يصعب الحديث في دورة هذا العام عن أي إسهامات عربية في المهرجان؛ ولكن هناك عملين تناولا جوانب من قضايا الإنسان العربي في مهرجان أفينيون هذا العام (2019). وهما عملان فرنسيان من حيث المنطلق، وحتى الانتماء المسرحي، برغم مشاركة عرب فيهما كتابة أو تمثيلا أو إخراجا. وهما عملان يكشفان عن أعراض تخلي الغرب، خاصة، عن الكثير من القيم الإنسانية التي طالما نادى بها، ورادت خطوات تقدمه وحضارته. وهو الأمر الذي سبق أن بلورت الباحثة الأمريكية الماركسية سوزان بَك-مورس خطوطه العريضة في كتابها المهم عن (عوالم الأحلام والكارثة: انتهاء اليوتوبيا الشعبية في الشرق والغرب). حينما كان الغرب يقدم عالمه على أنه عالم الحلم الجمعي بالثراء والحرية والفرص المتساوية والتحقق للجميع. فنحن الآن في عالم يقبع على قمة أقوى بلدانه الغربية اقتصادا وعتادا عسكريا أحمق هو دونالد ترامب. يتخلى بشكل سافر عن كل القيم والأعراف التي طالما تغنى بها الغرب وبرر بها هيمنته. وينعكس وجوده ومنهجه بالقطع على بقية البلدان الغربية وإن بدرجات متفاوته. لأن المسرحيتين تجلبان الإنسان العربي المغلوب على أمره في واقعه الرديء إلى فرنسا، بوهم إمكانية العثور فيها على خلاص ما، ولكنه يواجه فيها أعراض تخلي الغرب عن قيمه كل بطريقته الخاصة.
محمود ونيني وتخلي المؤسسات عن القيم الإنسانية
فمسرحية (محمود ونيني Mahmud et Nini) التي كتبها، أو بالأحرى أعدها هنري جول جوليان Henri Jules Julien وأخرجها للمسرح، تكشف في بنيتها نفسها، وعرضها بلغتين مختلفتين: هما لغة المصري محمود، والفرنسية فرجيني أو نيني عن صعوبة التفاهم عبر حاجز اللغة، وعن أننا بإزاء وضع استحالة التفاهم، لا صعوبته فحسب، مجسدا على خشبة المسرح. فالطريق بين الشخصيتين، والعالمين مليئة بألغام التحيزات المسبقة التي قد تنفجر في وجوهنا في أي لحظة. فالمسرحية تسعى لاستخدام الكليشيهات السائدة، والعبارات المتكررة، وتفكيكها والسخرية منها في الوقت نفسه. لأننا ندخل قاعة مسرح فارغة ليس عليها سوى مقعدين متباعدين عن بعضهما، وخلفهما في المساحة الخالية بينهما شاشة ستظهر عليها الترجمة (ترجمة ما يقوله محمود بالعربية للفرنسية، وما تقوله نيني بالفرنسية للعربية، بالرغم من أن جمهور العرض يفهم الفرنسية، ولم تكن ثمة حاجه لترجمة ما تقوله نيني للعربية، اللهم إلا الحاجة الدرامية ذاتها). فالترجمة نفسها والتي أتاح لها المخرج أن تحتل المكان المحوري وسط الخشبة بين الشخصيتين، من الموضوعات الأساسية التي تتأملها هذه المسرحية، وهل هي قادرة حقا على أن تكون أداة تواصل، أو أن تترجم كل منا للآخر؟ لأنها وهي تسعى لربط كل منهما بالآخر، لا تني تفصل كل منهما عن الآخر في نفس الوقت، وتبقي كل منهما في لغته بعيدا عنه. في توازٍ يجسد صعوبة اللقاء أو التواصل بالمعنى العميق والإنساني للكلمة. لأن اللقاء بالآخر أمر معقد كما تكرر كل شخصية على الأخرى.
