يسلط هذا الكتاب الضوء على مسار “النظرية النقدية”، مؤكدا على تراجع النقد الذي كان في البداية لا ينفصل عن مشروع تحويل اجتماعي ثوري صرف، تراجعا تدريجيّا حتى بات مدجّنا. وفي رأي الكاتب أن تحليل هذا التحول يسمح بتنقية شروط إعادة بناء مشروع تحرري لهذه المرحلة.

ماذا يبقى من النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت؟

أبو بكـر العـيادي

 

النظرية النقدية، التي ظهرت وتطورت في مدرسة فرانكفورت ما بين الثلاثينات والستينات، كانت أثرى محاولة لنقد المجتمع الرأسمالي المعاصر وتقديم رؤية جديدة تنأى عن النقد الماركسي الكلاسيكي للمجتمع البورجوازي. ورغم تعاقب أجيال ثلاثة على تنشيطها وإثراء أطروحاتها برؤى متجددة، ظلت تُقابَل بالنقد حتى من أنصارها، على غرار اليوناني ستاتيس كوفيلاكيس، أستاذ النظرية السياسية في كلية الملك بلندن، في كتابه الجديد "النقد المهزوم – بروز وتدجين النظرية النقدية".

مدرسة فرانكفورت هو الاسم الذي اختارته مجموعة صغيرة من المفكرين الماركسيين بعد نهاية الحرب العالمة الثانية بدل معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس في هذه المدينة عام 1923، وصار منذ مطلع الخمسينات عنوانا لحركة فكرية وضعت أسس الفلسفة الاجتماعية أو ما عرف بالنظرية النقدية، التي استوحت من الماركسية ومن فلسفة الأنوار فكرة أساسية قوامها أن الفلسفة ينبغي أن تُستخدم كنقد اجتماعي للرأسمالية وليس كتسويغ وتشريع للنظام القائم.

وكان من أعضائها ماكس هوركهايمر (1895 – 1937) أول من ترأس المعهد، وزميله تيودور أدورنو (1903 – 1969) وإريك فروم (1900 – 1980) أحد مؤسسي الفرويدية الماركسية، وفالتر بنيامين (1892 – 1940) الموزع بين معتقداته العبرانية وماركسية جورج لوكاتش.

هزيمة النقد

قام مشروع المعهد على تضافر حقول المعرفة، والجمع بين الفلسفة والعلوم الاجتماعية وفق منظور نقدي ينأى عن الماركسية الأرثودوكسية التي تمثلها اللينينية والاتحاد السوفييتي والعالمية الشيوعية أو العالمية الثالثة التي خلَفت العالمية العمّالية، والماركسية التعديلية أي الديمقراطية الاجتماعية التي نظّر لها إدوارد برنشتاين (1850 – 1932).

غير أن صعود النازية ثم وصول هتلر إلى الحكم أرغما المجموعة على غلق أبواب المعهد، فلاذ بعض أعضائها مثل هوركهايمر وماركوزه وأدورنو بالمنافي، وواصلوا نشاطهم ضمن معهد نيويورك للبحث الاجتماعي. ولم يفتح المعهد أبوابه من جديد إلّا في مطلع الخمسينات، وهي الفترة الخصبة التي ظهرت خلالها أهم النصوص حول مجتمع الاستهلاك، مثل “جدلية التنوير” لأدورنو وهوركهايمر، و”إيروس والحضارة” لماركوزه، قبل أن يخلف أدورنو زميلَه هوركهايمر على رأس المعهد. وبذلك دخلت مدرسة فرانكفورت مرحلة شهدت قدوم جيل جديد من المفكرين مثل يورغن هابرماس، وتلميذه أكسيل هونّيت، صاحب نظرية الاعتراف والمدير الحالي للمعهد، وهارتموت روزا صاحب نظرية التسارع.

فأين كل تلك التطورات من النظرية النقدية؟ سؤال يطرحه الباحث اليوناني ستاتيس كوفيلاكيس، عضو اللجنة المركزية لائتلاف اليسار الراديكالي “سيريزا” وأستاذ النظرية السياسية في كلية الملك بلندن، في كتابه الجديد “النقد المهزوم – بروز وتدجين النظرية النقدية” من بين أسئلة أخرى.

وهو إذ يسلط الضوء على مسار “النظرية النقدية”، فإنما ليؤكد على تراجع النقد، الذي كان في البداية لا ينفصل عن مشروع تحويل اجتماعي ثوري صرف، تراجعا تدريجيّا حتى بات مدجّنا.

