اختار الناقد المغربي مُقاربة ديوان الشاعر المغربي المغترب من منطلق سمات «شعرية» بودلير كما بلورتها سوزان برنار. ليكشف عن الطاقة التدميرية التي واجهت بها قصائده ثبات الأشكال ورسوخها، وأن نموذجية فعلها التدميري لم تترك له فرصة الخلاص من سِحره؛ فكانت غنائية نصوص الديوان هي غنائية الألم والشكّ والقلق.

على آثار بودلير

عبد الإله الصّالحي وقصيدة النثر

عبد الدين حمروش

 

في الإطار
تتناول هذه الدراسة، بالتحليل والنقد، نصوص الشاعر عبد الإله الصالحي، التي ضمّها ديوانه الوحيد (كلما لمستُ شيئا كسرته)[i]. ولأن الموضوع يتصل بقصيدة النثر، فإن الدراسة ستنحو بأسئلتها إلى ما يُقارب جوانب في هذا النمط الشعري، الذي صار عنوانا لحداثتنا العربية المتأخرة. ذلك أن العرض النظري لـ"قصيدة النثر"، في بعض قضاياها وأسئلتها، من شأنه أن يتولّى مَتْنا مُحدَّدا بإبراز بعض سماته.

لم تنفكّ قصيدة النثر، من حيث هي نمط محدَّد، تطرح أسئلة عديدة. وعلى الرغم مما راكمته هذه القصيدة ، من نصوص وتجارب، منذ بداية القرن التاسع عشر، في أوروبا وأمريكا، إلا أنها لم تستطع مُجاوَزَة مُختلف المُفارقات، التي ظلت تكتنف سيرورتها فنيا وجماليا. ومع الإلحاح على هذه المُفارقات، في أثناء عمليتي الفهم والتحليل، لا يسع المهتمّ (الشاعريّ) إلا اعتبارها جميعا جزءا أصيلا من بنية قصيدة النثر ووجودها. ولعل ما تحمله التسمية نفسها، من مُفارقة صارخة، كفيل بأن يضعنا أمام الإشكال الأكبر: الجمع بين الشعر والنثر. فكما لا يخفى على كل مهتمّ بالأجناس الأدبية، فقد ظل تاريخ الأخيرة الطويل مُحافظا على الحدود النوعية، بشكل عام، إلى حين بروز ما اصطُلح عليه بقصيدة النثر، وما أفرزته من نقاشات من هذه الناحية.

ولكي تتضح طبيعة الإشكال، من الحريّ الوقوف على مُفارقتين كبيرتين، في سعينا إلى الاقتراب من "حقيقة" ما يسمى قصيدة النثر. وللإشارة، فإن هذا التحديد لا يستهدف "تجاوز" مختلف المفارقات، بقدر ما يستهدف الوقوف عندها بالتوصيف والتحليل. ذلك أن تلك المفارقات، مثلما ذكرنا، هي جزء أصيل من بنية هذا النمط الشعري وجماليته. والملاحظ أن مُراجعة كتاب الفرنسية سوزان برنار، وما أُحيط به من دراسات، من شأنه أن يُيَسِّر مهمة التوصيف المطلوبة[ii]. وعلى الرغم من التأليف المُتقدِّم للكتاب تاريخا، إلا أنه بقى المرجع الأهمّ، بخصوص إضاءة هذا النمط. ويمكن تلخيص هذه الأهمية في العناصر الآتية:

- الطابع التأسيسي للكتاب من الناحية التنظيرية، بحكم المجهود المبذول لتأطير نصوص، جديدة في بنيتها الفنية وفلسفتها الجمالية، من مُنطلق كونها "مارقة" عن بقية نصوص عصرها؛

- استمرار جِدّة الكتاب و"طراوته"، بالنظر إلى القضايا المعروضة، والأسئلة المطروحة. فعلى الرغم من التقدُّم الزمني للكتاب، وهو تقدم يُقاربُ ستين سنة، إلا أن ذلك لا يعني شيئا كثيرا في عمْر أية نظرية أدبية؛

- أصالة الكتاب، التي تُعدّ عنصر قوته، بالنظر إلى نباهة صاحبته في جمع أشتات نصوص، ضمن تأطير نظري مُحكم. وقد سعت سوزان برنار في منحاها ذاك، بحكم نجاحها في طرح الأسئلة الجذرية الضرورية، حول نشأة قصيدة النثر، وهُويّتها الفنية، وخلفيّتها الجمالية.

إن العناصر الثلاثة المذكورة، في علاقتها بأهمية دراسة برنار، نجد التنصيص عليها لدى أكثر من دارس وناقد. ومن بين أولئك، يمكن الاستئناس بما انتهى إليه ميشيل ساندرا في قوله: "لهذا يجب الرجوع إلى العمل الجبار لسوزان برنارد، بالرغم من التنازع حوله، فهو قد يُوفِّر لنا رغم ذلك، من خلال افتراضاته النقدية، دعائم صلبة للتعريف"[iii]. وفي المنحى ذاته، يسير الناقد نبيل منصر (المتأخر زمنا وعمرا)، من خلال انتهائه إلى هذا الحكم التقييمي "بهذه الفرضية تتأكد أكثر القيمة المُضاعفة لكتاب سوزان برنار. فهو عمل أكاديمي على درجة بالغة من الأصالة والتماسك، داخل سياق النقد الشعري الفرنسي وخارجه في آن"[iv].

تُواجه قصيدة النثر الناقد بأكثر من صعوبة، لعل أكثرها استشكالا هو تأبّيها عن كل حصر نظري باتّ. ويمكن اختزال مُختلف الصعوبات في بُطلان الحديث عن جمالية " نوع يرفض كل تحديد مُسبق"[v]. ولذلك، يمكن تفهُّم طبيعة اللغة "الشعرية"، التي أُوكِلت لمُرافقة هذه القصيدة بالتوصيف. إن الأمر يتعلق بلغة "إشراقية"، ذات بعد صوفي شعري، من قبيل عبارة الكاتب الفرنسي ديدرو، الذي يرى أن الإيقاع "يستوحيه ذوق طبيعي، وخفّة حركة الروح والحساسية. إنها صورة الروح نفسها"[vi]. هي لغة تقول كل شيء، وفي نفس الآن لا تقول أي شيء، من منظور علمي (نقدي) صرف.

إن الشعور بسطوة هذا النمط من الشعر، غالبا ما يرتدّ بالنظر النقدي إلى مثل هذه المُقاربة الإشراقية، حيث اللغة الشعرية تصير ذاتا وموضوعا على مستوى واحد[vii]. واللغة الواصفة، المُستعمَلة لمقاربة قصيدة النثر، هناـ تأتي مُندرجة ضمن "أفق الحداثة". ومن خصوصيات هذه اللغة الحداثية، أنها توحي أكثر ما تُسمّي، تقترب إلا أنها لا تصل. حتى موضوع الحداثة نفسه، في علاقته بالممارسة الشعرية، هو موضوع يطبعه الاختلاف والتحول والجدل والتجاوز، مثلا، على حد تعبير الناقدة خالدة سعيد[viii]. كيف لنصوص، هذه سماتُها وصفاتُها، أن تركن إلى لغة واصفة مُطمئنة؟!

كما أن ما تطرحه قصيدة النثر العربية، من جهة أخرى، لا يزيد كثيرا عما يطرحه الشعر المعاصر، باستثناء "أمور" في حدود معينة، لها علاقة بالدال الإيقاعي أساسا. ذلك أن غير قليل مما تطرحه قصيدة النثر العربية، بحكم تاريخها وطبيعة أسئلتها، يمكنُ إدراجه ضمن إطار "الشعر العربي المعاصر" بوجه عام. فبعد إشارات أدونيس وأنسي الحاج الأولى، المُقتبسة من الناقدة الفرنسية برنار، لا نكاد نعثر على جديد بهذا الشأن، وحتى بعد أن أنجزت مجلة "فصول"، في السنوات المتأخرة، عددين عن الشعر العربي المعاصر[ix].

إن البحث في قصيدة النثر، بالتأكيد، هو بحث في "شعرية" القصيدة المُعاصرة، بشكل عام، على أساس المُشتركات الفنية والجمالية العديدة. ففي داخل الشعر المعاصر، الذي هو جزء من حركة الحداثة، تشكل الكتابة الجديدة الطرف الأقصى لهذه العتبة العليا"[x]. ما هي هذه "الكتابة الجديدة"، التي تُشكل الطرف الأقصى، من عتبة الشعر المعاصر؟ وإن كان الناقد محمد بنيس لا يُسميها، في بداية الفصل الأول من الكتاب، فإن ذلك لا يخرج عن إطار "قصيدة النثر" بالنسبة إلينا. هكذا، تكون الحداثة مُوزعة بين عتبتين: سفلى "مُجسدنة" (بحسب تعبير بنيس) في الشعر الحر، وعليا "مُجسدنة" في الشعر المعاصر (والتي تحتلُّ الكتابة الجديدة طرفها الأقصى).

