يرسم الباحث الألماني هنا صورة قاتمة للوضع الراهن في السودان، وخاصة في المرحلة الراهنة، ومنذ سقوط عبدالله حمدوك. ويتعرف بالتفصيل على خريطة القوى الداخلية والخارجية، السياسية منها والاقتصادية التي تلعب أدوارا متباينة في الحالة السودانية التي يتنامى فيها نهب ثروات السودان، بينما تتعثر مسيرة الإصلاح والحرية فيه.

السودان: الديمقراطيّة في مواجهة الاستبداد

وكفاح السودان من أجلِ مستقبله

يورج ارمبروستر

تقديم وترجمة حامد فضل الله

 

صدرَ هذا المقال في مجلة "أوراق السياسة الألمانيّة والدوليّة " /2022/ 2 بالعنوان أعلاه ويستعرض فيه الكاتب الوضع في السودان، بعد الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021. لا تزال الحكومة الألمانية في موقفها الرافض للانقلاب، ولكن إلى متى؟ من هنا تكمنُ أهمية هذا المقال، حيثُ يكشف بالتفصيل للقارئ الألماني، حقيقة الوضع في السودان ــ فالصحافة الألمانيّة تتعرّض للتطورات في السودان بصورة مقتضبةٍ وخبريّة فقط ــ ومن أجل أن يمارس الضغط على حكومته لمواصلة رفضها للانقلاب والمطالبة بعودة الديمقراطية والحكومة المدنية. والكاتب المولود عام 1947 في توبنغن، عالم اجتماع وصحفيّ ومراسل القناة التلفزيونية الأولى، للشرق الأدنى والشرق الأوسط منذ فترةٍ طويلة.

إلى النص

لقد أطحنا بالبشير، نجونا من مجزرة الجيش في يونيو/ حزيران 2019. وأجبرنا الجنرالات على تشكيل حكومة مؤقتة مع المدنيين، سوف نفوز هذه المرّة أيضا." تأتي هذه الثقة من قوّة الذات، عند الحديث في هذه الأيام مع الشخصيات المعارضة في الخرطوم العاصمة السودانية، منذُ انقلاب، الجيش في 25 أكتوبر 2021 ضدّ الجزء المدني من الحكومة الانتقالية المدنية العسكرية في عهد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لم تتوقف احتجاجات الحركة المؤيدة للديمقراطية، التي كانت من المفترض أن تمهّد الطريق للديمقراطية بعد سقوط الدكتاتور عمر البشير في عام 2019. ويكاد يكون لدى المرء انطباعٌ بأنّ الطريق إلى حكومة مدنية من دون مشاركة الجيش لشعب السودان هو طريق شاقّ، ولكنّه ممكن، ويمكن التغلب على جميع العقبات والحواجز، لا يتطلّب الأمر سوى الشجاعة والتصميم. قد يبدو في آذان الألمان، بأنّ التفاؤل الذي ينقله هؤلاء الناس الشجعان في الخرطوم، التي على بعد أكثر من 4000 كيلومتر، نوع من السذاجة إلى حدّ ما.

