لعل شعرية هذا النص ترتكز على شعور عميق بالندم، وفوات الفرص، والاكتشاف المرير للعجز المزمن عن استخدام النطق الصحيح، المبنى على دراسة علوم التجويد والتلفظ المكين، في الوصول إلى الأنثى، وهو الإخفاق الذي يتجاوزه الطفلان في الباص، بالمناداة والتلامس الحميم، وبالنطق المذهل للحروف دون حاجة لعلوم الكلام.

الحدث

أمـل سـالم

 

بالأمس حسدتُ طفلًا، حدثٌ في الخامسة من عمره!

كنت صغيرًا في بيت أبي، أخوتي حِسَان، لكن ليس كل حسان يسررن الحياة، وعليَّ أن أتوقف كل مسافة ما، فأنا قائد هذه الرحلة، وسيد المكان، بأمري يصعدون، وبمشيئتي يهبطون، وعليَّ أن أتوقف ليركب البعض الحافلة، وأتوقف لينزل آخرون منها. هكذا هي الحياة، إما أن نكون على سفر أو انتظار.

هذا الطفل ذكرني بطفولتي، أو إن شئت قل: ما كنت أتمناه وأنا كبيرٌ أن يكون في طفولتي، بل وفي كبري أيضًا.

أجلس دائمًا في سيارات النقل العام متخيّرًا مقعدي، ففي " الميني باص" أجلس دائمًا في الكرسي خلف السائق مباشرة، ثمة زجاج فاصل بين موقعينا، شفافيته تسمح دائمًا بمشاهدة حركات ساقيِّ السائق أثناء القيادة، فأنا أستمتع دائمًا بمشاهدة من يمارس القيادة، دائمًا يستمتع الإنسان بممارسة الآخرين لما يفتقده، وأحد أحلامي المفقودة قيادة سيارة.

سيارة "الميني باص" كان الطفل راكبًا بصحبة أمه، صامتًا، عبوسًا، مستسلمًا لديكتاتورية الأم وهي تمارس أقصى ما لديها من سلطة عليه، لاحظتُ ذلك من مقعدي الأخير في السيارة. كانت سلطويّتها ممزوجة بالقسوة؛ بدعوة خوفها عليه، تجذبه من يده تارة كحقيبة فارغة تحملها، وتارة من ملابسه كخرقة أبلاها زمنها. مذ أن صعدا درجات الحافلة وهي تنصب نفسها قيِّمًا عليه، وتحجر على تصرفاته، وهمساته، ولفتاته، كأنها تريد أن تؤكد لنفسها وللجميع أنه دون الإدراك، وأنها سيدة الإدراك الأولى، والمتفردة!

التفرد في إخراج الحروف شرط صحيح التلاوة! إن مخرج الحرف هو "الموضع الذي ينشأ منه الحرف"، أو هو "موضع خروج الحرف من الفم". وتنقسم مخارج الحروف في اللغة العربية إلى مخارج عامة، ولكل حرف مخرج خاص، وقد تتشابه مخارج بعض الحروف، ويمكنك تحديد مخرج الحرف، وذلك بالوقوف عليه ساكنًا.

أسكنت ذلك في عقلي عند دراستي لقواعد علم التجويد؛ وأنا أحاول أن أقرأ القرآن الكريم قراءة صحيحة، وكذلك كنت أسمعه في دراسة الحديث والفقه، وما شابه ذلك من علوم، وأنا دائمًا أرتل القرآن الكريم، آي الذكر، حتى وأنا أجلس في المواصلات العامة، أرتل بيني وبين نفسي، كي لا أنسى ما حفظته، وأنا أجلس الآن في المقعد قبل الأخير من سيارة "الميني باص"، أجلس دائمًا بجوار النافذة على اليمين، ليس إعمالًا بالدعاء الكريم:" اللهم اجعلنا من أهل اليمين" فقط، وإنما لأغراض أخرى في نفس يعقوب واراها.

تواري ماذا؟ لا أعرف ما يمكن أن تواريه الحياة؟ لا أعرف ما فائدة الحياة أساسًا، هل نولد لكي نكبر قليلًا؟ سوف ننخرط في العمل من أجل لقمة العيش، ولمَ العمل؟! لمَ لم تكن الحياة سهلة؟ الحضور جميعًا مستاء، كلٌ منشغل بحاله والتفكير في تدبر يومه، ما عدا ذلك الصغير الذي يجلس بجوار أمه. ألَّا تشعر بالمسئولية، يا لها من سعادة!