ما يجري على أنماط من الشعر المعاصر، في عدد من إبدالاته، يجري على قصيدة النثر أيضا. ولذلك، فإن قراءتنا لشعر عبد الإله الصالحي تأخذ منحييْن رئيسيْن:
 - الأول يتعلق بتناول جوانب مُحدَّدة، لها صلة بإشكالات قصيدة النثر، تلك التي انبثقت منذ بروز مُقدِّماتها الأولى في الغرب. وبحكم الطابع التأسيسي لكتاب برنار، فإن المُعتمَد سيكون عليه، بالدرجة الأولى، ولكن مع إضاءته بمراجع أخرى في الموضوع. وبالتأكيد، سيكون المجال مُشرَّعا للدراسات العربية، وفي مُقدِّمتها دراسة س. موريه " الشعر العربي الحديث، تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي". الدراسة تبدو جدّ مُفيدة، بالنظر إلى تركيزها على الاستفادة العربية من نظيرتها الغربية، على صعيدي الممارسة والنظرية الشِّعريتين. أما من ناحية الدراسات الأخرى، التي تلتقي معها في هذه "النقطة" أو تلك، فهي مُتعددة لا يحيطها حصر؛
 - الثاني يتعلق بتناول جوانب من "شعريّة" عبد الإله الصالحي، المجسدة في ديوانه اليتيم "كلما لمست شيئا كسرته". ويبدو أن من شأن هذا "التناول" الاستضاءة  بثلاث ملاحظات منهجية ضرورية:
    أ- ما يجعل تجربة الصالحي الشعرية جزءا من حركة الحداثة من جهة، وجزءا ضمن تيار الشعر المعاصر من جهة أخرى؛
    ب- ما يجعلها مُنتسبة إلى قصيدة النثر، أي في ضوء الإبدالات الطارئة على هذا النمط الشعري، منذ شرعت له الطريق نصوص ألوسيوس ورامبو وبودلير (تحديدا)؛
    ج- ما يجعلها مُقترنة بزمنها الخاص، من ناحية ارتباطها بمزاج الشاعر الذي أبدعها، وفق شروط مرجعية مُعيّنة: اجتماعية، ثقافية  وجمالية.

إن تسجيل الملاحظات الأخيرة، أريدَ له "الالتفاف" على السؤال الجذري التالي: هل توجد، هناك، قصيدة نثر واضحة المعالم، بما يجعلها مُختلفة عن باقي أنماط الشعر المعاصر الأخرى؟ ما من شك في أن كل من وقف أمام السؤال، وجها لوجه، سيجد نفسه مُنتهيا إلى مثل هذه الخلاصة، التي أبداها الناقد شربل داغر بقوله: "قصيدة النثر صعبة الدرس، مادام لا يتوافر لها منظور تحليلي مُناسب وموافق لطبيعتها وأبنيتها"[xi]. إن وجود مُمارسات نصية طويلة ومُتعددة، ضمن إطار قصيدة النثر، تُعوزها إحاطة نظرية، من بين سماتها الشمول والتماسك. ولذلك، تبقى دراسة سوزان برنار الأبرز، بحكم جِدَّتها وأصالتها واقترابها من "حقيقة" هذا النمط الشعري، الأكثر بروزا وإشعاعا على هذا المستوى.

قصيدة النثر بين مُفارقتين: شعر- نثر
يُؤسِّس المصطلحان، في سياق التركيب التّبادلي بينهما، للعديد من "التوليدات" الجديدة. وفي علاقة بالنشأة، يعدّ النثر الشعري بمثابة الأصل الأول، الذي تمخضّت عنه قصيدة النثر. ومثلما صار مُمكنا تصور الشعر في النثر، لدى الأذواق الأدبية والنقدية، فإن الأمر ذاته أضحى بالنسبة لتصور النثر في الشعر. هذا السعي الدؤوب إلى المزج بين الأجناس الأدبية، على امتداد عصور طويلة، سيؤهل لتَقَبُّل إمكانية وجود: نثر شعري في مقابل شعر منثور. وقد ذهب أو. ديشام إلى أن الشعر غزا فرنسا، خلال القرن التاسع عشر، عبر النثر. أما في ما يتصل بالأدب العربي، فالثابت أن النثر الشعري هو الذي هيّأ لانبثاق الشعر المنثور، الذي أدى، بدوره، إلى طلوع "فجر" قصيدة النثر.

وتتجلى أهمية النثر الشعري العربي في إيقاعيته، القائمة على توازي الأفكار وتوازن الأصوات والمقاطع. وقد ميز س. موريه بين نوعين من النثر الشعري: النمط المُتأثر بالأساليب الإنجيلية والرمانتيكية، والنمط المتأثر ببلاغة القرآن وآدابه[xii]. وفي سياق المُقارنة بينهما، زعم الباحث أن النمط الأول كان أكثر بساطة ووضوحا وتدفُّقا، من مُنطلق نهوضه على "أسلوب خيالي عاطفي يفيض غنائية ويتصف بالإحكام والترابط"[xiii]. فمع ثُلّة من الأدباء، ستبدأ الفجوة، الحاصلة بين الشعر والنثر، في الانسداد. وإذ كان جبران خليل جبران يُمثل النمط الأول، سلك أمين الريحاني طريقا مُختلفا، بالاتجاه إلى النمط الثاني، على الأقلّ في مرحلته الأولى من النثر الشعري.

أما بالنسبة للشعر المنثور، فإنه اعتُبر، بدوره، عاملا حاسما في التأسيس لقصيدة النثر. وإن شئنا الدقة أكثر، قلنا إن الشعر المنثور اضطلع بمهمة التمهيد المباشر لظهور هذه القصيدة. وقد لعبت الترجمات، سواء عند الغرب أم عند العرب مِن بَعدهم، دورا فاعلا في ظهور الشعر المنثور، المُستغني عن الوزن بالطّبع. وفي سياق ذلك، عُدّت الترجمات العربية المُنجزة، عن آداب الرومانتيكية الإنجليزية والفرنسية، بمثابة أشعار منثورة. وعلى الرغم من اختلاف المصطلح في تسميّة هذا النمط من الشعر، بين عدد من النقاد والشعراء، إلا أن "الشعر المنثور" ظل الأبرز منها[xiv]. وتعتبر مجموعة ألبير أديب، على حدّ تعبير س. مويه، بمثابة "همزة وصل" بين مجموعتين:

- الشعر المنثور حتى حدود سنة 1950: ويتّصف شعراؤه بكونهم ذوي نزعة عقلية منطقية، تُلحُّ على العاطفة والخيال والهرب إلى الطبيعة، في سياق فلسفة قوامُها الحلول ووحدة الوجود؛

- قصيدة النثر: وشعراؤها يتميّزون برفض النزعة المنطقية، مع تبنّي رؤية شمولية تقوم على اللامعقول واللاشعور. وكما ثبت تاريخيا، فقد مثّلت مجلة "شعر" شعراء هذه المجموعة، وفي الطليعة منهم علي أحمد سعيد (أدونيس) وأنسي الحاج.

شعر- قصيدة

نهضت الترجمة بدور رئيس في تهييء الأذواق، لتقبُّل الشعر المنثور في مرحلة أولى، ثم قصيدة النثر في مرحلة لاحقة. ففي مختلف الترجمات، من لغة إلى أخرى، استطاع القارىء الغربي تقدير شعريّة النصوص، من دون الالتفات إلى مُقَوِّمَي الوزن والقافية. ومن هنا، تكون هذه الترجمات قد هيّأت الأذواق لتقبُّل فكرة "نثر شعري". ولم تَقِلّ أهمية الترجمات إلى العربية، من هذه الناحية، وبخاصة في سياق نقل آداب الرومانتيكية شعرا ونثرا. أما الحديث عن تأثير الأساليب الإنجيلية، فلا ينبغي النظر إليه بوصفها علامة مُميَّزة في الأدب العربي الحادث، بحكم حصول ذلك التأثير في الآداب الغربية قبْلا (لدى والت وايتمان مثلا).

إن تصور الشعر في غير المنظوم، كان بمثابة "الارتجاج" الذي غيّر الأذواق الأدبية، سواء أكانت في الغرب أم في الشرق. ولذلك، بِتنا نسمع من يزعم بأن كُتّاب النثر هم الشعراء الحقيقيون، نظير ما زعمته مدام دو ستايل في قولها: أفضل شعرائنا الغنائيين في فرنسا هم- ربّما-  كانوا ناثرينا العظام"[xv]. لقد كان الارتجاج أبلغَ وقْعا في الأوساط العربية، بحكم رسوخ تقاليد النظم الشعري، وبتأثير من الخلفية الدينية المُستأثِرة. ولذلك، كان من الطبيعي أن تتولّى ثُلّة من الأدباء المهمة، من أبرزهم: جبران خليل جبران، ميخائيل نُعيمة، نيقولا فياض، رشيد أيوب، أمين مُشرق، وليم كاتسفليس، وغيرهم. وحَسْبُ ميّ زيادة، الأديبة اللبنانية، أن عُدّت أميرة للشعر المنثور، من قِبَل الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي.

وفي عبارة دقيقة، يختزل إدوارد دو جاردن القصيدة النثرية في "محاولة لتحرير الشعر، باتخاذ النثر نقطة انطلاق. والشعر الحر، النثر الشعري  Le versetيُمثلان نفس المحاولة انطلاقا من الشعر"[xvi]. وبالتركيز على قصيدة النثر، سنجد أن مدار التحرير قام على اتخاذ النثر نقطة انطلاق. وفي هذا المنحى، وبالنتيجة، كان المُستهدَف بالإقصاء (أو الحدّ من غلوائه) هو: النّظم. فما يفقده الشعر، من جراء عبوديته لـ"متلازمتي" الوزن والقافية، أكثر مما يَحوزه لدى عدد من وجْهات النظر النقدية.