لقد تخلّت المعارضة عن كلّ أعمال العنف، وتحاول التمرّد على قوّة عسكريّة، لا تعرف أيّ تردد حول استخدام القوّة. اعتبر أحمد فضل الله حسن، المتحدّث باسم إحدى أقدم الجماعات المعارضة في البلاد، وهي حركةٌ "قرِفنا"، التي أسّسها الطلاب في عام 2009، أن مظاهرات واحتجاجات السودانيات والسودانيين "هي أقوى سلاح لدينا" وقد قمنا بإحياء لجان المقاومة في أجزاء المدينة، وقد لعبت لجان الأحياء المحلية المتشابكة، وفي طليعة مواجهة الجيش والبوليس1، جنباً إلى جنب مع الهيئات المهنية، مثل تجمع المهنيين السودانيين، أو مع إحدى فروعها، مثل نقابة الصيادلة السودانيين، دوراً هاماً في الاِطاحة بالبشير عام 2019. "وتعتمد سماهر المبارك المتحدّثة باسم الصيادلة بدورها على ضغط الشارع. وقالت عبر الهاتف2: "علينا أن نقاوم باستمرار عبر مظاهراتنا". إن الجنرالات لن يتخلوا طواعية عن مناصبهم ومصادر أرباحهم وامتيازاتهم. "نحن علناً على شاشة رادار الجيش، فالأمر أصبح خطيراً، وعلينا أن نتوقّع اعتقالات أيضاً" في الأشهر القليلة الأولى بعد الانقلاب العسكري، كان هناك أكثر من 70 قتيلًا في المظاهرات. قُبض على عدّة مئات من الشباب السودانيين، واستخدم ضباط الشرطة علانية العنف الجنسي ضدّ المتظاهرات".

ثروة السودان - في أيدي الجنرالات:
إذن مَنْ هؤلاء الجنرالات الذين حلوا الحكومة المؤقتة في نهاية أكتوبر، ووضعوا رئيس الوزراء الحالي حمدوك مؤقتاً قيد الإقامة الجبريّة، وسجنوا أعضاء الحكومة وأعضاء المعارضة الآخرين؟ بطبيعة الحال، فإن حقيقة رغبتهم في إنقاذ البلاد من الفوضى والدمار، كما أعلنوا بصوت عالٍ، ما هي إلاّ خطاب التبرير المُعتاد الذي يستخدمه هؤلاء الانقلابيون. والأسباب الحقيقية أكثر ابتذالاً. والانقلاب كان الفرصة الأخيرة لإنقاذ الثروة التي جمعوها على مدى العقود الماضية، من الاستيلاء عليها من قبل الحكومة المدنية، وبينما يعيش المزيد والمزيد من السودانيين عند مستوى الكفاف أو أقل منه، يزداد كبار المسؤولين العسكريين ثراءً وثراءً. ورغم أنّ الجنرالات السودانيين لم يشنوا حرباً قط ضد دولةٍ مجاورةٍ، تعيش القوات المُسلحة في حالة تأهّب شبهِ دائمةٍ منذُ الاستقلال في عام 1956 - لقد شنّوا حروباً داميةً في الداخل ضدّ المتمردين في جنوب السودان لعقود، وضدّ المتمردين غير العرب في غرب دارفور، والمتمردين في ولاية النيل الأزرق وفي جنوب كردفان على الحدود مع جنوب السودان. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ الانقلابات العسكرية نجحت 17 مرّة ضدّ الحكومات المدنية3. وهذا يدلّ على أنّ السودان بلد غير مستقرّ للغاية، والقوات العسكريّة لا تزال هي القوّة الحاسمة.

لذلك يجدر بنا إلقاء نظرة فاحصةٍ على هؤلاء الجنرالات. سليمان بلدو، الخبير السوداني، الذي يعيش في المنفى ويعمل في منظمة غير حكومية "الحراسة"** وتتخذ من واشنطن مقراً لها، والتي جعلت من مهمتها ملاحقة الأموال القذرة لمجرمي الحرب الأفارقة والمستفيدين من الحرب العابرة للحدود الوطنية، ومحاولة استبعاد، الذين أثرَوا عن طريق العنف، من النظام المالي الدولي. ويشرح بلدو: "كان نظام البشير نظاماً كليبتوقراطياً (الكليبتوقراطيا هي تحويل السرقة إلى مؤسسة متكاملة) خالصاً. وكان للأجهزة الأمنية مثل الجيش والمخابرات والشرطة المهمة الوحيدة لتأمين حكم البشير وحمايته من الانفصاليين في جنوب السودان والمتمردين في محافظات الجوار وفي دارفور. ويتمّ ذلك بمنتهى القسوة وحصلوا كمكافأة على أكبر الشركات في البلاد تقديراً لأعمالهم الوحشية4.