سعادتي في أن أختار مكاني خلف السائق مباشرة، وأغفو قليلًا؛ فأنا محطتي هي الأخيرة، وعادة ما يتولى هو إيقاظي حينما يقول : "حمدًا لله على السلامة يا أفندية". ويطفئ محرك السيارة ويصطحب المفاتيح وينزل لشرب الشاي مع زملائه في المحطة الأخيرة قبل أن يأتي ميعاده للتحرك تارة أخرى.

تارة أخرى أركب "الميني باص" ويكون غير مزدحم، أنا أحبه هكذا! ولكن عندما يزدحم وأقف في وسط الناس فهذا أفضل، وخاصة في حالة وجود الجنس الآخر؛ حيث تكثر الرائحة العطرية بدلًا من جلوسي هنا في آخر السيارة في خواء كجب يوسف، وأنا اشتم رائحة المحرك التي تزكم الأنف وهي تسير خاوية متباطئة الخطي كشيخ في أواخره ولا أغراض له.

ولأغراض أخرى أجلس في المقعد المزدوج، دائمًا ما أختار مقعدًا فارغًا مزدوجًا، أنتظر أن يمنحني الله منحة إلهية، فتاة ممشوقة القوام، حسنة الوجه والصوت، تجلس إلى جواري، وأنا أرتل علَّ الله يمنحني فتحه، وأرتل بصوت خفيض، كل ذلك حتى تكون القراءة سيارة، لا لحن فيها، لا اعوجاج.

لا اعوجاج في حياتي، طوال النهار في العمل، وأسير بالسيارة أيضًا دون تغيير مسارات عما حدده لي القائمون عليَّ، هم أدرى مني بعملهم. فقط عندما أصل بالركاب إلى المحطة الأخيرة سأهبط متعللًا بالحصول على الإفطار وأتأخر نصف ساعة عن ميعادي، فما فائدة أن أتولى قيادة حافلة ثماني مرات في اليوم الواحد، سأتأخر قليلًا أشعر بحاجتي للراحة، لقد أنهكني التعب في الطريق.

أستمتع بمشاهدة الصبية الصغار، في الطريق إلى مبتغاهما وضعته أمه على الكرسي الداخلي إلى جوارها جهة النافذة، الكرسي الثاني على اليمين، وهو المقعد الذي يلي المقعد المطل على الباب مباشرة، وهو يجلس غير عابئ بما يدور حوله، منكفئًا على ذاته، مكتفيًا بعالمه الداخلي، ومنتقبًا صمته.

السيدة المنتقبة كانت وبحرفية ومهنية شديدتين تنقل النقاب عن وجهها إلى عقل الطفل المستسلم هناك. لاحظت ذلك منذ الوهلة الأولى عندما رأيتهما من مقعدي الأخير في السيارة، إذ إن هذا المقعد يتسع لأربعة أفراد وأنا أجلس في منتصفه عندما تكون العربة فارغة وهذا يحدث أحيانًا، وكأن استسلامه لقدره كان اختياره، لذا بدا وجهه بائسًا وحزينًا، كأن به غصة، أو جفاف حلق.

الحلق، واللسان، والشفتان، والجوف، والأنف، هذه هي مناطق مخارج الحروف، وكل مجموعة من الحروف تختار مكانًا تخرج منه، مثلما يختار الإنسان مكانا يعيش فيه. الحروف حية كالناس، وبعضها جميل كبعض الناس، وقليل منها حيي كالخاصة من الناس.

إن الحروف أئمة الألفاظ*** شهدت بذلك ألسن الحفاظ(1)

كان الشيخ قيِّمًا علينا إذ كنا صغارًا، إذ إنه يعلم كل شيء، ونحن نجهل كل شيء، وعلينا أن نستمع لكلمه جيدًا، ونتبع تعليماته كي ننهل من علمه، وإذ كنا كبارًا صار يعلمنا الشيخ الذي يعتلي المنبر كيفية الوصول إلى الطريق، طريق الله، بدون القيّم لن نصل إلى الله، ولن يعرفنا الله ساعة الحساب، وعلينا أن نستمع إلى كلامه جيدًا، ونتبع إرشاداته كي يعرفنا الطريق، ولابد من الترتيل المتواصل، حتى وعند النظر إلى النساء. النظرة الأولى لا حرج فيها، طالما أننا في الطريق.

