يخلص الباحث في دراسته التحليلة التاريخية إلى أن تواشج العلاقة بين الحريات العامة والدولة، حيث لا يمكن تصور وجودها إلا في إطار نظام قانوني يحددها وينظمها ويحميها، مما جعل البعض يعرف الحريات العامة بأنها "القدرة المكرسة بموجب القوانين الوضعية"، ثم يأتي الاعتراف بحريات وحقوق الأفراد.

تحديد معنى الحرية السياسية

ماجد أحمد الزاملي

 

تعتبر مسألة الحرية وبحق من أدق واخطر المسائل التي حظيت بالبحث والدراسة قديما وحديثا. فقديما، عدت من أعقد المشكلات الفلسفية، وأشدها استعصاءا، إذ واجهت الباحثين والمفكرين من قديم الزمان، وعاصرت الفكر الإنساني وسايرته ابتداء من عهد فلاسفة الإغريق القدامى وحتى عصرنا الحاضر، الأمر الذي أدى إلى تشعب الأفكار واختلاف الآراء حولها اختلافا عظيما، لم يحدث له مثيل في أي مفهوم آخر.

أما حديثا، فهي ما زالت تحتل مكان الصدارة، ومركز اهتمام الكثيرين من فلاسفة وفقهاء وكتاب وغيرهم، ومكمن السر في اكتساب الحرية هذه الأهمية الأساسية والبالغة، هو ارتباطها الوثيق بحياة الإنسان وبقيمته وكرامته وتحقيقا لهذا المقصد كانت الحرية ولا تزال من أغلى الأشياء التي ناضلت الشعوب من أجل أن تنعم بها، وسيستمر ويتواصل نضالها حاضرا ومستقبلا، طالما أن هناك حقوقا مغتصبة، وحريات منتهكة للأفراد والمجتمعات، سواء كان ذلك على المستوى الداخلي المحلي أو على المستوى الخارجي الدولي.

إن من يستقرئ التاريخ يكشف هذه الحقيقة، ويتبين له بجلاء أن الاهتمام الأول للفرد عبر العصور هو المطالبة بحقوقه وحرياته، وأن تطور المجتمعات السياسية هو في الواقع تطور لصراع مرير ومتواصل بين السلطة السياسية والتي هي ضرورة اجتماعية لإقامة حياة أفضل، وبين الحرية التي ينشدها الإنسان بطبعه.

فالفكر السياسي عند فلاسفة الإغريق كان هدفه الأسمى البحث عن أفضل النظم السياسية التي تضمن وتحقق للفرد التمتع بحريته مع بقائه خاضعا للسلطة السياسية.

والمذهب الفردي بفكره التحرري الليبرالي والذي ظهر خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، خاصة في كتابات جان جاك روسو وغيره، كان يأخذ الحرية كنقطة البداية في التحليل السياسي، والسعي نحو تقييد السلطة والحد منها، فهذه الأخيرة تفقد شرعيتها وأساس وجودها، وتعليل بقائها، إذا ما قامت بالاعتداء على الحرية.

وإذا كانت الحرية تعد وبحق، من أقدس حقوق الإنسان، فلا غرابة إذن، أن تكون سببا لسقوط الكثير من الضحايا، واشتعال الكثير من الحروب على مر التاريخ، وأن نراها في عصرنا الحاضر تحتل مكان الصدارة في الصحف، وفي الخطب البرلمانية، والمحافل الدولية وتتبوأ مكانا بارزا في صلب الدساتير وإعلانات الحقوق، حتى أصبحت قاعدة جوهرية، وركيزة أساسية لكل تشريع أو نظام سياسي، كيفما كانت أسسه ومبادئه، ومهما اختلفت مقاصده وأهدافه.

وإذا كان هذا شأن الحرية ووضعها في الفكر الإنساني الوضعي، فما هو التصور الإسلامي لها، سواء كان ذلك من حيث أساس وجودها، أو طبيعتها، أو قيمتها الحقيقية. إلا أن ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أن الإسلام ينظر إلى الحرية خلافا للمذاهب الوضعية كمنحة أو فطرة أو هبة إلهية، يتمتع بها الإنسان كحق مقدس لمجرد كونه إنسانا، لأنها بالنسبة له ضرورة إنسانية، وبالتالي فإن تحقيقها والمحافظة عليها تعتبر من المقاصد الشرعية.

