يكتب محرر باب كتب في (الكلمة) هنا عن الكتب وعن القراءة وعما تتركه من آثار مراوغة في القارئ، يدعوها بدر الديب بجروح الروح، بينما يكشف لنا الكاتب هنا عن تغلغلها في أغوار الوعي وفيافي الروح، وعن قدرتها على استدعاء حيوات وذكريات ومشاعر خصبة.

يوميات قارئ: رفوف ومتاهة

منتصر القفاش

 

بداية الأيام
مع ازدياد عدد الكتب في مكتبتي تصبح متراوحة بين جانب منظم وآخر أشبه بمتاهة. في الجانب المنظم الكتب مرتبة على رفوف محددة، لا تتغير أماكنها أو أحاول عدم تغييرها، أما المتاهة فالكتب التي أتوقع قراءتها أو قرأتها وتراجع انشغالي بها. قد أحتاج إلى كتاب وأعرف أنه في هذه المتاهة، وأقضي وقتا طويلا في البحث عنه حتى أعثر أو لا أعثر عليه، لكنني خلال البحث أتوقف عند كتب أخرى لم أقرؤها تشد انتباهي وتخرج من تلك المتاهة، أو أتوقف عند كتب كتبت تعليقات في هوامشها منذ سنوات، وقد تدفعني تلك الهوامش إلى إعادة قراءة الكتاب أو جزء منه مرة أخرى. متعة الوجود وسط الكتب تتحقق بالجانبين: كتب أعود إليها دائما، وأخرى أكتشفها وسط المتاهة وتبدو رسالة وصلت في وقتها.

يوم أول
يكتب بدر الديب عن وثائق النفس التي كان من الممكن أن تعينه في الحديث عن نفسه ومنها "كل الكتب والقراءات التي قمت بها والتي مازالت آثارها في مكتبتك التي امتلأت واضطربت حتى أصبحت كالنفس لا يمكن الإمساك بها أو السيطرة عليها."

"جروح الروح. شذرات من السيرة" لبدر الديب التي نشرت في العدد الثاني من مجلة (الأربعائيون) 1992 ثم أعيد نشرها في كتيب في دار أزمنة 2010 .في الصفحات الأولى وضح بدر الديب أسباب صعوبة الحديث عن نفسه، وانتهى إلى الحديث عن جروح الروح ويعني بها "جروح الروح هي ما تحمل من ندوب وآثار لم تلتئم من سياط الحياة والمجتمع ومن قصور الفكر والإيمان ومن فشل الحب وتجارب المعرفة التي لم تكتمل". في الفقرات الموجزة التي قسم إليها شهادته يكشف عن تلك الجروح وما ولدته داخله من قيم، وما أثارت لديه من أسئلة. لا يستغرق في حكي أحداث بل يركز على ما أثارته كل مرحلة في حياته من أسئلة وجروح اجتماعية كانت أو شخصية. فذكر ولادته في عائلة من الطبقة الوسطى تدفعه مباشرة إلى التأكيد أن هذه الطبقة بلا تاريخ علمي جاد، يعرض تاريخها وتقلب أحوالها وظهور قيمها، وعلاقته بالمكتبات العامة منذ مراهقته حتى تخصص في علومها بعد ذلك تجعله يرى أن تلك الطبقة " فشلت في صناعة حركة للمكتبات العامة في الأحياء والمدن وسوف نعاني من ذلك معاناة متصلة في تاريخنا الحاضر والمستقبل، وقد انعكس ذلك على الأمية الثقافية التي يعيشها شبابنا وكبارنا". ومن الجروح التي تظلل الكتيب كله ضياع الكثير من كتاباته ومقالاته مثل الدراسات التي ألقاها كمحاضرات خلال تدريسه في معهد الفنون المسرحية، والمقالات التي كتبها تحت عنوان "ملامح ثقافتنا" في جريدة المساء في فترة توليه رئاسة تحريرها مدة عشر سنوات، بالإضافة إلى نصوص ترجمها لم تر النور بعد. في مرة قال لي إنه أثناء كتابته لأوراق زمردة أيوب التي نشرت أول مرة في كتاب "حديث شخصي" ترجم قصائد عديدة للشاعرة الأمريكية إميلي ديكنسون استعان ببعضها في الرواية، لكن أغلبها لم ينشر حتى الآن. بدر الديب - الذي رحل عام 2005 عن عمر يناهز تسعة وسبعين عاما - من أهم الكتاب الذين استطاعوا إقامة حوار بين الأسئلة الفلسفية ونصوصه الشعرية والسردية. وربما يكون هذا هو السبب في تأخر نشر كتاب (حرف الحاء) أكثر من أربعين سنة، فقد كتب في وقت كان الغالب فيه مشابهة الواقع أو محاكاته، وليس مساءلته أو تأمله فلسفيا. يحكي بدر الديب في جروح الروح أن طه حسين حينما ذهب إليه حسن محمود بنصوص من هذا الكتاب لنشرها في "الكاتب المصري" اكتفى بالتعليق "غريب " ولم ينشرها.