إذا كان الشعر مُتصوَّرا في أجناس أدبية أخرى، فلماذا يحتفظ هذا النوع المُستجدّ بمصطلح القصيدة ذاته؟ ما من شك في أن هذه التسمية، بما يكتنفها من مُفارقة، تُعبّر عن الطبيعة "المُتوتِّرة" لهذا النمط الشعري. ومع ذلك، فإن وجود مصطلح "القصيدة"، مرة أخرى، لا ينفكُّ عن العودة بنا إلى تقاليد النّظم العريقة (الشّفهيّة بحكم أصلها واستمراريتها). يظهر أن مصطلح القصيدة، مُقترِنا بالنثر، يطرح عدة صعوبات على مستوى التمثُّل. ليس لأن المصطلح يُعطي دلالة عكسية، كما قال غالي شكري، ولكن لأن هذا النمط الشعري ما يزال مُستمرا في حمْل اسم "القصيدة"، ذات الخلفية العروضية الصريحة[xvii].

احتلُّ النظم موقع الصدارة في الممارسة الشعرية على مدى عصور طويلة. وإذ انخرطت قصيدة النثر في التخلّي عن عبوديتها للوزن، في أصل مُبادرتها، فإنّما المسعى كان باتِّجاه ارتياد آفاق، بعيدا عن الرتابة والجمود اللذين غدت القصيدة تُخلِّفهما (في صيغتها النظمية). وأتصور أن السيرورة، التي عبَرتْها الفاعلية الشعرية، ابتداء بالنثر الشعري، قد استطاعت أن تنأى بها عن معظم إكراهات النظم. ولولا ما يُحيل إليه مصطلح القصيدة، في سياق التّسمية المُقترحة، لما كان للنظم أن يستثير حضورا بالنسبة لقصيدة النثر في الأغلب الأعمّ. غير أن ما يجب الانتباه إليه، مع ذلك، هو أن مصطلح القصيدة بات يحمل دلالات مختلفة في مفهومه. فسوزان برنار، بعد التقدّم في دراستها، لم تتردد في طرح مثل هذا السؤال الجذري: ما القصيدة؟

ما من شك في أن الناقدة الفرنسية، بسؤالها المطروح، أعلاه، إنما كانت تستهدف صياغة تعريف جديد للقصيدة. أكثر من ذلك، قادها التحليل إلى أن تخصّ نمطا من النصوص بمصطلح القصيدة. إن الأمر يتعلق بقطعة نثرية، من سماتها الوحدة والكثافة والتركيز. وإلى جانب ذلك، فهذه القصيدة تتميز بكليّة التأثير والمجّانيّة، في إطار ما يؤكد "أن القصيدة عالم مُسَوّر، مُغْلَق على نفسه، ويكتفي بذاته، وأنها في الوقت نفسه مُشِعّة مشحونة، بحجم صغير، بلا نهاية من الإيحاءات (إلخ)"[xviii]. شاعر قصيدة النثر يكفّ عن أن يكون مُنفعلا، عبر تطابقه مع الخليقة والمجتمع. فبتمرُّده على قوانين التّأليف والعقل، يرفع نفسه لأن يكون خالقا، لكن "يعمل بطريقة تختلف عن طريقة الخالق"[xix]. ومن هنا، جاءت أكثر المفاهيم ارتباطا بقصيدة النثر، أي "الخلق" الذي يعقب الرّفض والتّدمير.

هل أجابت برنار عن سؤال قصيدة النثر؟ يبدو أن تعاطيها مع مفهوم القصيدة، جاء ضمن مُقاربة جمالية (فلسفية)، لم يكن الهدف منها وضع "عمود شعري" لها، من وجهة نظر شكليّة محض. ولذلك، ظل الباحث يجد نفسه في مُواجهة نماذج مُختلفة، حتى بالنسبة إلى الشاعر الواحد في الديوان الواحد. ولعل هذا الأمر هو ما جعل عنصر "التعميم"، شرط كل نظرية تستهدف تحقيق التّماسك، يفقد كثيرا من وجوده ومعناه. زيادة على ذلك، يمكن الزّعم بإمكانية تصور "ثالوث" برنار في كثير من الأنماط الشعرية، والأجناس الأدبية الأخرى. وحين يُكتب لنا الوقوف عل شعر الصالحي، بعد حين، سيظهر أن لا معنى للـ"المجانية" في شعره. إذاٌ، ما يمكن الاحتفاظ به من دراسة برنار، ودراسات من جاء عقبها، لا يخرج عن الإضاءات التالية:

- انفتاح قصيدة النثر على أجناس أدبية مُتنوعة. وبعبارة ميشيل ساندرا، فإن الموضوع يتعلّق، هنا، بجنس أدبي "تركيبي"، على غرار "الرواية الشعرية" مثلا[xx]. والملاحظ أن كل سعي إلى حصر هذا النمط "في ما له دون ما لغيره"، من شأنه أن يعصف بـ"جوهر" قصيدة النثر، التي جاءت لتُعلن عنه في ذلك الإبّان؛

- صعوبة حصر السِّمات الشّكليه لهذا النمط الشعري. إلى يومنا هذا، ومع توالي الدراسات منذ برنار، لم يتمخّض البحث عن "عمود شعري" لقصيدة النثر. وهذا الأمر راجع، بالدرجة الأولى، إلى تعدُّد نماذج هذه القصيدة، بل وتضاربها مع بعضها البعض أحيانا كثيرة؛

- صدور قصيدة النثر عن فلسفة جمالية، تُعلي من قيم الاختلاف والتجاوز. وحتى إن رسخ الحديث عن "البناء"، الذي يلتحق بكل محاولة للـ"هدم"، فإن هذا الأخير يبقى الفعل الأكثر التصاقا بقصيدة النثر. ولذلك، غالبا ما كان الحديث، في هذا السياق، يقترن بعبارات دالة، من قبيل: التّعدّي، التّجاوز، الانتهاك، الاختلاف والمحْو (وهلمّ جرّا). وحسب قصيدة النثر، في النظر والمُمارسة، على حدّ سواء، أنها تُقيم في المُتحول لا الثابت، في الشخصي لا العام، في الاستثناء لا القاعدة، في المُتوتِّر لا السّاكن، (وهكذا).

الصالحى، شاعر قصيدة النثر
يمكن اعتبار ثمانينيات القرن الماضي العقد الأكثر طليعية، من حيث سعةُ امتداد قصيدة النثر بين الشعراء المغاربة. وإن كنا نقدّر وجود تجارب فردية سابقة، مثل تجربة عبد الله زريقة، إلا أن الانخراط في كتابة هذه القصيدة، لم يكتسب بُعده التأسيسي المُمتدّ إلا مع الشعراء الثمانينيين. ونُفسِّر تأخّر الشعرية المغربية، في سياق انفتاحها على قصيدة النثر، بتأخُّر الحداثة الشعرية نفسها. وسننتظر العقود اللاحقة، لعقد الثمانينيات بالطبع، لنتطلع إلى ممارسة شعرية نثرية واعدة، بإصرارها على المُغايرة في عدد من أساليب الكتابة وجمالياتها. ومن ملامح قصيدة النثر المغربية، أنها استطاعت أن تغتني بتجارب شعراء يقيمون في المهاجر الأوروبية والأمريكية. فقد صرنا نتحدث عن "أدب مهجري" مغربي، ساهم في حصول تَراكُمه، بشكل خاص، شعراء من الأجيال المتأخرة.

ورغبة في التخصيص أكثر، نريد بـ"المهجري" الأدب المغربي المكتوب بالعربية. ويمكن التمثيل بشاعرين، فقط، من أدبنا المهجري الطارىء، هما: مصطفى فهمي (الثمانيني) المُهاجر بكندا، وعبد الإله الصالحي (التسعيني) المُهاجر بفرنسا. ولأن الاقتراب من أدبنا هذا يحتاج إلى دراسة أوسع، سنكتفي بقراءة تجربة شاعر واحد، رابطين إياها بموضوع قصيدة النثر. تَوفّر للشاعر عبد الإله الصالحي ترسيخ تجربته، ضمن تجارب قصيدة النثر، بفعل وجود عامليْن رئيسيْن:

- ثقافي، تَمثَّل في الانفتاح على الثقافتين الفرنسية والإنجليزية؛

- اجتماعي، نتج عن الهجرة إلى فرنسا، للدراسة والعمل من بَعدُ.

وإن كُنا نفهم مدى تأثير العامل الثقافي، في سياق الانتساب إلى قصيدة النثر، فإن العامل الثاني يبقى في حاجة إلى إضاءة. وإلى أن يحين موعدُها، في موضوع لاحق، نريد الإشارة إلى أن فضاء قصيدة النثر الأمثل، ظل مُجسَّدا في "المدينة": بتعقُّد تشابكاتها الاجتماعية في مختلف مناحي الحياة (العمل، الأسرة، السكن، المواصلات، إلخ). وبالطبع، فحين نربط الشاعر بفضاء الدار البيضاء- باريس، فإننا نُوفر "مَدْخلا" رئيسا لقراءة تجربة الشاعر.

