تحاول خلق خطين متوازيين، مندمجين، يساهم كل منهما في كشف الرؤية الكلية المراد توصيلها. الأول، خط ثورة يناير، أما الآخر، فهو نهر النيل، ليصبح شريان الحياة في الرواية يؤثر في سيرها، ما يحدث عند مصب النهر من تلوث وما يحدث عند المنبع، من بناء لسد النهضة الإثيوبي.

الثنائية التكاملية في «ضجيج الضفادع»

شوقي عبدالحميد يحيى

 

عندما بدأت احداث ثورة الخامس والعشرين من يناير، كانت الفرحة غامرة، واندفع الكتاب للتعبير عن الفرحة، وعن الأمل. وكان من بين الأعمال الروائية في تلك الفترة المبكرة من عمر الثورة، " أشياء عادية في الميدان"[1] للدكتور السيد نجم. غير أننا، حينها، إعتبرناها، مع غيرها كثير من الكتابات، من الكتابات المتعجلة، بالنسبة للكتابة الروائية، وأطلقنا عليها "المرحلة التسجيلية"، وإن كانت هذه الرواية قد حاولت خلق خط درامي مواز لما يدور في الميدان، إلا ان الاندماج بينهما لم يكن بالقدر الكافي- من وجهة نظرنا-. وها هو السيد نجم يعود إلينا برواية جديدة، تتناول ذات الفترة، إلا أن الرؤية قد نضجت، فاندمج التزاوج بين الخطين الدراميين في روايته الجديدة "ضجيج الضفادع"[2]. والتي تحاول خلق خطين متوازيين، مندمجين، ليساهم كل منهما في كشف الرؤية الكلية المراد توصيلها.

الخط الأول، خط الثورة، إلا أنها لا تقوم هنا علي ما يدور في الميدان، وإنما علي ما يدور بداخل من بالميدان، اي ان الرؤي هنا أعمق وأبعد. أما الخط الآخر، فهو شريان الحياة في مصر، نهر النيل، ليصبح شريان الحياة في الرواية، وليربط كل مصر، تاريخيا، وجغرافيا. متخذا منه المنبع والمصب. حيث يؤثر في سيرها، ما يحدث عند مصب النهر من تلوث، يشير إلي الإهمال، وإفساد ماء الحياة، وما يحدث عند المنبع، من بناء لسد النهضة الإثيوبي، وما يمثله من مخاطر علي جريان النهر العظيم، مؤكد ان هذه المحاولة، ليست الأولي ، وإنما سبقتها محاولة أخري في عهد سابق. فبعد مشاغبات الولد الجن "رامز" أو من عُرف بالجنرال فيما بعد، ابن أحد مهندسي الري، الذين كانت مهمتهم الحفاظ علي نهر النيل وحمايته، مع أولاد القرية، كانت {المشكلة التي ألجمت الجميع، أن أبيه في مهمة أو مأمورية خارج البلاد، للعمل علي ضمان حصة مصر من المياه الجارية في نهر النيل، في اجتماع هام أعلنت عنه الصحف ويتابعه عبد الناصر ذات نفسه.} ص45.

قسم الكاتب روايته إلي ثلاثة أقسام، كل قسم بتكون من مجموعة من الفصول.

إختص القسم الأول منها، والذي جاء تحت عنوان "أصل الحكاية" بالتعريف بالشخصيات، والتي تمحور الحديث فيها عن النيل. تاريخه وتقديسه الذي ورثه مهندس الري الذي ورث العمل عن آبائه، ولذا سُمي "عبد الوارث" . وكيف إنضمت "نوارة" النوبية إلي اسرته، وبعد رفضها الإفصاح عن اسمها، او اسم والدها، فتم تسميتها "جميلة" . كما نتعرف علي البناء، وكيف ان اسم كل منهم يدل علي وظيفته، فالإبن الأكبر "رامز" و شهرته وما عُرف به فهو "الجنرال" حيث عمل وأبدع في جهاز الشرطة. والإبن الأوسط، والذي إمتهن الإعلام، بين الصحافة المكتوبة، والصحافة المرئية، ولذا تمت تسميته "علام". ، أما الإبن الثالث، فمازال بالصف الرابع بكلية الحقوق، ليمثل الثلاثة جبهات الصراع في أحداث الثورة، والذي يشعر كل منهم أنه هو الثورة، وأنه هو محط هتاف الجماهير في الميدان. والذي بالتأكيد كان أحد عناصر فشل الثورة، خاصة أنه يمكن القول بأن صراعا كاد ينشب بينهم، كما حددته "جميلة" والتي تعتبر الأم التي لم تلدهم: { كبيرهم "الجنرال" ضمن قيادات الشرطة لقوات الأمن المركزي، والثاني "علام" الإعلامي الشهير في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والجديد علي شبكة الإنترنت.. أما ثالثهم "عصام" لم يتخرج في كلية الحقوق بعد، ومع ذلك مثلهما عليه لعنة الله وغضبه! ما زال الصراع باق بينهم وبين سي عبده، لا يهابونه ولا يحترمون شيخوخته!} ص36، 37.

