يشدد الباحث على أن الملحون فن وتراث يستحق أن يحظى بالاهتمام اللائق، سبيلا وهدفا في الوقت نفسه، رافدا ومجالا للاشتغال. ولا بد فحصه ودراسته والإفادة منه، ضمن مسار منهجي ضروري في سياق المسار الفني والحضاري وبموازاة مع طبيعة النظام العالمي الحالي.

الملحون في المغرب

قيمته الفنية وبعض آفاق اشتغاله

عبد الوهاب الفيلالي

 

الملحون تراث والتراث أبو الحداثة. ولا تبنى الحداثة إلا بالحوار المستمر بين حاضر الإنسان وماضيه ومستقبله، وكلما استمر هذا الحوار في الوجود وتمادى في الإنتاج اتضحت نفعية هذا التراث أكثر، وبرزت نجاعة أساليب الحوار المعتمدة معه...، وينبغي ألا يتوقف، بل يتطور فيشمل مختلف ألوان التراث المغربي الحبلى بخصوصيتنا المغربية الثقافية؛ الفنية والفكرية والحضارية.

إن القضية، إذن، قضية هوية وكيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بتراث أصيل ومتجذر مثل فن الملحون الذي عدٌه محمد الفاسي-فأصاب– ديوان المغرب وسجل حضارته(1).

نعم، الملحون ديوان المغاربة وسجل حضارتهم، وهو ذو قيمة مزدوجة، فنية وجمالية، ثم ثقافية وحضارية. ويكفي أن نعود إلى قسم التراجم من "معلمة الملحون"(2) -مثلا- لنتبين قوة انتشار هذا التراث واتساعه في الزمان والمكان، أما كتاب "القصيدة"(3) للدكتور عباس الجراري فيكفيك لتكتشف شساعة المعاني وعمق الأفكار وقيمة الفوائد المبثوثة في الشعر الملحون، وكذا تنوع بنائه وبحوره ومن ثمة، يكون هذا التأليف وذاك وغيرهما، مثل بعض كتابات عبد الرحمان الملحوني(4) وكتاب "الملحون المغربي"(5) لأحمد سهوم، مدعاة للمزيد من البحث والتنقيب في تراث الملحون.

يتمتع فن الملحون، إذن، بمجموعة من أنواع ومظاهر القيمة شعرا وإنشادا– مما يجعله مؤهلا بامتياز للتقاطع مع العديد من فنون القول والتفاعل مع عدد من ألوان الإبداع.

هذا وذاك ما نروم الإفصاح عنهما من خلال تتبع بعض مظاهر القيمة الفنية للملحون، مركزين على جانب النظم فيه أكثر من الإنشاد، ثم راصدين بعض آفاق اشتغاله في ذاته وفي تواصل مع غيره.

* * *

القيمة الفنية
الملحون فن شعري وإنشادي غنائي متميز، وقد يكفي السامعَ سماعُه وتذوقُه الانطباعي تَعَبَ البحث عن بواعث ومظاهر قيمته الفنية وكوامنه الجمالية. وإذا كان هذا شعور جل أو كل المتلقين، فإنه من الدواعي الأكيدة عند الباحث في فن الملحون لرصد تلك البواعث والتجليات، وتفحصها بعناية تامة حتى تتكشف أسرار قوة تأثيره الفنية في السامع المتذوق وفي غيره من الفنون الحديثة.

ولما كانت المظاهر الغنائية للقيمة الفنية للملحون كامنة في التوليف القائم بين الآلات الموسيقية الأصيلة، والمقامات والطبوع، وصوت المنشد، وما يثيره فعل الغناء من شعور في نفس المتلقي في المغرب وخارجه، ويورثه من إنجازات -جوائز وأوسمة- في منتديات ومحافل دولية في مختلف أصقاع العالم، وكان ذلك من اختصاص الباحث في فن الموسيقى والغناء، انصب اهتمامنا على الشعر الملحون الذي خلصنا إلى قيمته الفنية من خلال استجلاء مجموعة من بواعثها وتجلياتها، نورد بعضها تباعا كالآتي:

أولا: تتفاعل في نسج قصيدة الملحون مقومات وآليات الاشتغال الفنية المتداولة في اللغة الشعرية مع بروز بعضها، مثل الحكي أو القص، والحوار، والوصف والتشخيص، مع الانفتاح على أفق الخيال المبدع للصور المتجاوزة أحيانا كثيرة مستوى الصور التشبيهية التقريبية والجزئية أو الصغرى إلى الرمز والإشارة والصور الكلية الرؤياوية التلويحية المنتجة للمعنى الإيحائي والصادرة عن مستوى "الإدراك الحلم"، في مثل بعض قصائد الملحون الصوفي عند عبد القادر العلمي ("الساقي"، "البستان")، ومحمد الحراق، وأحمد بن عبد القادر التستاوتي، والفلوس، وغيرهم، وأيضا في العديد من قصائد الغزل، عند أمثال الجيلالي متيرد والتهامي المدغري، وفي بعض "الجفريات" وقصائد "الحجام" و"الشمعة"، حيث يكون النص فضاء سفر في الزمن النفسي، ويكون كل واحد من مكونات العالم الخارجي الحاضرة فيه جزءا من صورة العالم النفسي الداخلي وحلم اليقظة الذي تصبو إليه الذات.