كانت الإشارات السابقة ذات أهمية، في سياق الإقبال على قراءة متن شعري مُعين. ولأن قصيدة النثر ترفض التنميط في شكل نهائي، وفق عناصر جامعة مانعة، فإن الأساس الذي يمكن الاطمئنان بالوقوف عليه، هو: النثر. وتشكل الخلفية العروضية، هنا، سواء بحضورها أم بغيابها، عاملا مُساعدا في رسم حدود قصيدة النثر. والواقع أن هذه الخلفية، التي مابرحت تدور حول الموسيقى والإيقاع، هي التي تمخضت عنها كل المُمارسات التجديدية في الشعر العربي (والعالمي أيضا). وبحصر الإطار في الشعر المعاصر، المُستمر فينا زمنا وحساسيّة إلى اليوم، يمكن مُلاحظة أهمية الخلفية العروضية، التي انبثقت عنها تجربتان شعريتان مُتمايزتان:

- تجربة الشعر الحرّ، التي قامت على ما يمكن تسميته، باختصار، وحدة التفعيلة. وإن كانت المحاولة لم تذهب إلى درجة التخلّي عن الخلفية العروضية، بشكل باتّ، إلا أنها ساهمت في تكسير جمود بنيتها؛

- تجربة قصيدة النثر، التي قامت على أرضية "نبذ" الخلفية العروضية، بصورة قاطعة. فعلى الرغم من الإبدالات الأخرى الحاصلة في بنيتها، إلا أن العنوان الأكبر كان هو اتخاذ النثر مُنطلقا.

ما يؤكد الدور الحاسم للخلفية العروضية، من حيث وجودُها أو غيابُها، هو اشتراك التجربتين في عدد من الإبدالات (على صعيد اللغة، البناء، الصورة، إلخ)، باستثناء الإيقاع التقليدي بالطبع. وإذ نجد الوحدة التفعيلية حاضرة في الشعر الحر (بالمفهوم العربي)، لا تنطوي قصيدة النثر على أي حضور لها. ونحن "نُمركز" الاختلاف بين التجربتين على أساس إيقاعي، نريد التشديد على فاعليته، حتى بالنسبة لدوره في تحيين الإبدالات الأخرى، المُجسَّدة على أكثر من صعيد لغوي وفنّي.

وبحكم واقعية الجنوح إلى النثر، يبقى مثل هذا السؤال، من جهة أخرى، مطروحا: ما الذي يُميِّز قصيدة النثر عن نص القصة القصيرة (جدا)، أو الشذرة الفلسفية؟ ها هنا، تتّسع الفجوة بين تجاذبين: التمردّ على الشّكل وخلق الشّكل. وكذلك الأمر ينصرف إلى الناقد/ أو الشاعري (البويطيقي)، المعنيّ بتحديد "قالب" لهذا النمط الشعري، بالنظر إلى كون الأخير "يمقت أكثر ما يمقت أن يُقعّد ويُصنَّف ويخضع لمعايير جمالية أو غير جمالية"[xxi]. في إثر برنار، نستعدّ لاستعادة سؤالها الجذري مرة أخرى: ما هي القصيدة؟ أو بالأحرى قصيدة النثر؟ مقاربة السؤال، في سياقنا الحالي، تستلزم الأخذ بعين الاعتبار مُحدِّديْن:

- عبقرية النثر، باعتباره الطريق التي تتمّ، عبرها، "العودة إلى أصول الشعر العميقة". هذه العبقرية تبدو ملموسة أكثر، بالنظر إلى "الأنيميا" التي أصابت بها الأكاديمية الشعر (الفرنسي)، على حدّ تعبير برنار. والواقع أن هذه الأنيميا تعدت الفرنسي لتطول الشعر العربي أيضا. ولأن قدر الشعر يظل واحدا، في مختلف الآداب والثقافات، فإن الإحالة إلى الناقد محمد أيت لعميم مُفيدة من هذه الناحية "وإذ أحسَّ الشعر بهذه المعضلة، معضلة استنفاد الطاقة والشحنة الخلاقة، لاحظنا كيف تحول الشعر نحو النثر، مُستفيدا من طاقاته وإمكاناته"[xxii]

- عبقرية الأديب، التي جعلت شاتوبريان، مثلا، يطور قصيدته، حتى وإن "لم يعدّ نفسه -أبدا- كاتبا لـ"قصائد نثرية""[xxiii]. العبقرية الفردية للشاعر، هي التي كانت خلف بروز هذا النمط الشعري. ذلك أن بالإضافة إلى شاتوبريان، كان هناك ألوسيوس، بودلير، رامبو، ملارميه وآخرون (ضمن الشعر الفرنسي). وحتى في اتِّجاه التقعيد لهذه "القصيدة"، تركزت المُقاربات النقدية على نصوص بعينها، بتأثير من عبقريّة أصحابها وإشعاعهم. ويمكن مُقاربة "أصالة" الصالحي الشعرية، في هذا الإطار، من مُنطلق كونها جماع نصوص فرديّة بالأساس. بعد الإقرار بهذه الملاحظة، يمكن البحث عما يجمع الشاعر بشعراء آخرين، ومنهم شارل بودلير.

البناء المقطعي

تنمو قصائد الشاعر الصالحي مقطعيا، عبر تناسل الواحد في إثر الآخر. والملاحظ أن لا علاقة للكتابة المقطعية، هنا، بما يُسميه البعض الشذرة (تأملية أم مشهدية). في الديوان، كل نص يتألف، على الأقلّ، من مقطعين. هذا، بخلاف الشذرة التي تؤلف نصا بحد ذاتها، حتى ولو لم تتعدّ سطرا واحدا. والسؤال، الآن، هو: كيف تنتظم تلك المقاطع لتؤلِّف نصا؟

تنبني مُعظم النصوص على وحدة الموضوع (حالة، ذاتا، حدثا، إلخ). وفي ما يخص الذوات الفاعلة، يبدو أن الإحالة تتمُّ عبر ضميرين مُهيمنين: الـ"أنا"، الـ"أنتَ". وحيث ينتقل الـ"أنا" إلى الـ"نحن"، من الفرد إلى الجماعة، نُلفي الـ"أنتَ" ينتقل إلى الـ"أنا"، بعد الإحالة إلى الآخر (المُخاطَب). يمكن تفسير هذا التحول في الإحالة، على نحو عام، بانبناء النصوص على أساس "سيري". في حالة الـ"أنا"، نكون أمام سيرة ذاتية، في حين نكون، في حالة الـ"أنتَ" أمام سيرة غيرية. ونحن نُتابع تحولات الضمائر، عبر لُعبة ما يسمى "الالتفات" البلاغي، لا نعدم أن نعثر على الـ"أنا" يأخذ صيغة الـ"هو" أحيانا.

نحن أما ضميرين مَركزييْن في المُحصِّلة: الـ"أنا" والـ"أنتَ" في مُختلف تَحوُّلاتهما. لنأخذ مثالا عن الضمير الأول من نص "أمنية":

        أتمنى أن لا تشبهني قصائدي أبدا

        فأنا رجل عصبي لا صبر لهُ[xxiv] 

وفي ما يتعلق بالضمير الثاني، سنأخذ مثالين: الأول للـ"أنتَ" العائد إلى المخاطب أصالة (وهو "آخر" مُنفصل عن "الأنا")، والثاني للـ"أنت" العائد إلى "الأنا" نفسه. بالنسبة للمثال الأول، نقتطفه من نص "أبوة":

        عندما ولدتَ بكيتُ

        خوفا عليكَ وعليّ

        ويئستُ بحرقة[xxv].

الانفصال بين الأنا والأنتَ واضح، مادامت هناك إمكانية لتحديد المرجع فيهما، ولو اعتمادا على العنوان فحسب. الأنا يعود إلى الأب، بينما الأنتَ يعود إلى الابن. وبعبارة تصريحية، فالوالد يُوجِّه خطابا إلى ولده. وغالبا ما يتصدر "الإهداء" هذه الصيغة، مثل ما نجده في نص "العدوّ"، المُصدَّر بإهداء إلى "عبد القادر الجنابي".

        أنت يا صديقي في أتون معركة تستلزم حدا أدنى من الغباء

        ودِقّة الإحساس[xxvi].

أما بالنسبة للـ"أنتَ"، التي تعود إلى الأنا، فنقتطف لها مثالا من نص "مجرد عابر":

        إنهن أمامك: يانعات، مرحات، متّقداتْ

        بمئتي درهم وقليل من الطيبوبة يهبنك أجمل ما في العالم[xxvii].

ما الذي يجعلنا نتصور أن في خلفية "الأنتَ" يُقيم "الأنا"؟ النص يتّسم بقدر من الوضوح الضميري، لولا وجود "مؤشر" نصي يتيم، "يكشفُ"ُ فيه الـ"أنا" عن عدم أصالة "الأنتَ". هذا الـ"أنتَ" المُهيمن ظاهريا، سيردُ في صيغة جمع المُتكلم (مُحتويا الـ"أنا" وضمير الغياب "هي" معاً):

        في القطار السريع بين الرباط والدار البيضاء بكينا بحرقة

        تبادلنا تُهَما خفيفة

        وسمّينا الإحباط مُرّاكش[xxviii].

إن حضور الأنا، سواء أكان حاضرا أم مُضمرا، يمنح النصوص بُعدا غنائيا. الغنائية تعني، هنا، هيمنة وجهة النظر الواحدة. وحتى بالنسبة إلى النصوص، التي يتوجَّه فيها الشاعر إلى الـ"أنتَ" (ممن يتقدم إليهم بالإهداء)، فإن الشاعر هو الذي يتسيّدُ بوجهة نظره: يحكي سيرة الآخر، بل ويحكم عليها. في نص "أمام مرآة حلاق"، نجد شبيها بهذا:

        تقضي نهارك كحمار

        يتلقى الأوامر وينفذها من أجل ضمان الرّاتب[xxix].