وتفسير ذلك، أن تميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالإرادة والقصد، باعتباره مكلفا مسؤولا، لا يتحقق إلا في جو من الحرية الكاملة الواعية، المسؤولة، المنضبطة، التي لا تخل بمبادئ المجتمع العامة كما لا تتعدى على حريات الآخرين.

وبهذا التصور تظهر الحرية في الإسلام، كما عبر عنها البعض كضرورة إلهية وإنسانية وطبيعية فهي ضرورة إلهية لأن الإنسان مخاطب بالأحكام الشرعية، والتشريع قائم على التكليف، والتكليف يفترض الحرية. وأما كونها ضرورة إنسانية فلأنها من مقومات العمل الإنساني والاجتماعي والبشري. فالتكليف وتحمل المسؤولية تجاه المجتمع، وبالتالي الجزاء والمحاسبة على الأعمال، تكون لغوا ولا معنى لها إذا لم ترتكز على الحرية، فحيث لا حرية فلا مسؤولية. أما كون الحرية ضرورة طبيعية فلأن الفرد يحس حريته واستقلاله الذاتي عن غيره إحساسا طبيعيا، ينسجم مع إحساسه بتميزه الذاتي، وهذا يناسب نظرة المجتمع باعتباره فردا مستقلا حرا مكلفا.

أن مفهوم الحرية والاختلاف حوله قد عاصر وساير تطور الفكر الإنساني منذ بدايته وحتى عصرنا الحديث، وبناء على ذلك فإنه يبدو-منطقيا- أن البحث عن تعريف موحد لها سيظل أمرا عسيرا طالما أن مفهومها متذبذب ومختلف بحسب اختلاف الزمان والمكان والمذهب الفكري السائد في أي مجتمع.

ولهذا، فقد عبر الرئيس الأمريكي: إبراهام لنكولن " في خطاب ألقاه عام 1864 م عن هذا المعنى بقوله: "إن العالم اليوم لم يصل أبدا إلى تعريف طيب للفظ الحرية، فنحن إذا كنا نستعمل ذات الكلمة، فإننا لا نقصد ذات المغزى أو المعنى".

إذا كان الفرد كائنا اجتماعيا بطبعه ولا يحيا إلا في نطاق مجتمع يخضع لدولة، وله أهداف يسعى إلى تحقيقها، فإنه من غير المجدي البحث عن حريته خارج هذا الإطار، أي بمعزل عن علاقاته مع غيره من أفراد المجتمع الذي يعيش فيه وعن الدولة التي تحكمه.

وهذا ما يؤكد لنا الطابع النسبي للحرية، فأساسها ومدارها يتوقف على تركيب الكيان الاجتماعي.

فحرية الفرد تقابلها حريات الأفراد الآخرين، وكذا حرية الدولة، الأمر الذي ينفي تصور أو وجود، حريات مطلقة دون أن يتضمن ذلك اعتداء على حقوق وحريات الآخرين. وبناء على ما تقدم يجب على الفرد، إذا أراد أن يتمتع بحريته، أن يلتزم الحدود، والأنظمة والأهداف المعينة للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن خلالها يتسنى له تحقيق أهدافه ومصالحه، وفي مقابل ذلك يضمن عدم اعتداء الآخرين على حقوقه وحرياته – بدعوى التمتع هم أيضا، بحقوقهم وحرياتهم ذلك هو ثمن الحياة المشتركة المنظمة والتي ترفض حماية النظام العام بعناصره الثلاثة، وهو المبدأ الذي يفصل بين الحرية وبين الفوضى، لكن على السلطة العامة إذا كان الفرد كائنا اجتماعيا بطبعه ولا يحيا إلا في نطاق مجتمع يخضع لدولة، ولها ألا تسيء استغلاله للقضاء نهائيا على الحريات.