وفق هذا الطرح الرمزي الإيحائي ينبغي أن تقرأ الكثير من قصائد الملحون، مثل قصيدة "البستان" و"الساقي" لعبد القادر العلمي، وقصيدة "الشمعة" لابن علي وغيرها. فهي من صنف الصورة الرؤيا(6) ومستوى مقام الكشف في الإبداع الفني، "فالساقي"(7) -مثلا- مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح صوفي يسمو على المظهر المادي المدنس إلى الباطن الروحي المقدس، المتجلي في وصال الحق، والنعيم بصفاء الحياة الصوفية، ورؤية نوره سبحانه بعين البصيرة، رؤية ذوقية قلبية، تفاعلت في بنائها عناصر الطبيعة بأشجارها وأزهارها وأطيارها، وليلها وفجرها ونهارها، والسكر بخمره وأوانيها المتميزة، ومجالسه وطقوسه التي تتفاعل فيها المرأة الجميلة والموسيقى المثيرة والطرب واللهو والزهو.. ومن أقسام القصيدة التي تجتمع فيها تلك العناصر قول العلمي:

رَاحْ الليل وَلا أبْقَا * * الاَّ وقت المعَانْقَا * * كَبّْ ارَى وَرْخِ الرّْوَاقْ

ولشجَار الباسقا * * اوْ لطْيارْ الناطْقَا * * عمّرَاتْ بلْغَاهَا اسْوَاقْ

كبّْ الصهبا الخَارْقا * * من ميسان لبنادقا * * منْ زِاجْ ابْلاَد العْرَاقْ

غنيّ بَشْعَارْ القدَّام وذْكِرْ طَبْعْ العُشِّاقي*مَتَّغني فجْمَال صُورتَكْ والحَاضَكْ لغْسِيقَا ياخَدْ الوَرْدْ الشَريقْ

بَصْنَايَعْ وسْجولْ والتواشَجْ مَنْ شُغْل دْوَاقِي * وَذْكَرْ قُصْدَان اكْبَاحْ وبْرَاوَلْ فَتْرُوِنيقَا

منْ طَرْز الحَبْر اللبِيقْ

إذا كانت تلكم حال الصور الرمزية أو الكبرى فإن الصور التشبيهية أو الجزئية لا تخلو بدورها من قيمة فنية، من ملامحها بساطتها المحافظة على تواصل شاعر الملحون مع وسطه الشعبي الذي أنجبه وشعره، والسمو بالمحبوبة في قصائد الغزل فوق باقي الموجودات التي جرت العادة أن يشبه بها جمالها، من خلال قلب الأدوار بين المشبه والمشبه به، مثل تشبيه عيون الظبي بعيون المحبوبة في قول الحاج ادريس بن علي السناني لحنشمن قصيدة "ياسمين":

وعيون كعْيون الظَّبِي اسْرَادَا مْهَدْبِينْ** وَيلا نْجِيوْ لَلْحَقْ الغْزَالْ ايْغِيرْ مَنْ اهْدَابَكْ

وسمو ضياء جمالها على نور الشمس ساعة الضحى في قوله من القصيدة عينها:

انْتِ الِّي اعْلاَ شَانَكْ عَلْ لَبْنَات كاملين** والشمس فالضحى تَسْتَحْي، تَغِيرْ مَنْ خيْالَكْ

وعلو مقامها على كل مصادر الضوء في النهار والليل في قول محمد بن علي ولد ارزين في قصيدته "زينب":

مَا مْثِلَكْ بَدْرْ افْغِيهَابْ** والنهار اشْموسو فَمَامْ صورتك مَرْهُوبَا بِيك يَسْري كَمَّنْ كُوكَبْ

كل هذه الصور الصغرى توحي بمكانة المحبوبة في نفس الشاعر، وما يكنه لها من ودٍّ يتجاوز الحدود الفاصلة بين الموجودات ومظاهر الطبيعة الأرضية والسماوية، فتغدو جميعا في خدمة المحبوب النموذج أو المثال وكشف عاطفة الشاعر تجاهها، ترمي كلها إلى معادلة اللغة للعاطفة معادلة موضوعية تتحول معها المبالغة إلى مكون فني محمود ومطلوب، كما في قول التهامي المدغري من قصيدة "عين الحرشا":

عينو اسباب ديك النار الشعالا**شفت عين ادّوَّب لحبل**وتوكح لبحور بَعدا تَملا

ثانيا: لم يكتف شاعر الملحون بمصدر واحد في بناء صوره، وإذا كانت النماذج التي أوردنا ضمن إبراز بعض الملامح الفنية في الصور الصغرى التقريبية مستقاة من الفضاء الطبيعي، فاءن الطبيعة لم تشكل الرافد الأوحد للصورة الشعرية في فن الملحون، وإن حضرت بقوة، إذ هناك –فضلا عنها وعن خيال الشاعر– الحضارة المغربية بمختلف تجلياتها، كل حسب منطقته ومجال عيشه وفسحة حركته وتنقله، وهناك أيضا الواقع المغربي الديني الأخلاقي، والاجتماعي الحياتي اليومي، والحربي، وثقافة الشاعر التي تتجلى فيما يستدعيه من شخصيات تراثية أو أسطورية، وأحداث ووقائع ومعارف في شتى مجالات المعرفة الفكرية والعلمية؛ الدينية والفلسفية والصوفية والأدبية.