هذا البعد الغنائي، بالمعنى الذي أشرنا إليه، يكاد يستغرق النصوص، مُحَوِّلا مقاطعها إلى كتلة واحدة متماسكة. هل الغنائية شبيهة، هنا، بنظيرتها الكلاسيكية؟ أتصور أن هناك اختلافات حاصلة، على مستويات عدة: نثرية اللغة، خفوت الإيقاع، هامشية الموضوع وسخرية النّبرة. ومع ذلك، يمكن الزعم بأنها غنائية "رومانسية" في عمقها، يسكنها الألم والرفض والتمرد. إن حضور الذات المُتكلمة صريح، هنا، وإن كان يحدث في سياق من "التبادلية" مع باقي الضمائر، إلا أن انبثاقها من رحم "الأشياء" وتفاصيلها، يظل قليل الحضور. ويمكن الإحالة إلى ما ذكره الناقد نبيل منصر، في سياق إشارته إلى ما يُسميه "التذويت وتبادل الاختراق" لدى بودلير: "إنه اختراق مُتبادل تتوسّع معه الأنا، لتصبح مشهدا عموميا يُعبِّر عن "الروح الحديثة" وهي تضاعف من شخصية الشاعر الثمل بهذه "المشاركة الكونية" في قلب المشهد المديني[xxx].

من جهة أخرى، نلاحظ أن نسبة من المقاطع تنمو بصورة مشهدية. النص نظير اللوحة، هنا، حيث كل مقطع يشكل جانبا من المشهد العامّ. والجدير بالذكر أن هذه المشهدية لا تطول "الأشياء"، التي تضجُّ بها الحياة اليوميّة، بحكم بقاء دورانها حول "الأنا"، وما في فلكها يُحلِّق. أوْضحُ مثال لهذه المشهدية البصرية، نص "الحب المذنب":

        أنتِ الآن قربهُ

        متمددة على رمل الشاطئ.

         تتأففين من القيظ وتترددين في مُصارحته.

ثم يستمر النص، عبر أربعة مقاطع، إلى أن نصل إلى المقطعين الأخيريْن (الأول مُؤلَّف من سطر والثاني من سطرين):

        أنتِ قربه وأنا هنا أتأهّبُ لحبكِ.

        لماذا، يا إلهي، كلما لمستُ شيئا

        كسرته؟

ينبغي أن نوضّح أن حدّ كل مقطع، على حدة، يرتسم بوجود فراغ مُميَّز فضائيا[xxxi]. الأهم في الكتابة، عبر المقطعية، هو الخاتمة/ النهاية. وفي الغالب ما تنتهي بمفارقة، تكون لها شرعية وضع نقطة نهاية للنص. لنأخذ المثال التالي من "مجرد عابر"، الذي يتألف من خمسة عشر مقطعا. يمكن الاكتفاء بمقطعين، الأول والأخير، على التوالي:

- المقطع الأول:

إنهن أمامكَ: يانعات، مرحات، متّقداتْ

بمئتيْ درهم وقليل من الطيبوبة يهبنك أجمل ما في العالم.

يهبن أردافهنّ العذبة

إشاعات المدينة

انكسارات العائلة المغلقة بإحكام

وابتسامات فيها خليط من العفّة والمجون[xxxii].

- المقطع الأخير:

عندما تدخل فندقكَ في الهزيع الأخير من الليل

وحيدا، مُخرّبا

تتأمل مليّا النافذة الموصدة

وتتأكد فجأة أن أولئك الصغيرات العابرات

أصدق شيء في البلاد[xxxiii]

في مقارنة أولى، يبدو أن بناء النص يتماسك عبر أكثر من عنصر تقني، من ذلك أساسا: وحدة الموضوع (هن -أنتَ)، التحام بداية النص بنهايته (اعتمادا على أسلوب المُفارقة). ويمكن تمثيل وجهي المفارقة، بالاقتصار على المقطعين، أعلاه، في ما يأتي: رُخص الصغيرات في مقابل صدقهنّ. أما المقاطع، الواقعة بين الأول والأخير، فهي مجرد مسافة يتحقق عبرها تراكم الصور والمشاهد (إلخ). والواقع أن أسلوب المفارقة، الذي اعتمده الشاعر بنسبة لافتة، يبدو من أبرز ضمانات وحدة النصوص وتماسكها.

تعتبر الكتابة، عبر المقاطع، وسيلة ناجعة، للتحكم في بناء النص من جهة، وللتحكم في "إغلاقه" من جهة ثانية. وللإشارة، فإن البناء المقطعي، الذي يعدُّ أحد ركائز قصيدة النثر، له صلة بواحد من "ثالوث" برنار، أي "الإيجاز" من قريب أو من بعيد. والنصوص التي تسير على هذا المنوال، وبخاصة حين يكون كل مقطع فيها مُكوّنا من أسطر قليلة، كثيرا ما ظلّ يحالفها "التوفيق"، بخلاف الأخرى الطويلة، من قبيل نص "هل تفهم؟". هذه بعض العناصر، التي ينهض عليها البناء المقطعي، وإلا فإننا سنكون مُطالبين باستعراض أخرى، مثل الإيقاع الذي يضطلع بدور بارز من هذه الناحية.

البناء الإيقاعي
إن أهمية الإيقاع واضحة، في ما يرتبط بلحْم مقاطع النص. وضمن مستويات هذا الإيقاع المختلفة، يمكن التشديد على دور البنيات التكريرية بهذا الشأن. فتكرير الكلمة (أو العبارة)، في أكثر من مقطع، يحقق ذلك التماسك المطلوب للبنية النصية. في قصيدة "استغاثة"، تتكرر كلمة "الوسط" أربع مرات، خلال مجموع المقاطع الثلاثة. لنضرب أمثلة بالأسطر، التي تكررت  فيها "الوسط" في كل مقطع، على النحو الآتي:

  • المقطع الأول: أن تكون في الوسطِ؛
  • المقطع الثاني: وسطٌ لا مكان له في خرائط الوجود

                    وسط، كأنه العدم.

  • المقطع الثالث: وسط مثلُك أيها الصديقُ[xxxiv]

كما يلعب التكرار دورا بارزا، إضافة إلى ما أتينا على ذكره، من ناحيتين أخرييْن: دلالية وتركيبية. لنقف عند التركيبية، سريعا، بحكم أهميتها في تكثيف النص، وبالتالي تحقيق مطلب الإيجاز فيه. مثال ذلك، وجود فعل واحد "يهبن" لأكثر من مفعول (مع واقعية قراءة تلك المفاعيل على أنها معطوفات عليها). ما يذهب بنا إلى افتراض القراءة الأولى، هو تكرار الفعل، مرتين، في وجود مفعولين له:

  • يهبنك أجمل ما في العالم

          يهبنك أردافهن العذبة

          إشاعات المدينة (إلخ).

القراءة تفترض إضمار وجود الفعل (يَهبْن) للمفعولات الواردة من بَعد: إشاعات المدينة، انكسارات العائلة، وابتسامات فيها خليط (إلخ). وعلى الرغم من جدارة اعتبارها معطوفات عليها (بتقدير واو العطف)، إلا أن وجود الفعل "يهبنك" مرتين، يسمح بتقدير الفعل ذاته للمفعولات المُتواترة من بَعد. ويزداد الأمر رجاحة، حين نأخذ بعين الاعتبار ورود تلك المفاعيل مُستقلة (كل واحد منها ببداية سطر).

من المؤكد أن البنية التكرارية، التي جاء عليها المقطع، منحت النص إيقاعا ملحوظا. فبعد تكرار الفعل مرتين، دلالة على قوة حضوره، ما يفتأ أن يغيب في الأسطر الثلاثة المتبقية. بين الظهور والإضمار، تتحقق إيقاعية النص في كليته. في "الكفاف"، يتوازى حضور بنية التكرار معضدة ببنية التوازي. النص يمكن تقسيمه إلى قسمين:

القسم الأول، جاءت أسطره مسبوقة بالفعل "كففتَ" (سبعة أسطر). والملاحظ أن الفعل يتكرر، في حضور بنيتين تركيبيتين، قوامهما على التوالي:

      أ- الفعل - الفاعل (ضمير الخطاب المُتّصل) - الجار والمجرور، مثال هذه البنية: كففتَ عن التدخين؛

      ب- الفعل – الفاعل (ضمير الخطاب) – الجار والمجرور – المضاف إليه. ومثال هذه البنية: كففتَ عن شرب الكحول.

إن البنيتين السالفتين تتكرران، عبر التناوب في ما بينهما، إلى أن نصل إلى ذروتهما، مُجسّدة في السطرين الأخيرين (الذي يقفل هذا القسم). ليتضح المقصود، نسجل هذا السطر:

        كففتَ عن كل الأشياءِ التي كانت حتى الأمس القريب عمادَ

        حياتكَ[xxxv].

يكون الشاعر، عبر السطرين الأخيرين، اللذين جاءا في صيغة جملة واحدة، قد أغلق "قوس" التواردات الدلالية المُمكنة، المرتبطة بوجود الفعل "كففتَ" في سياقه المذكور. قد يظهر السطران غير جديريْن بتشكيل خاتمة للمقطع الشعري (القسم الأول)، إلا أن المُعوَّل ليس عليهما بالتحديد، مادامت هناك نهاية أخرى "مُنتظرة" في ختام النص ككل؛

القسم الثاني، جاء خلوا من أية بنية تكرارية. غير أن بنية التوازي قامت بتعويض الغياب، عبر تكرار نواة تركيبية مكونة من: - الفعل – الفاعل المستتر – المفعول به – المضاف إليه (ضمير الخطاب). في كل سطر، تتكرر هذه النواة التركيبة، مبدوءة بالأفعال على النحو الآتي:

  • تحلقُ ذقنكَ
  • تشكر الجميع على حرصهم على سلامتكَ
  • تتقبل التعازي
  • وتمشي بحياد في جنازتك.

