يقدم الناقد والروائي المصري هنا تحليله لمجوعة قصصية للكاتب السكندري المرموق مصطفى نصر ويكشف عن تناولها لحالات كاشفة عما تعاني منها المرأة المصرية من أشكال متعددة من القهر. وكيف تصبح أحيانا عضوا مشاركا ومتورطا في لعبة القهر التي يمارسها الواقع المحيط مع شخوصه الرجالية والنسائية معا.

وجوه متعددة للمرأة

في مجموعة «وجوه» لمصطفى نصر

محمد عطية محمود

 

تتعدد وجوه المرأة في الكتابات الإبداعية، مع تعدد صيغ وجودها على خريطة الحياة الاجتماعية، التي تتعانق فيها التجارب الحياتية الدالة على مدى الانغماس في اليومي والمعتاد، والمفارق للمعتاد، من خلال ما تطرحه القريحة الإبداعية المنشغلة بتلك النماذج الخارجة من عتمة هذا الوجود، وبما تفرضه الدلالات الموحية بعمق الأزمة التي تنبثق من كل تلك المعادلات، والتي قد تبرز من خلال كتابة سردية ذكورية عن المرأة، ربما كانت الأقرب والأجدر والأكثر حيادية للتعبير عن قضاياها وإشكاليات وجودها على سطح الحياة المتماوج، من خلال ما تعرضه من حالات/ صور تتمثل وتقع في دوائر فيما بين الشعور بالقهر والانغماس في قيود مجتمعية/ تاريخية، أو نفسية قد تؤرق هذا الكيان المكمِّل والضروري بلا شك لفعاليات الحياة؛ فبطبيعة التغيُّر والتحول لم تعد المرأة تلك القطعة الملتهبة من الجنس والشبق والمجون فقط، والتي ربما ظهرت من خلال النماذج المتعددة للكتابة عنها عبر حقب الكتابة الأدبية عموما، وانتقال تلك الإشكاليات للمعالجة والتأريخ من خلال مجتمعاتنا التي تأثرت بلا شك بحركة المد والجزر للحركات النسائية والتغيرات المجتمعية، مع اختلاف ما تواجهه المرأة هنا من قضايا القهر والتسلط والتمييز، وغيره من إشكاليات وجودها المُلِحْ على خارطة المجتمع بفعاليات جديدة وأدوار جديدة، وأنماط للتعامل قد تضع المرأة أحيانا في مساواة حقيقية مع العنصر الذكوري المقابل لها في المجتمع، لكن ربما شاب هذه المساواة افتقاد عنصر ثقافة التعامل مع تلك الخبرات المكتسبة المتجددة، والتي أدت إليها بالتأكيد تغيرات مجتمعية واقتصادية أشد وطأة، وأكثر تأثيرا، ولكن المرأة هي المرأة.

ومن خلال المجموعة القصصية (وجوه)* للقاص والروائي المصري مصطفى نصر، فإن نماذج المرأة الأم والأخت والحبيبة والأرمل والمطلقة، تبرز على هذه السطوح لتعالج/ تعرض/ تبحث، ما تفرزه القيمة المتغيرة للتعامل معها على عدة مستويات؛ تتفاوت وتبتعد وتتلاقى على أعتاب البعد الإنساني الشفيف، من خلال المكتسبات والمتغيرات التي تنغمس بها تلك النماذج وتتورط بها مع فعاليات هذا الواقع الإبداعي الذي يكاد يتماثل مع الواقع الإنساني.

