تقدم الباحثة العراقية هنا ترجمة لباحث مهم تابعت أعماله في موضوع البلاغة والحجاج وترجمت بعضها، ونشرته في (الكلمة)، وتقدم لهذه الترجمة، ثم تعقبها بمسرد يشرح بعض المصطلحات الغامضة التي وردت فيها، حتى تكون الترجمة جسرا معرفيا بين النص الأصلي والقارئ العربي المستهدف.

الأُطر السوسيولوجية للحِجاج

شاييم بيرلمان

ترجمة: أنوار طاهر

 

تقديم المترجمة:
اتسم البحث في نظرية الحِجاج لدى فيلسوف البلاغة الجديدة ش. بيرلمان، بحضور الطابع التعددي المنهجي والتفاعلية بين مختلف العلوم. وقد تبدى ذلك بوضوح في مؤلفه (حقل الحِجاج) الصادر عام 1970، الذي حاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المتداخلة بين نظرية الحِجاج والفلسفة والعلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية أيضاً. وهذه المرة، سعى بيرلمان إلى بَيَان أُطر الحِجاج السوسيولوجية في ورقته* المقدمة، في الأصل، لمؤتمر رابطة السوسيولوجيين الناطقين بالفرنسية، والمنعقد في باريس سنة 1959، بحضور كبار المفكرين أمثال السوسيولوجي جورج غورفيتش، والفيلسوف والمؤرخ موريس دي غانديلاك وغيرهم من المختصين والباحثين. وفي معرض مناقشته لورقته البحثية هذه، أوجز بيرلمان رؤيته الخاصة بموضوع سوسيولوجيا نظرية الحِجاج، وابستمولوجيا البلاغة الجديدة، بالقول:

»في البدء، ليس من المقبول، ابداً، عدم إيلاء أي أهمية لسوسيولوجيا المعرفة، والنظر اليها بشكل أدنى من المنطق أو من الابستمولوجيا. وذلك، لأن جميع التخصصات المعرفية تمثل، في رأيي، فروعاً مُعاونة لبعضها البعض، ومكملة الواحد منها للأخر. ومن ناحية أخرى، لا أريد، على الأطلاق، اختزال سوسيولوجيا المعرفة في دراسة مشكلات تطرحها نظرية الحِجاج. لقد قدمت مقاربة، هنا، يمكن أن تساعد في تسليط الضوء على مجمل الإشكالات التي تهم سوسيولوجيا المعرفة، وهذا لا يعني، بتاتاً، عدم وجود مشكلات أخرى يمكن لهذه الاخيرة البحث فيها. ولقد أوضحت أن حقيقة التحولات التي مرت بها نظرية الحِجاج، وما لعبته من دور مهم في عصور تاريخية مختلفة، هي مشكلة تقع، مهمة بحثها ودراستها، على عاتق سوسيولوجيا المعرفة.

لقد سألتموني عن أسباب تدهور البلاغة واضمحلالها مع نشوء الأنظمة الديمقراطية [في اشارة إلى صعود الأيديولوجيات الفاشية والنازية عبر صناديق الاقتراع]، أي، بدءًا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه البلاغة واحدة من الممارسات الثقافية المميزة لدى آبائنا. في الواقع، إن بلاغة آبائنا لم تهدف، البتَّة، إلى صياغة الرأي وتشكيل مواضع المعرفة والاعتقاد الثقافية. لقد كانت بلاغة صُورية؛ شكلانية يُنظر لها باعتبارها وسيلة من وسائل العرض التوضيحي الصِرف. أما البلاغة التي تركز على المحتوى وتعالجه، فقد ازدهرت، بالتحديد، خلال عصر النهضة. وعلى مشارف نهايات عصر النهضة، أخذت البلاغة بالانحسار والتدهور، وهذا ناتج في جزء كبير منه، بعد تدخل الفيلسوف والمنطقي الفرنسي بيير دي راميه وزميله بروفيسور البلاغة أومير تالون.

وتالون نفسه هو الذي إزال عن البلاغة كل ما لا يصلح أن يكون مجرد وسيلة من وسائل العرض التوضيحي الصِرف. وفي الإمكان، أن أقدم، شخصياً، تفسيراً آخر لظاهرة تدهور البلاغة، وهو أن تقنية الإقناع كانت مشيّدة على سلطة العلم وهيبتها، وتستلهم أنموذج العلم، منذ الجزء الأخير من القرن التاسع عشر. فكان ينبغي على جميع خطابات الحِجاج، سواءً في الفلسفة أو في بقية العلوم الإنسانية، أن تصاغ وتتشكل باسم الحقيقة والعلم لا غير. ونتيجة لذلك، كان علينا، أيضاً، اجتناب أي اشارة تلمح بالإيجاب للبلاغة، حتى لا نقلل من القيمة العلمية لنطاق الحِجاج المعتمد.