إذا نظرنا إلى النص، في مجموعه، سنجد أنه مُشكل من بنيتين متوازيتين كبيرتين: الثانية تشرح الأولى دلاليا. وإن كانتا تظهران متناقضتين، في حدود مُعينة، إلا أن الفعل "كففت" كان له دوره في إلحاق إحدى البنيتين بالأخرى. في سياق ذلك، لا ينبغي إغفال أهمية الزمن النحوي في تحقيق هذا الإلحاق (أو الإدماج). الماضي في المقطع الأول، من جهته، لا يعكس أي تناقض مع الحاضر. الماضي الإيجابي استمرار في الحاضر الإيجابي، مادام ليس هناك فرق بين: "كففتَ عن التدخين" (في القسم الأول) عن "تحلق ذقنك" (في القسم الثاني). ففي القراءة الدلالية الأخيرة، لا تختلف "كففتَ عن التدخين" (في القسم الأول). إن النص يحكي عن سيرة "شخص"، يتمّ فيها عرض المسار الإيجابي لحياته الجديدة. وإن كان الفعل كففتَ" قد حقق الاندماج (الدلالي) بين القسمين/ المقطعين، فإنه لم يُفوت أن يكشف عن وجود مسار مختلف، لا تظهر سلبيته إلا بشكل ضمني (تحت جناح الفعل "كففتَ). في هذه الحالة، يمكن الحديث عن وجود بنيتين دلاليتين كبيرتين:

- الأولى ظاهرية، قِوامُها سيرة حاضر (لِمَحْكِيّ عنه). والنص يُعبّر، بقسميه/ مقطعيه، عن هذه السيرة. أما التناقض الملحوظ بين الماضي والحاضر، في أصله، فهو تناقض لا يعكس أية مفارقة، مادام الماضي الجديد مُستمرا في الحاضر الجاري؛

- الثانية مُضمرة، قوامها سيرة ماض بعيد (غير الماضي في البنية الأولى). هذه السيرة لا تظهر إلا ضمنيا، بفعل انطوائها داخل البنية الأولى. بهذه البنية المضمرة، يظهر التناقض الحقيقي في سيرة المحكي عنه. هل انتهت فاعلية هذه البنية، بماضيها البعيد (غير الإيجابي)، في سياق هيمنة البنية الأولى الظاهرية؟ لنقرإ السطر الأخير في النص: "وتمشي بحياد في جنازتك". هل تؤكد هذه النهاية ما زعمناه حتى الآن؟ هنا، يبدو الانفتاح على بنية ثالثة ضروريا. المؤشر المؤدي إلى هذه البنية، حتما، هو الاختلاف على صعيد المرجع الضميري: المخاطَب بالنسبة للمحكي عنه، والمتكلم بالنسبة للحاكي (السّارد).

وبالعودة إلى السطر الأخير، مرة أخرى، ستظهر لنا حقيقة موقف الذات الحاكية، الرافضة لمسار التحول في حياة المحكيّ عنه. في هذه الحالة، نكون بإزاء توزيع جديد للنص، حيث يقوم السطر الأخير، بمفرده، مقام القسم الثاني. أما القسم الأول، فهو يلفّ حوله جميع الأسطر المتبقية. ها هنا، يتحقق التوازي بالتقابل بين الحاكي والمحكي عنه. إن المسار الجديد، الذي انخرط فيه الطرف الثاني، هو مسار وفاة بالنسبة للطرف الأول. أكثر من ذلك، تبدو الوفاة مُضاعفة، مادام المحكي عنه يعيشها في حياته (قبل وفاته). هل شاهد أحد حيّا ميتا؟ في اعتقاد البعض، هناك ما يصطلح عليه بالموت الرمزي. والموت، الذي يرزح تحت وطأته المرء، هو ذلك المتجسد في الامتناع عن "الولوغ" من إناء الحياة. ولكن، ما هي طبيعة هذه الحياة: إنها مجرد تحصيل لذاذات، من قبيل التدخين، شرب الكحول، السهر، التبذير، رؤية الأصدقاء والحبّ (أليس يُراد به الجنس على سبيل التلميح؟).

ينهض إيقاع النصوص على أنماط مُتعددة من التكرير والتوازي[xxxvi]. وإن كنا نُقرُّ باستثمار كل الأجناس والأنواع لهذه الأشكال الإيقاعية، بما فيها الشعر الكلاسيكي، فإن من المُناسب تسجيل كثافة استثمارها في قصيدة النثر تحديدا. ذلك أن بفعل تواري النظم التقليدي، أخذ الإيقاع النثري يكتسح المساحة، مُمثلَّا في أنماط من التكرير والتوازي والتوازن والتعادل. والواقع أن بهذا الإيقاع الجديد، سـ"تتصالح" الموسيقى (بالاصطلاح العام) مع المعنى في قصيدة النثر. فقد كفّ الشعر عن الاستمرار في خضوعه للوزن. والواقع أن دعوى الانفصال بين الشعر والوزن بدأت تلقى قبولا، عربيا، خلال نهاية الأربعينيات، بتشجيع من جماعة مجلة "الأديب" اللبنانية. التخلي عن النظم التقليدي، ظل يسير باتجاه فسح المجال للإيقاع الشخصي "عالم الموسيقى في قصيدة النثر عالم شخصي خاص، على نقيض عالم الموسيقى في قصيدة الوزن، فهو عالم اتفاقات وقواعد ومواضعات"[xxxvii].

ينبغي إبداء ملاحظة أن التكرار والتوازي، علاوة على ما تمّ ذكره، صارا عنصرين بانييْن لمعمار القصيدة ودلالتها. فالأمر يتجاوز مواضع جزئية محدودة، مادامت كُلِّيّة النص تنهض على أساس الفاعليتين الإيقاعيتين المذكورتين. يمكن أخذ عَيِّنة من الأمثلة الدالة من "الحب عام 2003":

  • أحب دوروتي

لكن دوروتي تحب كريستوف الذي لا يبادلُها الحبّ.

أحبُّ كلير

لكن كلير تعيش مع جوليان وغير مستعدة بتاتا لهجره.

  • ساعة في الهاتف مع دوروتي

جولة ليلية عبر نهر السين متأبطا ذراع كلير[xxxviii].

سردية اليوميّ
كنا تحدثنا عن الإيقاع النثري، وهو إيقاع سردي في جزء منه. ومن نتائج البعد السردي، أن سمح للقصيدة باستدماج عناصر، لها صلة بالمحكيات الذاتية (مُذكرات، يوميّات، مُشاهدات، اعترافات، إلخ). قصيدة النثر، باستثمار مُختلف الأبعاد السردية، فتحت الشعر على آفاق فنية ودلالية جديدة. وإذ كان الإيقاع التقليدي، مُمثَّلا في الوزن والقافية، يَحول دون تلك "الآفاق"، في حدود مُعينة، فإن الإيقاع النثري/ السردي أصبح قريبا مما يُوسم بـ"اليومي"، الهامشي والعابر في الحياة العادية. لنأخذ مثالا من نص "انتحار عاطفي":

        غافلتُ صديقتها وحدثتُها طيلة السهرة

        عن حبي الكبير لبوكوفسكي وبروتيغان وكارفير

        أفهمتها بنظرة أنني جاهز للقتال من أجل لمسة عابرة

        تسللتُ إلى المطبخ وملأتُ كأسها

        كنتُ مستعدا لأفعل كل ما تريدُ كي أضع رأسي على صدرها.

        تجاوبت معي بحذر مُجرِّبة

        تحدس الخلل من أول نظرة

        وأعطتني رقم هاتف غلط[xxxix].

بموازاة مع الحكاية الصغيرة، التي تحملها الأسطر على نحو مُباشر، يُلاحظ غياب أي تكثيف دلالي، في إطار استعمال أساليب المجاز والاستعارة. اللغة مباشرة وبسيطة، وتكاد تقترب من "الدرجة الصفر" من البلاغة[xl]. من جهة أخرى، الموضوع هامشي "شخصي"، بحكم نأيه عن المواضيع الفخمة/ الرسمية. وهنا، ينتصب السؤال أمامنا: من أين تصدر شعريّة الأسطر؟

في ملاحظة أولى، يبدو أن جزءا من الشعرية قائم في هامشية الموضوع نفسه: القتال من أجل لمسة عابرة، والاستعداد لفعل أشياء من أجل وضع الرأس على الصدر. ما الذي يجعل الإنسان "يُقاتل": أهو الحب؟ أهو الجنس؟ أهو التحدّي والمغامرة؟ ثم كيف يتحول بوكوفسكي وبروتيغان وكارفير إلى مجرد "قناطر" للعبور إلى تلك اللّمسة العابرة؟ ولماذا يتمّ الاستمرار في "اللعب"، مع أن العيون كشفت عن كل ما يمكن قوله من الطرفين؟ أو ليست المرأة تحدس الخلل من أول نظرة؟ وهو يُقرّ بهذه الحقيقة، لماذا كان عليه أن يقبل بأخذ رقم هاتف غلط؟ وعلى الرغم من كل ذلك، لماذا قرر أن يُكمل الطريق إلى النهاية: إلى الضحكة العُظمى حسب تشارلز بوكوفسكي نفسه؟[xli]

بوكوفسكي لم يكن مجرد "قنطرة"، بل كان فلسفة شعريّة في الحياة. حين كان يُعَبِّر عن حُبِّه لبوكوفسكي، في سياق فلسفته تلك، كان بصدد صياغة اتِّفاق مع صديقة (صديقته). هل تمّ توقيع الاتفاق؟ منذ تبادل النظرات، ظهر الخلل بشكل فاضح، إلى درجة أن انتهى بتسلُّم رقم هاتف خطأ. أليس من شأن تلك الأسطر، مع ما تنمّ عنه من مُفارقات، أن تكشف عن الوجه الأكثر تجذُّرا في في علاقة الرجل بالمرأة؟ أليس التقرب إلى المرأة مُجرد "رمية نرد"، نُبادر إليها على الرغم من توقع الخسارة: تَسلُّم الرقم الخاطىء؟ في المقطع الأول، كان الشاعر قد قال كل شيء، بلغة استعارية قوية، مُبنية على قدر هائل من توازي التّضاد. باقي الأسطر، في المقطعين اللاحقيْن، مجرد حشو. لنقترب من هذه الأنثى أكثر، لعلَّنا نُقدِّر فداحة الانتحار العاطفي، الذي كان ضحيّته الرجل (الشاعر!):

        مُثيرة وشامخة.