في الطريق هذه الوجوه تتكرر كل يوم، أشعر أنني حفظتها جميعًا، ببؤسها، وعبوسها، ومشاق الحياة التي تظهر على هذه الخِلَق، ركاب الحافلات العامة إما من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة، وحتى كثير ممن في الطبقة المتوسطة يمتلكون سيارات، ركاب الحافلات العامة هم أحوج الناس في خلق الله، وبعضهم يحاول أن يغافلني ولا يدفع ثمن التذكرة، أحيانًا أممرها بمزاجي، متعاطفًا معهم لا أوجه نظرة واحدة إليهم.

نظرة واحدة مستقيمة صوب باب "الباص" نظرها الصبي، أعقبتها صرخة مدوية؛ شغلتني عن متابعة السائق، قطع الطفل رأس الصمت، إذ فجأة انطلقت طلقات الدهشة من عينيه مدوية فأدهشت المكان، وهو ينظر جهة الباب المخصص لصعود الركاب، وكمن تحرر من عبوديته. خلع الطفل قناع البؤس حين اعترته الدهشة، وضعه فوق رأس أمه، فتح عينيه بشدة حتى استدارتا، ابتسامة واسعة زرعت نفسها على فمه، اتسع كاشفًا عن أسنانه بين سليم ومكسر، فرغ فاه فبانت لهاته، احمرت وجنتاه المُدْهَشَتَيْن، وكأن وجهه اتْقد، أو من جذوة قُدَ، أو وجد على الدهشة هدى، دهشة اعترته، ونقلها للمكان كله، أدهشت الجمع. 

الجمع الذي كان قد فقد الدهشة منذ زمن بعيد، فصارت كل الأعين تنظر إليه مترقبة حدث جلل. دارت عيناه دورة واحدة بين باب الحافلة وأمه حيث تجلس، ثم ابتسامة متسعة كنخلة طرحت تمرها على الأرض، صاحبتها صرخة زلزلت آذان من بالحافلة، ورجرجت قلب الحافلة الذي رق فجأة، مناديًا صغيرة في مثل سنه، وكرعد خرج اسمها من فمه.

خرج كل حرف من اسمها من مكمنه في فم الطفل بالضبط: الميم حرف شفوي، مخرجه باطن الشفة العليا مع باطن الشفة السفلى، ومخرج الميم فيه إشراك للخيشوم؛ لأن الميم لا تكتمل إلا بالغنّة التي مخرجها الخيشوم، والتي أجادها الصبي بصورة أذهلت الحضور جميعًا! والميم حرف مجهور متوسط، ومجهور يعني ألا يخالطه نفس متوسط، جاءت ميمه حال وسط بين كمال الشدة وبين كمال الرخاوة، كان صوته ينقطع انقطاعًا ضئيلًا، ويجري جريانًا ضئيلًا، وكانت الميم تخرج كيَمٍّ ينبع من فم الصغير، وهو ينطق اسم قرينته.

القرين مأساة في هذا السن. لقد بدأ الضجيج! هؤلاء الأطفال اللذين يصحبهم الركاب، يسببون لي الصداع غالبًا، يحدثون ضجيجًا، خاصة إذا ما كانوا جماعة مع بعضهم البعض. يرافق صراخهم صراخ أمهاتهم وكأنهم اتفقوا جميعًا على الصراخ. الغريب أنهم يتعارفون بسرعة على بعضهم البعض، ويتصاحبون، ويدعون أمهاتهم للمصاحبة. لعنة الله على هذه المهنة تجعلني طوال اليوم أتعامل مع الجمهور الذي لا يأبه بالسائق.

أآبه به؟ كان يجب عليَّ ذلك. وأنا أجلس أتابع حركاته أثناء القيادة، كان يجب أن ألتفت يمينًا؛ أرقب دهشة الطفل عندما نظر إلى الصعود. أعشق الأطفال وخاصة من الأولاد! أحمد الله على النعمة التي أنا فيها فقد رزقت بنتين، ولكني أحب الصبيان، قلبي يعتصر ألمًا! أحببت في الطفل صوته العالي، وصراخه، وقوته عند الدهشة. لماذا لم يكن لدينا القدرة على الاختيار؟!

اختيار المقعد الأخير هام جدًا بالنسبة لي، ففيه فسحة في الجلوس، كما أن الكرسي المتوسط يتيح لي أمرين، الأول: أن أمد قدمي في الفراغ الذي أمامي، فليس ثمة مقعد يمنعني من ذلك، لذا كنت أراقب دهشة ذلك الطفل وبتركيز شديد.