وفي الختام، لقد سألتموني فيما إذا كانت اشتراطات الاستدلال في التَكايف الاجتماعية، تركز على المحتوى أم على الشكل. وأنا أجد في سؤالكم تسليماً بوجود فصل قائم بين المحتوى أو الجوهر وبين الشكل، وهو فصل لم يدخل في سياق تفكيري من الأصل. فما يعد مهماً بالنسبة للاستدلال في الحِجاج، هو الاختيار بين المقدمات من الأطروحات؛ الفرضيات؛ الأفكار، الاعتقادات، أو الآراء، وذلك بالقدر الذي يمنحها حضوراً داخل وعي الجمهور المخاطَب. إذن، فالعنصر المهم بالأساس هو الاختيار. فالاختيار هو من سيخضع لجميع الأشكال التقنية في العرض والبَيَان لشكل الخطاب المطروح. والقول إننا نُحاجج باسم الحقيقة والعلم، في حين ان الأمر لا يتعلق بمنطق صُّوري/ أو شكلاني، ولا بأدلة إثباتية قطعية إلزامية، وإنما بتقنيات حِجاجية، قد تختلفون على تسميتها بتقنيات للمحتوى، أو تقنيات للشكل؟ أعتقد أن لهذا الانفصال آثارا ضارة وخيمة. فالمحتوى والشكل مترابطان، لأن الأمر يتعلق بسلسلة مراتب هرمية ضمنية للقيّم غير صريحة، وبعُلُو مكانة وسُمُو قيمة تمنح لبعض الأطروحات؛ الفرضيات؛ الأفكار، الاعتقادات، أو الآراء دون أخرى غيرها. ولو قمنا بتسليط الضوء على هذه الهرمية، سيظهر أنها مسألة ذات صلة بالمحتوى وبالشكل على حد سواء

الأُطر السوسيولوجية للحِجاج:
علم سوسيولوجيا المعرفة [هو أحد فروع السوسيولوجيا، ويركز على دراسة المعرفة البشرية بوصفها ظاهرة اجتماعية phénomène social تتأثر عملية تكوينها وتشكيلها بظروف سوسيو-تاريخية خاصة؛ ويهدف إلى تسليط الضوء على اشتراطات التكايَف السوسيو-ثقافية conditionnement socio-culturel للفرد مع محيطه والتي تشير إلى عملية آلية، يخضع لها الفرد بطريقة غير واعية، منذ مرحلة الطفولة، وطيلة مراحل اكتسابه لمهارات التعلم ولمرجعياته المفاهيمية، التي يشيد عليها، فيما بعد، معارفه في التفكير والكلام والسلوك وبما يؤهله للانتماء لجماعة أو لثقافة معينة؛ وفوق ذلك، هي عملية يجري خلالها اعداد وضبط مسارات الدوافع وردود الفعل والانفعالات والاستجابة وبالطريقة التي تولِّد وتنتج السلوك المعطى المطلوب عند الفرد]. وبذلك، ومن حيث ما تقترحه سوسيولوجيا المعرفة من بحث في اشتراطات إنتاج المعرفة بتوسط عناصر الواقع الاجتماعي، فقد انساقت، وبحكم طبيعة الأشياء نفسها، إلى التمييز بين بعض المعارف التي تفلت من هذه الشروط، وبين تلك المعارف الأخرى التي تخضع لتأثيراتها لكن على نطاق ضعيف. وبمعارضة علوم الطبيعة لعلوم الانسان؛ أو المعرفة الكمية للمعرفة النوعية الكيفية، قمنا بتشييد تصنيف للعلوم ينبني على أساس تصورنا الخاص لمدى استقلالها الكبير إلى حد ما عن التأثر بشروط أو بظروف تكوينها الاجتماعية.

أود أن اقترح نهجاً آخر يبدو لي انه مناسباً كثيراً من الناحية النظرية؛ وأكثر فائدة من ناحية تطبيقاته السوسيولوجية، وبما يساعدنا على المضي قدماً في النظر بتلك الإشكالية. وهو نهج يقوم على أولوية التمييز التقني بين البرهان demonstration والحِجاج argumentation؛ وعلى استخلاص تلك الشروط التي يترتب فيها على استعمال أي نوع من أنواع الحِجاج، أو حُجّة بعينها تخضع للنظر والفحص والاختبار، آثار ونتائج ذات طابع سوسيولوجي.