للتمثيل فقط، نلاحظ أن الصورة الشعرية في شعر شاعر فاس محمد بن سليمان تتقاطع في بنائها عناصر الطبيعة، والحضارة الفاسية –خاصة– بأثوابها وملابسها، وعمرانها ومعمارها، وعاداتها وتقاليدها، وموسيقاها ومجالسها، وقصيدته "الحجام" نموذج لأثر هذا المدار الحضاري في صوره، ينضاف إلى ذلك واقع الحروب والصراع بين القبائل والثورات على فاس عاصمة البلاد (جروان، بني مطير، آيت أومالو)، واستدعاء الشخصيات التراثية والأسطورية والرموز الدينية، والمطلع على شعره، مثل قصيدة "الشهدة" وقصيدة "السيف العلاوي"، يتلمس هذه المصادر أو العناصر ويستخلص غناها، يقول في القسم الأول من قصيدة "الشهدة":

الرعد زام طبلو من بعد كناطر الصمايم

والبرق سل سيفو ويخبل في خيول لمزان

والريح فارس يشالي

...

عن عكاب العلفات عل الوغا مشمر

...

القزاح شد بند للفرجا عساكرو تلايم

وحرك بالمطار للبيدا حتى جرات ويدان

قلبي بحبها سالي

وبطايح النواور تدهكن منها نسايم

فصل الربيع هذا ما كيفو فزمان سلطان

كل فج من ديك الصبا مخضر

...

وعلى اجميع لقيالي

...

عبقري لابس منو دايرا موبر

مبسم الثنايا مشروح وفاز بالغنايم

بالورد والزهر عل لطيار الناشد اصبهان

فرياض مبتهج عالي

بين وردات النحلة شهدها تعمر

فهذا القسم وحده تتلاقح في تشخيص معناه ساحة الوغى ومشاهدها وعناصرها الحربية، والطبيعة وبعض مكوناتها ومظاهرها الأرضية والسماوية، وكذلك بعض الطبوع الموسيقية (اصبهان).

ثالثا: يتنوع البناء الهيكلي لقصيدة الملحون ولأقسامها تماشيا مع تنوع البناء الإيقاعي، وتنوع البحور (المبيت، المشتب، السوسي، مكسور الجناح)، والخصوصية البنائية أو الصورية التي يفرضها كل بحر.

معنى ذلك أن التحول الإيقاعي والصوري المنظم يعد من خصائص أقسام قصيدة الملحون، وملامحها المبعدة عن الرتابة الفنية، والمفيدة للحركة والمسهمة في الإبداع وبعث الشعور بالجمال عند المتلقي، بفضل التوليف الإيقاعي والإنشادي القائم بين مختلف الأطراف المشكلة للقصيدة (الأقسام، السرابة، النواعر، العروبيات.)، حيث يدخل التشكيل الصوري المعماري في علاقة تخاطبية مع التشكيل الإيقاعي ومع الإنشاد وطبوعه فتأتي "السرابة" –مثلا- سردا إنشاديا سريعا بالمقارنة مع أقسام القصيدة، وتتردد الحربة في كل قسم بصوت إنشادي جماعي، إلى غير ذلك من مظاهر التواصل والتفاعل بين فضاءي النص والإنشاد.

رابعا: ارتباطا بمقوم الحكي في الشعر الملحون، ومراعاة لقوة حضوره في العديد من الأغراض وأصناف القصائد (شعر الغزل، الحجام، المرسول، الخلوق، الوفاة، المعراج، وصف الطبيعة، النزاهة، الغزوات...)، وأيضا قدم الشعر الملحون وارتباطه الوثيق بالهوية الفنية والثقافية المغربية، يمكن اعتبار قسم مهم من هذا الشعر واحدا من الأصول الحكائية في المغرب إلى جانب الحكايات الشعبية، والخرافات، ونصوص المناقب، وحكايات الكرامات الصوفية، وغيرها.

خامسا: بناء على القيمة الفنية للشعر الملحون، وباستحضاره في الحسبان يمكن أن تراجع بعض أحكام القيمة الصادرة في حق الأدب المغربي في بعض فتراته، مثل الحكم عليه بالضعف والسقوط إبان القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم ينتبه عدد من مردديه إلى الشعر الملحون والأدب الصوفي أحق الانتباه، وإلا كانت النظرة أوسع وأشمل، وتغير ذلك الحكم بعضه أو كله.

سادسا: يتميز الشعر الملحون بتفاعل ناجح بين اللهجة المغربية ولغة المعرب المدرسية إلى حد التماهي بينهما الذي ولد لغة الملحون وكان أحد أهم خصائصها الفنية، هذه اللغة التي تنماز بالخرق والتجاوز في المعجم والتركيب والدلالة، مادام هناك من الكلمات الفصيحة ما يتحول في نطقه إلى الدارج العامي، ومن الفصيح واللهجي العامي ما يتبدل معناه جزءا أو كلا، هذا فضلا عن ولادة وحدات معجمية لا عهد للفصيح واللهجي العامي بها.