كما يمثلون جميعا الجيل التالي لعبد الوارث، والمختلفين عنه، ومعه، في النظر إلي الكثير من الثوابت، والأعراف. وليتحول الصراع بين هذا الجيل، والأجيال السابقة ، الساعية إلي الاستقرار، وغياب فكرة التغيير عندها، ولذا كان صمت "عبد الوارث" الذي حل عليه أثناء الثورة، وكان تشبيهه لأحفاده، الذين إحتلوا البيت الكبير أثناء الثورة، بالهكسوس، كتعبير باطني، ورؤية خاصة لما يدور في الميدان، وما سنوضحه فيما يأتي.

أما القسمين الآخرين فقد إنصبا علي ما يدور داخل صدور الجبهات المتواجدة بالميدان. حتي لتبدو للوهلة الأولي إنفصالها عن القسم الأول، والذي كان النيل محوره، إلا انه بالتأمل، وبربط الإشارات، نستيطع التعرف علي الترابط المنطقي بين الأقسام الثلاثة، وأن النيل هو الشريان الرابط بين أقسام الرواية، والمحدد لبعديها، التاريخي والحضاري.

الثنائية التكاملية

تتمحور "ضجيج الضفادع" حول ثنائية متلازمة، ومرتبطة. تبدأ من نهاية الرواية حيث يحدد الشخصية الرئيسة في العمل "عبد الوارث المصري" موقفه وما أظنه محور العمل، وهو الخير والقبح. الآمان والخوف، القلق والاستقرار، وإن كنت أزعم ان تلك هي الحالة التي تسعي الرواية للتعبير عنها، وهي فترة إندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي انقسمت فيها الأحاسيس بين الفرح والخوف، الأمل والرجاء الحذر، الاستبشار والاستنفار. حيث يجلس "عبد الوارث المصري" منفردا في البيت الكبير، بيت مفتش الري، بالمنصورية، موجها وجهه شطر منبع النيل مرة، ومصبه مرة أخري. لتاتي رفيقته الوحيد الباقية، والشاهدة والصابرة علي رحلته وأولاده وأحفاده "نوارة عبد الرحيم" والشهيرة، أو من تم تسميتها ب"جميلة"، ولسان حال من منحوها الإسم، يقولن أنها جميلة الجميلات، رغم سمارها، ومن عاشت صابرة عازبة، تتحمل أحلام ونزوات الصغار والكبار، والمدافعة عن الآباء والأحفاد، وقد رأت "عبد الوارث" ينظر مرة إلي اليمن ومرة إلي اليسار.. ويضحك، وحده، فتخاف عليه وتسأله:

{أراك ليلة بعد ليلة ، تتعلق بالمقعدالخيزران أكثر.. وتعدل من وجهتك؟! متحير ومحيرني معك؟! فيجيبها: "" ممكن أن أجلس هكذا وتكون وجهتي نحو الشمال فأري مياه النهر إلي البحر، إلي المصب، فتنكشف لي كل ما تحمله من أوساخ، نجسنا بها مياهنا الطاهرة.. فأغضب! وممكن أن تكون وجهتي إلي الجنوب ، حيث المنبع، فيبين لي مستوي المياه، فورا أدعوا الله حتي لا ينخفض"}ص138.