ثم تدخل نيني وتجلس على أحد المقعدين، ويدخل من الجانب الآخر محمود ويجلس على المقعد الآخر. والترتيب مقصود، فهي صاحبة البلد وهو الغريب فيه. ويبدأ كل منهما في تقديم نفسه لنا، متحدثا بلغته ومخاطبا الجمهور مباشرة، وليس الممثل الآخر الجالس بالقرب منه على الخشبة. فالمسرحية تفترض أننا بإزاء غريبين تقابلا في قطار. يحكي كل منهما عن نفسه، والحديث للغريب فيه عادة قدر كبير من التحلل من الرقابة الذاتية،. وقدر أكبر من السخرية العفوية من الذات والثقافة معا. وبين الغريبين هناك الشاشة المعلقة التي تظهر عليها الترجمة، تجسيدا لوجود فعل الترجمة المستمر في أي لقاء بين غريبين/ الترجمة بمعناها الأوسع للثقافات والتصورات والاتجاهات والتحيزات والمواقف. ومن خلال إفضاءات كل منهما عن نفسه، وتعليقاته القليلة عما يقوله الآخر، تطرح المسرحية الكثير من الرؤى والقضايا، عن تغير طبيعة الحياة في عالمنا، وعن استحالة العودة إلى زمن كان البعض يزعم فيه بالنقاء العرقي أو الوطني أو حتى الثقافي. ناهيك عن التفوق الثقافي أو القومي.
حيث يؤكد لنا المخرج أنه حينما سُئل في بداية فترة عمله في مصر عما يريد أن يعمل عليه كان جوابه العفوي: إنه يريد أن يشتغل على موضوع الاستشراق. وهذا ما دفع محدثته وكانت ممثلة مصرية إلى أن تؤكد له بدورها أنها كثيرا ما تواجه بأسئلة، وخاصة من أشخاص غربيين، تكشف عن تحيزات استشراقية خالصة، لمجرد أنها امرأة ومسلمة رغم أنها فنانة وممثلة معروفة. أسئلة لا يمكن أن يسألها عادة نفس الشخص لواحدة مثلها في ثقافته. وكيف أن تلك التحيزات تبدو وكأنها بريئة وعابرة ومن الأمور الطبيعية إلى حد كبير، وهذا ما يجعلها مؤثرة وموجعة معا. ويتكشف في النقاش بينهما عن أن تلك التحيزات لا تقتصر على تصور الغربيين للشرقين/ الشرقيات، بل إن تصور الشرقيين للآخر الغربي أمر ينطوي هو الآخر على تحيزاته المناظرة.
لكن الأمر الذي حظي باهتمام معد العرض ومخرجه، هو ليس ما إذا كان للغربي أو الشرقي تحيزاته أو تصوراته عن الآخر، بل إذا ما كان باستطاعته أن يفرض تلك التصورات على هذا الآخر! هذا هو ما أراد أن يختبره، أو أن يدير تجربته المسرحية حوله كما يقول لنا. فقد كان يعرف كلا من محمود وفرجيني، ويريد أن يضعهما معا على المسرح. وقد أخذ النص الذي انتهى إليه العرض (في نوع من الكتابة الركحية القريبة مما يمارسه المسرحيون التوانسة) في التبلور من خلال سلسلة طويلة من التجارب المرتجلة بين محمود ونيني. حيث وضع أمام كل منهما ميكروفون وطلب منه أن يقدم نفسه عبره، وهذا بالضبط ما نراه أثناء العرض. الذي يلعب فيه وجود الميكروفون دوره في تأطير/ تغريب المواجهة. وأن يطرح أسئلته وتصوراته عن نفسه وعن الآخر. وهو الأمر الذي يكسر دينامية الحوار، بل يلغيه! لأننا نشاهد أمامنا شخصين يتحدث كل منهما لنا، أو أمامنا في ميكروفون، ولا يتحدث مع الآخر. في نوع من المنولوجات المتقاطعة، التي تنطوي بعضها على رد فعل على ما سمعه من الآخر أو بالأحرى ما سمعناه منه معا. بل عمد المخرج أن يبقي كل منهما في النصف الخاص به من المسرح. وأن يركز كل منهما على استكشاف نفسه أو / و الآخر وبمحض الصدفة، دون أي حرص على تجنب مزالق التحيزات أو التصورات المسبقة. بل لقد شجعهما على استكشاف حقيقة تلك التحيزات أو التصورات السائدة في ثقافة كل منهما عن الآخر.
