يدخلنا النصُّ إلى مختبر «أنطونيو سكارميتا» الروائي التشيلي، مؤلف رواية «ساعي بريد نيرودا» التي حُولت لفيلم سينمائي، رُشح لخمس جوائز أوسكار، يكتب هنا عن الكتابة، والأثر الهائل لتحويل نصٍّ روائي للسينما، عن توقعات الصحافة، عن الصحفيين، المصورين، فنيي الإضاءة والمكياج وهم يبحثون عن ساعي البريد الحقيقي، الذي لا وجود له، لقد كان قطعة من روح الكاتب. يكتب عن المسافة بين الواقع وما تعكسه الشاشات، عن المنفى الجديد في نسخته الأوروبية لجيلي الآباء والأبناء، أيضًا عن السرد ودافعه لكتابة نصٍّ روائي جديد: «لم يحدث أي شيء»، المقدمة هي نصٌّ قائمٌ بذاته، عن الكتابة وما وراءها.

لم يحدث أي شيء

أنطونيو سكارميتا

ترجمة: عبد السلام باشا

 

عندما رُشِّحَ فيلمُ «ساعي البريد» لِخمسِ جوائزَ أوسكار، قامت فِرَقٌ عديدةٌ من الصّحفيّين الأجانب المُدجَّجين بكاميراتٍ شَرِسةٍ بمُحاصرة بيتي الصَّيفيّ في قرية تونجوي التشيليّة، حيث كنتُ أمْضي صيفاً لطيفاً، بينما أنْسجُ روايتي الجديدة، وبصِفَتي مُؤلِّفَ رواية «ساعي بريد نيرودا»، التي اقتُبِسَ منها الفيلمُ، أُخْضِعت لتحقيقٍ صارمٍ حَوْلَ صِدْقِ هذه الحكاية.

قبْلَ أيِّ شيءٍ، كانوا يريدون التَّحقُّقَ ممّا إذا كان هناك شيءٌ ما في ساحلِ المُحيطِ قادرٌ على تحفيز نوعٍ من الإبْداعِ بَدا لهُم مُحبّباً، ذلك المحيطُ الهادئُ «ذو السَّبعة ألْسُنٍ الخضراء، والسَّبعة نمورٍ الخضراء». كانوا قد تأمَّلوا البحرَ مَليّاً، وبما أنَّ صياغة المَجازات كانت بطيئةً، قرَّروا تذوُّق مُنشّطاتِنا الجِنْسيّةِ المَحلّيّةِ، وهي كالتّالي: لا فقاريّاتٌ بحريّةٌ فريدةٌ، مثل: قُنْفُذِ البحر، والمَحار التشيليّ، والبرنقيل التشيليّ، ونبيذَ هذه البلاد الذي يَحْظى هُنا بمنزلةٍ كبيرةٍ تُكافئ منزلةَ النَّبيذ الإسبانيِّ.

بعد أنْ تحمَّسوا بسبب تناوُلِ هذه الأصْناف، التي قدَّمْتُها تكراراً بأريحيّةِ أهْلِ الجَنوب، وجَّهوا إليَّ سؤالاً لا يمكن لأيِّ مُؤلِّفٍ أنْ يردَّ عليه، ليس تواضعاً، إنَّما جَهْلاً. بعيونهم الّلامعة وكاميرات التَّصوير الفوتوغرافيِّ والفيديو المُتدلّيةِ المُتأرْجِحةِ، أرادوا أنْ أكْشِفَ لهُم عن «سِحْر» القصّة التي أمْكَنها أنْ تُلْهِمَ بفيلمٍ مُرشَّحٍ الآنَ لجوائزَ عديدةٍ في بَلاط السِّينما.

قاطعْتُهم بحِدّةٍ.