المحافظة على كيان الدولة، مع ضرورة مراعاة التوازن بين الحرية ووجود الدولة. إذ يجب أن تنتهي حرية الفرد حيث تبدأ حريات الآخرين، وهذا لكي يتمكن الجميع من اقتسام الحق والحرية اللازمين للمعيشة المشتركة في مجتمع واحد.

وبغير هذا التصور للحرية المنظمة، فإن النتيجة هي تدهور السلام الاجتماعي، وانهيار المجتمع، ويصبح الكلام عن ممارسة الحرية ضربا من الوهم والخيال، لأن الحرية المطلقة لم يكن لها في أي يوم وجود واقعي .و التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي هو جوهر الحرية.

إذا كان المعنى النسبي للحرية، هو حجز الزاوية والطابع المميز لممارسة أية حرية داخل المجتمع المنظم، فإن هذا التصور، لن يؤتي ثماره ونتائجه المرجوة وسيبقى ناقصا، ومفرغا من محتواه الإنساني والشامل، ما لم يستند إلى مذهب فكري متوازن.

وحرية الإنسان، هي تلك الحرية النسبية نتيجة رضوخه القسري لعوامل الطبيعة ونواميسها، إضافة إلى اضطراره للالتزام بالحدود المعينة للمجتمع الذي لا بد أن تحد من حريته.

لان الإنسان إذا لم يراع قواعد المجتمع ستكون النتيجة انهيار هذا المجتمع الذي يعيش فيه. إن حرية الإنسان تفسر على أنها حقه، بقدر ما تحمل الخير النافع للإنسان ومجتمعه الذي ينتمي إليه. وبهذا التشخيص تصبح الحرية عدوة الفوضى، كما أنها عدوة الاستبداد والاستعباد، وضمن هذه الحدود "أي الحرية المنظمة" عمل الأنبياء والمصلحون، ورجال الفكر والفلاسفة والعلماء والباحثون من أجل صرح الحضارة، وتقدم البشرية وتحقيق الخير والسعادة للإنسانية....

أما القيود الخارجية بحكم القانون، والتي يفرضها ولي الأمر، فهي تكون حين يضعف المعنى النفسي في نفوس بعض الناس، والتي هي في الواقع حماية للحرية وليست قيودا، إلا للذين انطلقوا غير مراعين حقها،وحق الغير في أن يتمتع بحرية سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، في ظل نظام سياسي عادل، بحيث إذا اختل هذا التوازن، فقدت الحرية قيمتها الحقة وبعدها الإنساني الشامل. غير أن التوازن السياسي لا يتحقق في المجتمع، ولن تظهر آثاره على أرض الواقع، إلا في ظل نظام قانوني عادل، يضمن للمحكومين حرية اختيار أحسن الحاكمين بإرادتهم الحرة المعبرة، والعارية عن أي شكل من أشكال الضغط والإكراه، والخالية من أي لون من ألوان الغش، والتزوير، مهما كان نوعه، وكيفما كان مصدره ودواعيه. وبغير سلوك هذا الطريق، فإن الأمور ستؤدي حتما إلى فقد الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبالتالي زعزعة قيمة الحرية، بمعناها الإنساني الشامل، وعودة الصراع من جديد، بمعناه السياسي، وذلك كنتيجة طبيعية ورد فعل معاكس للقهر السياسي الذي تمتهن بسببه حريات الفرد وحقوقه، وتصادر فيه إرادته، وما ينتج عن كل ذلك من استغلال واستبداد اقتصادي واجتماعي لأفراد الجماعة، وكثرة الشواهد التاريخية ماضيا وحاضرا، خير دليل على تأكيد هذا التحليل، سواء منها ما كان مطبقا، تحت ظل السلطان الكنسي والملكيات المطلقة في أوروبا قديما، أو كما هو الحال، حديثا، في ظل النظم السياسية الدكتاتورية، التي تمنع الفرد من حرية نقدها والخروج عن منهجها، وتنكر عليه التمتع بممارسة حقوقه وحرياته السياسية بصورة فعلية.