تغييب الواقع بين الحجب والكشف:
في نموذج "قصة السؤال": يتجلى نمط من أنماط تعامل المرأة مع أحوال الحياة وصروفها، من خلال ما تطرحه أزمتها الذاتية من حيث كونها عاقرا، تقترن بزوج عاقر، وبما تحمله هذه العلاقة من عبء الحالة النفسية الصعبة، والتي يبدو من خلالها مدى صعوبة استمرار الحياة بلا امتداد، وهي الحالة المعضلة التي ربما عانى منها الكثيرون، وتعايشوا معها على نحو ما أو آخر .. مفارقة الحالة هنا تقع، من خلال حالة النزاع/ الشقاق، بعد كمون واستسلام، على خلفية سلوك مغاير للمرأة تفرضه حالة تشتتها ووقوعها تحت تأثير وازع ديني متشدد، يلزمها بارتداء (نقاب)، وهو الذي يمثل بالنسبة لها كحاجز/ عازل عن مجتمعها المحيط بها، كما يفرض عليها تحريم علاقة إنسانية ارتضتها وزوجها، على حافة يأسهما وقنوطهما من فرص إنجاب طفل، بلجوئهما إلى تبني طفل يتيم، ورفضها لهذا النمط من التعامل الذي كان من قبل مستساغاً لها إلى حد بعيد: "أسرعت أنصاف بشد النقاب فوق وجهها ولاذت بالصمت"[1]

وهو رد الفعل الذي يأتي في أعقاب حوارٍ دالٍ كاشفٍ عن تفاصيل هذه الأزمة الجديدة التي طرأت على حالة هذا الوجود الإنساني في بيت مغلق على أصحابه، وهنا يأتي النقاب متواكبا وممثلا لمرحلة من مراحل التحول المجتمعي باللجوء إلى التشدد العقيدي، كما يبدو كوسيلة للهرب من هذه الحالة وجذور الفقد المطبقة على نفسيتها. ويتحرك السرد من خلال هذه المساحات/ الفراغات التي أثارتها حالة الحوار والسؤال الملح الذي يتكرر من خلال الزوج الذي يحاول إعادة زوجته إلى سياق العلاقة الطبيعية معه ومع الطفل، ليستعرض النص زمنيا "قصة الولد" التي ربما تتعادل مع "قصة السؤال" التي يطرحها؛ ليميط اللثام عن المحرك العقيدي الجديد الذي يؤثر في مسار العلاقة: "كثيرا ما ذهب يسري معها إلى المساجد: السيدة والحسين في القاهرة والسيد البدوي في طنطا، والدسوقي في دسوق.. في كل مرة كانت أنصاف تبتهل إلى الله في خشوع طالبة أن يحمي زوجها، وأن ينجحه في المدرسة، لكن هذه المرة بهرت بالواعظ وشاركت أتباعه الكثيرين إعجابهم به....

في أحد هذه الدروس تحدث الواعظ عن التبني في الإسلام.. أحست إنصاف وقتها أن جسدها كله يهتز، وعرق بارد يتساقط داخلها، فتامر ليس بابنها"[2] ليتوازى نمو الطفل بينهما مع نمو/ توغل الشعور والإحساس داخلها بعدم شرعية هذا التبني. "فتنقبت أنصاف وأخفت وجهها."[3]

لتحسم تيمة الصراع بين الفطري والواجب الشرعي بداخلها، وبين حياتها مع زوجها والطفل، لصالح النزعة المتشددة الجديدة التي تمكنت منها، لتكون النهاية التي سبقتها عملية استحالة العيش في ظل هذه الظروف التي لا تناسبها في حالتها الجديدة: "أسرع يسري إلى أنصاف التي صاحت فيه متحدية:

  • لقد مللت من هذا. إما أنا أو تامر في هذا البيت.

قال في أسى: سأترك لك الشقة، وسأذهب بابني إلى شقة أخرى"[4]

ربما تماست فكرة النص مع نموذج قصة "وجوه"، التي تحمل العنوان الرئيس للمجموعة، وهو عنوان حمَّال، من حيث كونه معبرا عن العديد من الوجوه المادية والمعنوية، والتي تعبر من خلال شقيها عن العديد من السمات الشخصية والحالات الاجتماعية من خلال ظلال سلوكيات أصحابها الخارجية، فضلا عن ملامحهم الداخلية المحملة بالندوب والحفر.. ومن خلال الاعتماد على صيغ التحول المجتمعي، الذي يجسد حالة الانعزال التي عانى منها نموذج شخصية أنصاف في نص "قصة السؤال" للبقاء في الدوران في فلك الحياة، وإن كان بوجود هامشي؛ ففي نص "وجوه" يبرز نموذج المرأة التي يرصد تحولها من النقيض إلى النقيض في سياق جديد من صور تقلب الأوضاع المجتمعية الناتجة عن وقوعه تحت تأثير تيارات التشدد في ظاهر الأمر، لكن مما لاشك فيه أن العامل النفسي الداخلي مع الظروف البيئية المحيطة يلعبان أيضا دورا مهما في تأطير وتجسيد حالة الانطواء والانعزال. "ولم تكن نادية انطوائية، أو خجولة أمام الرجال، بل كانت متحدثة لبقة، في صوتها نعومة، تشترك في جميع الحفلات والرحلات تقريبا. وفي أخر مسرحية عرضتها الشركة كانت هي رئيسة فريق الرقص"[5]