لكن بعد سلسلة طويلة من الارتجالات كان لابد من تثبيت النص، كما يحدث عادة في الكتابة الركحية الجيدة. هنا بدأ المخرج يطرح على نفسه أسئلة إدوار سعيد الأساسية في (الاستشراق). بأي حق يحرر/ يحذف/ يضيف أو حتى يعيد صياغة ما يقوله كل منهما؟ وكيف له أن يطلب منهما أن يطرحا ما يبدو مهما بالنسبة له، وقد لا يكون مهما لأي منهما؟ وما هي مشروعية تمثيله لهما، أو تحويلهما إلى شخصيات في عرض يفرض عليه رؤيته؟ خاصة وأنه لا يريد أن يقع في فخ مقولة الاستشراق الافتتاحية/ الاستنكارية التي نقلها إدوار سعيد عن ماركس في حديثه عن فلاحي فرنسا في القرن التاسع عشر: «إنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أو يعبروا عن أنفسهم، لابد أن نمثلهم/ نعبر عنهم!» والتي طورها سعيد على الصعيد الجغرافي إلى وقوع الشرق كله، ببلدانه الشاسعة في أسر تمثيل الغرب له أو شرقنته المغرضة، بطريقة تيسر إخضاعه واستنزافه والسيطرة عليه والتحكم فيه.
ها هو كمخرج/ مسرحي فرنسي في الخمسين من عمره، يجد نفسه على وشك الوقوع في شرك تمثيل الشاب العشريني محمود/ الشرقي، وفرجيني/ المرأة الثلاثينية الفرنسية، والتحكم فيما يقولان، وفيما يحذفان من منولوجاتهما الارتجالية، بزعم أنه يفرض عليها حوارية أو درامية أو نسق ما. وقد عمقت هذه الأسئلة من حيرته، ولكنها ساهمت في الوقت نفسه في طرح رؤى العمل وبلورة قدرته على التأثير، واحتفظت له بشيء من الطزاجة باعتباره في بعد من أبعاده عمل عن التمثيل/ تمثيل الذات إزاء الآخر، واستيعاب الآخر كدافع يساهم في بلورة الذات أو وعيها باختلافها/ تفردها/ ذاتيتها أو بالأحرى تحيزاتها وتصوراتها عن نفسها وعن الآخر معا.
وقد فرض اختلاف اللغات/ والثقافات نفسه في نوع فريد من تعابر الثقافات وتقاطعها/ حيث تعبر كل منهما الأخرى دون أن تتفاعل معها، برغم تقاطعها معها في الكثير من الأفكار والتصرفات. فاللقاء بالآخر، كما يكرر كل من محمود ونيني في العرض أكثر من مرة، أمر صعب على الدوام. فمحمود الذي يتحدث بالعامية المصرية وتعلم بالعربية الفصحى، يحمل على كاهله الثقافات العربية، والمصرية والنوبية بمرجعياتها الإسلامية. ويحمل معها إلى الغرب تناقضاتها الناجمة عن كونه مثلي، يعاني من الاضطهاد في ثقافته تلك، بينما نجد أن اخته منقبة تخضع بمحض إرادتها لأقصى ممارسات تطرفاتها الأصولية. وأن ما جاء به إلى فرنسا هو الأمل في أن يمارس حياته المثلية بحرية في بلد يعتقد أنه يقدر حرية الإنسان الشخصية، وينتشله مما يعانيه من اضطهاد، بأن يمنحه حق البقاء فيه/ اللجوء في هذه الحالة. لكن المسرحية تقرأ علينا قرب نهاية العرض رد المؤسسة الفرنسية على طلبه للجوء بالرفض. وهو الرد الذي يكشف بما ينطوي عليه من تناقضات تهكمية على تنصل المؤسسة من عبء مسؤوليتها الإنسانية عن الآخر، والتعلل بالكثير من الأمور الواهية. وهو العبء الذي سنكتشف بالتوازي أنه هو الذي قاد حياة نيني إلى ما تعانيه من إحباط.