أما على الجانب الاقتصادي، فإن الاختلال وعدم التوازن في العلاقات الاقتصادية، وما يولده من نتائج سلبية، يجعل المفهوم الاقتصادي للحرية يبرز، ويطغى على ما سواه، كنتيجة طبيعية لعدم التقارب الاقتصادي، وكرد فعل حتمي للفوارق الجسيمة بين الفئات الاجتماعية، بحيث تهتز القيم الاجتماعية والسلام السياسي في الدولة، ويصبح الصراع والصدام هو المحصلة النهائية في المجتمع، نتيجة عدم المساواة الاقتصادية.

إن ثمرة الحرية ودرجتها مرتبطة إلى حد كبير بمدى تقدم المجتمع اقتصاديا، وتوافره على عوامل الثروة، وانتعاشه المالي، شريطة قيامه بتنظيم وتوزيع أكثر عدالة للثروة، وتأمين الأمن المادي والمعنوي لمختلف الطبقات الاجتماعية. ذلك أن عدم المساواة في توزيع ثمار العمليات الاقتصادية بين أفراد المجتمع، سيؤدي لا محالة، إلى إنكار الحرية كحقيقة واقعية، ويفقدها قيمتها الجوهرية الحقيقية بمفهومها الإنساني والشامل.

أما على الصعيد الاجتماعي، فإن الحرية ستكون مفرغة من معناها الحقيقي ما لم تستند إلى نظام اجتماعي عادل، ينظر إلى أفراد المجتمع، نظرة إنسانية متساوية، لا تمييز بينهم بحسب الجنس، أو اللون، أو اللغة... الخ. بل يكون ميزان التفاضل فيه هو السلوك القويم، والعمل الصالح الهادف إلى المساهمة في تحقيق مصالح الجماعة.

نخلص مما تقدم، إلى أن الحرية بمعناها الإنساني والشامل لن تتحقق إلا في ظل نظام سياسي عادل، يستند إلى مذهب فكري متوازن سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، قادر على ضبط الحركة الاجتماعية بمفهومها الواسع، بواسطة آليات توفيقية بين مصلحة الفرد والجماعة. وضمن هذه الأطر، وتوفر تلك الشروط، تصبح الحرية ترمز إلى ذلك "الخير العام الذي يمكن الإنسان من التمتع بجميع الخيرات الأخرى وقدرته على اختيار سلوكه بنفسه ضمن قواعد المجتمع الذي يعيش فيه.

فلو اخذنا المذهب الليبرالي نراه يعتمد في هذه المضمار على معيار "جون استيوارت ميل" متخذا إياه معيارا ضابطا للتجريم والإباحة في الكثير من القضايا، وهذا المعيار يتمثل في "عدم الإضرار بالغير" فأنت حر ما لم تضر. ويشترط "ميل" لتجريم التصرف أن يكون الضرر عاما، ومحددا، فإن كان التصرف شخصي الأثر، أو أصاب أشخاصا لا يمكن تحديدهم فلا تجريم حينئذ، وإن دخل التصرف في دائرة التصرفات اللاأخلاقية.

إن سلوك الفرد السيئ الذي لا يمس مصلحة غيره، قد يعرضه لنفور الآخرين، وتفضيل غيره عليه، لكن لا يبرر أي أجنبي لفرض سلوك معين عليه، بل كل ما يملكه هذا الأخير، هو النصح والإرشاد أو التحذير، مع بقاء الأمر للفرد لاختيار السلوك الذي ينتهجه، طالما أن هذا السلوك لا يؤثر مباشرة على مصالح أحد سواه.

لكن السؤال المطروح هو: هل يوجد فعلا تصرف شخصي الأثر، بحيث لا تتعدى آثاره ومضاره إلى أفراد المجتمع؟ إن أغلب تصرفات الفرد في المجتمع، والتي تبدو للوهلة الأولى بأنها شخصية، تنعكس آثارها، عند البحث والتعمق، على أفراد الجماعة إن عاجلا أو آجلا، ومن هذا الباب وجهت انتقادات كثيرة إلى هذا المعيار، تجمع كلها، بأنه معيار غير حاسم وغير دقيق في الفصل التام.