إن من شأن هذه الخصائص اللغوية أن تكون بواعث فنية وجمالية تكسر أفق انتظار المتلقي الذي يقرأ نص الملحون ويستأنس بالفصيح والعامي فيه ظانا أن معنى الكلمة واحد، اكتفى شاعر الملحون بنقله ليس إلا، والصواب غير ذلك، فحين يقول –مثلا- حمود بن ادريس في قصيدة "الحجام": "صول احجام العانس الدامي"، فإن تفسير "العانس" بالفتاة التي تجاوزت سن أو مرحلة الزواج دون أن تتزوج، الثابت في المعجم العربي الفصيح، يعد تفسيرا خاطئا، إذ عكسه هو الصواب كما توحي دلالة ذلك الشطر، "فالعانس" فيه فتاة حسناء مطلوبة، يعشقها الشاعر فيدعو "الحجام" الرسام إلى تشكيل الصورة أو الوشم بإيحاء من حبه لها وجمالها الأخاذ. كذلك هو مفهوم "العانس" في كل الشعر الملحون ومنه قول التهامي المدغري من قصيدة "عيون المهرا":

يوم اتمايحت أنا وعانسي والغصن افتلقاح

بين ورد امكلل بنداه طيبولقاحا ** واطيار عليه افصاح بين للقاحي

اغلب نوح لطيار وقدها اغلب الغصن فضياح ** والخد اغلب بنصاح ورد فصباحي

والثغر غالب جوهر النظيم بنصاحا

بعيدا عن هذا المثال وذاك، يمكن الرجوع إلى ما تداوله الدكتور عباس الجراري من مصطلحات ووحدات معجمية في كتابه "القصيدة" وغيره، وأيضا القسم الأول من الجزء الثاني من "معلمة الملحون" لمحمد الفاسي الخاص بالمعجم، فهذان وغيرهما مثل "الملحون المغربي" لأحمد سهوم مصادر مهمة تؤشر على قيمة وخصوصية لغة الملحون المعجمية والتركيبية والدلالية وتدعو إلى مزيد من البحث في هذا المجال اللغوي.

سابعا: إذا أمكن اعتبار تعدد أغراض الشعر ونشاط النظم من مظاهر القيمة الفنية، فإن الشعر الملحون في المغرب عرف بأغراضه المتنوعة والمتفرعة والمكتنزة، فالمديح النبوي –مثلا- يشمل وحده ألوانا من الموضوعات أو الأغراض الصغرى التي تعرف بها قصائده، منها: الخلوق، والوفاة، والمعراج، والمرسول، والمرحول، والحمام، والورشان، والغزوات، والتصلية، وشعر الهجاء تندرج ضمنه قصائد "الدعى". والمطموس، والمهراز، والبغاز، والقرصان، وأيضا الخصام، وغيرها.

الملاحظ، في اتصال بتعدد الأغراض ونشاط النظم وذيوع نصوصه، أن شعر الملحون لم يتراجع عن إرضاء الذوق العام، وتربية ملكة الخيال عند العامة والخاصة، ومساوقة المسار الفني والفكري في المغرب بقدر ما احترمه وشكل أحد ركائزه المميزة، ولذلك حين نعتبر الأدب الديني ركنا مهما وجوهريا في بناء صورة الأدب المغربي، وأنه الأدب الرسمي الحقيقي، إذا راعينا خصوصية الانتشار والذيوع، إنتاجا وتلقيا، وضمنه الأدب الصوفي، خاصة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وبداية العشرين، فإن الشعر الملحون يؤكد حضوره الفعال في إثبات هذه الحقيقة.

ثامنا: يخلص الفاحص لفن الملحون، شعرا وإنشادا وسياقا، في تواصل مع الحركة الفنية المعاصرة بمختلف أنواعها، إلى وجود توافق وتقاطع متأصلين بينه وبين بعض الفنون، مثل المسرح والتشكيل، وبعض فن الغناء الحديث والمعاصر، مؤدى ذلك أن فن الملحون مؤهل لتجاوز زمانه والاستمرار في ذاته من خلال تفاعله وتواصله مع الفنون الحديثة. وأهليته تلك نابعة من قيمته الفنية المتجلية في كفاءة الوصف والتشخيص وتوظيف طاقة الخيال ومكتسبات الذاكرة، والوعي الفني لدى أصحابه، وكذا خصوصيات إنشاده، وقوة تأثيره في المتلقي التي أبرزها أحمد التستاوتي -أحد شعراء المعرب والزجل– في الباب الخامس الخاص بالملحون من مجموعه الأدبي: "نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر"(8)، مشبها الشعر الملحون بنغم الوتر الذي يطرب ويحرك ويثير، وتدعن له الأسماع والقلوب، يقول في تقديمه لذلك الباب:"الباب الخامس في ذكر ملحونات مثل نغمات الأوتار، تطرب الأرواح، وتحرك الأشباح، وتلبس القلوب ملابس الانكسار".

لقد أثبتت بعض الأعمال الفنية الحديثة كفاءة فن الملحون وأهلية استمراره في الزمان مثل مسرحية "الحراز" ومسرحية "الدار"، وتلك القصائد التي غنتها بعض المجموعات الفنية المعاصرة، مثل "جيل جلالة" و"ناس الغيوان"، ومنها قصيدة "الشمعة" لابن علي، و"مزين أو صلوك" لعبد القادر العلمي، و"الشهدة" لمحمد بن سليمان وحربتها:

