يقدم لنا الكاتب المصري هنا ثلاثية الكاتب المصري المرموق التي أرخ فيها لفترة مهمة من تاريخ مصر، كاشفا عن قدرته في تعرية المسكوت عنه، وإيقاظ الوعي على التاريخ الحقيقي الذي طمرته تواريخ الناصرية المزيفة. بصورة يتحول معها التاريخ إلى معزوفة روائية بديعة قادرة على تجاوز الزمن الذي أرخته.

جميل عطية إبراهيم: التأريخ بلغة فن الرواية

طلعت رضوان

 

صاغ المبدع الكبير جميل عطية إبراهيم جزءًا من تاريخ مصر(السنوات من 1952- 81) بلغة فن الرواية فى ثلاث روايات الأولى بعنوان (1952) الصادرة فى يوليو 90 والثانية بعنوان (أوراق 1954) الصادرة فى نوفمبر93 والثالثة بعنوان (1981) الصادرة فى يناير95 عن روايات الهلال. ورغم أنّ الروايات الثلاث تضمها أحداث مترابطة وشخصيات ممتدة حتى الصفحة الأخيرة في الرواية الثالثة، فإنّ المؤلف لم يحرص على كتابة كلمة (ثلاثية) أو حتى رواية من ثلاثة أجزاء، ربما لأنه ترك هذا لتقدير القارئ، أو حقه فى قراءة كل رواية على حدة، بينما يذهب ظني أنّ المتعة الذهنية والإلمام ببانوراما السنوات الثلاثين .. والتعايش مع التطور الدرامي للشخصيات، لن يتحقق إلاّبقراءة الأجزاء الثلاثة.

الصفحات الأولى فى الجزء الأول تمهيد لحركة الجيش يوم 23 يوليو52 .. واذا كان النحاس باشا هو الذى وقــّـع معاهدة 1936 مع الإنجليز، فهو الذى ألغاها يوم 8 أكتوبر51. وتعقيبًـا على هذا القرار كتب المؤرخ عبدالرحمن الرافعى «وكان هذا الإلغاء إيذانــًـا باستئناف الكفاح الشعبى المسلح فى القناة. وكان كفاحًا رهيبًا مريرًا، بذل فيه الفدائيون وجموع المواطنين ما بذلوا من أرواح وتضحيات» (مصر بين ثورة 1919 ويوليو52- مركزالنيل للإعلام– مطابع الشروق عام 77 ص 143- 144)

اختار جميل عطية (عن قصد فنى) يوم إلغاء المعاهدة ليكون مفتتح الرواية، ففى الصفحة الأولى يكون المكان هو (عزبة اللواء عويس باشا) والزمن (صفار شمس العصاري) والمشهد عدد من الصبيان والبنات جلسوا على دكة أمام (صندوق الدنيا) فى هذا المشهد يظهر ولع المبدع. وقدرته على مزج الموروث الشعبى بالوقائع، فالعجوز الذى يُدير شريط الصندوق  يبدأ حكايته قائلا «اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى» ولأنّ الأمير أنقذ المارد، فإنّ الأخير يقول قولته الشائعة «شبيك لبيك عبدك وملك يديك» فيطلب الأمير كنوزقارون والفراعنة، فيرد المارد «كنوز الفراعنة مسحورة وليس لى بها سلطان. آتيك بكنوزقارون. فاصعد إلى القلعة وأقتل السلطان وتسلطن» ولكن بعد إلغاء معاهدة 36 قال «اللى بنى مصركان فى الأصل فدائى. واصطاد رفعة مصطفى النحاس باشا القرد المسحور بسهم مسموم. وقال المارد لرفعة مصطفى النحاس «شبيك لبيك عبدك وملك يديك» قال مصطفى النحاس «آتنى بأسلحة لمحاربة الإنجليز» وتنتهى الحكاية بأنْ طلب مصطفى النحاس (رئيس الوزارة) من فؤاد سراج الدين (وزير الداخلية) توزيع السلاح على الفدائيين لمحاربة الإنجليزفى مدن القنال.

الكفاح المسلح ضد الإنجليز يتصاعد وخسائرهم في الأرواح والمعدات تتكاثر. ومن هنا بدأ الذعر يُصيب الفئات الاجتماعية المستفيدة من الاحتلال، لذلك قال اللواء عويس إنّ «الإطاحة بحكومة الوفد أصبحتْ ضرورية بعد أنْ تعقدتْ الأوضاع فى مدن القناة وترعرعتْ التنظيمات المعادية داخل الجيش». و يرى أنّ الوفد ساير الدهماء فامتنع العمال عن العمل فى معسكرات الإنجليز(ص 23 ،24) ويقول أيضًا إنه منذ تولى مصطفى النحاس رئاسة الوزارة «ضاعت المقامات حتى أصبح الرعاع لهم سعر فى السوق ويحملون السلاح ويخرجون فى المظاهرات» (ص30) وبعد أنْ تولى طه حسين وزارة المعارف أصبح التعليم مجانيًا، فدخل كرامة سرحان مدرسة السعيدية رغم أنّ أباه (سقا) يحمل الماء فى القربة ويدور بها على أهالي العزبة.