فمن جهة، يركز المنطق الحديث، وخصوصاً المنطق الشكلاني/ الصُّوريّ، على دراسة البرهان الذي يستلزم الانطلاق من مقدمات صائبة أو مقدمات يُفتَرَض صوابها مسبَّقاً، للوصول بشكل لازم لنتائج صائبة أو لاحتمالية قابلة للاحتساب. ويبدو ان الإثبات البرهاني الذي يتكون حصراً عبر هذا الانتقال من المقدمات إلى النتيجة، هو إثبات يفلُت من الاشتراط الاجتماعي.

في المقابل، نجد ان الحِجاج الذي تخلى علماء المنطق عن دراسته النظرية منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون، يقدم لعالِم سوسيولوجيا المعرفة مجالاً واسعاً للتحقيقات والأبحاث. وفي مؤلفنا (رسالة في الحِجاج ... البلاغة الجديدة) الصادر في عام 1958، قدمنا وزميلتي السوسيولوجية لوسي اولبرخت-تيتكا، تعريفنا الخاص بنظرية الحِجاج، والذي يشير إلى إنها نظرية: تُعنى بدراسة التقنيات الحِجاجية التي من شأنها أن تؤدي الى حثّ اذهان المخاطَبين على التأييد*adhésion أو الانضواء وتعزيزه نحو فرضيات؛ أطروحات؛ اعتقادات؛ او آراء نقترحها له من اجل الموافقة عليها. وهو ما يترتب عليه، حقيقة تقع في غاية الأهمية بالنسبة للسوسيولوجي، وهي تتلخص في أن كل نوع من أنواع الحِجاج [بدءًا من حِجاج الفرد مع نفسه؛ ومع الآخرين، وصولاً لجميع أشكال الحِجاج القائمة عليها خطابات الفلسفة والعلوم الإنسانية والفنون والأدب]، يمكن له ان يتسع في مداه ويتطور تبعاً للجمهور المخاطَب الذي يتوجه بخطابه اليه، من جهة، والذي يجب على المتكلم التكايَف معه والتأقلم مع مواضعه الثقافية المشتركة في المعرفة والاعتقاد، من جهة أخرى. وأعني، هنا، بالمتكلم هو الشخص الذي يتقدم بخطاب حِجاجي سواء كان شفويا أم مكتوبا، واقصد بالجمهور المخاطَب، هم جميع من يشملهم الحِجاج، ويستهدفهم بخطابه، سواء كانوا مستمعين أم قُرّاء.

ويتسم الجمهور المخاطَب بالتنوع الشديد إلى اقصى الحدود. وبوسعه التباين بصورة كمية، بدءًا من المتكلم نفسه، الذي ينشطر إلى اثنين وهو يتداول في اعماقه الداخلية الخاصة، مرورا بمستمع واحد للحوار أو بجمهور مخاطَب بعينه، وصولاً إلى جميع الأشخاص القادرين على تعقل الأشياء أو عقلنتها، وهم يشكلون ما يُعرف بـ «الجمهور الكوني» الذي لم يعد واقعة اجتماعية مادية ملموسة، وإنما هو نِتاج لصيرورة مجمل التقنيات الحِجاجية البنَّاءة للمتكلم والمبتكِرة لبلاغته، على نحو متواصل، بالاستناد لعناصر خبرته. وبمقدور الجماهير المخاطَبة التنوع والاختلاف بالعديد من الطرق الأخرى، تبعاً للسن؛ والجنس؛ والمِزاج؛ والكفاءة، واي نوع من أنواع المقولات الاجتماعية والسياسية. ويمكن لها، على الأخص، ان تختلف حسب الوظائف التي تؤديها، وبشكل أكثر تحديداً، بناء على دور هذه الجماهير المخاطَبة فيما إذا كان هو لغاية التوصل إلى قرار من أي طبيعة كانت؛ أو ببساطة لغرض تشكيل رأي عام، أو للحصول على تأييد ودعم بشأن عمل ممكن في الوقت الراهن وغير محدد في الوقت نفسه.

في الواقع، إن كل خطاب حِجاجي يستهدف تغيير اساليب تفكير مخاطَبيه وطرق تشكيل معارفهم سواء كان هذا بتعديل للفرضيات؛ الأطروحات؛ الاعتقادات؛ الآراء التي يؤيدوها وينضون اليها، أو بتعديل لشدة*intensité هذا التأييد والالتزام تجاهها، إنما هو خطاب يُقاس بمفعول النتائج اللاحقة التي يسعى لإحداثها في ممارساتهم وتصرفاتهم العملية. وفي إطار منظورنا للحِجاج الذي عرضناه عام 1958 في بحثنا المعنون: «الروابط النظرية بين الفكر والفعل»، لم يعد من المقبول الفصل بين التفكير والفعل، مثلما كان عليه الحال مع الخطاب البرهاني، وأمكننا، أيضا، أن نفهم وندرك جيداً أن ممارسة الحِجاج، بقدر ما تم الترويج لها أو منعها، ما زالت ممارسة ينحسر تنظيمها غالباً على أولئك الذين يقبضون على أجهزة القوة والسلطة في المجتمع. وفي كل مجتمع لديه مؤسسات، لابدّ وأن تعلق أهمية على مراسيم الأعياد وأداء الطقوس من اجل الترويج للشراكة الاجتماعية بين جماعاته المحلية المختلفة؛ ولتمجيد الابطال والاشادة بالحكماء، الذين يمثلون النماذج الشهيرة والمعترف بها رسمياً، ولتوارث القيّم المعتمدة والمتوافق عليها جماعياً ونقلها للصغار والكبار عن طريق التربية والتعليم.