ومن تلك الثنائية، المنبعثة من شريان الحياة المصرية، نهر النيل، يستخرج، أو يستولد السيد نجم، تلك الازدواجية التي تولدت عبر أهم وأخطر الأحداث المصرية في القرن الواحد والعشرين، وهي الثورة ، المغدورة، والتي كانت فوق كل التوقعات، فأنشأ شخصية، مزدوجة كذلك" قسمها إلي شخصيتين، رجالية ونسائية، ليتم بهما التزاوج، بدون زواج، أو التكامل ليُعبرا في النهاية عن الآباء المؤسسين لمصر الحديثة. مفتش الري، الرجل، الذي وهبه لقب "المصري" ليعود به إلي بدايات التاريخ البشري، ومنذ الفراعنة وكيف كانوا يتعاملون مع النهر، وكيف كانت له قدسيته. وتلك الفتاة النوبية، التي سلمتها أمها للنازح من النوبة عند بدايات بناء السد العالي، وبينما عادت الزوجة لتلقي مصيرها مع زوجها أمام طوفان المياه المغرقة لأرضهم وبيوتهم، بينما تذهب الفتاة، الطفلة، إلي حيث ترافق أسرة "عبد الوارث المصري" الذي له من اسمه الكثير، ويمنحونها اسم "جميلة"، لتصبح رمزا لمصر الحديثة، مصر المُضحية، مصر المتحملة من أجل الآخرين. لتتوحد الشخصيتان، او تتكاملا وفقا لمعطيات الرواية، خاصة بعد وفاة الزوجة، وتفرق الأولاد وانشغالهم. فتم التكامل، بدءً من محاولة ترميم ما يفعله الأب عبد الوارث بأبنائه، لتدافع هي عنهم، والعكس صحيح عندما يتصور "عبد الوارث" ان أبناءه تجاهلوه، وكأنه غير موجود، تدافع هي عنهم أمامه. وكأنهما معا يعملان علي الحفاظ علي تلك التقاليد التي تربيا عليها ، والمعبرة عن الاستقرار، والإحترام. إلي أن بدأت الثورة فكان استقبالها بينهما علي النحو المتكامل، أو المعبر، علي النحو الآتي:

تبدأ الثنائية أو المقابلة بين الحق والواجب، وفي نظرة "عبد الوارث" بين حق "جميلة" الإنساني، والحق الوطني. حيث يتبدي مكنون شخصية عبد الوارث، والتي تتفق مع تلك الرؤية التي يتحدد علي أساسها نظرته لما بالميدان، حيث يُرجح المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة. فبعد أن

تفرق الأبناء وانشغل كل منهم بشؤنه، ولم يبق بالبيت الكبير سوي عبد الوارث وجميلة، التي تذكرت أبويها اللذين غرقا في مياه السد، فبكت، فيقول عبد الوارث: { وها هو السد باق يعطي نصف قرن ويزيد.. حتي لا يمكن تصور أحوال البلاد بدونه.. تضاربت المشاعر عنده (عبد الوارث) واحتدمت بين أحقية جميلة النبيلة، والواجب بضرورة سد رمق الملايين وملئ بطونهم بثمار الفاكهة والخبز}ص75.

ثم تبدأ الثنائية التكاملية بين "عبد الوارث" و "جميلة" في تناوب المشاعر التي انتابت المصريين أثناء الثورة. حيث وصف حال كل منهما قبيل الثورة وأثناءها، فترة إحتلال الأبناء للبيت الكيبر، وتسمية عبد الوارث لهم بالهكسوس، وفترة ما بعد الثورة، حيث تم الجلاء عن البيت وعاد كل من الأبناء إلي مستقره. فتم تبادل المشاعر والأحاسيس المتمثلة في تبادل الصمت والكلام بينهما. علي إعتبار الصمت هو الخوف والترقب والحذر والتفكير، بينما الكلام والثرثرة، هي الفاعلية والحركية، أو الفرح والاستبشار.

فقبل الثورة كانت جميلة صامتة، بينما عبد الوارث يثرثر، وأثناء الثورة، لزم عبد الوارث الصمت، بينما دب النشاط والثرثرة "جميلة. وبعد الثورة، عادت "جميلة لصمتها، وعاد لعبد الوارث ثرثرته.