اصاح زارني محبوبي يامس كنت صايم

شهد اقطعت واجنيت الورد كالوكليت رمضان

مهجوره قلت مدى لي

أحبيب الخاطر واش لمريض يفطر

تاسعا: تصادفنا في مسار رصد بعض ملامح المكانة الفنية للملحون مجموعة من أحكام القيمة، صدرت عن مولعين بهذا الفن وباحثين فيه، في حق العديد من شيوخ نظمه وشعرهم، من شأنها أن تكون مرآة من مرايا فنيته والوعي الفني عند أصحابه، وأن تحرك همم الباحثين لبذل مزيد من الجهد في استكشاف خباياه وكشفها، من ذلك قول الدكتور عباس الجراري في حق التهامي المدغري: "ولعل شهرة المدغري في الزجل، لم يدركها غيره حيث كان يعتبر شاعر المرأة والخمر الأول... في كل فترات الزجل، ويعتبر بالتالي أكثر الشعراء قبولا لدى الجماهير"(9)، وقوله أيضا في حق الحاج ادريس بن علي السناني لحنش: "أكبر شعراء الزجل بعد التهامي المدغري، كان ينظم في كل الموضوعات فيجيد"(10). أما الباحث محمد الفاسي فيقول عن الجيلالي متيرد وشعره: "من أكابر شعراء الملحون، وهو من الطبقة العالية في هذا الميدان كان ينظم في سائر الأنواع وفي جميعها شاعريته من الطبقة الأولى"(11) ويقول عن التهامي المدغري: "يعد عند كثير من النقاد أكبر شاعر في الملحون وخصوصا في النوع الغنائي"(12).

توارثنا في هذا السياق مجموعة من الآراء والأحكام في حق الشعر الملحون وقيمة شعرائه ومكانتهم، فاه بها معاصروهم، لا مندوحة عن الاهتمام بها ومراعاتها وفحصها من خلال دراسة شعر من قيلت في حقهم، وهي آراء تتسم بالحكمة والتأمل العميق، وإن ظهر للوهلة الأولى أنها ذات طبيعة انطباعية، منها قول السلطان مولاي عبد الحفيظ في الجيلالي متيرد: "هو امثرد وعامر بالثريد"(13)، وقول الفقيه العميري في حق تلميذه عبد القادر العلمي بعد تفوقه في مباراة شعرية تبارى فيها مع غيره من التلاميذ في حضرة الشيخ:"هذا الذي دخل الروض وجنى ورده"(14)، ومنها أيضا القول المشهور في شخص محمد بن علي ولد ارزين: "فاكهة الاشياخ وشريف المعاني"(15)، وما يقال عن عبد العزيز المغراوي: "كل طويل خاوي إلا النخلة والمغراوي"(16).

ما كان لهذه الأحكام والآراء الصادرة عن تذوق فني وتأمل في الشعر الملحون أن توجد لولا ما يتحلى به هذا الشعر من مقومات فنية وخصائص دلالية مثيرة، فما بالك لو أضيف اللحن أو النغمة إلى الكلمة... وحل الإنشاد محل القراءة الشعرية، لا محالة ستتكشف أكثر آنذاك القيمة الفنية للملحون.

آفاق الاشتغال

الملحون لون فني تراثي مكتنز، وإبداع شعبي أصيل، يتمتع بمقومات الحياة والاستمرار في ذاته وفي غيره إن استثمر استثمارا ناجعا وصحيحا من خلال تحديثه وتقوية أواصر التواصل والتفاعل بينه وبين ما يرتبط به من قطاعات وفنون وآداب وأبحاث، مثل التجربة الشعرية المعاصرة، الفصيحة والزجلية، هذه الأخيرة التي يعد شعر الملحون أقرب النصوص التراثية إليها، إلى جانب غيره من ألوان الزجل، وتجربة الغناء والتلحين، وفن المسرح، وفن القصة والرواية، والدراسات التاريخية والحضارية أو الانتربولوجية، والدراسات اللغوية والصوتية التي -لا محالة- ستجد في التفاعل الحاصل بين اللغتين العامية والفصيحة داخل لغة الملحون المتمتعة بخصائص تميزها عنهما معا وتحقق خصوصيتها بالمقارنة معهما، مرتعا خصبا للبحث والتمحيص، إلى غير ذلك من ألوان الإبداع والمعرفة الحديثة التي تجد في ذاتها وفي تراث الملحون أهلية محفزة لمصاهرته والإفادة منه ورفده في الآن ذاته، خاصة أن هناك أعمالا فنية معاصرة تقاطعت مع فن الملحون واستفادت منه، أثبتت الأيام وردود الفعل الذوقية والنقدية قيمتها العليا، مثل تلك القصائد الملحونة التي غنتها مجموعة جيل جلالة أو ناس الغيوان، نحو "لطف الله الخافي" للحاج أحمد الغرابلي، وقصيدة "الشهدة" لابن سليمان، "ومزين أوصولك" لعبد القادر العلمي، و"الشمعة" لابن علي، وذلك "العروبي" الجفري "للموقت" وأوله:

سبحان الله صيفنا ولى شتوا

وارجع فصل الربيع فالبلدان اخريف

هذه كلها نماذج نستخلص منها إمكان إفراغ كلام الملحون في قوالب موسيقية غير قوالبه الأصلية، مع استمرار نجاحه، مما يعني أنه كلام يتبدى على حدود الزمان وقيود الألحان، دون أن تفقد مقاماته وطبوعه الأصلية قيمتها ورونقها لما فيها من تموجات وتحولات تبتعد عن النمطية فتثير المتلقي وتشد انتباهه إليها.