وفي بعض المجتمعات، تكون ممارسة الحِجاج في مختلف القِطاعات، هي ممارسة محتَكَرَة على أشخاص أو منظمات مُعدَّين خصيصاً لهذا الغرض، ويتمتعون بالصلاحيات اللازمة. إضافة إلى انها ممارسة تخضع، في اغلب الأحيان، لإجازة تفويض أو لرقابة مسبَّقة، لأنه يكاد يوجد دائماً ثمة مجالات مرجَّح أن يظهر فيها الحِجاج كمُخالف للقانون، أو قد يخرق مواد تشريعية تحمي مصالح عامة أو خاصة. وفي كثير من الأحيان، يتطلب إذن السماح بإلقاء كلمة، التوفر على مكانة متميزة كأن يكون عضواً في جماعة أو ممثلاً لها. واحياناً، يكون الحِجاج محدودا فيما يتعلق بمدته الزمنية؛ وموضوعه، والحدث الذي يمكن تقديمه فيه، ويوجد في هذا الشأن عادات وأصول ونُظُم، وفي هذا السياق، يعد الاطلاع على مُدَوَّنات قواعد الإجراءات المدنية والجنائية ودراستها هو أمر مفيد إلى حد كبير.

إن ممارسة الحِجاج بفاعلية مؤثِرة إنما تفترض التوفر على وسيلة للتواصل، ألا وهي اللغة المشتركة التي بدونها يصبح الاتصال بين عقول المخاطبين مستحيل التحقق في الواقع العملي. هذه اللغة هي نِتاج لتقاليد اجتماعية، وستظهر بأشكال مختلفة في حالة اللغة الطبيعية أو تلك الخاصة بلغة تقنية مشتركة بين أعضاء اختصاص معين أو مهنة معينة، وستبدو مختلفة، أيضاً، عندما يتعلق الامر بلغة عاميّة أو بلغة مخصصة على العارفين المطلعين عليها فقط.

فالمتكلم، الذي يتوفر على لغة مفهومة من قبل جمهوره المخاطَب، لا يمكنه التوسع في حِجاجه دون أن يستند على اطروحات؛ فرضيات؛ افكار؛ اعتقادات، وآراء تكون مقبولة لدى مخاطَبيه، وإلا سيكون عرضة للوقوع في خطأ المصادرة على المبدأ المطلوب اثباته. ويترتب على ذلك، ان أي حِجاج يعتمد في بناء مقدماته؛ كما في مسار تطوره وامتداده، على ما هو مقبول ومعروف بصفته صادق وصائب؛ طبيعي وعادي ومألوف وسويّ؛ ومحتمل الصواب والصحة، ومفعوله المؤثر ما يزال ساريّ الصلاحية. وبهذا الشكل، فإن الحِجاج هو متجذِّر ومترسخ في المجال الاجتماعي الذي يعتمد توصيفه على طبيعة الجمهور المخاطَب واساليبه الخاصة بإدراك وفهم واستيعاب هذا المجال. فالفرضيات؛ الأطروحات؛ الافكار؛ الاعتقادات؛ أو الآراء المقبولة ستكون متعلقة، تارة، بالحسّ المشترك كما يستوعبه ويتصوره الجمهور المخاطَب، وستكون متعلقة، تارة أخرى، بمؤيدي تخصص معين، علمي كان أَم قانوني، فلسفي أَم لاهوتي. من هنا، فإن الإلمام بهذه الفرضيات؛ الأطروحات؛ الأفكار؛ الاعتقادات؛ الآراء، أي بمواضع المعرفة والاعتقاد المشتركة، والذي ينبغي أن يكون بمثابة أساس لكل حِجاج، هو شرط ضروري لا غنى عنه لكي يكون خطاباً حِجاجياً ذو فاعلية مؤثِرة في الجمهور المخاطَب.

