يقدم الباحث المصري هنا هذه الكاتبة الأذربيجانية، يستعرض حياتها ومسيرتها ودورها في الأدب الآذاري، وتأكيد هويته المستقلة بعد استقلال بلادها عن الاتحاد السوفييتي السابق، كما يتوقف عن بعص خصائص قصصها الفنية، ويترجم عن الآذارية مباشرة واحدة من قصصها التي ننشرها في هذا العدد أيضا.

الكاتبة الأذربيجانية آفاق مسعود

مشوار إبداعي متنوع وثري

أحمد سامي العايدي

 

(1)

يعتبر الأدب الأذربيجاني من الآداب القديمة الذاخرة بنماذج أدبية قيمة، قدمها خلال تاريخه الممتد لعدة قرون؛ فقد مرت أذربيجان قديمًا وحديثًا بالعديد من الظروف والأحداث التي جعلت من أدبها مرآة تعكس ما يموج في المجتمع من أحداث، وما يمر به من أحوال، وتجعل المتتبع للأدب الأذربيجاني يدرك مدى ما عانته أذربيجان من تغيرات عرقية وطبوغرافية، شأنها في ذلك شأن معظم الدول الإسلامية التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق.

لقد اتخذ الأدب الأذربيجاني منحًى جديدًا عقب حصول أذربيجان على استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في الثامن عشر من أكتوبر عام 1991م؛ حيث بدأت تتلاشى الأيديولوجية السوفيتية تدريجيًّا، تلك الأيديولوجية التي سادت أكثر من سبعين عامًا خلال الحكم السوفيتي، وحاولت طمس الهوية الأذربيجانية، وفرضت الالتزام في الأدب بتطبيق المنهج الأوحد (الواقعية الاشتراكية) في الأعمال الأدبية التي كانت لا تعرف سوى الأفكار والآراء التي تتلاءم مع الحكم السوفيتي. وبعد أن خرجت أذربيجان من عباءة الاتحاد السوفيتي، أصبح التغيير أمرًا حتميًا في شتى المجالات، ولاسيما مجال الأدب والدراسات الأدبية المعاصرة. والحق أن هذا التغيير لم يأتِ فجأةً بعد الاستقلال، بل كانت له إرهاصات قبل سقوط الاتحاد السوفيتي.

ويمكن القول إنه حدثت في الأدب الأذربيجاني المعاصر في فترة الاستقلال حالة يُطلق عليها "حالة انفتاح واندماج ورحابة أفق" من حيث الشكل والمضمون في الأدب الأذربيجاني المعاصر؛ فقد ظهرت على الساحة موضوعات وقضايا جديدة، وكذلك رُفع الحظر عن قضايا وموضوعات أخرى كان ممنوعًا الولوج فيها أو حتى التطرق إليها أيام الاتحاد السوفيتي، وكذلك رفع الحظر عن دراسة شخصيات وطنية كان لها دور فعَّال أثناء حكم الاتحاد السوفيتي في الحفاظ على هُويَّة الشعب الأذربيجاني من خلال أعمالهم الأدبية وأفكارهم التي تمت محاربتها أثناء الحكم السوفيتي.

إن قضية "إعادة الوعي القومي" للشعب الأذربيجاني كانت في مقدمة الموضوعات التي أولاها الكُتَّاب والنقاد والباحثون في أذربيجان بعد الاستقلال اهتمامًا كبيرًا في أعمالهم الأدبية؛ لأن الروس سعوا طيلة سبعين عامًا إلى طمس هُويَّة الشعوب التي كانت تحت سيطرتهم، وإبعادهم عن جذورهم القومية. لقد برز العديد من أرباب القلم في الأدب الأذربيجاني المعاصر تركوا صدًى واسعًا في الحياة الثقافية داخل أذربيجان وخارجه من خلال أعمالهم الأدبية؛ فقد تناولوا قضايا مهمة تمس وجدان الشعب الأذربيجاني وقضايا إنسانية تدخل ضمن الوجدان الثقافي العالمي. ومن هذه الشخصيات الأدبية الكاتبة الأذربيجانية المعاصرة "آفاق مسعود".