قلتُ لهُم: أيُّها السّادة، أنا طائرٌ، ولستُ عالِماً مُتخصِّصاً في دراسة الطُّيور. واستعنت بصورةٍ فسيولوجيّةٍ مُضيفاً: لا يمكنني رَكْلُ الضَرْبة الرُّكنيّة، وأكون في الوقتِ ذاتهِ في منطقة الجَزاء؛ لأُصوِّبَ الكُرة برأسي، وأحْرِزَ الهَدف، ولاعبُنا الشَّهيرُ زامورانو، المعروف بلَقب «بام بام»، هذا المُهاجمُ الذي سيفتقده المَدريديّون ذات يومٍ، لا يمكنه تحقيق هذه المُعجزة.

عندما رأيتُ حواجبَهم المُقطَّبةَ، قدَّمْتُ إليهم لِتْراتٍ من كوكتيل «سيكو سور» Pisco sour؛ ذلك المنقوع التشيليّ، الذي تَصلُ درجةُ الكُحول فيه إلى أربعين في المئة، والمُكوَّنُ من عرقٍ تشيليِّ من عصير العِنَب، الذي يُخلط هُنا بالّليمونِ، والسُّكَّرِ، والثَّلجِ، وبَياضِ البَيْضِ، ويَصلُ تأثيرهُ على شاربهِ إلى درجةِ نسيان اسْمهِ، ولَقبهِ، وعُمرهِ، وفي حالة المُتزوّجين، عادةً ما يجعلهم ينْسون حالتهم الاجتماعيّة، لكنْ ما كُنّا نعتقد أنَّه ترياقٌ ضدَّ الفُضول، جاء بنتيجةٍ عكسيّةٍ؛ ضيوفي المحاورون الأعزّاء، الذين انْطلقوا من عِقالهم بفضل هذا الشَّراب الرّائع، باحوا بأسرارهم. لم أكُن الهدفَ الأساسيَّ لمقالاتهم، إنَّما كانت لديهم، بتكليفٍ من رؤساء التَّحرير، فريسةٌ أكبر: العثورُ على ساعي البريد، الشَّخصيّة المِحوريّة في روايتي؛ لكي يكتبوا موضوعاتٍ عنه، عن حياته، وعن زوجِه بياتريث جونثالث، وعن ابنه بابلو نيفتالي خيمينث، وبما أنَّنا قدْ وصلنا إلى هنا، فلْنتناول أيضاً حَماتَهُ القاسيةَ المُحبّةَ للاسْتشهاد بالأمثال. كمؤلِّفٍ للعمل، لمْ يكنْ هناك شكٌّ في أنَّني أعرف أماكنهم، وطلبوا إليّ أنْ أتذرَّع بالُّلطف، والكَرَم، وبروحٍ أخويّةٍ لا نهائيّةٍ، وأنْ أمدَّهم بهذه المعلومات الحَصريّة.

شربتُ كأسَ «سيكو سور» بالبَهْجةِ ذاتها التي لابُدَّ من أنَّ سُقْراطَ قدْ شَعرَ بها بينما يتجرَّعُ عصير الشّوكران. كانوا قد أمسكوا بي مُتلبِّساً. كان يجب عليَ في تلك الّلحظة أنْ أعترف للمصوِّرين، والصُّحفيّين، وفنّيّي الإضاءة والماكياج، أنْ لا وجودَ لـ«ساعي البريد»، وأنَّه كان مُجرَّد شخصيّةٍ اقتلعتُها من روحي، وتركتُها في الحياة لتسير عبْرَ طُرقات خَيالي، لكنْ بالإضافة إلى الرُّعْبِ، يجب أنْ أعْترف خَجلاً أنَّ الزّهْوَ قد ملأ صدري؛ كنتُ قد اخترعتُ كائناً مُتخيَّلاً، وحسْبَ مَبْعوثي العالَم الحقيقيّ يجب أن يكون موجوداً.