فتعكس البدايات التقريرية للحالة، عن طريق الاسترجاع، حالة الانفتاح على المجتمع المحيط والإقبال على مباهج الحياة ومتعها؛ ليعتمد النص صيغة التلخيص التي تأخذ خطاً سردياً طولياً يعمل على سبر غور تاريخ الشخصية التي تقع في أسر ظروفها الاجتماعية المحبطة، ومن خلال محطات حياتية مألوفة ولكنها غير متسقة: (ارتباط متأخرـ خطبة فاشلة ـ زواج ـ طلاق) ثم عودة لمحاولة اللحاق بركب الحياة من خلال زوج جديد متشدد تدفعها ظروفها لتقبله، وكما يقول السارد العليم، المشارك في صنع الحدث القصصي: "بدأت أسمع عنها أشياء غريبة، تمتنع عن مصافحة الرجال، حتى عندما دخل رئيس الشركة مهنئا بالعيد امتنعت عن مصافحته رغم أنه مد يده لها، ورغم عمره الذي يقارب الستين"[6]

هنا يرصد النص تلك الصراعات النفسية مقترنة بالصراعات الخارجية والتي تقودها سمات التغير المجتمعي بامتياز؛ لتطفو فئات متشددة تؤثر بفكرها وسلوكها، لتسيطر على مجريات الأمور بطريقة مثيرة للدهشة والعجب، لم تكن موجودة على ساحة المجتمع، تؤثر بالتبعية لتصير هذه التصرفات الشخصية التي لا تجعلها تتواءم مع واقعها المحيط/ القديم، أسباباً لانعزالها وإقصائها لذاتها عن هذا المحيط؛ لتتوالى خطوات الابتعاد، حتى يصير الإقصاء والانعزال هما النهاية الحتمية لعلاقتها بما حولها: "وبالطبع انتهى بها الأمر بأن استقالت من الشركة"[7]

من خلال النموذجين السابقين، تشكل قضية نقاب المرأة ـ  بحسب ما طرحته رؤية الكاتب ـ كقضية مجتمعية طارئة، ملمحاً مهمًا ومنعطفًا خطيرًا من منعطفات التغير والتحول الذي يمس في جانبه هما من هموم المرأة/ المجتمع، التي تؤثر بالتالي بالسلب على دوران حركة الحياة الطبيعية بالمجتمع أو الواقع الصغير المحيط.

الوقوع في دائرة الغيبوبة:
- سأستريح إذا ما مضغت فص الأفيون.

أسرعت الزوجة والأولاد عندما سمعوا صوت سعاله. قالت الزوجة:

  • ما الذي حدث؟

كان يلهث وصوته متقطع. قامت الأخت وقالت:

  • سأذهب لإحضار الدواء"[8]