وفي رأيه أن تحليل هذا التحول يسمح بتنقية شروط إعادة بناء مشروع تحرري لهذه المرحلة. ولتبيان فكرته، عمد إلى جينيالوجيا هذا التيار الفكري الذي لا يزال قائما، مركزا تحليله على ثلاثة أعلام يمثلون الأجيال المتعاقبة في مدرسة فرانكفورت، وهم ماكس هوركهايمر، ويورغن هابرماس، وأكسيل هونّيت، ليبين أن هذه النظرية، التي جاءت ردًّا على الهزيمة التاريخية التي مني بها اليسار أمام النازية، تشظت من الداخل، فقد قطع هوركهايمر، حين واجه عزلةَ المنفى وتفتُّتَ الجبهات المناهضة للفاشية، مع المادية التاريخية ونَحا إلى فلسفة سلبية للتاريخ.

ولئن كان المرور إلى الأجيال اللاحقة قد فتح الباب أمام التجديد، فإنه كان عبارة عن أقلمة النظرية مع الوضع القائم، فالنقد عند هابرماس يهدف إلى توسيع فضاء عامّ تَنظُمه قواعد العقل، متجاهلا تناقضات العلاقات الاجتماعية. أما عند هونّيت فقد صار النقد علاجا للأدواء الاجتماعية غايته إصلاح عالم وقع التخلّي عن تحويله. أي أن النظرية النقدية على مرّ الأجيال أدارت ظهرها لتحليل طاقة النكوص المرتبطة بالحداثة الرأسمالية. وفي اعتقاد كوفيلاكيس أن الحاضر يرغمنا على ربط الصلة بالمشروع الأصلي.

والكتاب في جملته ردّ على سؤال استنكاري قاله مدير مدرسة فرانكفورت الحالي وممثل الجيل الثالث أكسيل هونّيت “ماذا يوجد في رؤوس هؤلاء الذين لا يزالون يتحدثون عن الثورة؟” جسّده بعملية تفكيك واسعة لمسيرة مدرسة فرانكفورت، سعى فيها لاستحضار الطموح الثوري الذي كان يجمح في البداية بهذا المشروع النظري، فهو من ناحية يريد فهم التخلي التدريجي لمشروع صياغة نقدٍ راديكالي للمجتمعات الرأسمالية في إطار مدرسة فرانكفورت، ومن ناحية أخرى يدعو إلى التفكير في شروط إحياء المشروع الأصلي. ومن خلال التمفصل بين تاريخ الأفكار والاشتغال على المفاهيم يريد المؤلف أن يثبت راهنيّة نظرية ارتبطت بمشروع التحرر الاجتماعي.

ولكي يبين كوفيلاكيس كيف أن البنى النظرية كانت إجابات عن وضعيات تاريخية محددة، يضع مختلف النصوص الفلسفية في علاقتها بالأحداث التاريخية التي عاصرت كتابتها، ويُحلّ الأفكار المنتجة والجدل النظري لمفكري المدرسة محلّها من التاريخ دعمًا لأقواله.

وكان من حرصه على الخطية الزمنية أنه أدرج الخط البياني المنحدر الذي يمثل في نظره مسار تراجع النظرية النقدية، ليبين المراحل التي مرت بها وصولا إلى انهزامها وتدجينها. هزيمة بدأت بشرح المشروع الأصلي، الذي حُدّد بكونه مادية راهنة ترمي إلى تصور التحرر في واقع اجتماعي سياسي غير مسبوق ألا وهو انتصار النازية في ألمانيا، فقد طرحت هذه الظاهرة التاريخية فعلا صعوبات عملية ونظرية على مفكري فرانكفورت، إذ أثبتت فشل مسلّمات ماركسية كثيرة وفرضت إعادة النظر في المفاهيم التي كانت تشكل حتى تلك اللحظة أسس النقد. ما يعني أن النظرية النقدية نشأت من قطيعة مع الإطار الماركسي الكلاسيكي، وتاقت إلى تجديد مشروع تحرّر انطلاقا من أخطاء ماركس.

جيلا بعد جيل شروط تحديث النظرية النقدية

هذا الطرح الذي تمّ نسج خيوطه إبان الاتفاق الألماني السوفييتي لعام 1939، انضم إليه هوركهايمر معلنا بذلك التخلي عن جوانب من التحليل الماركسي، ولاسيما أن قانون انهيار الرأسمالية أبطلته قدرةُ النظام على تجاوز الأزمات بفضل التخطيط الاقتصادي. أضف إلى ذلك أن علاقات الهيمنة لم تعد محصورة في مجال الإنتاج وحده، بل غزت كل أبعاد الحياة الإنسانية. ومن ثَمّ، يستخلص المؤلف أن مشروع النظرية النقدية وقع التخلي عنه، ولم يبق أمام هوركهايمر إلّا أن يبحث عن مَنشأ هذه الهيمنة الشاملة، التي يعزوها إلى انشطار بدئي للعقل ولّد “عقلا وسائليّا”، ويرى أن المقاومة الوحيدة الممكنة مستقبلا تكمن في تأكيد الفرد نفسَه بوصفه ذاتًا، اعتمادا على قوة إرادته الحرة. ما يعني أن البراكسيس الثوري الماركسي أصبح لاغيا، وأن هوركهايمر كان الدافع إلى مشروع النظرية النقدية والمسؤول الأول عن تصفيتها.