حينئذٍ تذكّرتُ أنَّها لمْ تكنْ أوَّل مرّةٍ أمرّ فيها بضائقةٍ شبيهةٍ. في السَّنوات ذاتها التي كتبتُ فيها «ساعي بريد نيرودا» كانت رواية «لمْ يحدُثْ أيُّ شيءٍ» قد اخْتمرتْ في عقلي، كانت كِلتا الرِّوايتين في مَجرَّتين مُتشابهتين من المشاعر، على أنَّ ما يفصلُ بينهما هو ما كان نيرودا يُطْلقُ عليه «النِّطاق الجغرافيّ المُتبايِن»، من دون أنْ يُحدِّد الرّاوي هذا، كان «ساعي البريد» كما تلقّاه القُرّاء يتلاشى وسْط رُعْب الدّيكتاتوريّة التشيليّة، بينما كانت الشّخصيّة الرّئيسة في «لمْ يحدُثْ أيّ شيءٍ» قد فرَّتْ، مُنْجرَّةً خلْف الأبوين، إلى أوروبّا التي كانت تُقدِّم للّاجئين رئاتٍ من الحُرّيّة، لكنَّها كانت تصيبهم أيضاً بوَجَع البُعاد. سمعت أحدهم يقول، في لحظةٍ سخيفةٍ بين الّليل والفَجر: إنَّه يُفضِّل موتاً أكيداً في الوطن البعيد أكثر من هذا الاحْتضار الحزين وسْط لُغاتٍ غير مفهومةٍ، بعد اقْتلاعهم من مَجالهم الطَّبيعيّ، وتجريدهم من عوالمهم الطّوباويّة، وبعدما انْهزموا تماماً، أخذَ المُهاجرون اللّاتينيّون في الانتظام في غيتوهات حزنٍ، التي منعتهم في أحيانٍ كثيرةٍ من إدْراك المُتَع اليوميّة التي توفّرها لهُم البلدان التي قدَّمت لهم مَلاذاً.

مهما بَدا هذا صادماً، من وجهة النَّظر الشُّعوريّة للاجئٍ، ينْقسم العالم إلى الوطن الذي فقده وسائر الكوكب، وهكذا كان أبناء وطني ينتقلون من مدينةٍ إلى أُخرى في طقسٍ بطيءٍ من تبادُل الأنْباء السَّيّئة حول البلاد البعيدة، ويُنظّمون فعاليّاتٍ سياسيّةً متواضعةً لا صدى لها تقريباً في تشيلي، يواسي بعضهم بعضاً بتبادُل دعوات العشاء لتناوُل أطْباقٍ تقليديّةٍ تشيليّةٍ يطهونها ببَهجةٍ، ويفتقدون الرَّغبة في عقْد علاقاتٍ مع كلّ من لا يجعل من ألمهم وفعاليّاتهم السّياسيّة همَّه الأوَّل.

لكنْ إنْ كانت حيواتهم مُؤجَّلةً حتّى يعودوا إلى الوطن حُرّاً، فإنَّ احتياجات أبنائهم كانت مختلفةً: كانوا يتعلَّمون لغةَ البَلد المُضيف في المدرسة، كانت الشَّوارع تأسرهم، أرواحهم الشّابّة كانت تلتقي بأشْخاصٍ في أعمارهم ذاتها، وبحماسٍ جديرٍ بالمُراهقين كانوا يتشاركون الإعْجاب بنجوم السِّينما، والغناء، والتّلفاز، وصالات الرَّقص، والبارات، والمقاهي الجامعيّة، وخفقات القلب الأولى، والتَّنفيس عن رغباتهم الإيروتيكيّة، والكتب، والنّكات. إنْ كان الآباءُ قد دخلوا في مرحلةٍ من العُزلة، والتّأمُّل، والحُزن، فقد كان الأبناء يَجدون أمامهم الانْطلاق ومغامرة الهِجرة نَحْو الآخر، وإمكانيّة أنْ يكونوا مُختلفين في وسطٍ مُتناغمٍ، مع كلّ ما يَعنيه هذا من مَخاطرَ وإثارةٍ. تلخيصاً: الكلامُ المُتجدّدُ كلّه عن الموضوعات الشّبابيّة الذي كانوا يتغلَّبون به في الشَّوارع على الكآبة والزَّجْر في البيوت.

