تشكل السرد في «الأمير الصغير» بضمير المتكلم، مصحوبًا برسومات بسيطة، وكأنها فعلًا قصة من قصص الأطفال. ويعزز الأسلوب البسيط، وبعض الحكم والأقوال المأثورة الصريحة، وحضور الجانب غير الواقعي والعجائبي في الحكاية، الانطباع بأنها قصة مرحة، لكنها رغم ذلك ليست مجرد حكاية تهدف إلى تسلية القارئ. إذ فضلًا عن الجوانب التعليمية، وحتى الأخلاقية الواضحة، فإن الرمزية تطغى على كل شيء.

«الأمير الصغير»: 75 عامًا من النجاح المذهل

نجــيب مبارك

 

منذ أن نُشرت لأول مرة عام 1943، في الولايات المتحدة، ثم رسميًا في 6 نيسان/ أبريل 1946، في باريس، حققت رواية "الأمير الصغير"، للكاتب الفرنسي، أنطوان دو سانت إكزوبيري، نجاحًا هائلًا ومنقطع النظير، إذ سحرت أجيالًا متتالية من القراء، سواء كانوا من الأطفال، أو البالغين، ليس في فرنسا وحسب، ولكن في كل أنحاء العالم. ولأخذ صورة عن هذا النجاح المذهل، يكفي أن نعرف أن "الأمير الصغير" يعدُّ الكتاب الأكثر ترجمة في العالم، بعد الإنجيل والقرآن، وتتوفر منه 456 نسخة رسمية في أغلب اللغات العالمية، واللهجات المحلية، كما أنه الكتاب الفرنسي الأكثر مبيعًا إلى اليوم، بأزيد من 200 مليون نسخة، وهذا رقم تقريبي فقط، لأن الكتاب يبيع خمسة ملايين جديدة كل عام.

إحياء ذكرى "الأمير الصغير"
يُحتفى هذه الأيام بالذكرى 75 لصدور "الأمير الصغير". ويعرف الجميع ملخص هذه الحكاية، وهي أن طيارًا سقطت طائرته في الصحراء، بعد أن أصاب محركها خلل ميكانيكي، وهذا الطيار في الحقيقة ليس سوى القرين الأدبي للكاتب، يلتقي بطفل غامض يعيش بمفرده على كوكب بعيد، وتجمعهما صداقة تتطور عبر فصول الكتاب. لكن المثير أن ما اعتقده البعض مجرد حكاية موجهة للأطفال سرعان ما صارت حكاية شعرية وفلسفية ذات أبعاد إنسانية وبيئية عميقة. يقول توماس ريفيير، الوريث، ابن شقيق أنطوان دو سانت إكزوبيري، بارتياح: "لا يزال "الأمير الصغير" أحد الكتب المفضلة لدى الناطقين بالفرنسية. إذ تباع منه كل عام خمسة ملايين نسخة، ما يجعل اللغة الفرنسية تتألق في جميع أنحاء العالم".
وبهذه المناسبة، تم الإعلان في فرنسا عن عدد من المبادرات والفعاليات التكريمية. من بينها ما أقدمت عليه مؤسسة "عملة باريس"، حين سكَّت عملة جديدة محفورة يدويًا، في إصدار محدود، لفائدة هواة جمع الميداليات والعملات المعدنية من الذهب والفضة، ولمحبي شخصية الأمير الصغير.