فجميلة في أثناء الثورة، ووفق حديث عبد الوارث { لم تقصر في تقديم الخدمات المناسبة لزوجتي والأولاد الكبار وأطفالهما وزوجاتهما.. وقد أقاموا جميعا بالبيت الكبير.. وحيث إنشغال الجنرال والإعلامي في أمور لا تعنيها ملأت الدنيا ضجيجا لم تفهم معناه ولا أسبابه}.

و بعد أن طالها الحريق أيام الثورة يقول عبد الوارث{ كان صمتي هكذا كثيفا لزجا مملا، لم يخفف من وطأته كلمات "جميلة" التي لا تخلو من المجاملات لي ولكل سكان الدار الجدد أو الهكسوس. رأيتهاعلي غير ما أعرفه عنها طوال سنين عمرها: ثرثارة!} ص119.

ثم يواصل عبد الوارث الحديث مع النفس، بعد خروج المحتلين للبيت، ووصول ما بالميدان إلي شبه النهاية: { زهقت من صمت لساني، علي الرغم من بقايا آلام الاحتراق سألتها إن كان يعجبها ما يحدث؟ المفاجأة ليست في كوني بدأت أنطق بعد صمت. وهو ما جعلها تجيئ كما البطة العرجاء مبتسمة تلبي النداء، ومع ذلك أقطبت ما بين حاجبيها وتسلمت الصمت مني، ثم غربت!} ص123. و{طغي صمت جميلة.. لدقائق طالت لم تعلق... عادت جميلة سيرتها الأولي} ص68.

كما يمكن تصور أن هذا التكامل جاء من النظرة إلي رمزية لكل منهما، وما يجعلهما وحدة واحدة، او المفترض أن تكون كذلك، حيث يمكن النظر إلي "عبد الوارث"، المهندس، والعقلية العلمية في النظر للأشياء. وفي المقابل تكون "جميلة" هي مصر الفطرة، أو الطبيعة، وهو ما يمكن استنتاجه من حديث "جميلة" عن "عبد الوارث" {حاول أن يشرح لأبنائه التركيب الكيميائي أو الذري للماء – وهي تعبيرات حفظتها دون أن أفهم معناها- وأن القوام يعتمد علي خصائص هيدرولكية. فقاطعوه ولم يتابع الأب المهندس صاحب العقلية العلمية، فشل في مقابل العقلية الأمنية والإعلامية والحقوقية.. وعندما انتبه الأب إلي تلك الفكرة وتلك المحاولة، ضحك كما لم يضحك من قبل، وهو يتساءل: كيف يعجز العلم أمام إجراءات الأمن ومقولات الإعلام وبنود القوانين؟!}ص39.

فإذا كانت العقلية العلمية قد رفضت تصرفات الأبناء، فإن الفطرة لم تستطع إلا ان تنظر إليهم علي أنهم أبناء مهما فعلوا، حتي لو لم تكن هي أمهم التي ولدتهم. حيث تواصل "جميلة" الحديث عن علاقتها بكل من الأب والأولاد: {فيما بعد إكتفيت بالصمت واعتدت سي عبده في هدوئه وعصبيته، وفي صحوه ومنامه، وتحيرت كثيرا أمام الأبناء، ولكن لا يقل حبهم في قلبي عن حبي لأبيهم}ص40.

علاقة العنوان بالمتن

كما قال "هيرودوت" قديما "مصر هبة النيل" ، فإن السيد نجم يقول حديثا " والنيل شاهد علي مصر" حيث يصبح النيل شاهدا علي تاريخ مصر، منذ الفراعنة وحتي الآن. وإذا كان النيل هو روح الحياة التي منحها الله، فنحن في "ضجيج الضفادع" أمام تعاملات مصر مع الحياة، والتي هي هبة من الله، هل حافظوا عليها، أم أهانوها؟. ويلقي العنوان بظلاله علي الرؤية، وتتحدد رؤيته برؤيتنا للرواية. فإذا ما حصرنا رؤية الرواية فيما يحدث للنيل، من تلويث في المصب، وتهديد من المنبع، هنا يمكن تحديد الرؤية الأولي للعنوان.