هنا، في نص "هي"، تبرز من بين هذا الثلاثي الاجتماعي الأشهر، شخصية الأخت التي تغامر بالدخول في مستنقع باعة المخدرات؛ لتخترق كل المحظورات كي تجلب لأخيها المريض، المخدر كدواء، وكي تمنحه سعادة ً يحاول اقتناصها والخروج بها لحظياً من حالته الراهنة، والتي تمثل على الجانب الآخر المأزق الذي تقع فيه الأخت، والتي يقدم لها النص أسباب استبعاد حدوث هذا الأمر منها، إلا أنها تنجح في إحضار/ جلب (الدواء/ المخدر) الذي ربما عالج وقتياً وظاهرياً علةً من علل مجتمعها/ واقعها المحيط المشتبكة من خلال علاقتها الحميمة بأخيها المريض الذي يصارع من أجل تغييب مسببات ألمه، في علاقة عكسية مع واقعه المحيط الذي ينجح في تغييب ذاته، تلك العلاقة الغريبة بين الأخ/ الرجل، والأخت/ المرأة التي يفرضها واقع اجتماعي صعب يدفع شخوصه للولوج في عالم الإدمان، والمجتمع ذاته في غيبوبة لا يفيق منها.. كما يدفع المرأة ـ في علاقة عكسية أيضا ـ كي تتحمل مسئولية الرجل في ملمح جديد شائه من ملامح الحياة المعاصرة.

المرأة هنا تصبح هنا عضوا مشاركا/ متورطا في لعبة القهر التي يمارسها الواقع المحيط مع شخوصه/ رموزه الواقعين تحت سيطرة التغييب؛ لتنمو أزمتها الداخلية وتتعاظم مع نمو أزمة مرض أخيها، ومن ثم واقعها المحيط: "تنهدت فرحة عندما وضعت قدميها في أول الشارع الذي يسكنه أخوها. مهما حدث فلن تهتم المهم أن تعطي لأخيها ما يتمناه"[9] إلا أن المفارقة ـ الطبيعية ـ التي يصنعها النص بلغته السهلة التي يعتمدها الكاتب لنص يسير سيراً خطياً منتظماً لا يقطعه إلا عرض يسير للحالة الخاصة بالمرأة، والتي يُهمش فيها تاريخ الرجل ومسببات ولوجه عالم التغييب، والتي تحدث فراغا ربما ملأته دلالات الوقوع العام في الحالة.

"دفعت الزوجة جسد زوجها ونادته. لكنه لم يستجب. وهي عندما تأكدت من موته رمت فص الأفيون على الأرض وصرخت"[10] تلك النهاية التي تحسم الصراع بين الرغبة في معانقة الحياة في طل ظروف راهنة دفعت كل من الرجل والمرأة والمجتمع في خضم عالم التغييب: الرجل بفعله السلبي المتورط، والمرأة بفعلها السلبي والإيجابي في ذات الوقت، والمتورط أيضا في الوقوع في فتنة الحياة وتداعيات العلاقة مع مجتمع يعيش على مسببات تغييبه وتغييب قضاياه، ومن ثم قضية وجود المرأة ذاتها، وعلاقاتها العكسية مع كل ما تدور في فلكه.

بين الانكشاف والكشف:
يقف نص "الاختيار الصعب" على إشكالية جديدة من إشكاليات وجود المرأة في متن يدفعها نحو الهامش، من خلال نموذج المرأة الأرمل التي تحاول دفع همومها خارج نطاق الذات لتثبت وجودها داخل المتن بقوة رجل وامرأة معا "تنهدت في أسى فمنذ أسبوع ـ لا أكثرـ كان يقف تحت الشرفة يحدث زوجته ترسل إليه الغداء عن طريق الحبل، و"السَبَت" وإذا مر بائع فاكهة تعجبه يشتري وينادي عليها. تنزل "السَبَت" يضع ـ هو ـ الفاكهة فيه"[11] هذا الشعور بمرارة الفقد الذي يبدو من خلال عملية استرجاع التفاصيل الحياتية السابقة، والتي لم تبرد نارها بعد ـ بالتعبير الدارج ـ تلعب فيها دلالة الفاكهة دورا هاما في تجسيد هذا الشعور الذي راح أدراج الرياح. تلك المشاعر التي تتوازي مع الحركة الخارجية التي يشعلها وجود طفلتها اليتيمة وهي تحرك الراكد، ينقل عبرها النص فضاء التوتر الذي يشغل شخصية الأم الوحيدة الواقعي تحت تأثير كل ما يحيط بها من دواعي الأسى: "ملَّت ابنتها من اللعب في الستارة الحمراء. فبكت ثم حركت ساقيها ويديها "فركتهم" وازداد بكاؤها"[12]