تقوقع الآباءُ في هَوَسِهم؛ إذْ كانوا يؤمنون بنُبْل الحياة، بينما ينشغلون بالوطن المَقموع، أو بتقديم الدَّعم لمن كانوا يحاولون المقاومة في تشيلي، أدَّى هذا إلى أنْ تعيش الأسر في صراعاتٍ. تحطَّمتْ عائلاتٌ كثيرةٌ، بعدما لمْ تعُدْ قادرةً على الحياة بين قوسين، في أرض الضَّياع بين البلد الحقيقيّ الذي لا يقبلونه، والبلد الشَّبحيّ الذي لمْ يكنْ يقبلهم. تواتَر الانْفصالُ والطَّلاقُ. الشَّخصُ التشيليُّ، واسعُ المشاركة في حياة مُجتمعه، كان يفتقد إلى الآفاق التي تتيح له التّطوُّر بجوار «رفيقته»؛ مُجرّد خطاب الحنين، أو التّطلُّع إلى يومٍ طوباويٍّ احتجاجيٍّ لمْ يكونا كافيين لإضفاء التَّماسك «الحقيقي» على زيجته وعائلته.

أنا من فئة الكُتَّاب الذين يصوغون حكاياتهم، في المقام الأوَّل، بمشاعر خبرتهم الشَّخصيّة، ولقد قيَّض لي التّاريخ فرصة أنْ أكون شاهداً على أحداثٍ كُبرى رفعت الحيوات اليوميّة لأفرادٍ إلى مقاماتٍ عاليةٍ، أو حطّمتها. أحد هذه الأحداث هو ما وقع لأبطال «ساعي بريد نيرودا»، الذين كانوا ينْهون حفلةً مبتهجةً من التّطوُّر، والحُبّ، والصَّداقة مع شخصيّةٍ مأساويّةٍ؛ كانت الدّيمقراطيّة في تشيلي تموت على يَد انقلابٍ قاسٍ، وبعد أسبوعين مات بابلو نيرودا. بتوافُقٍ زمنيٍّ مؤلمٍ، كان كلٌّ من الحُرّيّة والشِّعر ينْطفئان، هذه استعارةٌ لمْ أخترعها، لكن التّاريخ قدِّمها إليّ، وقرَّرتُ الإمْساك بتلابيبها. تلك الرّواية تنتهي بصُحفيٍّ يعْرِضُ السُّكَّر على الرّاوي لكي يضعه في قهوته، لكنَّ الأخير غطَّى فنجانه بينما يقول: «لا، شكراً، أشربها مُرَّةً».

كان هذا هو المَذاقُ الذي ظلَّ في فَمي خلال وقتٍ طويلٍ، تحديداً حتّى يومٍ ما في برلين، عندما عرفتُ أوَّل الشُّخوص التي أوْحَتْ لي بـ«لمْ يحدثْ أيُّ شيءٍ»، قدَّمه إليَّ ابْني المُراهق، بينما كان يضرب أوتار «باص غيتار» دون رحمةٍ بين الحيطان الرَّقيقة لمَسْكَني القديم في برلين. قال ابني هذه الكلمات: «هذا يُحبُّ الأدبَ أكثر من الموسيقا». تحت رَعْد النَّغمات الجشَّاوات «زوم-زوم» للآلة الموسيقيّة، سألته عن قراءاته المُفضّلة، وأجابني:

- أحبُّ الكتابة أكثر من حُبّي للقراءة.

- حسنٌ. وكيف يستقيمُ أحدُ الأمرين من دون الآخر؟

- في الحقيقة، أخْشى التّأثُّر بأسلوبٍ آخرَ إنْ قرأتُ.