(2)

ولدت الأديبة الأذربيجانية آفاق مسعود في الثالث من يونيو عام 1957م في أسرة عريقة تشتغل بالأدب وفنونه، فترعرعت في بيئة أدبية زاخرة منذ نعومة أظفارها، وتعتبر آفاق مسعود من النماذج المشرقة في الأدب الأذربيجاني المعاصر، والتي يُشار إليها كعلامة من علامات الأدب القصصي في أذربيجان. تخرجت في كلية الصحافة بجامعة باكو الحكومية أعرق الجامعات الأذربيجانية عام 1979م. واشتغلت محررة وعضو هيئة التحرير في استديو الإنتاج السينمائي "أذربيجان فيلم" فيما بين عامي 1986-1988م، وكذلك مديرة المركز الإبداعي "الأفلام الأذربيجانية التلفزيونية" فيما بين عامي 1986-1989م. تولت آفاق مسعود منصب مدير مركز الترجمة والعلاقات الأدبية الحكومي، وكذلك رئيس تحرير مجلة "حزر" للأدب العالمي فما بين عامي 1989-2014م. وتترأس آفاق مسعود مركز الترجمة التابع لرئاسة مجلس الوزراء الأذربيجاني منذ عام 2014م.

بدأت الكاتبة الأذربيجانية "آفاق مسعود" مشوارها الأدبي في وقت مبكر في الفترة الجامعية في سبعينيات القرن الماضي من خلال كتابة القصة القصيرة، حيث صدر لها أول كتاب ضم قصتها القصيرة الأولى عام "1976م" بعنوان "في الدور الثالث". ومن بواكير قصصها القصيرة التي أبدعتها في تلك الفترة المبكرة (1970-1980م) من مشوارها الإبداعي قصص: "في الدور الثالث"، "العم حسن"، "وحدي في المنزل"، "الضوء في الهاتف"، "ليلة السبت"، "العاصفة الثلجية"، "المبيت"، "اللص"، "العدل"، الببغاء"، "الشمس"، "العصافير"، "مدد"، "الوحيد".

(3)

مع أن إنتاج "آفاق مسعود" الإبداعي بدأ بكتابة القصة القصيرة؛ فقد حققت نجاحات كبيرة في مجال الرواية الأذربيجانية المعاصرة بإصدارها العديد من الروايات المميزة مثل روايات: "اللعنة"، "الدفن"، "وجهه نحو الضوء"، "الازدحام"، "كلب البحر"، "الحرية". وتعد الرواية الأخيرة (الحرية) من بين الأعمال الأدبية القيمة التي سجلت الأحداث التي مرت بها أذربيجان في نهاية حكم الاتحاد السوفيتي والسنوات الأولى من الاستقلال، وصورت مدى المعاناة التي عاناها الشعب الأذربيجاني كي يحصل على استقلاله، وكذلك عكست القضايا الاجتماعية والظروف النفسية التي خيمت على أذربيجان آنذاك.

كما تصدت "آفاق مسعود" للكتابة المسرحية، وذلك دليل على نضجها الفني؛ فلا يخوض هذه التجربة سوى المخضرمين من الأدباء؛ لما في الكُتَّابة المسرحية من تقنيات فنية متعددة ومضمون فكري سامٍ وحبكة درامية معقدة، وقد برعت آفاق مسعود في الكُتَّابة المسرحية، وقدمت العديد من المسرحيات النثرية التي عرضت على خشبة المسرح في أذربيجان مثل مسرحيات: "هو يحبني"، "على الطريق"، "المرآة الملقاة تحت القطار"، "كربلاء"، "منصور الحلاج". وحصلت "آفاق مسعود" على جائزة "توركصوى" التركية تقديرًا لدورها في تطوير الفن المسرحي في أذربيجان.