فإذا كان المصريون، علي أيام الفراعنة، يقدمون له أجمل ما عندهم "عروس النيل" قربانا حتي يرضي، فإنهم اليوم يُهينونه بإلقاء مخلفاتهم فيه. وإن دل ذلك علي شئ ، فإنما يدل علي مدي الانحدار في التعامل مع شريان الحياة. وهو ما يعبر عنه العنوان الرئيسي "ضجيج الضفادع" في أحد الرؤي التي يمكن النظر للرواية من خلالها، حيث يعتبر التواجد الرئيسي للضفادع هو ما يسمي ب(الرُوبَة) أي الطين الذائب في الماء، فهو ليس الماء الرائق، ولا هو بالطين المتجانس، وهو ما يعني حالة النيل حاليا بما آل إليه من جراء سوء التعامل معه.

كما يمكن قراءة العنوان برؤية أخري، غذا ما حصرنا رؤية الرواية في الحدود العائلية لمهندس الري، منطلقة من ضجيج الضفادع، حيث تنحصر رؤية الرواية في البعد الأضيق. حيث تُصدر الضفادع نقيقها، كدعوة للتزاوج، كما تصدرها الإناث كتحفيز للذكور لكثرة التناسل، وحيث أن هذا الضجيج هو ما يؤرق المهندس عبد الوارث المصري، وعندما نقتنع بانه ممثل المصري الذي كان، والذي لا يجد الراحة في الوقت الحالي نظرا لكثرة الإنجاب، وفساد الذرية، حتي بات هذا الإنجاب مصدر ضجيج، الأمر الذي أدي إلي إحتلال بيته من الأبناء وزوجاتهم والأحفاد، فلم يعد يجد الراحة التي كان ينعم بها. حيث تعرض عبد الوارث للكثير من القلق، وعدم الراحة التي سببها الأحفاد، والمُصر عبد الوارث علي تسميتهم بالهكسوس، أي الاحتلال. وهو الأمر الذي يقترب من الرؤية الثالثة، والتي يمكن الدخول إليها –ووفق قناعتنا بأنها الأقرب- حيث ينصب الضجيج علي ما يجري في الميدان، وفق رؤية الساردة، اثناء تحركات الميدان {زادت حالة الصمت عند عبد الوارث، وتغلب أكثر مع بداية الضجيج الذي عم البلاد، من شمالها حتي جنوبها ومرورا ب"المنصورية" فشعر الرجل وكأن البلاد إمرأة حامل في لحظة مخاض. في انتظار الميلاد الجديد الذي يترقبه الجميع ويخشاه أيضا}ص75. وحيث تضعنا هذه الرؤية في جوهر العمل، بالإشارة إلي تلك الثنائية التي تحدثنا عنها، والتي رافقت تحركات 25 يناير {في انتظار الميلاد الجديد الذي (يترقبه الجميع ويخشاه أيضا). وهو أيضا ما يتوافق مع تشبيه الكاتب في روايته السابقة "أشياء عادية في الميدان" حيث شبه الجموع المحتشدة في الميدان بالجراد، وما إعترضنا عليه في حينها.

وهو ما نجده أيضا في أثناء الحديث عن "كيف استقبل علام الهتاف؟!" {طوال الفترة الماضية، بينما الضجيج يعلو في الخارج ويزداد ... منذ تلك الأيام التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير} ص 109. ويؤكد تلك الرؤية، تصوير الكاتب لما حدث في تلك الأيام بالحريق الذي شب بالبيت، بل وطال علي وجه التحديد "جميلة" التي هي المعادل الموضوعي لمصر. ففي تلك الأثناء، حركة الميدان، وإحتلال الأبناء والهكسوس لبيت مهندس الري، تشتعل النيران في المطبخ، وبالتحديد في "جميلة" {كنت في حالة نفسية جعلتني كما لو كنت أعدو وحدي، كان باب المطبخ مفتوحا، ووهج ساخن من النار يبرق، زاد اندفاعي، وجدت الولد الكبير يرمي بالبطانية نحو جميلة الملقاة علي الأرض. لم أهتم بالتفاصيل ولا من أضرم النار وما الخسائر؟! كل ما همني هي جميلة، كيف أصابتها النيران وإلي أي درجة هي؟!} ص118.