يمكن ان تظهر هذه الفرضيات؛ الأطروحات؛ الأفكار؛ الاعتقادات؛ الآراء بأحوال ابستمولوجية متغيرة غير قابلة للثبات، فقد تتعلق، احياناً، بفرضيات إثباتية تم استخلاصها ووضعها ضمن حدود تخصص علمي معين؛ وقد تتعلق، في أحيان أخرى، بمبادئ دوغمائية قطعية؛ أو باعتقادات للحسّ المشترك؛ أو بتعاليم السلوك وقواعده المعتمدة؛ أو قد تتعلق، ببساطة، بمجموعة من العبارات تم قبولها بوصفها منطقية وعقلانية وافتراض صحتها من قبل المتحاورين في مرحلة مبكرة من النقاش. وأياً كانت احوالها الابستمولوجية، فإن جميع هذه الأطروحات؛ الأفكار؛ الاعتقادات؛ الآراء، تشترك في أنه لا يمكن تحييدها واستبعادها دون تقديم اسباب كافية تبرر لهذا السلوك، وإلا سنكون مثار سخرية لبقية المتحاورين. وفي هذه الحالة، سيكون الضحك هو العقاب على عدم الامتثال غير المبرَّر لكل ما هو طبيعي؛ عادي، وسويّ في الحِجاج، وبتأثير من رد الفعل هذا، يصبح هذا الطبيعي؛ أو السويّ هو المعياري الواجب القياس عليه في ضوء التنظيم الاجتماعي نفسه للعلاقات بين الافراد والجماعات، أي يتحول ما تمَّ عمله إلى ما ينبغي القيام به.

ويترتب على ذلك، انه لا يمكن أن نبرر في الحِجاج لأي شيء كان، على العكس مما يحصل في البرهان تماماً، وهذا يعود الى ان تقديم الحُجَج لصالح فرضية؛ اطروحة؛ فكرة؛ اعتقاد، أو رأي، إنما يعني الاعتراف بشكل ضمني انها لا تقع خارج دائرة النقاش، وقابلة للشك والمراجعة والجدال. من هنا، سيكون من المفيد للغاية أن نرصد في تاريخ مجتمع ما أو تخصص معين، مسار تطور ما ننظر اليه ونتصوره ونعتبره كأمر مفروغ منه؛ مألوف؛ بدهي؛ سويّ؛ معقول، واستخلاص العلل والاسباب الواقعة وراء ذلك التطور. إذ، تقترن، دائماً، تاريخية العقل وزمانيته بمدى انخراطها في تقليد؛ حيث لابدّ لتجديده أن يقدم الاعتبارات الابستمولوجية والمنطقية الضامنة لابتكار اشكال بدهية في المعرفة والاعتقاد.

لهذا السبب، غالباً، ما يكون أفضل مبرر لتصرف ما، والذي يُغني عن الحاجة لأي سبب آخر، هو المبرر القائم على إثبات انه مبرر مطابق لنظام اجتماعي معروف ومعتمد، وبهذا يمكنه أن يتمتع بالأحكام نفسها التي صدرت بحقّ وقائع سابقة؛ قاطعة ولا يمكن انكارها. إن السَّوابق تلعب دوراً رئيسياً في الحِجاج الذي تتوقف درجة اتصافه بالطابع العقلاني على مدى تقيَّده بتطبيق قاعدة العدالة الداعية الى معاملة متساوية لمواقف مماثلة، بالقول: «ينبغي التعامل مع الكائنات التابعة لمقولة واحدة، بالطريقة نفسها»، وقد قمنا وزميلتي السوسيولوجية لوسي اولبرخت-تيتكا، بمراجعة هذه القاعدة وتحليلها ونقدها في الفقرة الثانية والخمسين من مؤلفنا (رسالة في الحِجاج).

غير أن تطبيق قاعدة العدالة يفترض وجود سَّوابق قضائية ترشدنا الى الطريقة التي تم بواسطتها، سابقاً، معالجة مواقف مشابهة للموقف المطروح في الوقت الحاضر. هذه السَّوابق، حالها حال النماذج الملهمة لمجتمع معين، هي جزء لا يتجزأ عن تقاليده الثقافية، ويمكن إعادة بنائها وتشكيلها بالاستناد الى مجمل الخطابات الحِجاجية التي تلجأ، عادة، لاستعمالها. إن الاستناد لسَّوابق قضائية، هو استيعاب حالة جديدة وفهمها في ضوء حالة قديمة، أي الإصرار والتأكيد على أوجه التشابه والتغافل عن أوجه الإختلاف. وإذا لم يتم القبول بهذا الشكل من الفهم وعدم الاعتراف بصحته مباشرة، فقد يكون اللجوء الى الحِجاج حاجة ضرورية لا غنى عنها. لكن، لغرض تعيين أي الحُجَج متصلة بهذا الشأن أكثر من واحدة أخرى غيرها؛ ومتى يمكن النظر إلى حُجَّة ما بصفتها حُجَّة قوية أو ضعيفة، فلا بدَّ من أن تتدخل قاعدة العدالة من جديد، وبفضل تدخلها تكون قيمة الحُجَج –التي هي حُجَج غير قسرية وغير إلزامية ابداً، على العكس تماماً من أدلة الإثبات البرهانية – هي قيمة في ذاتها تتوقف صلاحية اشتغالها على أساس استعمالاتها السابقة من حيث نجاعتها وفاعليتها المؤثِرة اللتان اهلَّتاها للقبول بمصداقيتها، وجعلها معروفة بذلك في سياقات مشابهة من الماضي. بهذا الشكل، يمكننا القول، إن قاعدة العدالة تمثل المبدأ المؤسِس، بصورة قانونية، لتاريخية العقل، والمقوِّم لها على حد سواء، في حين ان مبادئ الهوية وعدم التناقض، بسبب طابعها الصُّوري/ الشكلاني، هي مبادئ تولِّد الدعائم الأساسية لعقل ثابت؛ غير قابل للتغيير، ويكرر نفسه بصورة توتولوجية لا نهاية لها.