ولم تكتف الكاتبة "آفاق مسعود" بالإبداع في مجال القصة والرواية والمسرح، بل ساهمت أيضًا في نقل أهم الأعمال الأدبية من اللغات الأخرى إلى اللغة الأذربيجانية، وذلك بترجمتها لعدد من أشهر الأعمال الأدبية العالمية، كرواية: "خريف البطريرك" للروائي الكولومبي الحائز على جائزة نوبل في الآداب "جابرييل غارسيا ماركيز"، ورواية "شبكة العنكبوت العالمية" للكاتب "ت. وولف"، وكتاب "حقيقة الوجود" للنسفي، و"إكسير السعادة" للإمام أبي حامد الغزالي، وكذلك قامت بترجمة العديد من كتب كبار مفكري الصوفية مثل الإمام جلال الدين الرومي. وقد تم إنتاج العديد من الأفلام السينمائية في أذربيجان قصصها مقتبسة من أعمالها الأدبية مثل قصص: "العصافير"، "الضيافة"، "الليل"، "العقاب"، "موت الأرنب".

(4)

تناولت الكاتبة "آفاق مسعود" في إبداعها القصصي العديد من القضايا النفسية والاجتماعية والسياسية بمهارة جعلتها تحظى باهتمام كبير من قبل النقاد الأذربيجانيين، والقارئ لهذا الإبداع القصصي الثري يلحظ أول ما يلحظ أن الكاتبة تهتم اهتمام خاصًا بقضايا المرأة الأذربيجانية التي هي جزء من المجتمع الصغير "الأسرة" وركيزة أساسية له، وكذلك المجتمع بمفهومه الواسع؛ فالمرأة في إبداع "آفاق مسعود" أم وعاملة وكاتبة وزوجة وربة منزل. ويمكن إرجاع كل هذا الاهتمام بالمرأة وقضاياها في إبداع "آفاق مسعود" في المقام الأول إلى كونها "امرأة"، وأقرب من يتمكن من التعبير عن قضايا المرأة ومشكلاتها التي تواجهها في المجتمع بصدق هي المرأة.

إن المرأة في إبداع "آفاق مسعود" – سواء القصصي أو الروائي أو المسرحي – القاسم المشترك والعامل الأساس؛ فالشخصية المحورية هي المرأة أو من يشارك البطل في أحداث القصة. وإذا تناولنا قصص آفاق مسعود هذه بقراءة نقدية موضوعية نلحظ أنها تجسيد لمحن المرأة وآلامها النفسية والاجتماعية، وربما دفعتها الظروف المحيطة بها في بعض الأحيان لأن تتصرف تصرفات قد تتنافى وطبيعة ذاتها المعطاءة.

فنجد في قصة "العصافير" أن شخصية المرأة التي تشتغل بالإبداع الأدبي تهمل بيتها تحقيقًا لإشباع هوايتها هذه، فتجعل جُلَّ اهتمامها هو الكُتَّابة، كما أنها تعرض للنموذج الآخر لنفس المرأة في قصة "ليلة السبت"، والتي تهتم أيضًا بالإبداع، ولكنها لا تستطيع أن تتفرغ له بسبب هموم العمل والأسرة والزوج والأم التي تقيم معها؛ مما يتنافى والطبيعة الإنسانية الراغبة دومًا في إشباع الرغبات والهوايات، وهذه القصة تصوير لما تعانيه المرأة العاملة ولا سيما المشتغلة بالإبداع الأدبي في التوفيق بين العمل في إحدى الإدارات الحكومية، ومراعاة أبنائها الصغار وأمها المسنة التي ترعى الأطفال بدلاً منها حتى عودتها من العمل، ثم زوجها أي أن المرأة في قصة "ليلة السبت" تقوم بأربع مهام في آن ٍواحد: "موظفة، أم، زوجة، كاتبة".

ولكننا نلحظ أن نفس بطلة القصة تتوق إلى الإبداع الأدبي وكتابة القصص، وتنظر، عقب نوم الأطفال، بحسرة إلى أوراقها وأدوات الكُتَّابة الخاصة بها التي علتها الأتربة، نظرًا لهجرها وعدم تمكنها من توفير وقتٍ للإبداع الذي تعشقه؛ فهي ترى أن العائق الأساس في إبداعها يكمن في أطفالها وزوجها وبيتها؛ فتصور لنا هذا على النحو التالي: "خيم على المدينة بأكملها الهدوء، وأنصتوا لها، كانوا ينتظرون كتابتها، وكانت هي تفكر كثيرًا، وتنظر لأطفالها وزوجها وبيتها كعائق ومانع لها؛ فلو كانوا غير موجودين، لكانت ستبني الجبال الشوامخ".