وشمل التمهيد تداعيات أحداث يوم 25 يناير52 حيث المعركة الباسلة بين بلوكات النظام وقوات الإحتلال فى مدينة الاسماعيلية. وتأييد وزيرالداخلية فؤاد سراج الدين لموقف الضباط والجنود المصريين، فأصدر أوامره باستمرار المقاومة وعدم الاستسلام. وفى اليوم التالي تندلع النيران فى مدينة القاهرة. وكان بين من يُـشعلون النار سرحان السقا وابنه كرامة من أهالى عزبة عويس. الأب تدروش وخلع رداء الدنيا وارتدى رداء الآخرة، فدار يُـشعل النار فى أماكن اللهو والفساد. وقد جاءته الرؤية فى المنام. وأطلق عليه المتظاهرون (مولانا) ويأتمرون بأمره فى إشعال النار. أما الابن (كرامة) فشارك هو أيضًا فى التخريب. وعندما سأله عباس أبوحميدة لماذا يفعل ذلك قال (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده) إلى آخر الحديث النبوي، فضربه عباس ونهاه عن الاستمرار فى إشعال النار. وترتب على ذلك الخسائر التالية «300 متجر، فنادق شبرد ومترو بوليتان، بنك باركلز، قتلى، إقالة وزارة الوفد، تكليف على ماهرباشا بالوزارة، واعتقالات واسعة. وتوجيه اتهامات للوفد بالتقصير واتهام أحمد حسين بتدبير حريق القاهرة. (ص138)  

في الجزء الأول نتعرف على شخصية عباس أبوحميدة «فى طفولته كانت الناحية تفخر بأنّ عائلتىْ أبى حميدة وأبى جبل يتصديان للباشا، لكنه وقد سمع الطلق النارى الذى مزق جسد أبيه، أدرك الأخطار التى تتربص به فى وقت مبكر، فالصراع بينهما يتطلب ضرب رأس الحية فى قصر عابدين. ولما كبرعباس أدرك أنّ الصراع بينهما ليس متكافئــًـا. وأعدّ نفسه للمواجهة، فأعلن استسلامه لإرادة الباشا، وإنكفأ على فدانيْن خارج زمام الأبعادية يزرعهما راضيًا بقدره، وربط نفسه بجماعة سرية فى العاصمة» (112 ، 113) وفى الصفحات التالية سنعرف أنه منضم إلى أحد التنظيمات الشيوعية التى تحارب الإنجليز.

واذا كان اللواء عويس أحد رموز الإقطاع المتعاونين مع الإنجليز، فإنّ المبدع– المؤمن بتعدد الأصوات– يُـقدّم شخصية نقيضة فى شخص الدكتور السيد أحمد باشا. والذى لم يتدخل في حياة ابنته (أوديت) المنضمة إلى أحد التنظيمات الشيوعية التي تقاوم الإنجليز والسراي. وإذا كان اسم أوديت من الأسماء الشهيرة بين المصريين المسيحيين، فإنّ أباها الباشا اختار لها هذا الاسم، كدلالة رمزية من المبدع عن الروح المصرية التي لا تعرف التعصب. وأوديت عندما يطاردها البوليس السياسي ويبحث عنها للقبض عليها، تختفى فى عزبة عويس في ملابس فلاحة،  بتدبير من عباس.

ورغم خطورة الكشف عن هويتها السياسية. وأنه لا يجوز مخالفة أوامر الرفاق في الحزب. ولأنها طبيبة، فإنها لم تتردد فى الكشف على إحدى السيدات المريضات. وفى إشارة دالة من المبدع كتب «أدركتْ أوديت بعد معيشتها عشرة أيام فى عزبة عويس أنّ جدران الفلاحين وعششهم لها آذان. هؤلاء القوم الذين يتظاهرون بالبلاهة لهم آفاق واسعة، لاتغيب عن فطنتهم شاردة وإنْ أعلنوا عدم الفهم» (ص 53) وهكذا حفظ الفلاحون سرها، ولم يتقدم أحد إلى البوليس ليشى بها. وأثناء حريق القاهرة تركتْ العزبة. وفى شارع الهرم شاهدتْ زحامًا شديدًا أمام إحدى الصيدليات. دخلت الصيدلية لتجد سائحة رأسها مصاب بجروح وقد جاءها المخاض. شمّرتْ عن ذراعيها وقرّرتْ الكشف عن مهنتها فقالت للصيدلى أنها طبيبة. نظر إليها الرجل في دهشة: طبيبة فى ملابس فلاحة! لكن لغتها الإنجليزية الدقيقة ومعرفتها بفنون الطب لم تترك له فرصة لمراجعتها. السيدة الحامل التى أنقذتها أوديت هى عالمة آثار سويدية، اتصلتْ بسفارتها فى القاهرة. وهكذا انتقلتْ أوديت من الصيدلية إلى السفارة السويدية وفى حمايتها. وصارتْ بينها وبين عالمة الآثار صداقة سيكون لها أثرفى الجزء الثالث.

ومن أبناء عزبة عويس (عكاشة) المغنواتى، فلاح ليس له أية علاقة بالسياسة. يذهب إلى مدينة الاسماعيلية للعمل. وهناك يقتنع بدورالفدائيين الشيوعيين، فاشتروا له عربة خشب عليها برتقال. وشرحوا له خطة نسف معسكر للإنجليز. عكاشة تولدتْ بينه وبين أحد الجنود الإنجليز صداقة بسبب ولع الإثنين بالغناء. وعندما جرى عكاشة من أمام عربة البرتقال المُخبّـأ بها المتفجرات، لمح صديقه الجندى (جون) الذى كان يغنى معه «يا وابورالساعه اتناشر» كيف يتركه للموت؟ صاح يُحذره «جون. قنبله. إجر» فى هذا المشهد المكتوب ببراعة فائقة عاش (جون) ولم يمت كما مات زملاؤه الضباط والجنود بينما مات عكاشة.