يمكن أن نستحضر في هذا السياق تلك المسرحيات التي شكلت قصائد الملحون نصوصها وكان مبدعوها مؤلفيها، مثل "الحراز" و"الدار" وغيرهما، ونستحضر أيضا بعض الأغاني العصرية التي تجاوزت شهرتها حدود الوطن ليحظى أصحابها من خلالها بأرقى الجوائز والتشريفات، أعني على سبيل التمثيل أغنية "الله حي" للفنان عبد الوهاب الدكالي التي يمكن أن نؤكد استئناس المحبين لشعر الملحون بها استئناسا ذوقيا انطباعيا في البدء، سره بناؤه المتقاطع مع بناء نصوص الملحون في شكل أقسام تفصل بينها لازمة ترددها الجماعة، وأيضا بناء بعض تلك الأقسام مثل قوله:

فين سقراط فين افلاطون

فين الغزالي وابن خلدون

فين كاليلي وفين داروين

فين ابن سينا وطه حسين

فين نوبل فين اريسون

فين دليلا وفين شمشون

فين فين فين

الذي يذكرنا بأقسام تتخلل العديد من قصائد الملحون، خاصة في موضوع "الوصاية" أو "الموعظة" الذي لا يخالفه موضوع الأغنية تلك، مثل قول الحاج محمد بن عمر الملحوني من قصيدة "ضاق الحال":

وين الطغات العضما أصحاب لضعان * * فالترى سكنو تحت اللحد والكفاني

وين قبلهوم الملوك فاتت ازمان* * كل من زاد فنى لا بُدّ ليه فاني

لاتغرك نفسك يا من بدانك تراب * * فيق من نومك واستيقظ يالمعدوم

من بغاه المولى للخير كان سباب * * في صلاح الناس أو يجري أعلى نفعهوم

وقول المغراوي:

وين ابراهيم وين اسماعيل * *وين يسحاق وين يعقوب أوّلادو

وينو الياس وين دانيال أهل الجد * * وين ذا النون اسرور قلبو واعيادو

وقول محمد بن سليمان الفاسي من قصيدة "التوبة"

وين من غرتهم بلمال ونصر

مفازو غير بلقبر

...

وين سلاطين والتجار

وين شجعان

فاتو لصوص الطغيان

وين عنتر واين من كانو قبلو اعتاق

...

وين فاروق ومالو بعد ما كثر

...

وين فرعون من جهلو بموسى

فسويس ابقومو نغراق

إذن:

كل شي راح مع الزمان

كل شي صار ف خبر كان

والنهاية ف الحياة وما يدوم غير وجه الله

الله حي الله حي باقي حي ديما حي

كما جاء في نص أغنية الفنان عبد الوهاب الدكالي.

فلا ريب، إذن، أن للبناء الفني اللغوي يد طولى في نجاح هذه الأغنية، وهو بناء متأصل في شعر الوعظ والإرشاد عند أهل الملحون، فكما أفاد منه عبد الوهاب الدكالي أو جيل جلالة... يمكن أن يفيد منه غيرهم، مثلما يستفاد أو يمكن أن يستفاد من باقي ألوان التراث الفني المغربي، والمهمة أو المسؤولية، إذن، ملقاة على أهل الفن والغناء، أصحاب كلمات ومبدعي لحن وموزعي موسيقى.

إذا ما انتقلنا إلى لون فني معاصر آخر هو فن الرسم والتشكيل، أحد أكثر الفنون تواصلا مع التجربة الشعرية المعاصرة، وبحثنا في تراثنا المغربي عن النصوص الشعرية الأكثر استعدادا للتحاور معه فستكون منها قصائد الملحون، وبصفة خاصة قصائد "الحجام" التي يعتبر بناؤها الصوري لوحات تتناغم فيها عدة ألوان وفضاءات لتشكيل اللوحة أو الرؤيا التي يصبو إليها الشاعر. معنى ذلك أن آفاق التواصل مفتوحة بين فن التشكيل وكلام الملحون، فما بالك لو استدعيت قصائد "الحجام" في قالبها الإنشادي وبنائها الموسيقي، فلا شك أن تلك الآفاق ستزيد انفتاحا، في ظل ما نشاهده اليوم من تناص مشخص بين الكلمة والنغمة والصورة التشكيلية أو غيرها في العديد من المناسبات، قراءات شعرية كانت أو معارض فنية أو غيرها.

كيف لا، والملحون يجمع في ذاته بين الكلمة والنغمة والصورة، وهو فضاء نصي وصوري منسجم، ومجال إبداعي رمزي وإيحائي، وتلكم خصائص مشجعة للتفاعل معه وإنجاز أعمال من قبيل ما ضمه مهرجان محمد الخمار الكنوني الرابع بتطوان، أعني تلك اللوحات التي تحمل كل منها قصيدة من قصائد شاعرنا المعاصر للكنوني وعبد الله راجع وغيرهما.