        من فمها تسيلُ وعود مُبهمة.

        هي ترشف من كأسها

         وأنا أترنّح[xlii].  

مُفارقة كبيرة: بين من يشرب ومن يسكر. مَنِ الأكثر لَعِبا بالعقل: المرأة أم الخمرة؟ هل استطاع بوكوفسكي احتواء تلك الأنثى، أقصد بشعره على لسان صديق "صديقة الصديقة"؟ ما الذي يمكن أن تُسعف به القصيدة، بوجود تلك الإثارة وذلك الشموخ؟ في نهاية الحكاية، لم يستطع بوكوفسكي وأضرابُه أن يسفروا إلا عن "رقم هاتف غلط". وُعود المرأة المُبهمة، في سياق الإثارة والشموخ، لا تستطيع وُعود أخرى أن تُوازيها قوة، بما فيها وعود الشعر نفسه (شعر بوكوفسكي وغيره).

يكتسب السرد أبعادا مُختلفة في نصوص عديدة. حتى توزيع تلك النصوص، وفق الأسطر المُمتدّة، يؤكد للقارىء أن الأمر يقترن بِقِطَع من النثر (السردية). لنسجل المقطع الأول من "جبهة الحب":

        كل ما تعلمناه من الحب كان في الروايات والقصص والأشعار.

        مع الفقر والإحباط وضيق الأفق صرنا نحب بسهولة ونتـــعذب

        بسهولة أكبر. ومع ذلك تشبثنا بذلك الحــب الذي لا حيــاة له ولا

        مقام سوى بين السطور[xliii].

ما احتاجه النص ليتحقق تماسكه وانسجامه، نجده مُتوافرا بشكل ملحوظ. مَركزُ الجذب في المقطع، مُجسَّدا في "الحب"، تؤكده عناصر الإحالة، التكرير، الوصل، إلخ. من جهة أخرى، لا تخفى أهمية وسائل الربط الأكثر نثرية، من قبيل: "ومع ذلك". وكلما تقدمنا إلى المقطع الثاني، إلا طالعتنا روابط عديدة من نفس المستوى: "ورغم ذلك"، "من حين لآخر". ومع أن النص يأخذ بُعدا سرديا، إلا أن أسلوب "التقرير الصحافي" لا يخطئه نظر:

        هزائم الحب فتكت بالكثير منا.

        شــردت الآلاف، وبسبــبها اختفـــى الكثــيـرون عن الأنــظـــار.

        ورغــــم ذلك، مـــن حين لآخر يظهــــر محارب ما، شاب على

        الأرجح، ملوحا براية رثـة، هازئا بجبـــروت الواقع وطاحونــته

        الدموية. إنه على يقين بأن لوعته أكثر قيمة من السيارات الفارهة

        التي تحاصر محبوبته الفقيرة وبأن صدق الإحساس سلاح مدمــر

        يكفي إشهاره كي تحسم المعركة[xliv].

تبدو الجمل مُؤلفة تأليفا مُحكما، بحيث لا تتخللها أية "ثقوب" أو "فراغات" (دلالية). الشاعر يُقدِّم كل ما يمكن أن يساهم في أخذ ما يحكيه (أو يحرره في تقريره) بالجدية المطلوبة، بما في ذلك علامات التّرقيم. حتى اللغة، بدت مُباشرة وصريحة، لا غرابة فيها ولا تعقيد (مجازي). ومنذ بداية النص، ولكي لا يخطئ أحد الموضوع، يُقرِّر بوضوح: كل ما تعلّمناه من الحب كان في الروايات والقصص والأشعار. ومع ذلك، تبقى هناك مظاهر "القطع" ، التي تكسر التتابع السردي الخالص "وتجعل وحدته في مستوى آخر ليس هو مستوى تطور القصة أو الشخصية أو الفكرة" على حد تعبير ناتالي فانسون مونيا[xlv]. انبناء القصيدة، عبر توالي المقاطع، يمكن عرضه على أساس أنه مجرد مظهر سطحي، لما يمكن أن نعتبره الفارق الجوهري في الحكي الشعري.

فجاجة الواقع
كُنا تطرقنا إلى الحديث عن الشعر في علاقته بقصيدة النثر. وبإمكان الشاعر أن يحتجّ بأنه يكتب قصيدة نثر. الإمعان في مُعاكسة الشعر الكلاسيكي، اقتضت الجنوح إلى أكثر من وسيلة: تسمية الواقع بأسمائه (في الحانة، القطار، المترو، إلخ) بلغة حديثة تنخرط في أتون السخرية (حينا)، الابتذال والسوقية (أحيانا أخرى). لقد رأينا تأكيدا لسطوة الواقع في النص السابق: لا مجال للأشعار، وبالتّبع لا مجال للحبّ. "الحبّ" يُناسب الشعر الكلاسيكي، بينما "الجنس" يناسب قصيدة النثر. هذه الخلاصة الصريحة، التي غدا يؤكدها الشاعر، وُجد لها أكثر من دليل في أكثر من نص.

        اللّحم بدل العاطفة

        راية القناعة

        جنس قاحل تُضيئه تكنولوجيا مُتطورة[xlvi].

ما أغرب أن تجد مُفردة "اللحم" في الشعر! حتى "الجسد"، مثلا، نأى الشاعر عن استعمالها. والأمر ذاته يتكرر في هذين السطرين:

        آه من لحمك الحرّ الطليق

        من كل هذا الازدحام البضّ تحت التنورة[xlvii].

واللحم (الجسد) لا اسم له، أو لا اسم لصاحبته بالأحرى. الأجساد بدون أسماء، مثل قبور "غرقى" بحور الهجرة السرية. الجميع في مَركب واحد:

نحن مُعوَّقو هذه الحرب نتحسس ندوبا ونحن نحتسي كؤوسا رخيصة مع     عاهرات بدون أسماء في حانات مظلمة (إلخ)[xlviii].

تُرى ما الذي جعله يتّجه إلى هذا المنحى؟ إنها سطوة الواقع، بقبحه وفجاجته، التي جعلت الشاعر ينزح عن كثير من المُفردات الكلاسيكية (السامية)، وعن كثير من الموضوعات (الفخمة). وإن قُدِّر أن وُجدت مفردة "الحب"، فما ينبغي علينا إلا قراءتها قراءة مُناسبة. هل كان يطمع في الحب، فعلا، حين قال:

        بدل أن أجهز عليك كذئب الغابة

        لحست يدك كالجرو

        طامعا في الحبّ[xlix].

أي حُبّ هذا؟ أي معنى له، في سياق البيع والشراء؟

        ما أحقرك

        حين تدس الورقات البنكية في حقائبهن اليدوية وتربت برفق

       على مؤخراتهن الصغيرة متمنيا لهن حظا سعيدا

       كأنك في لوس أنجلوس أو تايلاندا[l]،

"ما أحقرك"! هل في هذه الإهانة، المُوجَّهة إلى الذات، ما يُحيل إلى "صحوة ضمير". لنتذكر سخريته من الشابّ، المُتيقِّن من أن لوعته أكثر قيمة من السيارات الفاخرة، التي تُحاصر محبوبته الفقيرة. والآن، لنُكملْ رسم "صورة" ذلك الشاب:

(...) شاب يبزغ فجأة من أطراف المدن يمتطي قصيدة موهوبة ويدخل الجبهة أعزل[li].

هل هو الشاعر ذاتُه؟ هل هو الإنسان المُقبل على الدخول إلى "طاحونة" الواقع، مثلما دخلها باقي مَعوَّقي الحرب؟ الجنس والإدمان الرخيصان قضيا على كل ما له صلة بالماضي. حتى الأشعار السامية العذرية، حلّت مَحلّها قصائد النثر، بعنفها ووقاحتها وشتائمها. السّموّ صار ابتذالا، تزدحم به الحانات، وعربات القطار، وفضاءات المترو[lii]. والهدوء والسكون أضْحيا قلقا وضجرا. في نص، بعنوان "استيقاظ"، نستطيع أن نتمثّل حجم الضّيق بالمدينة:

        ضجيج شاحنة القمامة في الخارج

        هلوسات صديقتي السابقة

        فواتير الماء والكهرباء

        الأحاسيس الزائفة...