وفى التحقيقات الصحفية التى أجرتها الصحافة الإنجليزية قال الجندى (جون) أنه مدين بحياته إلى بائع البرتقال الذى خبّأ القنبلة. وأقبل عليه محذرًا بسبب مشاركته له فى الغناء فأنقذه من موت محقق. الشهيد عكاشة– الفلاح الذى لاعلاقة له بالسياسة ولا يــُـجيد إلاّ فلاحة الأرض والغناء-  حسبه اللواء عويس من الشيوعيين. وكانت صدمته عندما قال له ضابط من البوليس السياسى إنه «من أتباعك يا باشا» وعندما سمع اسمه قال مستنكرًا «الواد المغنواتى!؟» وتحوّل عكاشة إلى أسطورة بين الفلاحين وإلى شيوعى بين الشيوعيين.. وإخواني في نظر الإخوان المسلمين.

فى عزبة عويس نتعرّف على ثلاث شخصيات محورية: كرامة سرحان الطالب فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. والمولع بالشاعرالإنجليزى (إليوت) وخاصة قصيدته التى يقول فيها «نحن الرجال الجوف .. بالقش حُشينا .. نميل معًا .. وقد حُشيتْ بالقش رؤوسنا» كرامة ابن السقا الذى يبيع الماء للفلاحين، يقع فى غرام الأميرة جويدان ابنة اللواء عويس،  فعندما كانت الأميرة فى زيارة للأهرام، وقعت من على الحصان، سارع كرامة لنجدتها. ولكن أباها اللواء عويس اعتبر هذا الفعل جريمة يجب عقابه عليها فجلده. ومع ذلك ظلّ كرامة على حبه للأميرة. وهنا تبرز الشخصية المحورية الثالثة: زهية الفلاحة الفقيرة التى ضمّدتْ جراح كرامة من آثار الجلد، وأطعمته بيديها، بل ومنحته جسدها. ولكنه لم يعترف بهذا الحب الفطرى. وتشبث برومانسيته مع الأميرة التى لاتشعربه، بينما زهية– الواقعية-  تأكدتْ من مشاعرها. وأنه لايهتم بها رغم أنّ جنينــًـا يدب فى أحشائها منه. ثم يكون لقاء هذا الثلاثى– كرامة وزهية والأميرة جويدان فى الجزء الأخير. ومعهم ابن زهية التى اختارتْ له اسم (محمد نجيب) تيمنــًـا باسم قائد الجيش الذى اتخذه ضباط يوليو واجهة لكبر سنه ثم تخلصوا منه وعلى رأسهم عبدالناصر.

شمل التمهيد لأحداث 23 يوليو52 دور أمريكا وهوما غاب عن ذهن اللواء عويس الذى لم يُـدرك «أنّ قوة أخرى جبارة (غير بريطانيا) قد بزغتْ وأصبحتْ منافسة للإنجليز فى المنطقة» (71) لذلك كان يعتقد أنّ الملك فاروق فى سبيله إلى تشكيل حكومة موسعة من المستقلين لإجراء مفاوضات جادة مع الإنجليز فى إطار حلف موسع مع الولايات المتحدة الأمريكية» (191) بعد نجاح حركة الجيش تم القبض على عباس بسبب إنتمائه لأحد التنظيمات الشيوعية، ولذلك اندهشتْ زوجته نفوسة لبقاء زوجها فى المعتقل «وقد قضى سنوات عمره فى معارضة الملك والتنديد بسياسة الباشوات وفضحهم». وكان تعقيب أوديت (المناضلة الشيوعية) أنّ حركة الجيش «طردت الملك وأحزان القرية كما هي». وتشعر بالمرارة فلا شيء تغير «هذا ظاهر الأشياء. لن تدافع عن حركة الجيش. لتستمع إلى الفلاحات. هذا الشعب يحتفظ بحكمته من جيل إلى جيل». وانقسم الشيوعيون بين مؤيد لحركة الجيش ومعارض لها. وقالت أوديت لنفسها «سرق العسكر  نضال الناس»، وندمتْ لتأييدها للضباط. وعلى إسهامها فى طبع المنشورات فى اليوم الأول للحركة. وتزداد مرارتها أكثر عندما يُـفرج البوليس السياسى عن عباس، ثم يتم القبض عليه بمعرفة قوات الشرطة العسكرية فى حكومة العسكر، حيث هاجمتْ العزبة فى الليل وبصحبتها السيارات المصفحة. وكان قائد هذه الحملة العسكرية للقبض على عباس أبوحميدة هو اليوزباشى أنور عرفة. وكانت هذه آخر مهمة يؤديها لضباط يوليو قبل سفره إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى بعثة فى فنون القبض والتفتيش وتسجيل الاعترافات» (من ص 256- 261)