- وكيف هو أسلوبك؟

- كيفما اتَّفق.

هذا التَّعبيرُ التشيليُّ الأصيلُ يعني «من دون تدبيرٍ، أو تفكيرٍ». من المعروف أنَّ المُراهقين يقيسون قِيَمَ العالم بِعَصا العفويّة، واعتزازهم بالذّات لا يقلُّ عن عدد بثور حَبِّ الشَّباب. قمتُ بعد ذلك بتنظيم وُرَشٍ أدبيّةٍ للشّباب، والتقيتُ أحياناً بزعماءَ مُندفعين إلى درجة الهمجيّة، مُقتنعين بأنَّ الثّقافة ضارّةٌ بالأصالة والتّفرُّد، وفي بعض الأحيان نجحتُ في مُساجلاتي معهم، وجعلتهم يَرون أنَّ العفويّة من دون تعقيدٍ كانت مُرشّحةً أكيدةً لأنْ تصبح شيئاً عاديّاً، كما أنَّ التّلقائيّة من دون سُخريةٍ كانت كتناوُل كأسِ «دراي مانهاتن» من دون حبّة الزَّيتون.

عرفتُ أنَّ هذا الفتى جاء إلى البيت لكي ينظّم مع ابني أمسيةً لموسيقا الرُّوك لصالح المقاومة التشيليّة، وهذا يعني أنَّ التَّنظيم كان مهمّتنا نحن الآباء، الذين كنّا نسهر الّليل أمام ماكينات الطِّباعة اليدويّة بينما ننْسخُ منشوراتٍ تُنْبئ بالنِّهاية الوشيكة للدّيكتاتوريّة، وكانت الموسيقا هي مُساهمة الشَّباب، وبالمناسبة كانوا يعزفون مقطوعاتِ فريقَيْ: «لد زبلين» و«إلكتريك لايت أوركسترا» الإنجليزيّين أفضل من عزْفهم لأعمال فريقَيْ: «كيلابايون» وفريق «إنتي- إيلاماني[1]» التشيليّيْن. كان الفتى قد أتى بـ«قصيدةٍ» كمساهمةٍ في «يوم النِّضال والرُّوك»، على أمل أنْ يقوم ابْني وفرقته الهاوية بوَضْع الموسيقا لها وغنائها. كانت الورقة التي تحمل النَّصَّ ترتعشُ في يَده؛ لأنَّ ابْني، الذي كان يعشق العُنْفَ الّلفظيَّ لجيم موريسون، رفضها قبْل قليلٍ بتعبيرٍ قاسٍ: «إنّها تحذلقٌ خفيفٌ soft».

عندما رأيتهُ على هذه الحال من الخذلان دعوته إلى مكتبي، قدَّمتُ له قهوةً ألمانيّةً، وهو منقوعٌ بلا قُدرةٍ على التّنبيه، وطلبتُ إليه أنْ يُطْلعني على النَّصّ المرفوض، وبضْعةِ نصوصٍ أُخرى كان يَحْميها في حافظةٍ تَحمل بوستراً مُلصقاً لوَجْه إلفيس كوستيلو داخل عدستين سميكتين للغاية. يمكنني ذِكْرُ «الحَذْلقة الخفيفة»؛ لأنّني احتفظتُ بها مع المواد التي نسجتُ منها روايتي « لمْ يحدثْ أيّ شيء». كانت تقول:

«ألْقِ شَعرك إلى الخلْفِ بيَدِك

ألْقِ شَعرك إلى الخلْفِ بيَدِك ببُطْءٍ

ألْقِ شَعرك إلى الخلْفِ بيَدِك ببُطْءٍ مرّةً أُخرى

ألْقِ شَعرك إلى الخلْف بيَدِك ببُطْءٍ مرّةً أُخرى وأُخرى

ألْقِ شَعرك إلى الخلْف بيَدِك ببُطْءٍ مرّةً أُخرى وأُخرى بلا توقُّفٍ»

وضعتُ له ملعقة سُكَّرٍ أُخرى في القهوة؛ لكي يتحسَّن مَذاقها، واسْتلقيتُ إلى الخلْف على الأريكة بيدين منعقدتين خلْفَ ظهري.