في ذات الحين الذي تتحرك فيه ومن خلاله ظلال/ تداعيات العلاقة السابقة لها مع زوجها من خلال هذين الخطين المتوازيين، اللذين يقطعهما وجود شخصية "حلمي" صبي الزوج الراحل، والذي يدفعه النص، كتلك القشة التي تتحرك في فضاء المكان الموروث "دكان الحلاقة"، وفضاء المرأة الحزينة بالتوازي مع ظروفها المحبطة؛ لتطفو على سطح النص حالات الشد والجذب بين ضغط الاحتياج المادي لاستمرار الحياة، والنفسي لعزلة المرأة وشعورها بالافتقاد إلى الحميمية التي من المفترض أن تربطها بطرف إيجابي يزن معها معادلة وجودها.. ليطرح النص علامات الرضوخ أو عدم القدرة على المقاومة الفردية لضغوط الحياة كملمح من تلك الملامح المتشابكة: "في الصباح استيقظت متأخرة فقد نامت متأخرة أيضا. عيناها متورمتان من أثر البكاء. سمعت صوت حلمي في الشارع وهي مازالت فوق فراشها. لم تفتح الشرفة طوال اليوم. ولم ترسل إليه غداءه ككل يوم فهي لم تعد غداءً لنفسها. حزينة وقلقة لا تعرف ما ستفعل"[13]

تبدو من هنا حالة التأرجح بين الانجذاب لتلك الشخصية التي تسحبت لتحتل معنوياً محل الزوج الراحل، والابتعاد عنها كملمح دال يلعب عليه النص ليبرز مدى تأصل هذا الشعور بالاحتياج وتمكنه منها، والذي غالبا ما يسبق حالة اتخاذ القرار فيه هذه الحالة النفسية من التوتر والانشغال الذي يشعل فضاء النص/ الحالة الإنسانية على حد السواء؛ لتكون النتيجة لدى هذه المواجهة الإيجابية التي ينهي بها الكاتب نصه: "أخرج النقود من كل جيوبه. وضعها فوق المائدة الصغيرة. مدت البنت يدها. أمسكت ببعض النقود. أخذ هو يعد ويتحدث. وهي شاردة صاحت فجأة: "حلمي، تتزوجني؟"[14]

يأتي هذا الحل السحري لنهاية النص والحالة معا، لعقد بداية/ حالة جديدة من رحم افتقاد وقطيعة، مع اكتمال الصورة الثلاثية مرة أخرى (المرأة ـ البنت ـ الرجل/ البديل)؛ لتضع ملمحا هاماً وبارزاً من ملامح التحول التي ربما لجأت إليها المرأة أو نموذجها في هذا النص المتميز، هربا من واقع مرير يضغط على حواسها ومادتها في نفس الآن، لينتج هذه الحالة/ العلاقة الإيجابية للتواصل مع الحياة، على الرغم مما بها من مصاعب وعقبات. في الوقت ذاته الذي يبرز فيه نموذج شخصية المرأة التي تواجه شبح الغياب المؤقت لزوجها المسافر، في نص "اكتشاف"، والذي تتحول فيه كل التفاصيل الحياتية المعتادة والمألوفة، إلى تفاصيل ومفردات يشعلها الاشتياق وإعادة اكتشاف تلك الشخصية الرجولية التي غابت مؤقتاً، والتي كان تأثيرها النفسي والدلالي مطمورا تحت ركام تفاصيل الحياة وتداعيات الحياة المعتادة المحيطة، إضافةً إلى شعور المرأة الذاتي بالانتقاص من شأنها كحالة اجتماعية تتمثل في كونها زوجة ثانية لرجل بعد موت أختها/ زوجته، ليبرز النص التضاد في المعاملة الذي يسم العلاقة بينهما، على نحو ما يقول السارد: "هو يتحملها، ولا يظهر لها ضيقه بها رغم ما تفعله. كل يوم مطالب جديدة لكي تثير مشاكل معه. الشقة في حاجة إلى بياض. المراتب والوسائد في حاجة إلى تنجيد، يوافق هو رغم ظروفه الصعبة، يقترض... ماذا سيفعل؟" وهكذا[15]