وبتركيز شديد نطقهما الصبي، ميمان بدأ بهما الاسم وأنهاه، وبينهما اهتزت الشجرة التي فيأت الصغيرة حين وضعت قدمها على درج السلم صاعدة، ويدها الصغيرة معلقة بيد أمها، وكانت تكره.

أكان يكره أن يظل هادئًا كما كان قبل صعود هذه الطفلة مع أمها حتى نؤدي عملنا في راحة؟! لقد صرخ عليها باسمها في عذوبة، أعجبتني! لذا تابعتهما في المرآة؛ من بين الشفتين أطلق قبلة مبتدئة بميم اسمها الأولى، وانتهت بميمه الأخيرة. قبلة لم يدركها إلا ثلاثة: هو؛ لأنه من فعلها، أنا؛ لأني كنت أرقبه في المرآة، فالناس لا يدرون أن السائق يعتاد القيادة، فلا يهتم وهو يسوق بأمر الشارع ولا السيارات من حوله، أنا شخصيًا أستطيع أن أقود وأنا نائم، ومن بين الحين والحين أراقب الركاب في المرآة الكبيرة التي علقت في منتصف السيارة، والتي من المفترض أنها لرؤية السيارات من خلفي، لكن على السيارات الخلفية أن تتوخى الحيطة وتختار هي الحذر.

لو كان لدينا القدرة على الاختيار لاخترت أن أنجب طفلًا مثل هذا، بجانب طفلة واحدة من طفلتيَّ. ما الذي كان يمنع أن يقدر الله لي بنتًا وولدًا؟ الولد عندما يكبر يصبح عضد أبيه، ساعده. البنات دائمًا يذهبن لبيت أزواجهن، ورويدًا رويدًا يتناسين آبائهن، لماذا يا ربي حرمتني من ساعد أتكئ عليه عندما أهرم؟! "خصومة قلبي مع الله ليس سواه"(2).

وسوى الفسحة في الجلسة، التي يؤهلني لها جلوسي في المقعد الأخير، ثمة أمر آخر: وهو امتداد مسافة الرؤية أمامي. فرؤيتي للممشى بين المقاعد يتيح لي فرصة المشاهدة الجيدة، فأنا أستطيع رؤية كل من يصعد بدقة، وأيضًا أرى المغادرات بعد قيامهن من مقاعدهن بدقة. وهذا الطفل يذكرني بطفولتي، ذكرني بما كنت أتطلع لفعله عندما رأى هذه الطفلة زميلته، التي صرخ باسمها.

اسمها اختار حرفًا من الحروف التي تحتاج عناية ودقة في النطق، فالكلام فيه كثير؛ لأن الأمور والتنبيهات في مخرجها كثيرة جداً، علماؤنا-الذين يختلفون دوما-اختلفوا حتى في دروس التجويد. وعلم التجويد في الإسلام: علم تعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية كما نطقها محمد بن عبد الله نبي الإسلام (ص). ويؤخذ مشافهةً عن شيخٍ أو أستاذٍ عنده إجازةٌ بتعليم التجويد. ولأن ثقافتنا كلامية، فقد انتجت عددًا من العلوم تختص بالنطق والكلام وتفسيره وشرحه وتأويله، فيما أنتج الآخرون -الذين مثواهم النار -أشياءً لا طائل منها، ولا فائدة تذكر، علومًا كعلوم الأدوية والأمصال واللقاحات، وزيادة الغذاء والإنتاج الحيواني والنباتي، وجميعها علوم يجب أن تؤخذ بحذر.

بحذر شديد أنظر في المرآة، أتابع الركاب دون أن يرونني، أنا الوحيد الذي ألحظ كل شيء دون أن يدرك أحدهم ذلك، فأما ثالث من أدرك قبلته فهي هي! حين طبعت القبلة نفسها على خدها الصغير، وصلت متفادية ضفيرتها الصغيرة المتدلية أمام كتفها، وذراع النظارة -المعوج أثر السقوط المتكرر-المرتكز على أذنها، قبل أن تراه. تورد خدها وأزهر خجلًا، مبتسمة استقبلت قبلة حقيقية؛ عندما جذبها من يدها، وأجلسها كالمجبرة طوعًا على كرسي يتسع لشخص واحد، إلى جواره، وإلى الداخل جهة النافذة. خلف ذلك الرجل الجالس خلفي، والذي ينظر لي كالأبله. طبع القبلة الخاطفة على خدها الأملس الصغير في غفلة من أميهما، اللتين كانتا قد التهيتا عنهما في حديث غير ذي معني. فقد كانت كل المعاني قد حلقت بعيدًا عن طوائف الموتى الذين قتلهم صمتهم في الحافلة، وحطت حيث هذين الطفلين، وأرخت سدولها وعشعشت، وما أظنها تنجلي.

