يبرع كاواباتا في المونولوغ النفسي، ويُظهر جلّ امكانياته الأسلوبية والمعرفية، ولأنه كاتب متنوّع، ولا سيّما في حقل المسرح، فالرواية من أوّلها إلى آخرها، تقوم على الحوار، والاستبطان الذي يلج عوالم الدواخل الإنسانية، فالحوار ينصبّ بين الأم وعاشق ابنتها، حوار سلس، يدور حول الأسباب التي أدت إلى مرضها، وإلى جعلها غير متمكنة من الرؤية الكاملة للكائن البشري.

رواية «هندباء برية» للياباني كاواباتا

سايكولوجية الحب والجنون والموت

هاشم شفيق

 

آخر روايات الياباني ياسوناري كاواباتا هي رواية “هندباء برية” غير المكتملة. هذا الروائي الذي منح الأدب العالمي جواهر سردية، تماهت وتناغمت وتآخت مع عوالم الشرق والغرب، فذاع صيته لدهشة الأسلوب، وغوايته المرويّة، بطرائق جذابة وموحية، فيها ميل لتغدو محكياته عالمية، تأخذ باللباب وتأسر القارئ منذ مطالع الصفحات الأولى .

العمل الأخير للروائي الياباني جاء غير مكتمل، ومبتور الأواخر، وفيه خلل جمالي، تداركته بنية الرواية وسلاستها ونهجها اللغوي، المروي بطريقة لافتة. فهي رواية مشوّقة، ومغرية للغوص فيها، واستشراف وتقصّي أبعادها حتى النهاية. وفعلاً هي هكذا، فحين بدأت فيها لم تدعني اتركها لعمل آخر، أو تجعلني أفكر بمطالعة كتاب آخر، فالعمل شدّني منذ البداية، لرهافته حتى السطر الأخير فيها .

إن ياسونوري كاواباتا في عمله المتروك للمجهول، غبّ انتحاره على الطريقة اليابانية، يلجأ إلى الفن. فالانتحار لدى اليابانيين هو فن، لا يقل عن الإبداع ذاته، فلقد أضاف اليابانيون عناصر جمالية وفنية لقضية الموت، فجعلوه نوعاً من الافتداء النوعي، للجندر الياباني، وللتقاليد اليابانية، المشوبة بعوالم الماندالا والتواصل الكارمي مع الكون والعالم، عبر إفناء الروح، وذوبانها، ومصرعها في نوع من العرفانية البوذية، المتحلّية بإلغاء الذات، غاية في الوصول إلى الارتقاء بها نحو ذات العالم .

فعلى المسار الكاميكازي، وأن اختلفت الطريقة من ناحية الشكل، والتخطيط، وتنفيذ عملية الانتحار، سار الروائي كاواباتا وضحى بعالمه المادي من أجل اللقاء بعالمه الروحي، وكذلك كان مصير تلميذه يوكيو مشيما، فكلاهما نالا جائزة نوبل، وكلاهما حصدا الشهرة المُبكِّرة، والسابغة، نتيجة ما قدّماه من جماليات خاصة، ومبتكرة، في سياق الكتابة السردية، ومحيط الرواية العالمية .

الرواية اليابانية اليوم آخذة في التقدم الدائم، وسائرة في الخط والنسق اللذين عرفت بهما وهو التميز والانتشار. ولقد أضاف الروائيان اللاحقان هوراكي موروكامي وكازو إيشغورو الحائز على جائزة نوبل ايضاً، بعداً وملمحا مختلفاً عن عوالم الاثنين السالفين، كاواباتا ومشيما، وجعلا من الرواية اليابانية، الأدب المميز والمطلوب، والمستقطب من قبل قراء كثيرين في العالم .