أود أن أوجز في هذه الورقة القصيرة مع بعض الملاحظات التي تدخل مباشرة ضمن إطار هذا المؤتمر لرابطة السوسيولوجيين الناطقين بالفرنسية، وذلك لأنها لم تعد تتعلق بشروط الحِجاج الاجتماعية، وإنما تتعلق برؤيتنا الخاصة حول الحِجاج. ونحن نتحدث، هنا، عن التغييرات التي مرَّت بها نظرية الحِجاج والبلاغة والطوبولوجيا على مدار تاريخ الفكر الغربي، وأيضاً، عن فرضيات تنزع نحو تفسير هذه التغييرات حسب مفهوم اشتراطات التكايَف الاجتماعية. كما نعلم، أنه، باستثناء عمل واحد أو آخر في القرن الثامن عشر تم تكريسها للبحث في الطوبولوجيا القانونية، فإن نظرية الحِجاج كانت مهملة بالكامل تقريباً من قبل الفلسفة والمنطق ما بعد الديكارتية.

أما في عصور الحضارات الاغريقو-رومانية القديمة، والعصور الوسطى لا سيما في عصر النهضة، فقد تم دراسة المشكلات التي تتصدى لها نظرية الحِجاج، لكن، من قبل مؤلفين كان تعاملهم مع البلاغة والطوبولوجيا، وفحصهم للأدلة الإثباتية الحِجاجية التي اصطلح عليها أرسطو بـ«استدلالات جدلية»، هو من اجل معارضتها مع أدلة المنطق الصُّوري/ الشكلاني في الإثبات، أي بما دعاها أرسطو بـ «استدلالات تحليلية» التي تهدف إلى البرهان وليس إلى الحِجاج.

إن تطور البلاغة ونظرية الحِجاج، إنما، هو يتبع مصير الحالة الابستمولوجية لمفهوم الرأي opinion المتعارض مع مفهوم الحقيقة vérité، أي إننا تبعاً لما إذا كنا نزعم أن أي حقيقة تطرح نفسها بصفتها الرأي القابل لإعادة النظر والنقاش حوله والممكن الدفاع عنه إلى حد كبير؛ أم كنا نزعم أن الرأي ليس سوى ظاهر للحقيقة لا غير، فإننا سنمنح للبلاغة والحِجاج مكانة اقلّ أو أكثر أهمية بدرجات متفاوتة. وبهذا الصدد، فإن القضايا المثيرة للجدال والتي تعارض فيها السوفسطائيين مع الإيليين؛ والفيثاغوريين والإفلاطونيين، تقدم لنا متون النصوص الأولى حول هذا الموضوع. والأمر يتعلق، هنا، بمعرفة فيما إذا كانت الحقيقة تنتج عن الحوار؛ والنقاش، والنظر في الآراء والمقارنة فيما بينها، أو فيما إذا كان الوصول إلى الحقيقة يتطلب وجود وسائل مباشرة وفورية يكون استعمالها شرطاً مسبَّقاً على أي بلاغة متحولة من مجرد تقنية للإبتكار والنقاش، إلى تقنية في فصاحة البَيَان والإظهار والعرض والإقناع التي تكون ذات صلة بشكل الخطاب أكثر بكثير من مضمونه.