لا فسحة للتردد أيضا في بعث وشائج التواصل وتجديدها بين فن الملحون وقطاع الصناعة التقليدية والتجارة المرتبطة بها، بعد أن تأكد أن وجود كل منهما ظل مرتبطا بوجود الآخر طوال حياة فن الملحون، وهنا نتساءل مقترحين: ألا ينبغي ضم مشروع النهوض بفن الملحون إلى مشروع النهوض بالحرف والصناعات التقليدية في المغرب، بحيث يمكن أن يعتبر بمثابة ملحق "للكتاب الأبيض للصناعة الحرفية والمهن"، ويحظى بدوره بالاهتمام في مشروع "الميثاق الوطني لتنمية الصناعة الحرفية والمهن"، علما أن الملحون فن في المقام الأول، ثم منشط اقتصادي ومكون من مكونات ثقافة الحرفي وزبنائه، وإحدى قنوات التواصل الناجعة والجامعة بين مختلف الحرف والصناعات داخل السوق التقليدية؟

ما كان بوسعنا أن نقف على تلك المظاهر القيمية الفنية، ولا بمكنتنا أن ننفتح على بعض مشاريع الإفادة من فن الملحون وآفاق التحاور معه، لو لم يكن فنا قائم الذات ومستقيما في نظمه وإنشاده، ويتمتع بقيمته الفنية الراسخة وفرص استمراره في الوجود بفضل طابعه الجماعي، وخصوصيته الإنشادية، وجمعه بين اللغتين الفصيحة والعامية جمعا توليفيا متميزا يمسي فيه المدرسي عاميا والعامي راقيا لا يقل عن المدرسي إلا ليزيد عليه من خلال تفاعله معه وتجاوزه له أحيانا.

ألا يستحق هذا الفن بكل امتيازاته تلك أن ندعو –مرة أخرى– إلى تكثيف الاهتمام به نظما وإنشادا، وتعميق الانتباه إلى قيمته الفنية وقيمته في ميادين الاجتماع والتاريخ والحضارة والاقتصاد... إشعارا بضرورة النظر إليه نظرة أعمق وأوسع يشارك فيها الباحثون في اللغة والأدب والإجتماع والتاريخ والحضارة والاقتصاد والموسيقى والغناء وغيرها من مجالات البحث التي بمكنتها خدمة هذا الفن، خاصة وهو من عناصر الهوية الثقافية والحضارة المغربية القوية والمهيأة للإسهام في الحفاظ على خصوصيات الذات أو "الأنا" وحمايتها في مسار النظام العالمي الجديد أو الحداثة العالمية الجديدة (العولمة).

التزاما بذلك، نجدنا في حاجة ماسة إلى دراسات مقارنة بين الشعر الفصيح والشعر الملحون وغيره من ألوان الأدب الشعبي، ودراسات مقارنة تعمق النظر في لغة الملحون ومنبعيها الفصيح والعامي، ودراسات أخرى تقارن بين الملحون في مختلف أقطار المغرب العربي وتكشف مظاهر التأثير والتأثر، والمؤتلف والمختلف، طوال المسار التاريخي لفن الملحون.

ارتباطا بدراسة لغة الشعر الملحون لابد من الانتباه إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالانشاد والمنشدين، مع التركيز على أهمية النطق الفصيح لكلام الملحون إفصاحا واضحا خلال الانشاد حتى يجلب المتلقي فيستوعبه وفحواه، علما أن الملحون في سياقة الموسيقي أكثر استقطابا للجمهور من نص الملحون دون أن ينشد، وأن فئة عريضة من المتذوقين لهذا الفن تستقطبهم موسيقاه وألحانه قبل أو دون كلامه. ولا يعني ذلك ابدا أن البساط خلو من الأصوات المنشدة الكفأة ولكن قيمة الشعر الملحون والانشغال بالنغمة قبل أو دون الكلمة هما ما فرض هذا النداء.

إن الحاجة ماسة أيضا إلى دراسات عميقة ومتخصصة في جانب مازال القصور فيه قائما؛ أعني الإيقاع والأوزان في الشعر الملحون.

زد على ذلك أن باب التنقيب عن النصوص وتوثيقها والتحقق من أصحابها، وأيضا تدوينها مازال مفتوحا على مصراعيه، ذلك أن أهم مصادر هذا التراث –إلى جانب الخزانات العامة والشبه عامة– هما الخزانات الشفوية (الحفاظ)، وخزانات الكناشات والمجاميع الخاصة، وهما مصدران يتآكلان مع مرور السنون ويضمحلان.

يغني هذا الواقع -طبعا– عن التذكير بخطورة بقاء تراث الشعر الملحون مخطوطا إلى أوان قد لاتتاح فيه فرصة إقامة المهرجانات وعقد الندوات الخاصة بفن الملحون، وفتح آفاق اشتغاله ورفده لغيره من الفنون والآداب والعديد من مجالات الحياة.

بناء على ذلك، لابد من تطبيق ما دعا إليها الباحثون الرواد أعني خاصة الدكتور عباس الجراري حين طرح، بوعي عميق نابع من خصوصية المغرب وغنى تراثه الشعبي وتنوعه، فكرة الإقليمية(17) في أفق جمع ودراسة التراث المغربي-ثم العربي كافة- وضبط التكامل والتظافر والوحدة بين مختلف الأقاليم، وهذا ما انتبه إليه أيضا المرحوم محمد المختار السوسي وكان سرا في اهتمامه بمنطقة سوس، يقول في مستهل كتابه "سوس العالمة": "وبعد فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب... فلعل من يصيحون يندفعون [مثلي] إلى الميدان، فنرى لكل ناحية سجلا.. فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة أمام من سيبحثون في المغرب العام غدا"(18).