- إنَّها تكراريّةٌ للغاية، ألا ترى هذا؟

- لا يا رجُل، أكثر من كونها تكراريّةً، إنَّها إيقاعيّةٌ وهَوسيّةٌ.

مالَ بعُنقهِ، وظلَّ ينظرُ إليَّ مثل الطُّيور المذهولة في الغابات الّليليّة.

- «إيقاعيّةٌ وهَوسيّةٌ». كرّرَ.

فركَ يَديه كأنّه تلقّى هديّةً لا تُقدَّر في الحال. بَدا أنَّ اكتئابه المُحْتَمل قدْ تبخَّر.

- «تكراريّةٌ، وإيقاعيّةٌ، وهَوَسيّةٌ». قلتُ مُقفّياً.

- «تكراريّةٌ، وإيقاعيّةٌ، وهَوسيّةٌ، وحاسمةٌ». قال بينما يدقُّ على رُكبتيه.

نهضَ بذلك الانْدفاع الشَّبابيّ؛ حيث يبدو أنَّ العِظامَ جمهوريّاتٌ «مُستقلّةٌ» عن المَفاصل.

- هل تعتقدُ يا عمّ أنَّ ما قرأتَ يُعدُّ شِعراً؟

يجب أنْ أنبّه إلى أنَّ استعمال لَفْظة «عمّ» لمُخاطبة والد أحدِ الأصدقاء كانت موضةً ذائعةً للغاية في ذلك الوقت. أتوقّف عند هذا المُصطلح؛ لأنّني كنت ضحيّته في مرّاتٍ كثيرةٍ عندما اقتربتُ بنيّاتٍ مُلتبسةٍ من بَنات بعض أبْناء بلدي، وعندما أطْلقوه عليَّ ألْقوا بي في أسْمى منزلةٍ للسُّخرية، وفي أكثر درجات التّثبيط تحفيزاً.

- هل يمكن ألّا تُخاطبني بـ «عمّ»؟

- لماذا؟

- «لأنَّه تَحذلقٌ». قلت له مُنتقماً.

- والنَّصُّ أيضاً، أليس كذلك؟

- النَّصُّ جيّدٌ. ما الذي ألْهمك لِتكتبه؟

- كنتُ جالساً في مقهى، وكانت هناك فتاةٌ تقرأ كتاباً في المائدة المواجهة. من حينٍ إلى آخَر، كانت تُلقي شَعرها إلى الخلْف من دون التّوقُّف عن القراءة، وهذا أثار مشاعري.

- أثار مشاعرك!

- شعرتُ بأنّني أعْشقها.

أتذكّرُ أنّه كان مساءً ربيعيّاً في برلين؛ كانت الشَّمسُ سخيّة السُّطوع، والنَّسيمُ الذي يدخل عبْر النّافذة لطيفاً. لمْ يخْطُرْ في بالي كتابة قصيدةٍ بناءً على خبرةٍ شبيهةٍ بتلك، أو بأسلوب ذلك الفتى التشيليّ، لكنّني كنت أفْهم مشاعره تماماً، فقد انقطعت أنفاسي مئات المرّات في حضور نساءٍ بأعينهنّ، بالإضافة إلى مُتعة رؤيتهنّ متألّقاتٍ، ومُثيراتٍ، ونائياتٍ، كان شعورٌ بالجَمال يُسيطر عليَ، ولا إراديّاً كان يحملني إلى «تأثُّرٍ شعوريٍّ» يسبّب لي ألماً. على نحوٍ ما بَدا لي أمراً مُثيراً للارتياح أنْ يشعر فتىً مُراهقٌ بعاطفةٍ شبيهةٍ بعاطفتي. في الحقيقة، كنت قد بدأت أعتقد أنّها من آثار تقدُّم العُمر.