وتزيد الأمور وضوحا، أن يكون (الولد الكبير) أو الجنرال، او الشرطة التي قامت ثورة يناير بالدرجة الأولي عليها، ان يكون ذلك الرمز هو من يطفئ الحريق، لتتأكد رؤية الرواية لتلك الفترة، أو لذلك الفعل الذي حرك كل السواكن في مصر.

لغة الشخصيات

بات من المسلم به في عالم الرواية الآن، أن تحتوي الكثير من المعلومات، حتي أصبحت الرواية وجبة ثقافية معلوماتية، يتغذي عليها القارئ. وهو ما نجده بشكل واضح في "ضجيج الضفادع". حيث المعلومات الكثيرة والمفيدة حول نهر النيل، وعلاقة المصريين به منذ آلاف السنين. إلا أن تقديم هذه الوجبة المعلوماتية، يتوقف مدي قبولها من عدمه في الرواية، وفق الشخصية التي تقدمها. وفي روايتنا، استطرد الكاتب في بعض الأحيان، فجاءت المعلومة غير متوافقة مع طبيعة وتكوين الشخصية، فبدا صوت الكاتب أعلي من صوت الشخصية. كما في حديث جميلة النوبية الأمية، حيث لم يرد ما يفيد بتعرضها لأي من أنواع القراءة أو الكتابة، وقد إلتحقت باسرة مهندس الري صغيرة:

{حاول أن يشرح لأبنائه التركيب الكيميائي أو الذري للماء – وهي تعبيرات حفظتها دون أن أفهم معناها- وأن القوام يعتمد علي خصائص هيدرولكية. فقاطوه ولم يتابع الأب المهندس صاحب العقلية العلمية، فشل في مقابل العقلية الأمنية والإعلامية والحقوقية.. وعندما انتبه الأب إلي تلك الفكرة وتلك المحاولة، ضحك كما لم يضحك من قبل، وهو يتساءل: كيف يعجز العلم أمام إجراءات الأمن ومقولات الإعلام وبنود القوانين؟!}ص39.

وهو ما نجده أيضا، بعد خروج الجنرال من الخدمة ومن السجن ، ليجلس في البيت وحيدا وقد خرجت الزووجة والأولاد، ليصنع فنجان البن لنفسه، ثم يقول:{شكرا "أبو بكر الشاذلي العيدروسي" اليمني أول من زرع البن وصنع القهوة}ص128. حيث عاش الجنرال حياته ليس فيها – كما صورها الكاتب بطول الرواية – ليس له إهتمام بشئ غير الشرطة والزعامة والسيطرة. فبدت هذه المعلومة التي أراد الكاتب تقديمها، مجانية، ودخيلة.

الروائي والرواية

قدم الروائي لروايته بإهدائها إلي فن الرواية ذاته.. تلك الكاذبة.. والجميلة. وأنهاها بما يشبه تحطيم الحائط الرابع، الذي أشار إليه بريخت. حيث أخرج الكاتب المدعو "عبد الوارث المصري" من صفحات الرواية، ليواجهنا مباشرة، وكم كنت أتمني لو أنه وقع باسمه هو "السيد نجم" علي تلك الخاتمة التي تعترف بأهم ادوار الرواية الآن، والتي تحدد دورها في {أن نعيد كتابة أيامنا بصياغة "التاريخ الحكائي للبشرية"}. وهو ما فعله بالفعل السيد نجم في هذه الرواية، حيث صاغ أياما مصرية، محفورة وستظل لقرون قادمة، استخدم فيها التقريري والمتخيل، لتجمع بين العقل والقلب، أو بين جهازي الاستقبال لتلك الأحداث التي تشعبت وتفاوتت الرؤي من حولها. وليظل ما قدمه فيها أحد الرؤي لأحد معاصري المرحلة، تاركا للتاريخ وللأجيال النظر في قربها أو بعدها عن التاريخ الرسمي، حتي وإن ظلت كاذبة، غير أنها جميلة.

شوقي عبد الحميد يحيي

Em:shyehia48@gmail.com

 

[1] - السيد نجم – أشياء عادية في الميدان – مجلة الكلمة العدد 81 يناير 2014.

[2] - السيد نجم – ضجيج الضفادع – رواية – الأدهم للنشر والتوزيع – ط1 2018.