لابد، في مسار هذه الدعوة، أن يتم التوليف بين الفضاء الجغرافي والألوان التراثية المهيمنة فيه، بمعنى ضرورة الاهتمام باللون التراثي في كل منطقة ثم في مختلف مناطق وجوده، فإن كان المعقل الأول للملحون هو "تافيلالت" فإن معقله فيما بعد اتسع فشمل تارودانت ومراكش والجديدة وأزمور وسلا ومكناس وزرهون وفاس، وغيرها من المدن المغربية. فالمطلوب، إذن، هو جمع ودراسة تراث الملحون في كل من هذه المدن والمناطق ثم الإلمام به كله بعد ذلك إلمام تصنيف وتحقيق وتوثيق، والتقديم له ودراسته ونقده. وقد أنجزت –فعلا- بعض الأعمال المتصلة بهذا البعد الجهوي في شكل مقالات لمحمد الفاسي عن أهل الملحون في مكناس وزرهون، وفي دكالة وغيرها، ثم في شكل أعمال أكثر عمقا وتمحيصا مثل ما أنجز عن الملحون في تارودانت ورسالة الباحث منير البصكري عن الملحون في آسفي... وبعض الأبحاث الأخرى المنجزة والمنتظرة في إطار الإجازة وشهادة استكمال الدروس ودبلوم الدراسات العليا والدكتوراه، ولكنها تبقى ناقصة جدا مقارنة مع حجم الشعر الملحون وقيمته الفنية والثقافية والاجتماعية، فهل جمعت كل قصائده، وهل ضبط أعلامه جميعا، ناظمين و منشدين وحفاظا وخزنة.. في وقت نجهل فيه الكثيرين، ولا نعرف البعض إلا بإلاسم أو جزء منه(19)، ولا نتوفر من شعر العديدين من المشهورين إلا على بعضه، فما بالك بشعر المغمورين والمجهولين.

صفوة القول، إن الملحون فن وتراث يستحق، بل ينبغي، أن يحظى بالاهتمام اللائق والأوفر خادما ومخدوما، سبيلا وهدفا في الوقت نفسه، رافدا ومجالا للاشتغال، وهذا مسار منهجي ضروري في سياق المسار الفني والحضاري وبموازاة مع طبيعة النظام العالمي الحالي. لا بد من ضبطه وفحصه ودراسته ثم الإفادة منه والنهل من منهله دون إلغاء هذا أو ذاك.

لايسعنا أمام ضخامة المشروع، وغنى فن الملحون واكتناز حقوله، وقيمته الجلية، وأهليته البينة في محاورة العديد من الفنون والأجناس الأدبية وغيرها، إلا أن نقول قول الدكتور عباس الجراري في مستهل كتابه "القصيدة"، "وبعد، فلسنا نزعم أننا قلنا جميع ما يمكن قوله في الموضوع ولا أننا أتينا بالقول الفصل فيه"(20)، وأملنا أن يجد الباحثون في هذه السطور والأفكار ما يغريهم بالإسهام في البحث في تراث الملحون وكل التراث المغربي.

* * *

الإحالات
1- شعراء الملحون الدكاليون، مجلة المناهل ع24، س9، 1402ه/ 1982م، ص204.

2- خصص محمد الفاسي القسم الثاني من الجزء الثاني من معلمة الملحون لتراجم شعراء الملحون، و قد بلغ عددهم في هذا القسم 588، جلهم من أهل الحاضرة. (منشورات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط: 1992).

3- د. عباس الجراري: القصيدة، مكتبة الطالب، الرباط: 1970.

4- من كتابات عبد الرحمان الملحوني: أعداد سلسلة "أبحاث ودراسات في القصيدة الزجلية" ومنها كتاب "أدب المقاومة بالمغرب من خلال الشعر الملحون والمرددات الشفاهية" الذي نشرته دار المناهل، وزارة الشؤون الثقافية، المغرب.

5- الحاج أحمد سهوم: الملحون المغربي، منشورات "شؤون جماعية"، ط2، 1993.

6- ينظر: أحمد الطريسي أعراب: الرؤية والفن في الشعر العربي الحديث بالمغرب

المؤسسة الحديثة – الدار البيضاء، ط1 (1987)، ص241 وما بعدها.

7- حربتها: راح الليل، وعلم الفجر تاك الصبح الراقي ** دور على الحضرا بفناجلك تزيان الموسيقى واجرع للساهي ايفيق.

8- مازال الباب الخامس من "نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر" الخاص بشعر الملحون مخطوطا وغير محقق، بخلاف باقي شعر أحمد التستاوتي المعرب، الذي حققه عبد اللطيف شهبون في رسالة جامعية نال بها دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط. ومن النسخ المخطوطة للنزهة: مخ.خ.ع بالرباط: د 1302/ ك1669/ خ.الحسنية: 3070/ خ.الصبيحية400/395.

9- د. عباس الجراري: القصيدة، ص 645.

10- المرجع نفسه: ص656.

11- محمد الفاسي: معلمة الملحون، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، ج2، ق2، ص148-149.

12- المرجع نفسه،ج2، ق2، ص131.

13- نفسه، ص150.

14- نفسه، ص292-293.

15- نفسه، ص60.

16- نفسه، ص259.

17- ينظر: "القصيدة"، ص 2، الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه لعباس الجراري

مكتبة المعارف – الرباط، ص8.

18- محمد المختار السوسي: سوس العالمة، ص: 228-230، مط. فضالة –المحمدية: 1380 ه/ 1960م.

19- ينظر: معلمة الملحون، ج2، ق2، حيث يورد العلامة محمد الفاسي عددا من الشعراء باسم "محمد"، يستهل الحديث عن كل منهم بقوله: "لاأعرف عنه إلا أن له قصيدة".

20- كتاب: "القصيدة"، ص16-17.