ولقد توقع "جون استيوارت" النقد من خصومه، حيث يعترف بأن معياره هذا قد يلقى الاعتراض من بعض المفكرين بمقولة، أنه لا يمكن أن يتصور تصرف من قبل الفرد يضر به، دون أن يلحق الأذى بغيره على نحو ما. لذلك فهو يرى أنه عند فشل طرق الوعظ والإرشاد، يجوز الاستعانة بالقانون لضبط حالات محددة، كالإخلال بالتزامات معينة، أو الإضرار بالآخرين.

والخلاصة، أن "ميل" يرى وجوب وزن القيم، وتفضيل بعضها على بعض، فالسلوك الفردي المعيب، طالما أنه لا يمس أي واجب خاص قبل المجموع ولا يلحق بالأذى أي فرد آخر، فإنه يجدر بالمجتمع تحمله من أجل مصلحة أكبر مما يحققه عدم تركه لسلوكه المعيب، وتلك المصلحة هي الحرية. فقيمة الحرية وإن تعارضت مع بعض القيم الاجتماعية، وجب تفضيلها وإن ترتب على ممارستها ضرر يسير بالمجتمع. وعلى هذا يجب على المشرع إلا يضيق من مكنة الفرد في الاختيار، بالإفراط في فرض القواعد الملزمة له، بل يجب أن تقوم سياسة التشريع على مبدأ: دع كل فرد يعمل ما يتراءى له ما دام لا يؤذي الغير بفعله.

وإذا كان هذا المعيار هو المعتمد والسائد الآن في الفكر والنظام الليبرالي، فإن التصرفات اللاأخلاقية الشخصية بناء على ذلك تعتبر مباحة، حيث تخرج عن دائرة التصرفات الممنوعة، ولا شأن لها بالقانون.

أما المذهب الماركسي فانه يختلف في تقييمه للصراع بين السلطة والحرية عن المذهب الليبرالي، فإذا كان المذهب الأخير يؤمن بضرورة وجود السلطة، والاكتفاء بوضع قيود قانونية للحد منها لتحقيق الحرية وحمايتها، المذهب الماركسي يرى إن السلطة هي مضادة للحرية من حيث المبدأ. ففي المجتمع الرأسمالي كما يرى الماركسيون يكون الصراع والتضاد بين السلطة والحرية شاملا وواضحا وأكثر حدة، وذلك بسبب التناقضات الداخلية التي يحتويها هذا النظام بسبب قيامه على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، والتي سوف تؤدي حتما إلى خلق طبقتين في المجتمع، طبقة مستغلة تملك الثروة بالإضافة إلى السلطة وطبقة مستغلة معدومة لا تملك شيئا من ذلك، وهنا يبرز الصراع والتضاد بين السلطة التي تملكها الأقلية، وبين الحرية التي سوف تسلب من الأغلبية.

تمثل الأولى منهما مرحلة انتقال نحو الشيوعية، يتم فيها إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج لصالح الأغلبية، وتتميز بخصائص ومميزات مشتركة اجتماعية واقتصادية للمجتمعين الرأسمالي والشيوعي، هو بمثابة صراع بين الرأسمالية المحتضرة، والشيوعية الوليدة.

وعند بلوغ المجتمع الشيوعي، فإن ظاهرة السلطة ستختفي وتتحقق الحرية بأسمى معانيها، حيث يتحرر الفرد من مختلف الضغوط والقيود التي يخضع لها في المجتمعات السابقة، فيتحرر سياسيا من ضغط الدولة، واقتصاديا من ضغط الحاجة.

معيار الحرية في الفكر والنظام الإسلامي:

وإذا كان الإسلام يسعى عبر أحكامه الشرعية إلى إرساء مبدأ التوازن والتوفيق بين حرية الفرد من جهة وحق المجتمع من جهة أخرى، إذ لا انفصال بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع في التشريع الإسلامي على الإطلاق ، فإنه بذلك يهدف إلى تحقيق السعادة والسلام والرخاء للناس كافة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"ولهذه المعاني، قرر فقهاء الشريعة الإسلامية أن كل حق فردي مشوب بحق الله الذي يتضمن المحافظة على حق الغير، فردا كان أو جماعة، وان المحافظة على حق الغير لا يكون بالامتناع عن الاعتداء فقط، بل عن استعمال هذا الحق إذا ترتب عليه ضرر بالغير.