كانت هذه هي الّلحظة المُحدّدة التي تواصلت فيها روحي بحكاية «لمْ يحدث أيُّ شيءٍ». كان ناشري قد اقترح عليّ كتابة حكايةٍ حَوْل المَنْفى، وهو موضوعٌ يلْمس الكثير من الشُّعوب بسبب مُهاجريهم، وكان يوهن أيضاً الكثير من البلدان التي كان عليها أنْ تستقبلهم من دون أنْ تعرف عقليّاتهم، أو ثقافتهم، أو عاداتهم، أو تطلّعاتهم. كان هناك أمْران يُبْعدانني حتّى ذلك الحين عن القيام بهذا العمل: أحدُهما أنّني كنت قد فكّرتُ وخطّطتُ لكتابة «ساعي بريد نيرودا»، الحكاية التي لمْ يتبقّ لها سوى بِضْعة جراماتٍ قليلةٍ لكي تصبح كتابتها غير قابلةٍ للتّأجيل، والأمرُ الآخَرُ هو الانْطباعُ بالغُ الحُزْن والكآبة الذي كان نفْي أبناء بلدي ونفيي أنا ذاتي يسبّبه لي. لمْ أكنْ راغباً في تلك الّلحظة في كتابة أيّ شيءٍ يعرّضني لهزيمةٍ مزدوجةٍ؛ البُعْد عن بلدي، وغرق كتابتي في اليأس، لكنّ زيارة ذلك الفتى بنصّه «التّكراريّ الإيقاعيّ الهَوسيّ الحاسم» ألْهمَني بشيءٍ مُلِحّ.

كان يجبُ أنْ أحْكي خبرة المنْفى، لكنْ ليس من وجهة نظر الضَّحايا المباشرة؛ أيْ: الآباء الواعين المُؤدلجين، إنّما من وجهة الأبناء، الذين كانوا مُحاطين بقِيَم البَلد الأمّ في أثناء وجودهم وسْط العائلة، وفي البيت، لكنّهم كانوا مُضطّرين لاتِّباع قانون البقاء في زَخم الشّوارع الغريبة. لمْ يكن الحنين، أو الذّكرى، أو الفَجر بعيد الاحتمال، الذي تُعدّ به أغاني الاحْتجاج بعد سقوط الدّيكتاتور يفيدهم كجواز سَفر في تلك المتاهات الممتلئة بالأشواق.

منذ ذلك اليوم، كلّما زُرتُ أصدقائي كنت أنْبش قليلاً في حيوات أبنائهم، وكنت أفتّش في أسطواناتهم، وكتبهم، ومجلّاتهم، وكنت أنْبهر بالمُلصقات الرّياضيّة والسّينمائيّة على الجُدران، وكنت أسْمح لزميلاتهم في المدرسة الثّانويّة أنْ يصحّحوا لي نُطقي الرّديء بالألمانيّة، ولمْ أكنْ أُضيّع فرصة اسْتفزازهم؛ لكي يحكوا لي عن صراعاتهم مع العجائز؛ أي: آبائهم، وعن مشكلاتهم في الشّارع، وفي المدرسة، وألوان الشَّعر والجِلْد، وخصوصاً كيف كانوا يُصفّون حساباتهم مع بلدهم الأمّ، الذي كان يبتعد كلّ يومٍ باطّرادٍ، ويتركَّز في أربعة، أو خمسة رموز فقط: القصر الرّئاسيّ الذي تلتهمه النّيران بعدما قصفه الانقلابيّون، وصورة لألليندي، وأسطوانات كيلابايون، والعَلَم ثلاثيّ الألوان ذو النَّجمة الوحيدة، والزَّميل الذي وصل من «الدّاخل»، الذي يجب أنْ يقدّموا له فراشاً خلال بضْعة أيّامٍ.