ولكن الكاتبة تبرر لنا ابتعاد بطلة قصة "ليلة السبت" عن الإبداع بسبب أنه ليس لديها موهبة حقيقية للكتابة والجميع يعرف ذلك إلا هي، فتقول: " كانت أمها أيضًا تعرف أنها غير موهوبة، وكذلك "آزاد" (زوجها)، وكذلك الآخرون. ولكنهم فقط كانوا لا يريدون أن يحطموا أحلامها، ويضايقوها. كانوا يضحكون حرجًا ويقولون مُجبرين (عن قصصها الأدبية): "شيقة"، وهم في الأصل كانوا ينقذون أنفسهم. كانت أمها تضطر أن تتمالك نفسها، وتكتم نفسها وتصبر على عذابها، كانت تربي أطفالها وتطهي طعامها. وكذلك سئم "آزاد" من أفكارها المريضة حول الدنيا، وبمجرد أن يفتح الباب، كان يهرب ويمضي إلى حال سبيله".

وأحيانًا نرى أبطال "آفاق مسعود" يهربون من الواقع من خلال السباحة في أخيلة عميقة، فترى أن فقدان الزوج الذي تمقته هو بمثابة التحرر من أعباء الحياة الزوجية، من طهي الطعام وغسيل الملابس، وترتيب البيت. فقد تخيلت بطلة قصة "الحادث " عندما تأخر زوجها في العودة للمنزل حتى طلوع شمس اليوم التالي دون إخبارها أنه تعرض لحادث مات على إثره، فقامت بإعداد الملابس السوداء، وفكرت بعد موته أنها ستصبح حرة طليقة، فتصور لنا "آفاق مسعود" هذه الأفكار التي غاصت فيها الزوجة وما ستقوم به عند سماع نبأ موت زوجها: "سوف تستريح أيضًا من سلك الأواني الذي يقصف أظافرها من كثرة غسيل الأواني المليئة بالدهون وحكّها، ولن تكون هناك حاجة يومية لغسل موقد الغاز "المزين" بالبقع الملونة ليل نهار".

شعرت آنذاك بحرارة غريبة بجسدها، وفكرت ربما سوف تستريح من أشياء كثيرة بعد ذلك، كلما كانت تتذكر الأمور الحياتية اليومية التي كانت تقوم بها على مدار سنوات على مضض، والمسؤوليات الأسرية التي كانت تضطر لحلها وهي في قمة الضيق أمرًا أمرًا، شعرت بأن نفسها يضيق من التوتر، وأن ظلام الحجرة الخانق يخيم عليها، فانتصبت، أم كان النهار يطلع؟! نعم، يعني أن الحياة الجديدة تبدأ، حياة حرة بلا ضيق، ولا مسؤولية".

(5)

ومن الظواهر الموجودة بقوة في إبداع الكاتبة "آفاق مسعود" القصصي ظاهرة "الاغتراب" بأنواعها الثلاثة الرئيسة "الاغتراب الذاتي، والاغتراب الاجتماعي، والاغتراب المكاني". ولكننا نشاهد في قصص آفاق مسعود أحيانًا رغبة البطل ذاته في الاغتراب والعزلة عن المجتمع كنوع من الراحة والعيش بحرية دون أية قيود أو شروط؛ فعلى سبيل المثال قصة "مدد" تروي لنا إيثار البطل لحياة الوحدة وعدم الاختلاط، وعدم الرغبة في الزواج، حتى إنه أيام العطلات يتجول وحده، ويذهب للسينما وحده، ويكتفي فقط بمشاهدة العالم من حوله، وهذا ما بينته لنا الكاتبة في المشهد التالي: "وخلاصة القول، كان "مدد" لا يحتاج إلى أحد مطلقًا كي يقضي يوم عطلته بشكل شيق، لأي سبب كان يجب عليه أن يذهب مع أحد للسينما!! ويجلس معه جنبًا إلى جنب، ويشاهدا معًا أحد الأفلام؟ أيفقد الفيلم مذاقه عندما يشاهده وحده؟ أم لماذا كان يجب عليه أن يذهب إلى المطعم مع شخص ما ويجلس معه وجهًا لوجه ويأكل معه وهو ينظر إلى فمه ومنخاره؟ ما هذه الوحشية، بصفة عامة؟