وتأسيسا على ما تقدم، فإن معيار الحرية في الإسلام يقوم من حيث المبدأ على إطلاق الحرية للفرد في كل شيء بناء على أن الأصل في الأشياء ألإباحة شريطة ألا يتعارض ذلك أو يصطدم بالحق أو الخير أو بالمصلحة العامة، فإذا حدث ذلك فإن ومقتضى المبدأ هو الحكم على أي شيء عند انعدام الدليل الشرعي على حكمه بالجواز والإباحة لأن الإباحة هي الأصل طالما لم يقم دليل ينافي ذلك.

تحدد معنى الحرية السياسة:

تختلف الأنظمة السياسية المعاصرة فيما بينها، حول إعطاء معنى موحد ومنضبط للحرية السياسية، كما تتباين نظرتها في تحديد مضمونها ومحتواها ضيقا واتساعا، ورغم هذا التباين والذي يرجع أساسا إلى اختلاف المبادئ والأسس الفكرية التي يعتنقها كل نظام، إلا إن الإجماع يكاد ينعقد على أن الحرية السياسية هي التي تؤمن من الناحية العملية، قيام أفضل النظم السياسية.

وإذا كان مصطلح الحرية السياسية يتميز لدى بعض الفقه عن مصطلح الحريات العامة أو "الفردية" باعتبار أن الحريات الأخيرة هي امتيازات خاصة للأفراد يمتنع على السلطة التعرض لها أو التعدي عليها لكونها حقوق لصيقة بالانسان بينما الأولى تتضمن وضع السلطة في يد الشعب ,غير أن ذلك لا ينفي القول بأن الحرية السياسية بما تتضمنه من حقوق وحريات، كحق الانتخاب، وحرية الترشيح، وحق الاستفتاء ...إلخ، تعتبر نوع من الحقوق والحريات العامة أو الفردية، وذلك بالنظر إلى صاحبها وطريقة ممارستها، وذلك بالرغم من وجود بعض الاختلافات والتباين في مفهوم كلا المصطلحين.

كما قد يثور التساؤل عن التمييز بين مفهوم الحريات العامة، ومصطلح حقوق الإنسان، حيث قد تباينت آراء الفقه حول هذه المسألة، نظرا لوجود التقارب بين المفهومين، لدرجة أن البعض قد اعتبرهما شبه مترادفين، أو متطابقين، خاصة بعد أن أصبحت حقوق الإنسان، سواء الواردة في الإعلان الفرنسي لسنة 1789 ، أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، عن الجمعية العامة للأمم المتحدة وغيرهما.

تحديد مفهوم الحريات العامة وتقسيماتها:

قبل التطرق لتناول مفهوم الحريات العامة، نرى من الضروري تحديد مصطلح "الحق" ثم بيان مدى إمكان إضفاء هذا اللفظ على الحريات العامة، نظرا لمنازعة البعض في ذلك، بالرغم من الاستخدام الموحد أو المتقارب بين المفهومين في المدلول والاستعمال.

تحديد مصطلح "الحق" ومكان الحرية منه انقسم الفقه حول تعريف الحق إلى عدة مذاهب، فأنصار المذهب الشخصي، يعرفونه بأنه "قدرة إرادية لصاحب الحق" أي قدرة الإرادة على أعمال معينة. بينما يذهب أنصار المذهب الموضوعي إلى اعتباره "مصلحة يحميها القانون". ونظرا للانتقادات الموجهة لكلا التعريفين، واتصافهما بالقصور، اتجه البعض إلى الجمع بين عنصري الإرادة والمصلحة في تعريف الحق، وهو المذهب المختلط، والذي يعرفه بأنه "قدرة إرادية مسخرة لمصلحة معينة" أو هو مصلحة يحميها القانون عن طريق قدرة إرادية يعترف بها لشخص معين. هذا ولا يشترط لوجود الحق أن تكون المصلحة والإرادة لنفس الشخص.

وبناء على التعريفات المتقدمة-كما يرى البعض– "فإن الحريات العامة هي حقوق بمعنى الكلمة، إذ يتوافر بها عنصر القدرة الإرادية وعنصر المصلحة التي يحميها القانون".