إن قائمة الإمبراطوريات التجارية التي ظهرت بهذه الطريقة، تُقرأ مثل: من هو صاحب الصناعة السودانية؟ وهذه تشمل مجموعة جياد الصناعية، مع أكثر من عشرين شركة تابعة لها، تصنع كلّ شيء من الإلكترونيات إلى الشاحنات والمنتجات المعدنية التي يمكن أن تنتجها الصناعات الثقيلة. كما أنّها نشطة في الزراعة والتعدين والتجارة في الثروة المعدنية. بالإضافة إلى هذه الإمبراطورية، تخضع خدمات الأمن في البلاد، للنظام الصناعي الدفاعي، وهو واحد من أكبر شركات الأسلحة في أفريقيا. والمتخصص في إنتاج المسدسات وقاذفات القنابل اليدوية ومدافع وصواريخ، ولعدّة سنوات وحتى الآن، الطائرات من دون طيّار. بالإضافة إلى ذلك، تنتج إحدى الشركات التابعة التي لا تعدّ ولا تحصى، ما يسمى بالدفع التقني، أي الشاحنات الصغيرة التي يمكن تركيب مدافع رشاشة ثقيلة أو قاذفات صواريخ على سطحها الخلفي، وتحظى بشعبيّة خاصّة في الحروب الأهلية، لأنّها رخيصة وسريعة وسهلة الاستخدام. شركة زادنا القابضة، وهي شركة متخصصّة في إنشاء الطرق والري، وهي تابعة لوزارة الدفاع أيضاً - وأكبر عميل لزادنا هي الدولة التي يسيطر عليها نفس الجنرالات. علاوة على ذلك، بعد سقوط البشير، استولت القوات المسلحة على شركاته وأعماله.

بالنسبة للقادة العسكريين السودانيين، فإن هذه الإمبراطورية الصناعية هي "عمل إضافيّ" مربحٌ للغاية: "الجنرالات يحصلون على راتبين"، كما يوضّح خبير السودان بلدو، إلى جانب رواتبهم كضباط، ثم رواتب كأعضاء في مجالس إدارة هذه الشركات أيضاً". لا الشركات العسكرية ولا الجنرالات أنفسهم يدفعون الضرائب. أحد هؤلاء القادة، وهو اليوم نائب جنرال الانقلاب عبد الفتاح البرهان، هو الفريق محمد حمدان دقلو المُسمى حميدتي، وهو الاسم الذي حقق أرباحاً كبيرةً أيضاً، وأصبح منذ ذلك الحين أحد أغنى الرجال في البلاد: ونشر الخوف والبغضاء والرعب في الاِقليم الغربي، دارفور. وبالمعنى الدقيق للكلمة، إنّه مجرم حرب ويجب نقله إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لكنّه في الواقع جلس على طاولة مجلس الوزراء نفسها، مع المُعارضة المدنيّة حتى الانقلاب في 25 أكتوبر 2021 - كنائب لرئيس الفترة الانتقالية.