كان "مدد" يلتزم في المنزل بمبدئه هذا، كان لا يشعر مطلقًا أثناء الأوقات التي يقضيها بالمنزل برغبته أو ميله للجلوس وجهًا لوجه، أو جنبًا لجنب مع أي شخص، أو التحدث معه في أي شيء، أو حتى الأكل معه. أما موضوع الرد على الهاتف، فكان أكثر الأمور مأساوية في المنزل بالنسبة لـ "مدد"، فكان يتمالك نفسه بصعوبة من أن يُلقي بسماعة الهاتف على الأرض ليتخلص من الردود المعتادة "كيف حالك؟"، و"كيف حال الأسرة؟"، و "ما الجديد؟" التي كان يجب أن يقولها في كل اتصال هاتفي. وأحيانًا لا يتحمل، فيضطر أن يُلقي سماعة الهاتف، ويترك الشخص يتحدث في الناحية الأخرى من الهاتف، كان يضجر من قوله "نعم" على سيل الأسئلة التافهة، ويقطع المكالمة، فيضطر أن يسمع توبيخ من في المنزل بعد ذلك بسبب تصرفه الفظ مع المتصلين".

كما تجسد أيضًا هذا الشعور بالاغتراب في قصة "وحدي في المنزل"، وهي عبارة عن حوارات ذاتية داخلية أقرب للمناجاة وتفكير عميق مع الذات حول "الفراغ" والهروب من المسؤولية، وترقب الأم من بعيد التي تعمل في إحدى المدارس وفي شؤون المنزل والتسوق وشراء متطلبات المنزل والهرولة للمدرسة التي تعمل فيها لتقوم بالتدريس. كان هذا البطل في اغتراب ذاتي ولا مبالاة مصاب بحالة من الجمود لا تجعله حتى يقوم بأي مساعدة لأمه.

(6)

ثمة تقنية فنية تتميز بها قصص "آفاق مسعود" ألا وهي تقنية "الأحلام"؛ حيث تكتظ أعمالها الإبداعية ولاسيما القصص "بالأحلام"، ومن الواضح أن الكاتبة تستعين بهذه "الأحلام" للدلالة على الرغبة في الهروب من الواقع والانطواء، أو الرغبة في خلق عالم يخلو من المشكلات؛ فالأحلام تعتبر أحيانًا المتنفس الوحيد لدى بطل القصة لتحقيق ما يتمناه حتى ولو في الخيال؛ فقد قامت الكاتبة من خلال "الحلم" في قصة "مدد" على التأكيد على أهمية الأسرة وضرورة الزواج تحديًا لبطل القصة الذي كان يعزف عن الزواج، ويميل للعزلة والاغتراب: " لقد رأى "مدد" هذا ذات مرة في منامه؛ حيث رُدَّت إليه روحه فجأة في المكان الذي مات فيه معلقًا بالنافذة، ونهض على قدميه في المنام، وخرج إلى النافذة، وصرخ بأعلى صوته في الخارج قائلاً: "أيها الناس، اسمعوني! الأسرة هي الأمر الضروري المهم في حياة الإنسان" والآن إن لم يتزوج من هذه الفتاة، بالتأكيد سوف تكون نهايته على هذا النحو.