وهنا لا أحبذ الدخول في سجال حول قضايا جانبية، وأسئلة مثل هل كان يحق للناشر الياباني أو الأجنبي التصرّف بمخطوطة لم تكتمل؟ وجوابي هو لِمَ لا، أن يطلع القراء من محبي كاواباتا في العالم، على آخر ما كتب وأبدع، وهو الذي انتحر بطريقته الشخصية، فالقراء وبالأخص المتابعين، سيكونون في مثل هذه الحال فضوليين، ويرغبون في الاطلاع على ما خلّف الروائي الشهير، من أعمال حديثة، لكي يصلوا إلى شيء ما، عبر قراءتهم لجديده القاصر، في مجال إبداعه الروائي .

يعالج كاواباتا في روايته ” هندباء برية ” ثيمة الحب والجنون والموت، والأمراض الطارئة والمستعصية والغريبة، كما حدث لأحد أبطال روايته هذه، وهي الشخصية المركزية في الرواية ومحورها الدرامي، شخصية ” إينِكو، وهي فتاة وابنة لمحارب وفارس وعسكري متقدم، ينتهي أمامها وهو يسقط من فرسه في البحر، خلال نزهة برية في الجبال، فتصاب ابنته بصدمة، وتصاب بسبب هذا المشهد المروِّع لنهاية والدها، بمرض العَمَه، أو عمى الجسد، فأينِكو فتاة في طور البكورية، شابة صغيرة، لها فتى صديق يحبها، اسمه هيسانو، ولكن إينِكو لا تراه، أو ترى جزءاً منه، والجزء الآخر يحتجب، مما يوقعها في حالات وحوادث غريبة، كأن تُقبِّل صديقها أو يقبِّلها دون أن ترى فمه وشفتيه، وبذا يختلط عليها الحلم بالواقع، الخيال بالحقيقة، وتتراكم لديها مشاهد مجتزأة وغير مكتملة، ولهذا توْدع مستشفى “إيكتو” للأمراض العقلية، فتتركها أمها، وحبيبها في المستشفى، لغرض علاجها، مع مجموعة من المجانين، غير الواعين، والقذرين، أولئك الذين قد لا يحسنون التصرّف معها، أو قد تلاقي ما لا يرضيها من معاملة هناك .

يبرع كاواباتا في المونولوغ النفسي، ويُظهر جلّ امكانياته الأسلوبية والمعرفية، ولكأنه كاتب متنوّع، ولا سيّما في حقل المسرح، فالرواية من أوّلها إلى آخرها، تقوم على الحوار، والاستبطان الذي يلج عوالم الدواخل الإنسانية، فالحوار ينصبّ بين الأم وعاشق ابنتها، حوار سلس، يدور حول الأسباب التي أدت إلى مرضها، وإلى جعلها غير متمكنة من الرؤية الكاملة للكائن البشري، كما هو الحال مع حبيبها هيسانو، فتارة تراه كاملاً، وتارة أخرى ترى جزءاً من هيأته، ولهذا راح يشك خلال حديثه لأمّها، بأنها قد لا تكون قد رأت والدها، وهو يهوي بفرسه إلى البحر من عَل، وهو على ذروة الجبل المطل على البحر، أو قد تكون رأت نصف المشهد مثلاً، والنصف الآخر غام وتلاشى واختفى .

كل ذلك يدور في حوار طويل حول هذه الفتاة الحائرة بمرضها، تنضاف إليه، حيرة أمّها وحبيبها هيسانو أيضاً .

ومن الحوارات الكثيرة التي تنتظم الكتاب وتهيمن عليه، يقول هيسانو في حديثه للأم: “ـ لو وافقتم فقط، أنت والأطباء، فأنا راغب في الزواج بإينكو والعيش معها هناك في المصحة، آه أنا آسف، لم أعبّر بطريقة صحيحة تماماً … أريد البقاء إلى جانبها لأوليها العناية التي تحتاجها .

ـ لا، لا، سيد هيسانو، لا يمكننا السماح بذلك.

ـ لقد استسلمتُ ولم أستطع مناطحتكم، حتى انتهيت إلى قبول إيداعها مستشفى الأمراض العقلية، ستقولين انني أكرر كلامي، أتفهم قراركم بتأجيل زواجنا رغم حذركم المبالغ فيه وسببه في الواقع مخاوف الأم، لكنني ذهلتُ بقرارك فصلها عني، لإيداعها في مستشفى للأمراض العقلية، وتركها هناك وحدها، المصحة قاع هاوية حيث تتراكم كل السموم في قلب الإنسان وهي تغلي وتبقبق، كل تلك السموم تطوّق إينكو وتتآكلها، تخيلي أمّاه، إذا هاج المجانين وآذوا إينكو” .