مسيرة حميدتي العسكرية المُلطّخة بالدماء، ليست أكثر دموية من إجرام الجنرالات السودانيين. نشأ في قبيلة عربية من مربي الجمال والتجار في غرب دارفور، التحق بالمدرسة الابتدائية لمدّة ثلاث سنوات فقط ثم أصبح في عام 2003 أحد القادة سيّئي السمعة، لما يُسمى بقوات الجنجويد،  وهو جيش من سلاح الفرسان شبه العسكري، تمّ إنشاؤه من الرئيس السوداني آنذاك عمر البشير، محاولاً إخضاع إقليم دارفور المتمرّد، من خلال القتل والاغتصاب والنّهب. ومن الأمثلة على وحشيّة هذه الميليشيا قرية "أسوا". نصب حميدتي في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، كمينًا مع فرقة الموت التابعة له. أطلق رجال الميليشيا النار على الرجال واغتصبوا الشابات واستعبدوا الأكبر سناً. ثم أحرقوا القرية وألقوا الجثث في الآبار. بعد بضع ساعات، واصل مقاتلو الإرهاب التقدم، وقتلوا 128 قروياً - كلّ ذلك بأوامر من حميدتي، وعندما اندلعت الاضطرابات في المقاطعة مرّة أخرى بعد تسع سنوات، أعاد حميدتي تنظيم الجنجويد، بأمر من البشير، إلى قوّة الدعم السريع. تم تدريب هذه الوحدة التي يبلغ قوامها 40 ألف جنديّ بشكلٍ خاصٍ على مكافحة التمرّد وهي أفضل تجهيزاً تقنياً من الجيش النظامي أيضاً، ولا يخضع جنود قوات الدعم السريع إلى الجيش حتى يومنا هذا. قام حميدتي بعمله الدموي في دارفور، بما يرضي تماماً الديكتاتور البشير.

يوضح بلدو: مُنح دقلو "كمكافأة" منجم ذهب في دارفور، مما يجعله وعائلته من أغنى الناس في البلاد، لقد وعوا كيف يبنون إمبراطورية أعمالهم الخاصّة". إمبراطورية يتكوّن محورها من شركة الجنيد التابعة لعائلة دقلو، وتقوم بالإضافة إلى الذهب، باستغلال الموارد الطبيعية الأخرى في البلاد. ويعدّ الذهب، أحد الصادرات الرئيسية للبلاد، رهاناً آمناً بشكلٍ خاصٍ للمصدرين نظراً لارتفاع سعره. في منجم الجنيد وحده تقول العائلة، إنّها تنقب 40 إلى 60 كيلوغراماً شهرياً. بناءً على سعر الصرف الحالي، فإن هذا يتوافق مع أكثر من ثلاثة ملايين يورو5، وتشير مصادر أخرى إلى عائدات تنقيب أعلى بكثير. يتمّ تصدير الذّهب بشكلٍ حصريّ تقريباً إلى دولة الإمارات العربيّة المتحدة، حيث يتمّ التعامل التجاري عبر شركة، Tradive? General Trading Company التي تأسست في دبي عام 2018 ويديرها أحد إخوة حميدتي

ووفقاً لمنظمة "جلوبال ويتنس***" غير الحكومية التي كانت تحقق في "الشبكة المالية السرية" لعائلة دقلو، تقود آثارها، مع استثناءات قليلة، إلى دولة الاِمارات العربية المتحدة، كما يتم تمويل فرقة الدعم السريع عن طريق بيع الذهب أيضاً. وكان الجنرال بالإضافة إلى ذلك، في خدمة وليّيّ عهد الإمارات والمملكة العربية السعودية، كمورد بشري. كان هذان الرجلان الأقوياء في بلديهما يبحثان بشدّة اعتباراً من عام 2015 عن مقاتلين لحربهم في اليمن لسحق المتمردين الحوثيين المرتبطين بإيران6. وكان حميدتي قادراً على التوريد: ويُقال إن ما يصل إلى 30 ألف جندي من قوات الدعم السريع والجيش السوداني قد تم نشرهم مؤقتاً في اليمن كمرتزقة إلى جانب السعوديين والإماراتيين - مقابل رسوم إيجار عالية، والحديث عن ملايين من الدولارات، والتي بحسب بلدو "تمّ تحويلها مباشرة إلى محمد حمدان دقلو وجنرالات آخرين".