ما ذكره المبدع عن البعثات التى أرسلها ضباط يوليو إلى أمريكا لتدريب الضباط على تعذيب المعتقلين، حقيقة ذكرها بعض الشيوعيين فى كتبهم. ومنهم د. فخرى لبيب الذى ذكر أنّ آلات التعذيب كانت أمريكية. وأنّ المناضل محسن شاشة قال للمؤلف فى شهادته أنه عندما كان يُحقق معه اكتشف أنّ مجموعة من ضباط المباحث العامة،  كانت تستعد للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتلقى دراسات فى تخصصاتهم، فى الوقت الذى كانت تـُـعلن فيه الدولة موقفــًـا معاديًا للاستعمار، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. وأنّ الذى كشف هذا الأمر المحقق الذى كان يستجوبه واسمه سمير ناجى، أثناء حديثه مع الضباط زملائه. وذكر د. فخرى أنّ التعذيب فى معتقلات عبد الناصر فاق المعتقلات النازية (أنظر الشيوعيون وعبدالناصر ج 1 ص 234 ، 367  ج 2 ص 213 ، 233)

وهكذا ضفــّـر جميل عطية الفن الروائى بالوقائع التاريخية. وفى هذا السياق أنهى الجزء الأول بالمنشورات التى صدرتْ عن بعض التنظيمات الشيوعية المنددة بتصرفات ضباط يوليو. والمطالبة بعودتهم إلى ثكناتهم والإشادة بعمال كفر الدوار(261) وأعتقد أنّ اختيار المذبحة التي دبّرها ضباط يوليو52 لعمال كفر الدوار لنهاية الجزء الأول، له دلالة بالغة الأهمية، فهذه المذبحة بدأتْ يوم 13 أغسطس 52 أى بعد عشرين يومًا من سيطرة الضباط على مصر. وإذا كان أحد الأهداف الستة لضباط يوليو هو القضاء على سيطرة رأس المال، فإنّ الأحداث جاءتْ نقيض هذه الشعارات، حيث تم محاصرة المصانع التى بها اعتصامات عمالية بقوات بوليس وقوات جيش وتم إرسال الدبابات لمحاصرة بعض المصانع (د. فخرى لبيب– مصدرسابق ج 1 ص 94) وفى مذبحة كفر الدوار تم القبض على 576 عاملا تم الافراج عن معظمهم وصدر الحكم العسكرى ضد 37 بالسجن من 3– 7 سنين وإعدام العامليْن محمد البقرى (19 سنة ونصف) ومصطفى خميس (18 سنة) وكتب المؤرخ العمالى طه سعد عثمان أنّ «ما حدث فى كفر الدوار كان عربونــًـا للأمريكان فى محاربة الشيوعية».

وأنّ البكباشى عاطف نصار أصرّ على قراءة الحكم العسكرى بالإعدام أمام 1500 عامل فى ملعب الكرة بمصانع كفر الدوار. وقال إنّ «مصطفى خميس كان يعادى الله ورسوله فحق عليه القتل»، وأنّ رئيس المحكمة العسكرية البكباشى عبدالمنعم أمين تم ضمه إلى حركة الجيش يوم 22 يوليو أى قبل نجاح الحركة بيوم واحد. وأنّ هذا البكباشى خطط ونفذ للقاء فى منزله حضره السفير الأمريكى كافرى، واثنين من السفارة الأمريكية، واثنين من المخابرات الأمريكية، وبحضور محمد نجيب وعبدالناصر وزكريا محيى الدين. وأنّ الحديث دار حول مخاطر الشيوعية وضرورة التصدى للعمال (أنظر طه سعد عثمان فى كتابه  "خميس والبقرى يستحقان إعادة المحاكمة." وكتاب المؤرخ العمالى عبدالمنعم الغزالى: "بعد أربعين عامًا براءة خميس والبقرى" ومقالات المؤرخ العمالى أمين عزالدين فى مجلة روزاليوسف فى شهر يوليو87).

وإذا كان الجزء الأول من ثلاثية جميل عطية، شمل التمهيد لحركة الجيش وانتهى بأحداث مذبحة كفر الدوار، التي تنطق تفاصيلها بأنها دنشواى جديدة على أيدى ضباط يوليو فى أغسطس52، فالدلالة أنّ واقع العمال والفلاحين لم يتغير، حتى بعد خروج الملك وانصياع الإنجليز لرغبة الأمريكان في عدم التحرك ضد ضباط يوليو. ولكن هل سيستسلم الفلاحون والعمال؟ فى آخر صفحة من الجزء الأول قال عباس أبوحميده لضابط المباحث «يا عرفة بك .. أنت لن تقتلنى وأنا لن أعترف» كدلالة على استمرار المقاومة من جانب قوى اليسار. واستمرارالقمع والاعتقالات والتصفية الجسدية من جانب النظام .. وهوما جسّـده الجزء الثانى.

*****

يبدأ الجزء الثانى على لسان د. يونس الأستاذ الجامعى الذى يشعر بالحزن لإعتقال بعض زملائه. ولأنّ جميل عطية كان يُدرك– وهو يحتشد ويخطط لهذه الثلاثية- أنه يُعيد صياغة التاريخ بلغة الفن الروائى، لذلك استخدم الكثير من الأسماء الحقيقية، فنجد د.يونس يتذكر رفيقه (محمود أمين العالم) وقبل يوليو52 كان د.يونس فى أوروبا. ورفض التدريس فى إحدى جامعاتها، وقرّرأنْ يعود إلى وطنه مصر«لأعمل فى جامعة فؤاد إلى جوار أساتذة عظام تتلمذتُ على أياديهم: طه حسين، أمين الخولى، أحمد أمين. ومُتع العالم كله لاتُعادل وجودى إلى جوار هؤلاء العظام.» ولكن الواقع تغير «يُعتقل د.عوض ساويرس بواسطة الأجهزة البوليسية فيبيع المخبرون أوراقه بأبخس الأثمان» وينضم إلى جلسته فى وحدته د.شلبى القصاص المفصول من الجامعة ضمن 44 أستاذًا جامعيـًـا فصلهم الضباط من أعمالهم لميولهم الليبرالية.