لعل الحب وأنساقه من عشق وتولّه وتَتَيُّم، وذوبان بين العاشق والمعشوق، يكاد يصل إلى حد التماهي والتلاشي في الآخر، وهو ما قد يؤدي إلى الجنون، الحب العظيم فنّ متلازم مع الجنون، هو فن خاص وضارب في عمق الجذر العميق للكائن، وهيسانو الشخصية الثانية الفاعلة في الرواية، هو أحد الأمثلة على هذا الجنون المُعدي، جنون يحمل فايروسه بضربة عشقية قاصمة للآخر، فيرديه، ليكون صريع الغواية، إنه المسُّ الغاوي والكاوي بناره للعاشق والحبيب الذي أصابته عدوى شقه الثاني، فهيسانو هنا هو مثل قيس،وديك الجن و روميو، ومثل جميل بثينة، حيث أصبحت بثينة صفة للشاعر، وبذا لازمت اسم جميل، فأصبح العاشقان واحداً، أصبحا رمزاً للمعنى الكليّ للحب المتواري، والمبثوث في كائنين، هي العدوى التي تصيب المُحب ليغدو كالمجنون، وقيس العاشق العظيم صفته المجنون، فهو مجنون ليلى، مثل هيسانو، المفتون، والمغرم، والمجنون بإينكو، وهي ايضاً بدورها شبه مجنونة، غائبة عن وعيها، ملتاثة، شاردة ، زائغة النظرات، مجروحة الرؤى، ومريضة أيضاً بالعَمه، وغياب التناظر، والتماثل، والتناسق، والكمال. ثمة شيء ناقص في إينكو، غير مكتمل ومفقود، وغائب، ومنزوٍ في غاب كينونتها، كينونة عزلاء، شبه ضالة ترعى ذاتها بعيداً عن الواقع والحقيقة، بعيداً عن الانسجام مع الآخر:

” كان قصارى ما تفعله، مهما اشتدت عليها الكآبة، هو الجلوس والتحديق بنظرة فارغة في الفضاء، وعلى الأرجح، في تلك اللحظات، كانت معك في قرارة قلبها، لم تتصرف بتاتاً خارج حدود اللياقة، بأي حال، صدقاً آلمني في الصميم، حتى أنني تساءلت مثلك، إن لم يكن خيراً لها لو تزوجت في الحال، لكن حين استشرتُ طبيب الأعصاب قال إن هذا المرض النادر عمى الجسد، قد يكون مخيفاً” .

يقدم ياسوناري كاواباتا، حتى بعد موته، أيقونة أدبية مثلى، تنطوي على ثنائية الحب والجنون، في سردية نادرة، عذبة، وغنية بتجربة الحوار الثري، بين كائنين، مُحبَّيْن لإينكو الابنة الوحيدة للأم، والحبيبة الوحيدة لهيسانو الذي كان ينوي الارتباط بها، قبل وقوعها في متلازمة عَمَه الجسد، عَمَه تدرك البطلة أنها هي من جلبته إلى نفسها، بعد أن هوى والدها، في مشهد مروّع في البحر، مما خلّف في نفسها هذا الضياع، وهذا الندم والشعور بالذنب ، لأنها هي من دعته للنزهة قرب الجبل البحري، فأصابها ما أصابها من جرّاء مقترحها الذهاب في نزهة، صوب البراري حيث الأعالي البحرية .

تجدر الإشارة في الختام إلى أن المترجم والشاعر جولان حاجي برع في تقديم نص ناصع، وسلس، محمول فوق لغة بهية ونضرة.

 

ياسوناري كاواباتا: “هندباء برية”

ترجمة: جولان حاجي

دار الساقي، بيروت 2019

207 صفحات.

جريدة القدس العربي