خلال الحرب الأهليّة الليبيّة، استخدم أمير الحرب خليفة حفتر، المُمُول من الإمارات والسعودية، مرتزقة من السودان، ومن أماكن أخرى. إن حميدتي المُتربّح من الحرب، كان قادراً على تجميع ثروةٍ، حيث استطاع، ومعلنا عبر التلفزيون الحكومي في أبريل 2019 دعم البنك المركزي للبلاد المُهدد بالاِنهيار، بمبلغ 255 مليون دولار من حسابه الخاصّ. وعندما سئل من أين حصل على كلّ هذا القدر من المال، "فأجاب بكلّ صراحة: "لدينا جنود في الخارج، ولدينا مناجم ذهب، ولدينا مصانعنا".

انقلاب من أجل الربح والامتيازات:
عبر رئيس الوزراء حمدوك في كانون الأول / ديسمبر 2020 وشاكياً في عين الوقت، من غير المقبول "أن تستثمر الأجهزة العسكرية والأمنية في القطاعات الإنتاجية، وتتنافس مع القطاع الخاص بهذه الطريقة". تسيطر الحكومة فعلياً على 18 في المائة فقط من قطاع الشركات المملوكة للدولة، وفقًا لـ حمدوك، ومتعهداً بجعل "أولوية سياسته" استعادة ملكية الحكومة للنسبة المتبقية البالغة 82 في المائة، لكن كلّ محاولاته لإخضاع هذه المتاهة، أي شركات القوات الأمنية لوزارة المالية في وقت قصير من حكمه، فشلت بسبب مقاومة الجنرالات. رفض رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش والانقلابي عبد الفتاح البرهان ببساطة تسليم المشاريع العسكرية إلى الحكومة، وكان تنازله الوحيد، هو التعهد بأنّهم سيدفعون الضرائب في المستقبل على الأقل.

ولكن الجيش السودانيّ مُقيد هو الآخر. حيث إنّ الضباط بالكاد يستطيعون اتخاذ قرارٍ سياسيّ ضدّ مصالح الإمارات والسعودية. ووفقاً لبلدو «فإن هناك تقارير تفيد بأنّ قوّة الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية، تلقت أكثر من مليار دولار في شكل تعهدات ودعم من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، من أجل تعزيز الموقف السياسي والاقتصادي المهيمن للقيادة العسكرية»7. وبعبارة أخرى، نظراً لأنّ كلّ من قوات الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية يعتمدان على هذين المقرضين الخليجيين، فمن غير المرجّح أن يقوم جنرالات الخرطوم في 25 أكتوبر بالاِنقلاب ضدّ جزء مدني من الحكومة دون استشارة الرياض وأبو ظبي. فلا الإمارات ولا المملكة السعودية لديهما أي مصلحة في إجراء تجربة ديمقراطية في جوارهما، وهناك شيء واحد مؤكد: دافع الجنرالات السودانيون عن أرباحهم وامتيازاتهم من خلال الانقلاب، وبالتالي أعاقوا بداية تنمية البلاد.

"الإصلاحات الاقتصادية الضرورية غير ممكنة في السودان دون الوصول إلى الشركات العسكرية، هذه قناعة بلدو ويضيف، "يجب أن يرحل الجنرالات القدامى، السودان بحاجة إلى جيش جديد تماماً لا يتدخل في السياسة" ولديه ثقة كبيرة في تنوع المعارضين. "إنهم منظمون بشكل جيد للغاية، ويمكنهم في نفس الوقت، حشد الجماهير في جميع أنحاء السودان، ويستخدمون أشكالاً مختلفة جداً من الاحتجاج ويريدون إيقاف مظاهراتهم فقط، عندما ينسحب الجيش من السياسة." ولكن ماذا يمكن لهذه المعارضة السودانية أن تفعل الآن؟ ضد هذا التفوق العسكري والسياسي والاقتصادي، الذي هو على استعداد أيضاً، لاستخدام أسلحةٍ ثقيلةٍ مثل المدافع المضادة للطائرات ضدّ المتظاهرين العزّل؟ هذه قناعة "دويتشه فيله" وقادرة على الأقل، أثبات ذلك على قوات الدعم السريع8. هل تستطيع الجماهير في شوارع المدن، قلب المعادلة لصالح التطور الديمقراطي في السودان؟ وهل يمكن أن يسير ذلك بسلام؟ رفض العنف في مواجهة العنف المُفرط. ومن هي هذه المعارضة في الأساس؟