حطا خلفي، صوتهما جميل، صوت الولد بالتحديد جميل، يشق طريقه إلى قلبي شقًا. إنه يتودد إلى الصغيرة وهي مستسلمة، سأخرج نظارتي الشمسية وألبسها، وسأنظر فيها من الداخل كي أراهما في انعكاس الصورة على عدساتها، كي أراه. حركاته جميلة، شعره الخشن القصير. إنه يشبهني، كان لابد أن يكون لي هذا الولد. كان لا بد، وعندما أعود إلى المنزل سأقنع زوجتي بمعاودة الإنجاب، فقد نحصل على الولد الذي نبتغي، أنا لن أستسلم، لن أستسلم، سيغير القدر خطته معي.

أجلسها للداخل الشيطان الصغير، شكله الجميل سيمكنه من مصاحبة عددٍ من الفتيات عندما يكبر، ويكون في سني، ليت لي مثل شكلك بوجهك الأبيض السمح، ليت لي مثل بهائك! "عكشها" بلغتنا نحن المتشردين أصدقاء الشارع، لم يلحظا وجودي في الكرسي الأخير ومراقبتي لهما، فأصبحت محصورة بين جدار الحافلة وبين جسده النحيل، ممسكة بظهر المقعد الذي هو أمامها، كان هو ممسكًا بيديه الصغيرتين يديها النحيلتين، فيما يبدو أن أصابعه ألفت المزمار، فقد كانت تعزف على أصابعها النحيلة، وهو متعلق بظهر الكرسي الذي أمامه، كأنه يخشى أن تتركه فجأة لتتحول إلى يمامة، ثم تحلق في الفضاء الذي نطلق فيه أصواتنا فتسبح إلى بارئها، لذا التقطها الصبي من يد أمها وانتبذ بها المقعد القصي، متجنبًا السامع والرائي وكل إنسي، فأظلهما صغر سنهما فكانا نسيًا منسيًا.

حرف الراء، حرف متوسط أو بيني، ليس بالشديد شدة خالصة، ولا بالجارٍ جريانًا خالصًا، وهو يخرج من طرف اللسان الدقيق مع ما يحاذيه من لثة الأسنان العليا قريبًا من الظهر.

ثم اختلف العلماء في الأسباب المعينة على نطق حرف الراء بفصاحة، والعيوب أو الأخطاء التي تحدث في النطق، وقالوا في ذلك: عند نطق الراء الساكنة يجب الانتباه من عدم القلقلة. ولم يحدث أن قلقل هذا الصغير عندما نادى على الطفلة! وسبب قلقلة السواكن أننا ننطقها كحرف شديد (إلصاق اللسان بلثة الأسنان العليا إلصاقًا محكمًا في مخرجه، وهذا خطأ) فالراء حرف مجهور، فإذا نطقناها كحرف شديد ستحدث القلقلة. أنا على رغم سني هذا، وقراءتي التجويد وتعلمه، ليس لي مثل حظ هذا الفتى في النطق، لقد نطق اسم الطفلة بعذوبة شديدة ستمكنه عند التلاوة من التلاوة الجيدة، وعندما يقابله اسمها سينطقه أفضل مني كثيرًا، وقد يتعدى الأمر أن ينطقه أفضل من مشايخنا. أمه المنتقبة علمته فيما يبدو ما تتعلمه هي، قد يصير الطفل عندما يكبر واحدًا من مشايخنا، واحد من الذين عند الحديث لا يقلقلون.

قلقلة أحدثها صوته الذي انطلق كدوي لدانة مدفع في الحروب المنتشرة حولنا ليل نهار، يا له من صوت، هذا الطفل يمتلك من الحيوية والنشاط ما يؤهله للكثير عندما يكبر، ستنعم تلك الصغيرة به عندما يكبران، لن يكون مثلنا يعمل طول النهار ثم يذهب لنوم مثل القتيل، لا يشعر بزوجته وهي ممددة في الفراش إلى جواره. ذكرني صوته بـ " شكمان" السيارة عندما ينسد، فإنه يحدث طرقعة مذهلة يتبعها عدد من الطرقعات تحدث قلقًا للركاب وللمارة أيضًا في الشارع، هذا الطفل أحدث قلقًا للركاب جميعًا، حتى الشاب الجالس في الكرسي الأخير، والذي اختار هذا المكان منذ ركب كي يتمعن في مؤخرات الراكبات وهن يتهيأن للنزول من الحافلة. الغريب أنه ترك هوايته تلك ومازال يحدق في الصغير، وهو لا يعرف أنني ألاحظه منذ صعدت الصغيرة في يد أمها ونادى عليها.