وفي حين ان أرسطو ومن خلَّفه من اتباعه، اضافة إلى فلاسفة الأكاديمية الجديدة أو الوسطى لمؤسسها الفيلسوف أركسيلارس، كانوا قد تبنوا موقفاً ايجابياً ومؤيداً كثيراً للبلاغة، فإن الرواقيون، ومن تبعهم بعد ذلك من فلاسفة الإفلاطونية-المحدثة ومفكري المسيحية، اعتبروا ان البلاغة ليست سوى وسيلة للعرض التوضيحي الصِرف. وعلى نحو متزايد، صار ينبغي للخطاب أن يلقى رضى الجمهور المخاطَب واستحسانهم بوجه خاص، بدلاً من أن يهدف إلى التثبُّت باليقين العقلاني والمنطقي، وكفَّت البلاغة عن أن تكون مجرد تقنية فلسفية غرضها البحث عن الحقيقة، لتتحول الى واحدة من أساليب التعبير*procédé الأسلوبية الأدبية، وهو دور ستلعبه طيلة فترة العصور الوسطى.

أما قرون عصر النهضة، فهي فترة شهدنا فيها أكبر قدر من الازدهار للبلاغة التي أصبحت مركزا للفكر الإنساني. فآنذاك، كانت تمثل البلاغة عند أكثر المفكرين تبايناً وتنوعاً، هي التقنية الإنسانية بامتياز، التي يتحد فيها التفكير مع الفعل، ويلتحم الفكر مع العمل. لكن، اللجوء إلى الأدلة البدهية، وهي سمة غالبة على القرنين السادس عشر والسابع عشر، بدءًا من الاستعانة بالبداهة الدينية، كما كان يدركها ضمير المسيحي الصالح ويحسّها في وجدانه؛ ثم بالبداهة العقلانية للنزعة الديكارتية، وصولاً إلى البداهة الحسية للنزعة التجريبية، أفضى ذلك، في النهاية، إلى إزالة أي أهمية فلسفية للبلاغة بوصفها تقنية حِجاجية.

وأصبحت البلاغة تُعنى بدراسة مجمل عمليات الأسلوب التعبيرية، وستبقى كذلك، حتى ظهور الحركة الرومنطيقية التي جعلت التقنيات الحِجاجية نفسها خاضعة لإلهام الشاعر ومطواعة لاستعمالاته المتنوعة. أما النزعة الوضعية، كما تطورت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد رسمت ملامح التدهور الأكثر حِدَّة للبلاغة التي تم تحييدها من برامج تعليم المدارس الثانوية الفرنسية في عام 1885. في مقابل ذلك، وتحت تأثير الاتجاه البراغماتي وفلسفة القيّم، ونتيجة لتنامي أهمية مكانة فلسفة اللغة في الفكر المعاصر، نلحظ أن الدراسات حول البلاغة باعتبارها تقنية حجاجية؛ وإقناعية، وبَيَانية على السواء، قد أخذت بالتزايد كثيراً على مرّ العشرين سنة الماضية بالتحديد.

من هنا، يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت هناك علاقة متبادلة بين هذا التطور الحاصل في تاريخ البلاغة ونظرية الحِجاج، وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية المصاحبة له؟ توجد فرضيات، حول هذا الموضوع، تم قبولها والاعتراف بصحتها من قبل عدة مؤلفين مختصين بحقب زمنية وعصور تاريخية مختلفة، وهي تشير إلى أن ولادة نظام يدعم الحرية والديمقراطية، من شأنه أن يساهم في ازدهار البلاغة وتعزيز أهميتها الفلسفية، في حين أن تشريعات دستور الدولة الاستبدادية الشمولية سيؤدي حتماً إلى انحسار البلاغة، وتَقَهْقر خطابها وتخلفه.

ومن هذا المنظور، تم، اليوم، إعادة قراءة الأحكام والتصورات القائمة حول مسائل الجدال التي تعارض فيها السوفسطائيون مع إفلاطون، من قبل الفيلسوف والسوسيولوجي البلجيكي أوجين دوبريل في مؤلفه الشهير والموسوم بـ(السوفسطائيون) الصادر في عام 1948؛ وتم، كذلك، تفسير تدهور البلاغة بعد قيام الامبراطورية الرومانية، من قبل المؤرخ الإيرلندي أوبري جوين في مؤلفه (نظام التعليم الروماني من شيشرون إلى كوانتيليان) الصادر في عام 1926؛ وتم تسليط الضوء على دور البلاغة القرووسطيّة، من قبل الفيلسوف الأمريكي ريتشارد ماكيون، في مقاله الشهير (البلاغة في العصور الوسطى) الصادر في عام 1942، وأمكن للفيلسوف والفيلولوجي الايطالي اوجينيو غاران في مؤلفه (النزعة الإنسانية الايطالية: الفلسفة والحياة المدنية في عصر النهضة) الصادر في عام 1952، أن يكشف عن الأسباب التي ادت لازدهار بلاغة عصر النهضة، وإلى تدهورها فيما بعد. إذن، أليس في ضوء هذا السياق نفسه، يمكننا قراءة المشروع المعاصر في إعادة تجديد نظرية الحِجاج؟ آمل أن تكون هذه المقترحات البسيطة بمثابة نقطة إنطلاق نحو إنجاز المزيد من الأبحاث والدراسات المعمقة من قبل السوسيولوجيين والمؤرخين من المتحمسين للبحث في مشكلات سوسيولوجيا المعرفة.