اللاعنف في مواجهة العنف المفرط:
يبدو أنّها حركة (المقصود المعارضة) تحظى بتأييد شعبيّ كبيرٍ. فقد تمكنت من حشد عشرات الآلاف من الأشخاص ضدّ انقلاب الجيش، أسبوعاً بعد أسبوع، في كلّ مدينة رئيسية تقريباً في البلاد. ربما يتحدث المنظمون قليلاً عن مسيرات الملايين، عن الإغلاق الكامل للبلاد، حول الاحتجاجات الدائمة التي من المفترض أن تستمر حتى يقول الجيش وداعاً للسياسة. يجب أن تكون الحكومة القادمة مدنية بحتة. من الصعب في الوقت الحالي الحكم على ما إذا كانت هذه مجرد أحلام لأشخاص شجعان يتوقون إلى هواء صافٍ للتنفس. أحد اللاعبين الرئيسيين في المعارضة السودانية، هو تجمع المهنيين السودانيين المذكور أعلاه. تأسس في أكتوبر 2016 كردّ فعل على العديد من الاحتجاجات غير الناجحة من قبل المجموعات الفردية. "لقد تعلمنا، كما أوضح لي المتحدث الأول باسم تجمع المهنيين السودانيين، أستاذ عالم الاجتماع في الخرطوم محمد يوسف أحمد المصطفى، في ديسمبر 2019، أنّ النقابات المهنية الفردية كانت أضعف من أن تغير أي شيء، وهذا هو السبب في أننا انضممنا في البداية إلى الأطباء والمحامين والصحفيين. والمهندسين. وكلها تجمعات غير قانونية ". وطالب تجمع المهنيين السودانيين حكومة البشير بالاعتراف به كاتحاد قانوني، فضلاً عن توفير فرصٍ تعليميّة أفضل للجميع وظروف عمل لائقة. بحلول عام 2019، انضمت 18 اتحادات مهنية أخرى9.

واجه تجمع المهنيين السودانيين أول اختبار رئيسي له، أثناء الانتفاضة في ربيع 2019، عندما نسق المظاهرات. "لقد نجحنا لأننا قمنا بعملٍ تضامنيّ. قالت لي الصيدلانية سماهر بفخر عندما التقيتها في الخرطوم لأوّل مرّة في ديسمبر/ كانون الأول 2019 ، وهي تحمل مواد التضميد للإسعافات الأولية والأدوية، وكانت تعتني بالجرحى وتشارك في المظاهرات دائماً. دعت مع نساء أخريات في الصف الأمامي إلى استقالة الرئيس عمر البشير، وبعد ذلك تفاوض تجمع المهنيين السودانيين، إلى جانب مجموعات مدنية أخرى، مع الجيش على الاتفاقية المؤقتة لمدّة ثلاث سنوات، التي من شأنها أن تشكل حكومة بقيادة من الجيش والمدنيين. وظهر من بين صفوف هؤلاء المفاوضين المدنيين، الرجل الذي في نظرهم، فشل فشلاً ذريعاً بعد عامين: الاقتصادي عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان الجديد من 19 أغسطس 2019 حتى اعتقاله من قبل الانقلابين في 25 أكتوبر 2021.ومن 21 نوفمبر، حتى استقالته في 2 يناير 2022، رئيساً للوزراء، بنعمة وتحت رحمة العسكر.