يوم ثان
في متاهة المكتبة عثرت على (حكي حكاية) قصص لأجستو روا باسطوس من باراجواي. ترجمها أحمد حسان. ونشرت عام 89 ولم تعاد طباعتها. بحثت عنه من قبل ولم أجده.

داخل الكتاب وجدت خمسة قروش ورقية "بشوكها"، كما لو كنت أخذتها أمس فقط في عيد من الأعياد التي كانت توزع فيها على كل طفل في العائلة عدد من تلك الأوراق الجديدة التي يوحي عددها بالكثرة، بدلا من أن تأخذ قيمتها ورقة نقدية واحدة. تركتها مكانها لأنني لن أجد لها مكانا آخر، أو لثقتي بأنها لو انتقلت إلى أي مطرح جديد فستزوغ مني أيضا حتى أجدها بالصدفة. تذكرت حملة إعلانية أطلقتها شركة موبايل منذ سنوات مستخدمة فيها الخمسة قروش الورقية التي كانت قد انقرضت وقتها. لم تلجأ الحملة إلى الخمسة قروش المعدنية، فقد كانت مازالت على قيد الحياة، وواضح للجميع عدم قيمتها، ولا أحد يهتم بأخذها إذا كانت بقية حساب أو حتى إذا وقعت من جيبه، فهي الحي الميت المثير للسخرية دائما. الخمسة قروش الورقية في الإعلانات بدت قديمة مثلما كان حالها حينما كانت تستهلك من كثرة التداول، حتى توهم المستخدمين بعودة تداولها مرة أخرى، وإن كان في شكل مكالمات تصل ما انقطع، وتجعل الزمن يمضي كما كان ينبغي.

فتحت الكتاب على قصة "جسد مسجى" ووجدتني مددت خطا تحت "للمفارقة هي أن للحديث عن شيء يتحدث المرء دائما عن شيء آخر، وربما كان ما يهم هو ما بين الاثنين لكن من يدري كيف يقوله" تعد هذه الكلمات مدخلا لقصص باسطوس، فالمتناقضات وحكي الأحداث من وجهات نظر متعارضة هو العنصر المهيمن في تلك القصص. تتجاور تلك الحكايات المتناقضة دون انشغال أن تنفي بعضها بعضا، وتشير إلى إمكانيات أخرى للحكي. تسارع الشخصية الرئيسية في قصة "حكي حكاية" بالإجابة على من قال إن هناك واقعا "ذلك ما يسميه القانعون حقيقة الأشياء. ليتني أراها .. لكن ما هو الواقع؟ إذ هناك واقع ما لا يرى وحتى ما لا يوجد بعد. الواقع بالنسبة لي هو ما يتبقى عندما يكون كل الواقع قد اختفى. عندما تكون قد احترقت ذكرى العادة، الغابة التي تمنعنا من رؤية الشجرة. بإمكاننا فقط أن نشير إليه بصورة غامضة أو نحلم به أو نتخيله، إنه بصلة تنزع عنها ورقة إثر أخرى. وماذا يتبقى؟ لا شيء لكن ذلك اللا شيء هو كل شيء". وفي قصة نوناتو – تعني اسم علم لكنه يعني كذلك من لم يولد طبيعيا بل بعملية قيصرية ومجازا تقال بمعنى من لم يولد بعد أو الشيء غير الموجود – المفارقة تبدأ من اسم راوي القصة فهو موجود وغير موجود، يروي أحداثا بنظرة من عاشها ورآها وفي نفس الوقت نعرف أنه لم يكن موجودا خلال حدوثها، ومتصارع مع خطاب نوناتو خطاب أمه دون أن ينفي أحدهما الآخر بل من خلالهما تتبدى صورة الأب بأبعادها المتناقضة.