ليفرض النص أسباب الشقاء التي يعيشها الرجل في كنف زوجة غير راضية، لكن التحول النفسي في شخصية المرأة لدى شعورها بافتقاد الظل الذي تعيش في كنفه، في لحظة فارقة من لحظات حياتها، يشعل حيرة في فضاء نفسها، ويشعلها الكاتب في نصه بامتياز وحنكة، وبطريقة متسللة إلى النفس كاشفة لأغوارها. "الوقت ككل يوم. انشغلت بعمل البيت وبالولدين. لكن قلقا ـ لا تدري له سببا ـ ظل يصاحبها وهي جالسة في مدخل الحمام تغسل الأواني كعادتها.. اقترب ميعاد عودته من عمله. أجل قبل الساعة الثالثة بقليل تسمع صوت احتكاك حذائه على درجات السلم ثم صوت جرس الباب. تعرف "دقته"."[16]

لتشتعل مع حرارة الترقب المفاجئة، هذه، حالة من الغضب الحاني؛ لتخلق حالة من التمني، تمني عودته تزكيها تفاصيل استباقية متخيلة، ومستعيدة لما كان يفعله من طقوس يومية سابقة التي كان يفرضها وجوده على جو البيت في نفس الوقت على نحو الفعل ورد الفعل: "سيأتي هو بعد قليل ويخبرها بما حدث... يحكي لها عن عمله... (تسمع دون أن تتجاوب معه)... يقف هو لشي اللحم أو تحمير الكبدة أو السجق، لا بد أن يفعل شيئا في المطبخ... يتحدث مبتسما... (رغم عبوسها)" وهكذا؛ لتصير النتائج على نحو يجري بالوقت نحو افتراس القلق لها، لتتسلسل عملية الاكتشاف الجديدة التي تمارسها الشخصية من منظور جديد وغريب على سماتها الرافضة والمتحفظة، وهي التي يلعب عليها النص بتميز: "مر الوقت دون أن تحس.. تقترب الساعة من الرابعة الآن. ولم تأكل هي ولا الولدان... هي لا ترغب في الأكل.. فما ذنب الولدين؟"[17] لتبدو كل تلك الأمارات لكي تشكل علاقة جديدة لها مع زوجها الغائب عنها: "تابعت باب الشقة. لم تصدق أنه لن يأتي الليلة، وأنها ستقضي الليل كله بدونه.. رأته يجول في الشقة بابتسامة واسعة. أحست بالخوف، غطت وجهها بالغطاء. بكت"[18]

يبدو هنا التخيل المتعلق بعملية اشتهاء الرؤية وعودة الزوج، ممنطقا إلى حد كبير، ومتسقا مع هذه النهاية الموفقة للنص، لتجسيد هذه الحالة من العودة عبر دروب النفس للتيقن من أن ما نملكه لا نشعر بأهميته إلا عندما نفقده، وهو لسان حال الحالة الجديدة التي انبثقت من الشخصية القديمة التي حوَّلها النص، تحولا إيجابيا مع هذه النهاية الممنطقة بسلاسة عودة الحس الإنساني الشفيف المعبر عن إيجابية تعامل المرأة مع نموذج  آخر من نماذج التعامل مع الواقع المحيط، ربما تماست مع نموذج قصة "الاختيار الصعب"، في كونهما مكرسين للإيجابية الفطرية التعامل مع الشأن الإنساني عمومًا.

Mohammadattia68@gmail.com

 

 

* وجوه ـ مجموعة قصصية ـ مصطفي نصر ـ كتاب الاتحاد ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 2003

[1] المجموعة ص11

[2] المجموعة ص15/16

[3] المجموعة ص17

[4] المجموعة ص21

[5] المجموعة ص57

[6] المجموعة ص66

[7] المجموعة ص69

[8] المجموعة ص28

[9] المجموعة ص29

[10] المجموعة ص30

[11] المجموعة ص31

[12] المجموعة ص32

[13] المجموعة ص38

[14] المجموعة ص39

[15] المجموعة ص42

[16] المجموعة ص43/44

[17] المجموعة ص46

[18] المجموعة ص47