 

باحثة ومترجمة في الدراسات الفلسفية والحِجاجية

 

الهوامش:

Chaïm Perelman : Le Champ de L’Argumentation, Les Cadres Sociaux De L’Argumentation, Presses Universitaires de Bruxelles, 1970, pp. 24- 29.

وبالنسبة للنص المقتبس عن شاييم بيرلمان، والموضوع في التقديم، فقد تم اقتباسه من المصدر نفسه في أعلاه، ص32، ص37، ص38.

[] ما بين القوسين يعود للمترجمة. وفيما يتعلق بمفاهيم بيرلمان تحديداً، تم العودة الى مؤلفه العمدة (رسالة في الحِجاج):

Ch. Perelman & L. Olbrechts-Tyteca : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Paris, P.U.F, 2 vol., 1958.

(*) النجمة هي رمز مثبت على مفاهيم محددة ضمن متن النص، يُشير إلى إمكانية الاستزادة حولها، بالعودة لقائمة مسرد المصطلحات.

 

مسرد المصطلحات:

-adhésion : مصطلح التأييد [وليس التسليم خضوعاً وإذعاناً كما هو شائع خطأ في اغلب الترجمات والمؤلفات العربية في البلاغة والحِجاج] يشير استعماله غالباً إلى الموافقة المعطاة لمبدأ أو لعقيدة أو لأيديولوجيا مسيطرة. وهذا يعني أن التأييد يستدعي المشاركة والانضواء تحت الطريقة نفسها في النظر والإدراك لمعايير الأخلاقيات المتداولة، لهذا يمكن أن تعد صياغة التأييد هي صياغة لتعددية الانتماء إلى الايديولوجيات التي لها من القوة والتأثير المماثلين لتلك الخاصة بسلطة مشيدة وراسخة لكنه يختلف عنها بكونها قابلة على الدوام للسؤال والنقاش والمراجعة والجدال. بعبارة أخرى، أن التأييد هو مشاركة في صناعة الآراء والاعتقادات doxa لان آثار تأييد وتصديق رأي معين ستضع القيّم المحمولة فيه موضع صيرورة دائمة. للمزيد، يُنظر: ADHÉSION dans : La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, 2 vol.

ADHÉSION dans : Le Dictionnaire du Littéraire, Sous la direction de Paul Aron & Denis Saint-Jacques & Alain Viala, Paris, P.U.F, 2e éd., 2010, p. 6-7.

Intensité- : مفهوم الشدة –يؤكد بيرلمان– انه لا يقتصر على تحصيل نتائج على مستوى التفكير فحسب؛ ولا الى الإعلان فقط عن ترجيح رأي؛ فكرة؛ فرضية او أطروحة واحدة أكثر من غيرها، بل وغالبا ما سوف يفضي تعزيزه الى الدفع نحو انتاج الفعل الذي كان ينبغي عليه اثارته من البداية. للمزيد يُنظر: La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Tome 1 : les cadres de l'argumentation.

Procédé- هذا المفهوم الأساسي في علوم البلاغة والحِجاج عامة؛ وفي نظرية البلاغة الجديدة على وجه الخصوص؛ والاشكالي الذي لطالما جرى التقليل من قيمته، وبالتالي، من قيمة البلاغة على السواء، وذلك من خلال اختزاله على انه مجرد وسيلة او مسلك لغرض الوصول الى غاية في قلب الخطيب والخطاب البلاغي عموماً. فكانت هذه احدى المشاكل التي سعى بيرلمان مع زميلته تيتكا الى تسليط الضوء عليها، ولإعادة مراجعة تاريخ البلاغة والتقليد الحِجاجي في جينالوجيا الفكر الغربي. يعبر هذا المفهوم عن مجمل عمليات التعبير في الأسلوب style، أي بالأساليب التي نصيغ بها تفكيرنا، وتشكل نماذجه وتوجهاته وميوله التي كثيراً ما تبدل من شكل القول l’énoncé؛ وتؤثر على طريقة القول l’énonciation ومفعوله في انتاج الممارسات الخطابية، وبالتالي، في إعادة صياغة رؤيتنا للواقع برمته. للمزيد يُنظر:

La Nouvelle Rhétorique … Traité de L'Argumentation, Tom 1, p. 204, Tom 2, § 96 La rhétorique comme procédé. FIGURE & RHÉTORIQUE dans : Le Dictionnaire du Littéraire, p. 291-292 & p. 676-678.