وفي هذا الإطار، يؤكد جوليان سابوريه، رئيس المجموعات في "عملة باريس"، "أن "الأمير الصغير" هو موضوع مفضل لصانعي العملات في فرنسا، وأيضًا في الخارج، كما هي الحال في اليابان". ويوضح قائلًا: "سيتمكن الهواة من استخدام هذه العملات لقيمتها الاسمية، أو الاحتفاظ بها ضمن مجموعاتهم الثمينة". وقد رسمت على بعض هذه العملات صورة الطفل وثعلبه الحكيم، هذا الثعلب "غير المرئي أساسًا" لكنه يُرى بالقلب، وهو يلعب دورًا محوريًا في تنشئة الصبي الصغير أثناء إقامته على الأرض، وقد استلهمه إكزوبيري بالفعل من ثعلب حقيقي. ففي عام 1926، كان الكاتب الطيار يقوم بإيصال البريد على متن طائرته من فرنسا إلى مدينة طرفاية الساحلية جنوبي المغرب (كانت تسمى حينها "كاب جوبي")، وهناك أقام لوحده فترة وسط الصحراء، وفي كثير من الأحيان كان يتسلى بملاعبة وترويض ثعلب صغير بالقرب منه. لهذا حين فكر في كتابة شخصية الثعلب في "الأمير الصغير" استلهم هذه التجربة.
من جهة أخرى، أصدرت مؤسسة البريد الفرنسية في 12 نيسان/ أبريل الجاري طابعًا رسميًا في 720 ألف نسخة، يصور الأمير الصغير وهو يزرع بذرة على كويكب. لقد كان لأنطوان دو سانت إكزوبيري ارتباط خاص بالخدمات البريدية. فقد كان رائدًا من رواد البريد الجوي في رحلاته الأولى، كما كان رئيس محطة، ومدير استكشاف جوي، لكنه أيضًا كان طيارًا محترفًا في شركة طيران. وفي رحلاته الجوية البعيدة، حمل صناديق البريد مرارًا إلى أميركا الجنوبية، وهو ما كتب عنه لاحقًا رواية جميلة بعنوان "طيران ليلي".

لهذا، فإن هذه الطوابع البريدية الجديدة، الخاصة بالأمير الصغير، سيتاح لها أن تسافر حول العالم بالطريقة نفسها. كما ستُعرض، أيضًا، للمرة الأولى، إحدى المخطوطات الأصلية للكتاب، ومعها ملاحظات غير منشورة، ورسومات بقلم الرصاص والألوان المائية بيد المؤلف، في متحف الفنون الزخرفية (MAD) في باريس. وحسب المنسقة المسؤولة عن المعرض، "سيعرض أكثر من 500 عمل متعلق بالأمير الصغير لإحياء ذكرى أنطوان دو سانت إكزوبيري، ليستمتع الزوار برحلة إلى عالم الأمير الصغير".

حكاية رمزية وفلسفية
يمكن اعتبار حكاية "الأمير الصغير" بمثابة الوصية الأدبية لسانت إكزوبيري. فهي إلى حد ما الصورة الذاتية المركّزة لروح المؤلف، ونظرته للعالم. كتبها حين كان يعيش في المنفى في نيويورك، متأثرًا بالوضع السياسي المؤلم في أوروبا. إذ كانت الحرب العالمية الثانية قد دخلت منعطفا خطيرًا، مع احتلال القوات الألمانية لفرنسا عام 1942. ناهيك عن أنه شخصيًا كان يعاني من مشاكل صحية، وشعورًا بالغربة ظل يطارده لفترة طويلة. وبعد أكثر من ثلاث سنوات على إقامته في المنفى في نيويورك، نشر "الأمير الصغير" في فرسا يوم 6 نيسان/ أبريل 1946. يقال إن فكرة "ألأمير الصغير" تولدت من تجربة شخصية واجه خلالها الكاتب موتًا حقيقيًا. فقد اضطر سانت إكزوبيري إلى الهبوط اضطراريًا في الصحراء الكبرى عام 1935. ومرت عليه أيام عدة قبل أن ينقذه البدو. وخلال هذه التجربة، كان يشعر أنه "أشد عزلة من غريق على متن طوف في عرض المحيط"، كما يصف نفسه في الصفحات الأولى من "الأمير الصغير"، قبل أن يسمع فجأة صوتًا خافتًا يخاطبه: "ارسم لي خروفًا من فضلك!".