إلا أن التعريفات السابقة للحق، قد تعرضت للنقد، بدعوى أنها لا تتجه إلى جوهر الحق، والذي يتمثل –حسب هذا الاتجاه– في عنصر "الاستئثار" ومن ثم عرف الحق بأنه "رابطة قانونية بمقتضاها يخول لشخص، على الانفراد والاستئثار، التسلط على شيء أو اقتضاء أداء معين من شخص آخر".

ويتميز التعريف الأخير بوجود عنصر الاستئثار في مضمون تعريف الحق، وهذا العنصر في رأي هذا الفريق، هو الفيصل بين الحق، وسائر المراكز القانونية التي لصاحبها مزايا، مثل الحريات والرخص العامة. وفي ضوء هذا التحليل، فالحريات العامة أو ما تسمى لدى غالبية الفقه "الحقوق العامة" لا تتفق مع المعنى الاصطلاحي الدقيق للحقوق، إذ أن تخلف الرابطة القانونية فيها، وما تخوله من وجود انفراد واستئثار، وتسلط واقتضاء، يؤدي إلى أن لا تتفاوت بشأنها المراكز بين الأشخاص، بل تتماثل من حيث المخاطبة بهذه الحقوق، والتمتع بما تخوله من سلطات معينة يسبغ عليها القانون حمايته من أي اعتداء يقع عليها.

ولهذه النظرة، عرفت الحريات العامة بأنها: "رخص أو إباحات، وهي مكنات يعترف بها القانون للناس كافة، دون أن تكون محلا للاختصاص الحاجز، إلا أنها تولد حقا قانونيا إذا اعتدي عليها". وعليه تكون حرية التملك رخصة، أما الملكية ذاتها فحق. فالحرية مكنة للحصول على الحق بالمعنى الاصطلاحي.

غير أن البعض يرى أن تعريف الحق بأنه استئثار شخص معين بقيم أو أشياء معينة، لا يؤدي بالضرورة إلى نفي صفة الحق عن الحريات العامة، وذلك لوجود من يقول بعنصر الاستئثار فيها. وعليه فإن الحرية -وفقا لهذا الاتجاه– تعتبر "حقا عاما" أو مركزا قانونيا عاما، يتضمن القدرة على إتيان أعمال وتصرفات معينة يترتب على ممارستها –عادة– نشوء حقوق خاصة. فحرية التملك، حرية عامة أو حق عام يخول كل شخص القدرة على إتيان تصرفات، والإفادة من وقائع مكسبة للملكية، وكذلك سائر الحريات الأخرى...

والواقع، أن اعتراض البعض على إضفاء اسم الحق على الحريات العامة، والخلاف حول تسميتها حقوقا أو رخصا أو مكنات .. إلخ.

ويكفي الشخص ليكون له حق بمقتضى حرية الاعتقاد، أن نسلم بقدرته على أن يعتقد ما يشاء، ولا يغض من حقه هذا، أن يكون الناس جميعا – كل فيما يخصه – يتمتعون بنفس هذه القدرة. كذلك يمكن تصور تحقيق المساواة بالنسبة لحق الملكية، وذلك في حالة منح الدولة جميع مواطنيها منازل للسكنى، حيث لا ينفي ذلك استئثار كل مواطن بملكه.

ضبط مفهوم الحريات العامة وتقسيماتها:

ذهب البعض إلى أن الحريات التي يعترف بها قانون الدولة، تعد حريات عامة.ويعبر نعت "العامة" عن تدخل السلطة. فقيل أن الحريات العامة تتعلق بالعلاقات بين المواطنين وأجهزة الدولة، (مثل حرية الرأي، وحرية التعليم، وحرية الانتقال...)، في حين أن الحريات الخاصة تهم العلاقات بين الأشخاص (كحرية الزواج، وحرية التعاقد ...إلخ). إلا أن هذا الرأي كان محل انتقاد باعتبار أنه لا وجود "لحريات خاصة" بل أن جميع الحريات هي "حريات عامة" ذلك أن الدولة أصبحت تعتبر نفسها اليوم طرفا أساسيا في أية علاقة تتصل بموضوع الحريات، فهي إما أن تكون طرفا مباشرا فيها مع الأفراد، وإما أن تتدخل في العلاقة بين الأفراد بعضهم البعض بتنظيمها وحمايتها عن طريق التشريعات واللوائح المختلفة.