(استخدم المبدع واقعة حقيقية حيث كتب 44 أستاذًا جامعيًـا مذكرة رفعوها إلى ضباط يوليو طالبوا فيها بحل مجلس قيادة الثورة. وعودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته. وذلك فى مارس54، فإذا بمجلس قيادة الثورة يُصدر قرارًا فى 23 سبتمبر54 بفصلهم من جامعاتهم. وكان من بينهم عبدالعظيم أنيس، محمود أمين العالم، عبدالمنعم الشرقاوي، لويس عوض وفوزى منصور)  الدكتور يونس– فى الرواية- واحد من المفصولين من الجامعة فقال لنفسه «إنّ قرارات مجلس الثورة من أعمال السيادة. وغيرقابلة للطعن بعد إلغاء الدستور. وهذه هى الشرعية الثورية التى يُروّج لها صغار النفوس».  فى هذا اللقاء يسأل د.شلبى صديقه د. يونس عن أخبار الدكتورة أوديت (من ص 5- 12) وهكذا يلتحم الجزء الثانى بالجزء الأول.

يتذكر كرامة سرحان، أنّ الطلبة لاحديث لهم إلاّعن فصل الأساتذة واعتقال ثلاثة وترقية د. زهدى أمين رئيس قسم اللغة الإنجليزية.. وكان الطلبة يتوقعون اعتقاله بسبب علاقاته بالسراى والسفارات الأجنبية،  فحدث العكس .. وأضحى من رجال العهد الجديد وتمتْ ترقيته، بينما دخل د.عوض ساويرس المعتقل، رغم أنه عارض الملك علانية قبل يوليو(19)

كان بين السيد أحمد باشا وعبدالناصر معرفة أقرب إلى الصداقة. ولكن بعد يوليو بدأ الحذر من جانب الباشا «فهاهى شوكة البكباشى عبدالناصر قد قويتْ. ولم تعد في البلد مؤسسات سوى المؤسسة العسكرية التي يُدير أمورها بنفسه، أومن خلال خلصائه. وسنة53 هى أخطر السنوات التي مرّت على مصر،  فطرْدْ الملك لم يكن سوى جملة اعتراضية فى خضم الأحداث. أما سنة 53 فقد تم تسوية الأرض لخلق الجو المناسب لإقامة دكتاتورية، بعد قصقصة أجنحة جميع الرجال، وإلغاء الأحزاب والدستور». ويرى أنّ الضباط الشبان «يزرعون بفعلتهم شجرة الشر التي سوف ترمى بثمار سامة تفسد النفوس لعدة مئات من السنين». ويتحول الحذر إلى نوع من التوجس فقال «ما يُـدهشنى عدم اعتقال ابنتى بعد القبض على رفاقها الماركسيين. وهل صداقتى لسليمان حافظ وزيرالداخلية وفرّتْ لها الحماية؟ أم هى معرفتى بالبكباشى جمال عبدالناصر التى منعتْ عنها البلاء؟» (ص 24، 30، 31) وسوف يتطور الحذر والتوجس– قرب نهاية الجزء الثانى– إلى فاجعة، فتم إغتيال ابنته المناضلة أوديت حيث صدمتها سيارة جيش بطريقة متعمدة. وعندما علم الأب بالكارثة قال لنفسه «شممتُ فى الأمر رائحة التدبير.. هذه جريمة .. وخيوطها الرئيسية ليست بعيدة عن جمال عبدالناصر. ولايقوى أحد فى البلد على مس ابنتى بسوء دون إذن منه. وهم يعرفون تردده على قصرى وترددى على مكتبه. وتذكرتُ على الفور تهديد عبدالناصر لي في السابق باعتقال المشرفة على مكتبى. وكذلك تهديده المبطن لابنتى  بسبب نشاط رفاقها.»