على النقيض تمامًا قد يكون الحلم كابوسًا استكمالاً للرعب الذي يعيشه البطل في الواقع ويعاني منه حال يقظته، وذلك على نحو ما ورد في قصة العصافير: "ذات مرة رأى أمه في المنام بشكل مخيف، بدأ الحلم بأن رأى وجه أمه ينظر للنافذة، وهي تجلس مستندة إلى الباب. أما هو فقد اقترب منها من الخلف بخطى حثيثة على أطراف أصابعه، مر وجلس أمامها وجهًا لوجه، ورغم أنها نادت عليه، فإنه لم يكترث، ووضع يديه على ركبتيه، وسلَّط نظره نحو النافذة. حينئذٍ مد يديه نحو كتفي أمه، فترنحت أمه وسقطت على الأرض، وصاحت كالدجاجة المذبوحة، وعندما أراد أن يرفع أمه من الأرض وهو يبكي من شدة الخوف، انفصل ذراع أمه، وسقط رأسها على الأرض، حينئذٍ ترنح جسده من شدة الخوف، واحتضن ذراع أمه وقدميها وجمعهما وحملهما إلى حجرته، وأخذ يضع أعضاء جسد أمه على الأرض بسرعة، وهو يشعر بتخدر في قدميه ويديه من شدة الخوف، وقد حاول تركيب أعضاء أمه مرة تلو الأخرى، فلم يفلح".

ومن اللافت للنظر في معظم قصص "آفاق مسعود" هو الغوص في ماهية الموت وتصوير الحياة الأخرى بعد الموت، ولعل في رسالتها هذه ما يؤكد أن الموت حد فاصل بين الماضي والحاضر، ولا يُغَيِّب الموت الإنسان فقط، بل يطمس معه الأحداث التي عاشها، ويتضح ذلك جليًّا في قصة "الاحتضار"؛ فتصور لنا الكاتبة شيخًا وهو على فراش الموت مُصرًّا على إخفاء ماضيه وأسراره والمرحلة التي عاشها خلال فترة الاتحاد السوفيتي، واعترافه بالتجاوزات التي كانت تقع خلال تلك الفترة، وكان الموت في القصة بمثابة نقطة الانتقال التي تحمل هذا الشيخ بأسرار تلك الحقبة إلى العالم الآخر، وكأن الموت هو الوحيد الذي يمكن أن يخفي بشاعة وآلام وأحزان تلك الفترة من تاريخ أذربيجان.

وبصفة عامة، ترتكز القصة القصيرة عند "آفاق مسعود" على شخصية واحدة، ومجمل القصة بمثابة بُعدٍ عميق في تركيبها النفسي الذي تؤثر فيه الأحداث أو العلاقات بالأشخاص الآخرين؛ لذلك تناولت "آفاق مسعود" مشاهد حياتية بكل تفاصيلها ودقائقها، ووصف دقيق للشخصيات تجعل لدى القارئ أُلفة مع النص وتفاعل مع هذه التفاصيل؛ حيث تدور أحداث القصص بصفة عامة في محيط مكاني ضيق قد يكون منزلاً أو حجرةً أو حتى سريرًا في حجرة، وكذلك في محيط زمني قصير؛ فقد تستغرق يومًا أو ليلةً أو بضع ساعات، ولذلك تناول البطل بكل حركاته وسكناته أثناء ذلك المحيط الزمني القصير والمحيط المكاني الضيق، وهذا بالطبع يتماشى مع طبيعة القصة القصيرة. وبهذا يشكل الإنجاز الأدبي للكاتبة الأذربيجانية آفاق مسعود علامة فارقة في تاريخ الأدب الأذربيجاني؛ فقد ملكت قدرًا من الإقدام والجرأة والمهارة الفنية واللغوية التي مكنتها من التحليق عاليًا في سماء الأدب، وهو الأمر الذي لا يتأتى لكثير من المعاصرين الأفذاذ.

(7)

لقد حققت الكاتبة الأذربيجانية "آفاق مسعود" في الساحة الأدبية داخل أذربيجان وخارجها شهرة واسعة؛ حيث حصلت على العديد من الجوائز القيمة، منها: جائزة الأكاديمية الوطنية "هوماي" عام 1994م، وفازت بجائزة "خالدون طانير" من مؤسسة "توركصوى" عام 2015م. وقد تُرجمت أعمال "آفاق مسعود" الأدبية إلى العديد من اللغات، منها: العربية والروسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية والفارسية والتركية.

 

أستاذ مساعد – كلية الآداب جامعة عين شمس