جاء السرد في "الأمير الصغير" بضمير المتكلم، مصحوبًا برسومات بسيطة، وكأنها فعلًا قصة من قصص الأطفال. ويعزز الأسلوب البسيط، وبعض الحكم والأقوال المأثورة الصريحة، وحضور الجانب غير الواقعي والعجائبي في الحكاية، الانطباع بأنها قصة مرحة أقرب ما تكون إلى ذلك النوع الشائع في الأدب الأنجلوساكسوني الساخر. لكن، رغم ذلك، فـ"الأمير الصغير" ليست مجرد حكاية تهدف إلى تسلية القارئ. إذ فضلًا عن الجوانب التعليمية، وحتى الأخلاقية الواضحة، فإن الرمزية تطغى على كل شيء: الخروف المرسوم بشغف تدب فيه الحياة، شجرة الباوباب التي تمثل القوة العمياء تتناقض مع الزهرة الهشة والبريئة، بينما ينسج الثعلب صداقة حقيقية مع الأمير الصغير، وهذا الأخير بدوره يرتبط بصداقة مع الطيار التائه. كل هذا يجعل منها دعوة للتأمل الذاتي وسط صحراء قاحلة، وكأن المشاعر الحقيقية تولد من جديد: تلك المشاعر التي يستطيع القلب وحده إدراكها، بعيدًا عن لغة المجتمع الخادعة.

هي، أيضًا، حكاية غامضة إلى حد ما، تتأمَّل قبل كل شيء في ثراء العالم الداخلي، وبشكل مفارق، في العلاقات مع الآخرين التي تدعو إلى التذمّر وتحرّض على العزلة: فيها نكتشف الحب والصداقة، التعلق والمعاناة التي يمكن أن يسبّبها الانفصال، باعتبارها مراحل قاسية وحتمية في حياة الإنسان العاطفية. كما يبدو فيها العالم من منظور الطفولة لغزًا، وغالبًا ما يكون لغزًا دراميًا. إذ لا يتوقف الأمير الصغير أبدًا عن طرح الأسئلة حول معنى الحياة. والإجابات التي تُقدَّم له في كل مرة تثير الضحك بسبب عقلانيتها الفظة، ولا يمكنها إلا أن تسلط الضوء على غباء الراشدين. لهذا، فإن السارد، من خلال نزوله إلى مستوى الطفل، يتمكن من أن يتقدم أخيرًا على طريق الخلاص، وأن يهرب من عذاب بطيء في عالم يفتقد تمامًا للقيم.
أخيرًا، عُرف عن سانت إكزوبري نزعته الإنسانية الأصيلة، فقد كان يؤمن بأن التمسك بالمثالية سوف يتغلب في النهاية على كل إغراءات العبثية واليأس. ولهذا، فإن اللجوء إلى العجائبية، وبعض الفكاهة (التي تبرز من خلال الرسوم التوضيحية بأسلوب "ساذج" أحيانًا)، وقبلها الروحانية التي تسري بين الكلمات، تجعل من الممكن الوقوف في وجه أغلال القدر، وقيود المادة، وحتى الخوف من الاختفاء الجسدي. هكذا، من نجم إلى آخر، ومن اكتشاف إلى آخر، ترتبط رحلة الشخصية في هذه الحكاية الرمزية ارتباطًا وثيقًا بتقاليد الحكاية الفلسفية. إنها حكاية تستدعي بالضرورة الانفتاح على تعدد التفسيرات والقراءات والتأويلات. وهي باستخدامها لغة بسيطة للغاية، مدعمة بالصور التوضيحية، قد توحي بأنها موجّهة لفئة معينة من القراء، خصوصًا الأطفال، لكنها في الواقع تكشف عن مجموعة من القناعات الأخلاقية التي سيؤكّدها سانت إكزوبيري، ويفصلها في أعماله اللاحقة، على رأسها روايته المهمة "القلعة"، الصادرة عام 1948.

 

الضفة الثالثة