ترتب على إصابة أوديت شبه إرتجاج فى المخ ونزف فى الدماغ. ولكن الأسوأ حالة الفزع التى صاحبتها لعدة أيام قبل وفاتها، فزع دمّر خلايا المخ فأفقد الجسد القدرة على المقاومة، فلم يستجب للعلاج. وكان تعقيب أحد الأطباء المشرفين على علاجها. ومحاولة وقف نزيف المخ «منذ حركة الجيش والبلد كلها دماغها ينزف». (من 273- 277) التوجس الذى صاحب الباشا قبل اغتيال ابنته لم يكن خيالا، فعندما زاره عبدالناصر فى قصره سنة53، استقبله عم محمد الطباخ الذى اعتقد أنه محمد نجيب، فصاح مرحبًا «سيادة اللواء محمد نجيب». رماه عبد الناصر بنظرة نارية وقال (والله إذا نادانى أحد فى الطريق بمحمد نجيب ربما قتلته) (ص 33) هنا أبدع الروائى مشهدًا جمع فيه بين سيكولوجية عبدالناصر العدوانية وبين الموقف من محمد نجيب الذى سيتم التخلص منه بتحديد إقامته بعد إهانته وضربه من صغار الضباط الموالين لعبدالناصر. وفى هذا الجزء صورة درامية لوقائع الصراع على السلطة بين الضباط، صراع وصل لدرجة فصل واعتقال كثيرين من الضباط، بل وتعذيب بعضهم تعذيبًا بشعًا، مثلما حدث مع المقدم حسنى الدمنهورى وآخرين. وإتهام خالد محيى الدين بتدبير انقلاب تحت إشراف محمد نجيب. وهى حقائق ذكرها أكثرمن مؤرخ (طارق البشرى، أحمد حمروش،  بالاضافة إلى مذكرات ضباط يوليو) مزج المبدع هذه الوقائع بحياة شخصيات الرواية، فحقق إنجازًا مهمًا فى تاريخ الرواية المصرية هوما أفضل تسميته بـ(التأريخ معزوفة بلغة فن الرواية) وهو ما فعله عدد قليل من المبدعين العالميين مثل إيفو أندريتش فى رائعته (جسر على نهر درينا) مع الفارق بالطبع من حيث تاريخ المرحلة وتفاصيل الأحداث.

شمل الجزء الثانى التطور الدرامى لشخصية زهية الفلاحة الفقيرة، حيث أخذتها أوديت للعمل كخادمة فى قصر أبيها. وتعلق الباشا بابن زهية الرضيع (محمد نجيب) وأسعده اللعب معه. وانتقل التعلق بالرضيع إلى التعلق بأمه التى أصبحتْ المشرفة الحقيقية على كل شئون القصر. وقبل وفاة أوديت أوصتْ والدها بأنْ تمنح ثروتها لزهية وابنها .. وبالفعل نفذ الأب وصية ابنته.

ولأنّ المبدع مزج الواقعى بالروائى، لذلك جاءتْ شخصية عبدالناصر فى الرواية مطابقة لشخصيته الحقيقية من خلال تصرفاته وأقواله، مثل قوله «جيشى هو برلماني». وأنه استخدم بعض المحيطين به للقيام «بالمهام القذرة» وكان يـُـعادى الشيوعيين والوفديين ويرسم الخطط للتخلص منهم بلا أي مبرر إنساني حتى يضمن كرسى السلطة. وعندما خاطب عبدالناصر الشعب المصري قائلا «علمتكم العزة .. علمتكم الكرامة» فإنّ أصحاب العقول الحرة شعروا بالإهانة، وأدركوا أنهم أمام دكتاتور، لذلك كان تعليق السيد أحمد باشا «هذه كلمات لم ينطق بها أعظم زعيم مصرى فى العصرالحديث، سعد زغلول».

وفى وقائع التاريخ أثبت عبدالناصر عداءه الصريح لقيم الليبرالية، لذلك قال د.يونس إنّ عبدالناصر «يرى أنّ المثقفين الليبراليين هم أكبر معضلة». (الصفحات 39، 63، 133، 143، 190، 339، 367) لذلك انطلقتْ الهتافات المعادية لحكومة العسكر. والموت لصلاح سالم وعبدالناصر(ص 18، 177) ودبّر عبدالناصر إضرابًا للعمال ودفع لـ(الصاوي أحمد الصاوي) رئيس نقابة عمال النقل بالقاهرة أربعة آلاف جنيه، فهتف العمال «لا أحزاب لا برلمان .. تسقط الحرية .. تحيا الثورة .. تسقط الرجعية». لذلك خصّـص المبدع فصلا من ثلاث كلمات (لعلها المرة الأولى فى تاريخ الرواية) عقب هذه الأحداث على لسان المناضل الماركسى عباس فقال «فجيعتى كبيرة .. كبيرة». (ص331)

إنّ جميل عطية كان أمينًا لأقصى درجة وهو يُـقدّم شخصية عبدالناصر طبقــًـا لما ذكره المؤرخون المصريون .. وعن العداء لقيم الليبرالية ذكر إبراهيم طلعت (وكان صديقــًـا لعبدالناصر قبل يوليو وقبل أنْ يعتقله عبدالناصر) أنه فى حوار مع عبدالناصر دافع عن أقطاب حزب الوفد المعتقلين، فقال له عبدالناصر «إحنا يا أستاذ مش بنحاكم الوفد. إحنا بنحاكم سياسيين قدامى. بنحاكم نظام قديم. بنحاكم نظام رأسمالى اسمه النظام الليبرالى» (مذكرات إبراهيم طلعت– مكتبة الأسرة– عام 2003 ص 245) .  