سأنادي عليه ليل نهار، سأسبحه، وأصلي، وأندر عمرة إن رزقني بصبي، سأبدأ الآن واستغل كل لحظة في المواصلات العامة في التسبيح: يا عاطي، يا عاطي، يا عاطي.

أعطى لها حنانه وعطفه فأحبته، هذا الطفل خبير بطبيعته، هذا ما تعلمته أنا في الكبر، وإلى هذه اللحظة لا أجيده، الصحيح أنني أعرف عددًا من البنات، لكن هذا الطفل عندما يكبر لن يجلس في المقعد الأخير وحده متفرجًا، ستكون دائمًا واحدة إلى جواره. موهبة، والموهبة من عند العاطي.

"ابن عطاء"، "واصل بن عطاء"، الغزال الألثغ، وكنت أعرف فيما مضى واحدة من القليلات اللواتي عرفتهن في حياتي، كانت لثغة اللسان في حرف الراء، واللثغة هي عبارة عن تشويه في نطق الحروف يتسبب في عدم وضوح الكلام. ولا تعتبر اللثغة حالة مرضية فعلية؛ لأنها غالباً ما تكون بسبب مشكلة في الأسنان، أو تشوه في الفك، أو خطأ في وضعية اللسان. لكن حبيبتي تلك لم تكن من أولئك؛ فأسنانها اصطفت كحبات لؤلؤ، وفمها كان جميل الشفتين، تعرفت عليهما ذات مرة بعد ذلك. وقد تعودت على تجنب حرف الراء في حديثها، فيما يبدو أن هذه اللثغة وراثية، فقد توقعت أنها إحدى حفيداته. والأمر الثاني الذي يؤكد أنها من نسله أنها بعد فترة تجنبتني واعتزلتني مع أول خلاف بيننا، مثلما اعتزل واصل مجلس أستاذه "الحسن البصري"، وكانت فرقة "المعتزلة" في علم الكلام.

الكلام أخذ أميهما كما أشاهد في المرآة.

الصغير الذي اعتزل بصغيرته الناس فمازالا يجلسان في الكرسي خلفي.

نطق اسمها بطريقة سليمة، ومبهجة، مازال صدى صرخته يتردد داخلي، ومازالت بهجته حين رآها تعتريني في مقعدي الأخير.

يذكرني كثيرًا بعجزي عن مناداة إحداهن، والتي أعرفها، بصوت عالٍ في الشارع، ولم تواتيني شجاعة الطفل كي أصرخ باسمها آخر مرة رأيتها، وكانت على مسافة مني تستعد لركوب سيارة. ولم تكن أمي معي مثلما كانت أمه معه وتجاوز وجودها. غادرت كان يجب علي أن أصرخ، كان يجب أن أصيح: يا...

اهتزت المرآة فلم أعد أراهما!

تزايد الركاب فلم أعد استشعر وجودهما خلفي!

ازدحمت الحافلة فتواريا عن نظري من آخر السيارة!

وقف الناس في الممشى بين المقاعد فاحتجبا، كما ابتلعت السيارة حبيبتي، ولأراهما يجب أن أصرخ: يا...

الياء: ومخرج الياء غير المدية وهي الياء المتحركة أو الياء الساكنة التي لا يسبقها كسر. مترقرقة كالماء من الغدير من وسط اللسان مع ما يحاذيه من اللثة العليا، أطلقها الصغير بتجاف؛ لتخرج الحروف الثلاثة كهرم من فم الطفل يستقر على ميم أخيرة ساكنة.

عاد الاسم من رحلته داخل فم الطفل ليقبع عند شفتيه المنطبقتين مودعًا إياه بقبلة أخرى، فيما يبدو أن حبليه الصوتيين صنعتا الأرغن، صرخ عليها فاستجابت، وكيف لا تستجيب، والله يستجيب للذين يصرخون إليه.

...................

(1) البيت للإمام محيي الدين بن عربي.

(2) السطر من قصيدة "مراثي اليمامة" للشاعر أمل دنقل.

 

*كاتب من مصر