ذلك لأن نيني التي تتحدث الفرنسية بخلفيتها اللاتينية ومرجعيتها المسيحية، تعيش هي الأخرى تناقضات ثقافتها التي تربت فيها على وهم عبء الإنسان الفرنسي في نشر حضارته في مجاهل القارة الأفريقية؛ وهي التجربة التي دفعتها إلى السفر إلى أفريقيا الفرنسية هذه المرة، وليس مصر بطبيعة الحال. ولكنها عادت منها محبطة إلى حد كبير. لذلك ما أن تتاح لها بادرة فرصة للقيام بهذا الدور حتى تقترح على محمود بعد أن يتلقى خطاب رفض اللجوء، وبالتالي ضرورة العودة إلى الواقع المصري الطارد الذي هرب منه، أن تتزوجه «زواجا أبيض» كما تقول. فهي تعرف أنه مثلي. لأن مثل هذا الزواج سيتيح له حق البقاء في فرنسا برغم غباء المؤسسة.
إننا هنا بإزاء تجربة وضع اللقاء الذي حدث في قطار ما بين ممثل مصري شاب وممثلة فرنسية أكبر منه سنا، على خشبة المسرح، وتحويله إلى عرض يستطيع سبر أغوار كل منهما، وجذب اهتمام المشاهدين في الوقت نفسه. عرض يكشف عن أن كلا منهما، وربما كل منا، هو مجرد كولاج معقد من الثقافات والتصورات والتواريخ والتحيزات والصبوات المتداخلة والمتنوعة المصادر في آن. وأنه ليس هناك ما يمكن القول بأنه هوية أصلية نقيه أو خالصة ومتكاملة كما يطرحها الخطاب الأصولي القومي منه أو الديني أو حتى الأيديولوجي. وليس هناك في الوقت نفسه من هو مبتوت الجذور أو متحرر من أي من الثقافات التي تشكل الكثير من تصوراته وتحيزاته. فسعي المخرج لتفكيك التصورات الاستشراقية/ الاستغرابية معا، هو ما يطرحه في مواجهة تلك الوثوقيات التي تشد عالمنا المعاصر في الشرق والغرب على السواء إلى ما قبل عصور التنوير والعقلانية. وتزري بحقيقة أن الكثير من انجازات العالم المعاصر التي توفر لنا الكثير، هي بنت التلاقح الحضاري، والاستنارة العقلية، والتسامح الإنساني، على مر العصور.
مكان وتمارا السعدي:
وإذا انتقلنا إلى المسرحية الثانية التي كتبتها وأخرجتها تمارا السعدي Tamara Al-Saadi العراقية/ الفرنسية بعنوان (مكان Place) سنجد أننا بإزاء عمل أكثر نضجا وتركيبا، يستغل الفضاء المسرحي بشكل خلّاق، ويستخدم ما أدعوه بمفردات لغة المخرج لإثراء لغة النص علما بأن كاتبة العرض هي مخرجته في نفس الوقت. عمل استغرقت كتابته ثلاثة أعوام كما تقول لنا كاتبته، ولم تستطع أن تكمله حتى سافرت إلى بغداد، للتعرف على البيت الذي ولدت فيه وأمضت به سنوات طفولتها الأولى. عمل يعي دلالاته السياسية فقد درست صاحبته الفن والسياسة في مدرسة العلوم السياسية المرموقة في باريس Science Po، وأسست مع فلسطينية/ فرنسية ذات تجربة مماثلة هي مايا صنبر Mayya Sanbar فرقة مسرحية أو محترف درامي يدعى القاعدة/ الركيزة La Base تقدم ورشها المسرحية لتلاميذ المدارس الثانوية في منطقة سان دينيس بضواحي باريس، حول موضوع كيفية بناء هوية مجتمعية للمهاجرين في سياق المجتمع الفرنسي. لأن تمارا السعدي تؤمن بضرورة ربط العمل الفني بالفعل السياسي. خاصة وأنها ساهمت في تأسيس MYST وهي جمعية تركز بحثها الذي يستخدم تعدد المقتربات على مسألة الحدود في الصراعات الحديثة.