*****

تدور أحداث الجزء الثالث فى سويسرا .. كرامة سرحان تزوّج الأميرة جويدان وصار مستشار السفارة المصرية. ويطلب منه السفير الذهاب إلى مطار جنيف لاستقبال السيد أحمد باشا وزوجته. كرامة فى الجزء الثانى من الرواية استجاب لأوامر أحد ضباط عبدالناصر الذى استكتبه بلاغًا ضد أوديت ووالدها، بأنهما خطفا فتاة فقيرة من عزبة عويس وطلب انقاذها، مع كلمات مديح فى حركة الجيش. الفتاة المقصودة هى زهية، التى منحته حبها وجسدها عندما كان يتألم بعد أنْ جلده اللواء عويس. يتذكر كرامة عزبة عويس ثم يخاطب نفسه مندهشـًـا «عاملة الترحيلة تضع الفراء على جسدها، وتتحدث إلى مضيفة سويسرية، وتُفتح لها قاعة كبار الزوار». زهية الفلاحة الفقيرة أصبحتْ زهيه هانم، زوجة السيد أحمد باشا الذى شجعها على التعليم فدرستْ فى الجامعة مع ابنها محمد نجيب، وأتقنتْ عدة لغات بل وتعلمتْ أصول الغناء الأوبرالى. تذكر كرامة قول السفير أنّ محمد نجيب ابن زهية من رجل آخر، فقال لنفسه «أنا هذا الآخر». وتظل هذه الجملة ملازمة له طوال الجزء الثالث، يقتله التردد بين الاعتراف بابنه وبين التضحية باستقراره العائلى مع زوجته الأميرة جويدان وابنته الشابة منها، بينما الباشا (الذى تولى تربية محمد نجيب منذ أنْ كان رضيعًا حتى صار شابًا) تعمّد أنْ تكون زيارته لجنيف من أجل (لم شمل الأسرة) وأنْ يتعرف الابن على أبيه.

هذا الموقف الإنسانى من الباشا يتسق مع موقفه الفكرى، فرغم أنه ليس شيوعيًا، فقد احترم آراء وكفاح ابنته أوديت الشيوعية، ولذلك كان الهدف الثانى من زيارته لجنيف لقاء عباس (الذى صار ممثلا لمصر فى منظمة العمل الدولية) وتسليمه مذكرات ابنته التى دوّنتْ فيها رأيها عن الحركة الشيوعية المصرية بكل إيجابياتها وسلبياتها لنشرها، تردّد عباس فى البداية بحجة (التوقيت) والحساسية التى قد تثيرها المذكرات بين الرفاق، ولكنه اقتنع برأى الباشا الذى قال «الحقيقة لها الأولوية على الأيديولوجية» وبعد أنْ قرأ المذكرات قال لنفسه «هذه ليست مذكرات إنها مجموعة من الدراسات والوثائق. وأحداث بعينها رأتْ فيها المرحومة رأيًا مخالفــًـا فسجلته للتاريخ». وتوقف كثيرًا عند تحليلها لأزمة مارس 54 وقولها أنّ هذه الأزمة سوف تحكم مصر لعدة عقود. وانبهر بما دوّنته المرحومة عن دور الرفاق يومًا بيوم .. والتكليفات التى قامتْ بها فى تشكيل جبهة معادية لحكم العسكر، دفاعًا عن الديموقراطية (ص 68 ،180) وكانت آخر كلمات الباشا الليبرالى وهويُـودّع الحياة «وصيتى نشرمذكرات ابنتى». هذا الباشا الليبرالى لايعرف الأحادية الفكرية، لذلك أخذ عباس للجلوس على المقهى الذى كان (لينين) يجلس عليه أثناء إقامته فى جنيف. ويعشق الفن التشكيلى فيشترى لوحة للفنان (ديلفو) وعندما تأمل عباس اللوحة قال إنّ المرأة فيها «تشبه ستهم ابنة عمى» وأنّ زهية تحب أعمال هذا الفنان البلجيكى. وعندما كانت زهية تحت تأثير البنج أثناء إجراء عملية جراحية فى القلب، غنّتْ نشيد الفرح لشيللر ولحنًا آخرمن أوبرا ترافيتا، وفجأة اضطرب القلب، فالتقط الطبيب كلمتين هما «قتل ياسين». ولما حكى له الباشا موال (ياسين وبهية) عن مقاومة الإنجليز، قال الطبيب «هذه القصة تشبه قصة وليام تل فى سويسرا». فقال الباشا «الفرق بين وليام تل وياسين أنّ الأول خرج منتصرًا والثانى خرج مهزومًا وقتل .. ويبدو أنّ العقل الجمعي يُغنى للمهزومين».

ينبهر عباس أكثر بالباشا الليبرالي الذى يخاطبه قائلا «يا رفيق» فيتذكر أنّ الباشا كان «يُقدّم العون المادى لرفاق ابنته الراحلة عن طيب خاطر، ودون سؤال. وكان يتدخل لدى الرئيس عبدالناصر لتسوية الأمور الإنسانية الخاصة بالمعتقلين». ورغم أنّ الباشا لم يشتغل بالسياسة فإنّ عباس يندهش من وعيه السياسى عندما قال إنّ «الرئيس السادات حكم برجال عبد الناصر». هذا الباشا شخصية تراجيدية، فقد تحمّل محنة اغتيال ابنته بواسطة رجال عبدالناصر، ثم تعرّض لمحنة اعتقاله فى حملة سبتمبر81 التى شنها السادات على مختلف القوى الوطنية.