إنّهم مترددون اليوم في الحديث عنه، وإذا قاموا بذلك، جاءت أصواتهم تنذر بالغضب وخيبة الأمل: فبينما اعتقاله في أكتوبر/ تشرين الأول، جعل منه أولًا، شهيداً في نظرهم، أصبح بعد شهرِ واحدِ، منذ توقيعه الاتفاق مع البرهان، خائناً. لا شكّ في أنّه حكمٌ قاسٍ وظالم في بعض الأحيان، حيث حاول حمدوك، كما يقول بنفسه، منع إراقة الدماء وإنقاذ نفوذ المدنيين في السياسة السودانية. ولم يكن حمدوك كرئيس للوزراء فاشلاً تماماً. فقام بتمكين الحريات المدنية، التي لم يعرفها السودانيون من قبل، وألغى القوانين وخاصّة الظالمة والمعادية لحقوق المرأة، وتمكن من إزالة البلاد من قائمة الدول الداعمة للإرهاب.

لكن بالنسبة للمتشددين من المعارضة - ويبدو أنهم أغلبية - فإنّ الحكم هو الوحيد الذي يجب تطبيقه، كما جاء هاتفياً على لسان المتحدثة باسم نقابة الصيادلة، سماهر المبارك: "أنت لا تتفاوض مع الجيش! ولا توجد شراكة مع الجنرالات ويضيف المتحدث باسم "قرِفنا" أحمد فضل الله حسن: «لقد وثقَ الشعب به كرئيس للوزراء. لقد فقد هذه الثقة من خلال اتفاقه مع الجيش". كما رفضت قوى الحرية والتغيير، أكبر تحالف معارض هذا الاتفاق وبالتالي عارضت حمدوك، والتي كانت حتى ذلك الحين تحاول تقوية ظهره ضدّ الجنرالات. وهذا يعني، أن صاحب الأمل في حركة الديمقراطية السودانية، فقدَ كلّ الدعم تقريباً، على الأقل في الوقت الحالي. إن تبريره من أجل منع إراقة الدماء يدفع الكثيرين إلى هزّ رؤوسهم. سليمان بلدو فقط، هو الذي يدعو إلى تَفهُم حمدوك: "لقد أراد تجنب انهيار الدولة، ومنع إراقة الدماء، ولا ينبغي أن يصبح السودان منبوذًا كما كان من قبل. أراد الحصول على مساعدة مالية من الخارج حتى لا يصبح السودان دولة فاشلة مثل الصومال.

ووفقا لبلدو، وافق حمدوك على توقيع هذا الاتفاق، الذي لا يحظى بشعبية كبيرة من المحتجين في الشوارع والأحزاب السودانية، وهو القرار الذي فشل فيه في نهاية المطاف، كما اعترف بذلك صراحةً في خطاب استقالته في 2 يناير/ كانون الثاني، وخاتماً كلماته كرئيس للوزراء، "إن بلادنا الآن عند منعطفٍ خطيرٍ، وبقاء السودان مهدداً، إذا لم يتم تقديم المساعدة بسرعة". ولكن كيف يمكن المساعدة، وكيف يمكن قلب التيار لصالح الحركة الديمقراطية السودانية؟ وكيف يجب أن يتصرف المجتمع الدولي؟ قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي بتجميد جميع المساعدات الاقتصادية والتنموية فور الانقلاب. لا ينبغي، حسب التبريرات في برلين وبروكسل وواشنطن، إنفاق أي أموال على أعداء الديمقراطية. وهتف المتظاهرون في شوارع الخرطوم ومدن أخرى بالبلاد عندما سمعوا بالقرارات، وحذا حذوهم تجمع المهنيين السودانيين وجماعات معارضة أخرى، ومعلنين مطالبهم القاطعة: لا ينبغي تحويل الأموال مرّة أخرى، حتى ينسحب الجيش تماماً من السياسة.

