدها. لتظل "منة الله" ترحل بنا داخل النفس البشرية، فيما لا نراه في واقعنا.

فإذا ما انتقلنا إلي القسمين الآخرين، (كنعان) حيث نشأت الكنعانية فيما يُعرف اليوم بسوريا ولبنان. و (بابل) حيث نشأت البابلية في العراق، وهما معا سوريا والعراق، يشكلان ما يعرف ببلاد بين النهرين، حيث تعود بنا الرؤية إلي العنوان مرة أخري "إنوما إليش". وبتأمل قصص القسمين، فسنلاحظ الاقتباسات العديدة التي تجمع بين "أناشيد البعل.. أي قراءة الأساطير. ومقتطفات من التوراة والإنجيل والقرآن. حيث تتلاقي الرؤي في هذه الاقتباسات. ثم نقرأ ما يمكن أن نعتبره خلاصة الأسطورة. أو إعادة صياغة للأسطورة، بأفعالها، وأسماء أبطالها.

فإذا كانت السمة الغالبة علي الصراع الدائر علي الأرض في تلك البقعة الجغرافية المسماة بين الرافدين. هي الصراع الديني، وللأسف هو أساسا صراع بين أبناء الدين الواحد. فإننا في هذه الحالة أمام محاولة إثبات، أو إقناع بان جذور الديانات كلها واحدة، فما بالنا بالدين الواحد، والاختلاف فقط في تفسيراته؟ وحيث غلبة هذه الاقتباسات يجعل العملية أقرب إلي الدراسة البحثية، منها إلي العملية الإبداعية، التي نراها تقوم علي جناحي: الواقع، والخيال.

فإذا اضفنا أن (القصة) مع التحفظ علي المصطلح، الواردة في القسمين الثالث والرابع، لم تقم بعصرنة الأسطورة، او تحويلها من التاريخ أو (الواقع) إلي خيال، بمعني أن الكاتبة لم تتدخل بالتحوير، أو ما يمكن أن نسميه بأنسنة الأسطورة، او عصرنتها. وهو ما يعني عنصر الخيال، بإلباس الماضي ثوب الحاضر. وهو ما أدي إلي ما يمكن إعتباره غلبة الواقع، وما يمكن أن يكون تغييب للخيال. فقد خرجت العملية عن مجال الإبداع الأدبي، خاصة أن القسمين المشار إليهما، غاب فيهما ما كان موجودا في القسم الأول بتركيز جميل، وهو العناصر الجمالية من تشبيه واستعارة وكناية، والصورة الموحية الدالة مثل تلك الواردة في قصة "وطن" بالقسم الأول { ترنو إلي شمس تسكب أشعتها احمرارا وهي تُذبح في الأفق قي بلاد بعيدة}. أو علي الأقل عن النوع الأدبي. وهو الأمر الذي يحصر قصص القسم الأول فقط في نجال القصة القصيرة، بل القصة التي تحمل البصمة الخاصة بمنة الله سامي.