وكما بدأ الجزء الأول بأحوال الفلاحين فى عزبة عويس قبل يوليو52 انتهى الجزء الأخير بأنّ أحوالهم بعد ثلاثين عامًا عادت كما كانت، إذْ فى عهد السادات (الذى عيّنه عبدالناصر نائبًا له، وبالتالي كان هو المرشح لرئاسة الدولة) أقام (الاقطاعيون) دعاوى قضائية لاسترداد أراضيهم. بعد موت اللواء عويس أقامت أسرته دعوى وصدر الحكم لصالحها. أراد السيد أحمد باشا شراء القصر ثم يهديه إلى وزارة التعليم ليستمر كمعهد فنى لتخريج الطلبة الزراعيين. ولكن جويدان رفضت البيع، فحصل عمها على موافقة السلطات الإدارية لتحويل العزبة بأكملها إلى مشروع استثمارى فى مجال العقارات. وعندما علم الفلاحون بذلك تذكروا أنّ اللواء عويس كان يستعد لإقامة مشروع لتعليب الخضروات، فشعروا بالحسرة وترحّموا على اللواء عويس وأيامه.

واذا كان البعض أثار (فى عام 2009) موضوع بيع الغاز لإسرائيل، فإنّ المبدع فى الجزء الثالث الذى نُـشرفى يناير95 جعل كرامة سرحان يعترف بأنه أجرى إتصالات مع إسرائيليين «لعقد صفقات بيع البترول بواسطة شركة وهمية مصرية فى جنيف من خلف رؤسائى بتعليمات مباشرة من الرئيس السادات، الذى تعهد للإسرائيليين بدفع عملية السلام وإتمام الانسحاب (من سيناء) فتشكلتْ شركة قطاع خاص ذات طبيعة سرية تشترى النفط من الحكومة المصرية لتعيد بيعه إلى إسرائيل». (ص 132، 260، 261) إتسق مع ذلك كلمات الباشا الليبرالى فى آخر صفحة «كم من المنتصرين فى حلبة التاريخ، كانت المشانق أحق بهم من أقواس النصر» وأيضًا مع جماليات اللغة، فالزمن فى الصفحة الأولى من الجزء الأخير «صفار شمس العصاري المزيف الفالصو»  وفى (ص 8) يربطه بأحلام الفلاحين الذين كفروا بالزراعة واهتموا بتجارة العملة أو السفر إلى السعودية، ولكنها «أحلام كالذهب الفالصو في شمس العصاري».

وجميل عطية إبراهيم لديه وعى بالموروث الشعبى، مثل قول المصريين أنّ يوم الجمعة فيه ساعة نحس (ج 1 ص 72) ومن الأمثال الشعبية «اذا كان صباعك عسكرى إقطعه» (ج 2 ص 96) وفى الجزء الأول قبل تغلغل الأصولية الدينية كان المصريون على وعى بخطورة توظيف الدين لأغراض السياسة، أو لتحقيق مصالح شخصية، لذلك عندما دافع الشيخ لهيطة فى خطبة الجمعة عن اللواء عويس وأمر الفلاحين بإطاعة أولى الأمر والدعاء لهم، قال الفلاحون عنه هذا الملعون لايعبد الله  لكنه يعبد الباشا. كما أنّ هؤلاء الفلاحين يُطبّـقون قانون النسبية رغم أميتهم، وبالتالى مزجوا مفهومهم عن (الحرام) بالشفقة، فنجد أنّ زهية عندما حملتْ دون زواج، قالت للست نفوسة أنْ تسترها، فضربتْ الأخيرة صدرها وقالت يا حبة عينى .. بيتك (ج1 ص 94،  258) ولكن بعد طغيان اللغة الدينية فى السبعينات، فإنّ ابنة عباس المناضل الشيوعى، تنضم إلى الجماعات الإسلامية التى تــُـكفر الحكام والمحكومين. وتشارك في عمليات اغتيال الأبرياء. وجميل عطية لديه شجاعة استخدام الكلمات المصرية التى يأنف كثيرون من استخدامها مثل (خرجت الكلمة من الفم مدغمسة) ج1 ص 246) ومن السياق نفهم أنّ المقصود بكلمة (مدغمسة) أنها خرجت مضغمة غير مفهومة .. وكلمة (غتاتة) المقصود بها الشخص ثقيل الدم، و(نن العين) إذْ هى فى اللغة العربية (بؤبؤ العين) وتعبير أنّ الوعاء امتلأ (لتمة عينه) فكلمة (تمة) نحت مصرى للكلمة العربية (تمام) ويستخدم تعبير «دحلبته لمعرفة سره» أى بمعنى استدرجته العربية. وكلمة (مفشوخة) كبديل للكلمة العربية (منفرجة الساقيْن) وتعبير «فركة كعب» كناية عن المشوار قصير المسافة (ج 2 ص 45، 124، 230، 238، 241، 245) ووصف شقاء الفلاحين بتعبير «طافحين الكوتة» أي الشقاء الفادح فى العربية. وتعبير «الدنيا قلابة» أي الدنيا الغادرة بالعربى..وتعبيرأنّ فلانًا ((وقع فى الخية)) أى وقع فى شرك أوخطأ فظيع..ويستخدم أداة الاستفهام المصرية (ليه) كبديل عن(لماذا) العربية (ج 3 ص 8، 39، 216، 222)  

المبدع الكبيرجميل عطية إبراهيم له أكثرمن مجموعة قصصية وأكثرمن رواية، وكل رواياته زاخرة بالشخصيات الحية والأحداث الدرامية، ناهيك عن الثلاثية التى هى معزوفة تاريخية بلغة فن الرواية، ورغم ذلك يتجاهل كتاب السيناريو والمخرجون إبداعه، فهل الجماليات الفنية، والعمق الفكرى والتوثيق الأمين والمحايد، أحد أسباب هذا العزوف عن هذا الانتاج الأدبى البديع؟