الضغط المالي ضروري:
يقدّم سليمان بلدو اقتراحاً ربما يكون أكثر انفتاحاً على التسوية، ولكن ليس أقل اتساقاً: يجب استئناف المساعدات المالية الدولية فقط "عندما يكون من المؤكد بالفعل أنّ اتفاق نوفمبر 2021 بين حمدوك والجنرالات سيتمّ تنفيذه حرفياً. لذلك ويتمّ إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين مرّة أخرى وتستمر عملية الدمقرطة في البلاد ويمكن إجراء انتخابات حرّة ". ويذكر الخبير السوداني شرطًا آخر: وهو أن يدعم الجيش الإصلاحات الاقتصادية لحكومة منتخبة حديثاً، والتي يجب أن تشمل "إمبراطورية شركات الجنرالات أيضاً" عندها فقط، يجب أن يتدفّق الدعم من المانحين الدوليين مرّة أخرى لأنه، وفقاً لبالدو، "فالجنرالات يفهمون جيداً، معنى الضغط المالي". يجب على المجتمع الدولي فرض عقوبات عند أدنى محاولة من قبل الجيش لعرقلة السياسة المدنية. "يجب توجيه هذه الإجراءات القسريّة ضدّ الملكية الخاصّة لعائلة دقلو أيضاً."

ومن دون الدعم الموعود من الخارج، ستجدُ المعارضة في البلاد صعوبة في إجبار الجيش على العودة إلى ثكناته. ولكن هل يمكن للمرء أن يعتمد على وعود الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو البنك الدولي؟ وهناك عدد غير قليل من المقاومين، الذين يشكون في هذه الوعود. التهديد بعدم الاستقرار في بلد ما، أو التهديد المزعوم للإرهاب أو تدفقات اللاجئين في طريقهم إلى أوروبا – كانت مثل هذه الحجج كافية في الماضي، لتجعل الاتحاد الأوروبي يتراجع عن وعده ويفضل الاعتماد على الأنظمة الاستبدادية. في مصر، على سبيل المثال، أدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في البداية انقلاب 2013 ضدّ الرئيس المنتخب محمد مرسي، وبعد فترة قصيرة تم الاتصال والتطبيع مع الاِنقلاب. وتشكو شخصيات معارضة مصرية، من أن الدول الديمقراطية دفنت نهائياً، الحرية في أرض النيل. قول مبالغٌ فيه؟ ربما. ولكن من دون أيّ تدخل خارجيّ، تتطور تونس، البلد النموذجي المفترض للربيع العربي، بشكلٍ متزايد لتصبح حكومة سلطويّة.

ولكن إذا عاد السودان فعلياً إلى العصر الاستبدادي القديم، فإنّ حتى آخر دولة أفريقية عربية، يرتبط بها أمل التحول الديمقراطي، تكون قد أخفقت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ــ صدر هذا المقال في مجلة " أوراق السياسة الألمانية والدولية "،2/2022/، Jörg Armbruster, Demokratie versus Despotie: Sudans Ringen um seine Zukunft, Blätter für deutsche und internationale Politik, 2´22

[1] Im Gespräch mit dem Autor, 16.12.2021.

2 Im Gespräch mit dem Autor, 13.12.2021.

3 Vgl. Hager Ali, Warum das Militär im sudan so viel Macht hat, www.magazin.zenith.me 23.11.2021.

4 Im Gespräch mit dem Autor 16.12.2021.

5Jebel Amer, Sudan govt takes control of Darfur's Jebel Amer gold mines, www.dabangasudan.org,

29.10.2020.

6 Vgl. dazu Guido Steinberg, Jemens Guido Steinberg “Jemen oder der Krieg ohne Ende, in: „ Blätter" 1/2021, 79-86

7 Suliman Baldo und JR Mailey, A Strategy for Revitalizing Sudan's Democratic Transition  www

thesentry.org, November 2021.

8 DW exclusive: Sudan's military  used heavy weapons  against anti-coup protesters, www.dw.com , 14.12.2021.

9Vgl. Jörg Armbruster, Die Erben der Revolution - Was bleibt vom Arabischen Frühling, Hamburg 2021.

** The Sentry

*** Global Witness