بعد بضْعة أسابيع كان حُكْمي قد صَدر. أبناؤنا يسبَحون بسلاسةٍ في اتّجاهين: كانوا يَقْبلون تحدّيات الوسَط الجديد، وفي الوقت ذاته لمْ ينْفصلوا عن عالَم آبائهم.

بالنّسبة للموضوع الأوّل، كانوا مدفوعين بالرَّغبة، وحَماس السّنّ، وإيقاع الموسيقا، وانْبساطات وانقباضات قلوبهم، التي لمْ تكن تعرف حدوداً، لكنّهم كانوا يعرفون كيف يتصرّفون برقّةٍ أمام آبائهم. أحياناً، بمهارتهم في الّلغة، كانوا يقومون بدور مُترجميهم في السِّجالات والخِطابات. كانوا يقولون «سننتصر»، على الرغم من شُكوك قلوبهم. كانوا يأكلون المخبوزات وشطائر الذُّرة، ويقبلون أنّ سلسلة جبال بلادنا هي الأعلى، وأنّ نبيذنا هو الأكثر قوّةً، وأنَّ أفكارنا السّياسيّة هي الأعْدل، وأن شهداءنا هُم الأكثر خلوداً.

لكنْ في لحظةٍ ما في الحياة، علَّموني شيئاً أطلقت عليه ذات يوم «سخريةً ديمقراطيةً»؛ أي إنّهم كانوا على اسْتعدادٍ للسُّخرية من عناد النّاس كلّهم، لكنْ كانوا يَسخرون من أنفسهم في المقام الأوّل. عرفتُ أصدقاء كثيرين للشّاعر «التّكراريّ»، حاورتهم بينما أحْمل جهاز تسجيلٍ في يدي، تحدّثتُ إلى رفيقاتهم، ذهبتُ إلى مباريات كرة القدم التي يلعبونها على ملاعب تيرجارتن، نسيتُ دوري كمراقبٍ، ودخلتُ أرضَ الملعب ذات مرّةٍ مُطالباً بضربة جَزاءٍ لصالح ابني الذي كان متمدّداً ومحطّماً في منطقة السِّت ياردات بسبب دبّابة «بانثر» ذات عينين خضراوين، وكتفين جديرين بلاعبٍ رجبيّ. رأيتهم يبكون في أحضان أمّهاتهم أحياناً، وفي أحيانٍ أُخرى كنت حاضراً عندما كانوا يواسونهنّ بعناقاتٍ، وأغانٍ، ووعودٍ، أو كذباتٍ بيضاء.

وفي يومٍ خريفيٍّ تركتُ جانباً ملحوظاتي كلّها، وشرائط التّسجيل، وصمتي، وتركتُ الشّخصيّة التي تُدعى «لمْ يحدثْ أيّ شيءٍ» تحكي حكايتها بالتَّفصيل.

 

هوامش

*«لمْ يحدثْ أيّ شيءٍ» هو عنوان رواية الكاتب التشيلي: أنطونيو سكارميتا والنص المنشور هو مقدمة الرواية، وقد عمدت "الكلمة" إلى نشر المقدمة ضمن باب سرد باعتبارها نص سردي رفيع المستوى يمكن قراءته على استقلال، وسوف تصدر الرواية قريبًا عن دار ممدوح عدوان بترجمة المترجم المصري عبد السلام باشا

* صدرت الرواية باللغة الإسبانية 1980

 

 

[1] فريق Quilapayún وفريق Inti-Illimani، فريقان موسيقيان تشيلييان تأسسا في منتصف الستينيات، وشكَّلا جزءاً مما يُطلق عليه «الأغنية التشيلية الجديدة». كانا يدمجان الموسيقى الفولكلورية التشيلية بالموسيقى الحديثة، واشتهرا بالأغاني الاحتجاجية أيضاً.