بعده، حاول هابرماس ثم هونّيت، كلّ على طريقته، إعادة تشكيل النظرية النقدية، ولكنهما في الواقع واصلا ما بدأه هوركهايمر، فبعد الحرب ومعاداة ألمانيا الفيدرالية للشيوعية بشكل حادّ، ساد التخوف من الشعب الذي تمثل نزوعاته اللاعقلانية خطرا على الديمقراطية، التي تستند إلى قانون جوهري (الدستور)، قام على مبادئ الأوردوليبرالية التي تتميز عن الليبرالية الكلاسيكية بالدور النشيط الموكول للدولة في وضع شروط التنافس.

في بلد كان يسعى إلى طيّ صفحة النازية والعودة إلى طبيعة سلمية، اكتسى هابرماس إهاب المثقف الرسمي، فمشروع النظرية النقدية الذي صاغه جعل اللغة عامل تحرر، مؤكدا على أن استعمال الأفراد قدرتهم على الحكم بصفة عقلانية هو الذي سيمنحهم استقلالا ذاتيّا، مثلما جعل الفضاء العامّ، موطن نشاطهم، مجالا مميّزا للعلاقات الاجتماعية يفترض أن يكون فيه الأفراد متساوين.

وهذا الطرح يضع تلك العلاقات في منأى عن السلطة. ما يجعل “نظرية الفعل التواصلي” لديه عملا إجرائيّا يفترض “إيتيقا النقاش” ويستحضر مثالية التحرير لدى مفكري الأنوار. والخلل هنا أنه يقحم اعتبارات اقتصادية وبيروقراطية في المجال العامّ، ما يجعل الاعتراض المبدئي لمنظّري الجيل الأول على نمط الإنتاج الرأسمالي لاغيا.

على خطى هابرماس، عمل أكسيل هونّيت على إعادة صياغة النظرية من منظور الصراع لأجل الاعتراف بوصفه محركَ التاريخ، وبذلك تراجع الصراع الطبقي أمام نزاع ذي نزعة أخلاقية لا يحتاج فضُّه إلى تحويل العلاقات الاجتماعية، بل يحتاج إلى سعي الأفراد للاندماج في النظام الاجتماعي القائم. والباتولوجيا الاجتماعية، التي يوليها هونّيت أهمية مستجدة، هي في نظره من آثار دخول الرأسمالية إلى مرحلتها النيوليبرالية. بيد أن أنماط الفعل المقترحة هي أقرب إلى حمية علاجية، كما يقول كوفيلاكيس، تساهم في تكريس النظام الاجتماعي.

أي أن النظرية النقدية تخلت جيلا بعد جيل عن طاقتها التحريرية، وأهملت تدريجيا المرجعيات الماركسية بمنحها “النقد” معنى ما انفك يضيق وينحسر، فكانت الهزيمة تتدنى بموازاة تطورات الظروف. بيد أن احتدام الحركات الاجتماعية في الظرف الحالي وتوق المجتمعات إلى التحرر والانعتاق يستدعيان بإلحاح إعادة الاعتبار لنقد راديكالي. ولذلك يعتقد كوفيلاكيس أن الوقت حان كي ننهض بالنظرية النقدية لنضعها على قدميها.

يبدو أنه من الصعب إقامة الدليل على صواب العودة إلى تلك السبل البديلة عن المادية التاريخية دون تحديد إلى أي نوع من البحث سوف تفضي هذه الأطر النظرية الكفيلة بتجديد تحليل الحتميات الاقتصادية والثقافية لمسارات التذيُّت (التحوّل نحو الذاتية أو نحو المزيد منها). هذه المسألة تفرض نفسها خصوصا أن ثمة قطعا حدث مؤخرا في فرانكفورت مع ما يسميه المؤلف “النظرية النقدية المدجّنة” انطلاقا من تقليد نظري غريب عن نقد الاقتصاد السياسي. وفي إطار هذه الأشغال يرى أهل الاختصاص أن من واجب نقد الأمثَلةِ الفلسفية للحداثة أن تتم وفق بحوث جينيالوجية في هيئات تكوين الذاتيات، ما يعني أن الجدل حول شروط إعادة الروح إلى النظرية النقدية للمجتمع لا يزال في بدايته.

 

جريدة العرب