الموت في هذه القصص لا يعد نهاية وحدثا أخيرا للإنسان، بل هو بداية لحياة جديدة تتخلق داخل من يعيشون على ذكراه. في قصة "وفاة" نرى كيف يتحول تشيبي بوليفار بعد وفاته إلى شخصين: شخص تحكي عنه المرأة، وآخر يناقضه يتذكره الراوي الذي يرى أنه لكي تحكي بصدق عن بوليفار فيجب أن تدوم كلماتك نفس الزمن الذي عاشه، وبما أن هذا مستحيل فهناك شيء يزيد أو ينقص- يذكرني هذا بالأسباب التي ذكرها بدر الديب ليؤكد صعوبة حديثه عن نفسه -. وتكشف قصة "جسد مسجى" عن وجوه أخرى لبوليفار من خلال أحاديث الملتفين حول جثته قبل أن تدفن، والذين لا يشغلهم تناقض أحاديثهم عنه، لأنه لم يعد هو بل ذكراه. والتناقض لا يشمل أحاديثهم فقط بل يمتد لطبائع من يلتفون حوله، فهم مزيج غير متجانس مكون من لاعبي السيرك، وصاحبة دار بغاء، ورجل دين، والقصاب، والصبي الصغير، يعيشون كلهم لحظة الموت على أنها حدث يجب كسر حدوده والبحث من خلاله عن سبل الحياة. ورغبتهم في الحياة تتجسد في كلماتهم وسلوكياتهم وأشواقهم حول جسد الميت المسجى الذي تظل نظرته خلال كل هذه الأحاديث عنه ساخرة.

يوم ثالث
تذكرت اليوم أخي مجدي الذي توفي في السابعة والعشرين من عمره منذ سبعة وثلاثين عاما. تذكرت كراساته التي كتب فيها مختارات من قصائد نزار قباني شاعره المفضل، وحرصه على أن يجمع صوره من الصحف والمجلات، ويضمها إلى مختاراته المؤرخة بتواريخ نسخه لها. حفظ مجدي الكثير من تلك القصائد، ولا أتذكر أنه حفظ شعر أي شاعر آخر، وكان يرددها على أنها الشعر الحقيقي في مواجهة ما كان يردده أبي من شعر عربي قديم.

"كل الأسماء" لجوزيه ساراماجو، بالنسبة لي أهم أعماله ومن الكتب التي تستقر في مكان محدد على أحد رفوف المكتبة. بنى ساراماجو روايته على "دون جوزيه" الذي يعمل ويسكن في دار المحفوظات العامة للسجل المدني. هذا المكان الذي اختلطت فيه بطاقات الموتى بالأحياء، وقد تظل البيانات تعلن عن استمرار الميت حيا. والبحث في أروقة المكان الداخلية عن ملفات الموتى أشبه بمغامرة قد تنتهي بالموت تحت تلال الملفات الآيلة للسقوط.

وينشغل دون جوزيه بجمع أخبار وصور المشاهير وبالصدفة يقع في يديه بطاقة امرأة مجهولة، ويبدأ رحلة البحث عنها. لا تمنحنا الرواية أسبابا بعينها لخوضه هذه الرحلة. وتترك منطقة الأسباب - والأهداف أيضا - مفتوحة لكل الاحتمالات التي تتزايد كلما تقدمنا في تتبع البحث. فعالم هذه الرواية يسكن في منطقة بين الحياة والموت لا نقدر على تسميتها لكننا نقدر على خوض البحث وتقصى تفاصيلها ومعايشتها. راوي الرواية لا يقدم لنا أية تبريرات لأفعال تبدو لنا من أول وهلة غير منطقية، فهي أفعال لا يحكمها منطق الحياة المألوفة الاعتيادية، بل تنبع من عالم مجهول بين الحياة والموت، يمكن فيه حتى للأشياء أن تتخلى عن جمودها وتشارك في رحلة البحث، كما حدث في الحوارات الكاشفة بين دون جوزيه وسقف غرفته. وربما تكون طريقة ساراماجو المشهورة في كتابة الحوارات ضمن السرد دون فاصل تجد مبررها القوي في هذه الرواية التي يصعب فيها وضع الحدود بين الموت والحياة، بين ما حدث وما يمكن أن يحدث.

ومن الشخصيات التي لا تنسى في هذه الرواية شخصية المدير. لا يكشف الراوي عن تواطؤه الخفي مع دون جوزيه إلا في النهاية، وهو يقرأ ما كتبه جوزيه عن تفاصيل بحثه، واقتراحه المفاجئ له بحرق بطاقة وفاة المرأة، كأن الحدود بين الأحياء والموتى قد تلاشت داخله ولم يعد الوجود فقط مجرد بطاقات تسجل الميلاد والوفاة.