أن الذي يجعل وبناء على النقد المتقدم، يرى الأستاذ "جان ريفيرو الحريات عامة مهما كان موضوعها هو تدخل السلطة للاعتراف بها وتنظيمها. وهي في نظره "القدرة على تقرير المصير التي يكرسها القانون الوضعي" أو هي ذلك الجزء من حقوق الإنسان الذي تجاوز القانون الطبيعي ودخل في نطاق القانون الوضعي.

إلا أن "ريفيرو" يؤكد أنه ليست كل حقوق الإنسان، حتى ولو كان معترفا بها من قبل القانون الوضعي ، يمكن أن تعتبر حريات عامة، إذ أن قائمة حقوق الإنسان في العصر الحديث أصبحت تتضمن نوعا جديدا من الحقوق ذات الطابع الاجتماعي، كحق الإنسان في الأمن الاجتماعي، والإسكان، والتعليم ... وغيرها. والتي لا تعتبر حريات عامة بالمعنى القانوني الدقيق الذي تلتزم الدولة قانونا بحمايته.

هذا، ولقد ذهب بعض الفقهاء إلى اعتماد معيار آخر لتحديد الحريات العامة، يتمثل في كونها ممنوحة للجميع. ومن ثم عرفت بأنها تلك الحريات الممنوحة للجميع بكيفية تكون ممارستها من البعض لا تمس إطلاقا من حرية الآخرين.وقد أخذ على هذا المعيار عدم الدقة، من كون كل حق من حقوق الإنسان أو كل حرية من الحريات الأساسية تمنح للجميع، وبالتالي فإن هذه الخاصية لا تتميز بها الحريات العامة وحدها، طالما أن هذه الحريات هي من حقوق الخواص وتشكل التزامات على كاهل الدولة.

ومن كل ما تقدم، تظهر العلاقة الوثيقة بين الحريات العامة والدولة، حيث لا يمكن تصور وجودها إلا في إطار نظام قانوني يحددها وينظمها، ويحميها، مما جعل البعض يعرف الحريات العامة بأنها "القدرة المكرسة بموجب القوانين الوضعية" ومن ثم كان تدخل القانون –في كل مرة– للإقرار والاعتراف بحريات وحقوق وإمكانيات للأفراد في حين ذهب "برود" إلى أن الحريات العامة توصف كذلك لكونها تنشأ من الحياة العامة، ولا يقع على الدولة سوى واجب سلبي بالامتناع عن التدخل إلا لحمايتها. وقد اخذ على هذا المفهوم بأن الحرية لا تعني اتخاذ موقف سلبي، كما أن تنظيمها بواسطة الدولة بتشريعات هو عمل إيجابي من جانبها.

* * *

المراجع

- ميل (جون ستيوارت) الحرية، ترجمة طه السباعي، الهيئة المصرية للكتاب 1966 م، ص25 ومابعدها.

هذا ونشير هنا إلى أن الدراسات الأوروبية القديمة للحرية، وخصوصا منذ عصر النهضة، كانت

دراسات ميتافيزيقية أو بالأقل مجردة. وقد انقسم المفكرون الفلاسفة في هذا العصر إلى مدرستين. المدرسة الأولى: العقل" ويمثلها كانت حيث ترى أن الحرية إرادة خاضعة للعقل أو الضمير. أو كما عبر عنها سبينوزا أن الحرية هي: "أن يعيش الإنسان خاضعا لأمر العقل وحده" وقال كانت: أن الحرية هي استقلال الإنسان عن أي شيء فيما عدا القانون الخلقي وحده.

غير أن هذه الدراسات، والتي امتدت فترة طويلة، ثبت عدم جدواها من الناحية العملية لأنها تبعد كثيرا عن واقع الناس، ولا تحل مشكلاتهم الحقيقية، الأمر الذي أدى إلى ضرورة بحث مسألة الحرية من جديد بصورة أكثر واقعية، هي صورة الإنسان في المجتمع، وفي مواجهة سلطة الدولة.