        ورغم كل هذا عليّ أن أحلق ذقني بسرعة وأنصرف للعمل[liii].

ينبغي أن نضيف فارقا آخر: الأشعار لا تليق إلاّ بالقُرى والضّواحي، بينما لا تليق بقصائد النثر إلا المدن الكبرى الضّاجّة: مثل الدار البيضاء وباريس. على شاكلة بودلير، شاعرُنا تزدحم نفسه بالضّجر والسّأم. ألم يقلْ بوضوح: "شارل بودلير أقرب إلينا من أبي تمام"؟[liv]. الاقتراب من قصيدة بودلير، هو اقتراب من يوميّات حياته في باريس أيضا[lv].

صورة الشاب العُذريّ، المُهاجر إلى المدينة، مازالت تستأثر بالمشهد (أقصد الشفقة كما جاء على لسان الشاعر نفسه). الهجرة تُشكل حدّا فاصلا بين قطبين: واقعيْن وقصيدتيْن. من قُوّة تأثير الواقع، أن يفرض منطقه ولغته. الهجرة إلى الدار البيضاء، ومن ثمّ إلى باريس، ليس بالأمر الهيّن، الذي يُمكن أن يمضي بدون أن يترك ندوبا بالروح. الإحساس بالهجرة ثقيل، في ظل الحرمان والميْز. بماذا ينفع جيل ودولوز، بل بماذا تنفعه عبارته "الهجرة حقّ مُقدّس"، وهو يُكابد واقعا يسحقه كل يوم. لننصت إلى الشاعر مُوجِّها خطابه إلى دولوز، ومُعبِّرا عن صدمته وخيبته في آن:

        في هذه البلاد التي تزوجناها عن حب

        أنا ومحمد وعبد القادر وفاطمة

        وعرب آخرون تضيق بأسمائهم المُغبرّة هذه القصيدة.

        حتى الآن لم أعثر على أحد يشرح لي طلاسم عبارتك المُبهمة.

        القوانين تقول العكس من حكومة لأخرى

        والبواب فرنسي من أصل برتغالي

        ويحتقر الفلاسفة.[lvi]

الألَم مُضاعف بالنسبة لحالة الشاعر: أَلَمُ مُكابدة الهجرة، علاوة على ألم العيش في مدينة كبيرة. ولذلك، كانت التّكلفة باهظة، مثلما يُفصح عنها السطران التاليان:

        جئناكم كي تتأكدوا أننا انتهينا

        قبل أن نبدأ.[lvii]

إذا شئنا أن نعود إلى غنائية نصوص الديوان، فإنه لا يسعنا إلا توصيفها بأنها غنائية الألم، غنائية الشكّ والقلق[lviii]. السخرية والبذاءة والشتيمة، إلى جانب الضجر والفراغ والضّيق، ما هي إلا تعابير واضحة عن الشعور "الفصيح" بالألم. لم يكن الشاعر، في مختلف قصائده، بحاجة إلى توريات واستعارات. الواقع كله مُفارقات حيّة، بحيث لا يحتاج إلا إلى لغة لتحمله. هل يحتاج الواقع إلى لغة أوضح أكثر من هذه:

        إننا واعون بأن لديك مشكلة مع الحبّ

        أو لنكن أكثر صراحة مع النكاح.

        اسمع لدينا علاقة بأشدّ المختبرات تطورا

        أتريد مُرهما أو حبة لتقوية الانتصاب؟

        يكفي أن تتكلم.[lix]

آه، الآن فهمتُ لماذا كان يوصي صديقه عبد القادر الجنابي بالواقعية:

        ذاكرة بيضاء

        ورصيد بنكي محترم

        عنصران قد ينفعان

        مع وحش يتقدم منك شاهرا ابنك

        مجازاتك

        وعاداتك المتقادمة.

        كن واقعيا عندما تقرأ الشعر الحديث

        كن مجرما مع تسعة وتسعين في المائة من النساء.

        العمر يتقدم بسرعة

         كل شيء يتراجع.[lx]

على سبيل البدء
اخترنا مُقاربة قصيدة النثر المغربية، مُجسَّدة في شعر الصالحي، حسب ما استقرّت عليه "شعرية" بودلير، لدى الناقدة الفرنسية سوزان برنار. وإن كان السبيل يُخالف جوهر قصيدة النثر نفسه، من منطلق الطاقة التدميرية التي واجهت به هذه القصيدة ثبات الأشكال ورسوخها، إلا أن نموذجية فعلها التدميري لم يترك لشاعر فرصة الخلاص من سِحره. حتى وإن ظلت دروس قصيدة النثر تتكرر، عبر استعادة مفاهيم الهدم والمحو والتجاوز، فإن الإحالة إلى الهدام الأكبر بودلير، ما انفكت تتردد بين الشعراء إلى اليوم، ومن مختلف الثقافات والشعوب. حتى "التدمير"، له مُريدوه وعُشّاقه، وبخاصة إن كان في مجالي الفن والأدب.

يكاد مصير بودلير يلتقي بمصير الصالحي، من نواح سوسيو- ثقافية وجمالية عديدة. الإقامة في "العاصمة"، كان من أبرز تلك "اللقاءات" الكبرى، التي تركت آثارا غائرة على جسد القصيدة لديهما. بين أبي تمام وبودلير، استقر اختيار الصالحي على الثاني، بالنظر إلى القوة التدميرية التي انطوى عليها الشاعر الفرنسي. الحياة المدينية، بكل ما حفلت به من مُفارقات وتناقضات، استدعت الإحساس الفظيع بالألم، المشوب بقدر هائل من السوداوية والسخرية في الآن ذاته.

أما الانسياب مع الأشكال الجديدة، على صعيد الإيقاع واللغة والخيال والمعمار، فما هو إلا تعبير عن تلك الروح، المنطوية على قدر هائل من الغنائية الأليمة. ولعل هذا ما جعل قصيدة الصالحي تكفّ، على الأقل، عن أن تكون قصيدة "مجانية" باصطلاح برنار. الإحالة إلى "الخارج"، وبالضبط إلى سيرة الشاعر نفسه، في علاقته مع الأشياء والأمكنة من حوله، كان يجنح بالقصيدة إلى أن تصير تُرجمانا للانهيارات الذاتية والرمزية الكبرى. لم تكن القصيدة بناء مُغلقا، مثل رقعة الشطرنج حيث يجري اللعب، مادام  هناك ما يمكن قوله: عن المدينة المُعاصرة، حيث الشاعر مكتوب عليه، في خِضمها، مُواجهة مظاهر التفاهة والحقارة والابتذال.

إن التشابه الحاصل، على مستوى الإحساس بالمصير ذاته، هو الذي منح لقصيدة الصالحي عمقها وأصالتها. ولقد مَهَر في تطويع اللغة العربية، لكي تُعبر عن كل تلك الوضاعة المحيطة بحياتنا المعاصرة. ولم يكن الشاعر يحتاج، في الوصول إلى ذلك، إلا إلى لغة بسيطة ومُباشرة في كثير من الأحيان. اللغة المجازية ظلت الاستثناء، حتى لكأنها مجرد نقط "نمش" على وجه المرأة. هل كانت الفظاعات والبذاءات والتفاهات في حاجة إلى "ماكياجات" استعارية؟

      كأني به واقفا على قبر الصديق المجهول:

      أراك تتململ في حياة اخترتَها مُكرها[lxi]

لقد نشأت قصيدة النثر على رفض "النماذج". ومادام هذا الرفض يطول النماذج، سواء تلك  المُكرَّسة شعريا أم المكرسة نقديا، فقد انحازت بذلك القصيدة إلى الانتساب للـ "اليُتم". ومن ثمّ، فإن "المأزق" الذي يتهدد قصيدة النثر، في جوهر وجودها، هو تحول نماذجها الشعرية "الكبرى" إلى مجرد "نُسَخ"، تتمّ استعادة "كلشيهاتها"، كل مرة وحين، من قِبَل الأجيال اللاحقة. طبيعي القول في هذه الحالة: كل قصيدة هي نموذج نفسها. إن الحوار، المُقدَّر للشعراء في ما بينهم، لا ينبغي أن يشذ عن هذه القاعدة، التي هي "استثناء" في مضمونها، بالنسبة لتاريخ "الشعرية" العربية والعالمية (ككلّ).

 

المصادر والمراجع

أ- الديوان:

- الصالحي (عبد الإله)، كلما لمستُ شيئا كسرته، دار توبقال، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2005.

ب- المراجع العربية:

- منصر (نبيل)، الخطاب الموازي، للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007؛

- بنيس (محمد)، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1990؛

- داغر (شربل)، الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2018.

جـ- المراجع الأجنبية (المُترجمة):

- برنار (سوزان)، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس ومراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996؛

- أيت لعميم (محمد)، قصيدة النثر: في مديح اللبس، منشورات بيت الشعر، الطبعة الأولى، 2017، ص.50. (نصوص مُترجمة مع مقدمة للمُترجِم)؛

- موريه (س)، الشعر العربي الحديث، تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي، ترجمة وتعليق شفيع عبد السيد وسعد مصلوح، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991.

د- المجلات:

- سعيد (خالدة)، الملامح الفكرية للحداثة، مجلة فصول (الحداثة في اللغة والأدب)، المجلد الرابع، العدد الثالث، أبريل- ماي- يونيه، 1984.  

 

[i] - الصالحي (عبد الإله)، كلما لمستُ شيئا كسرته، دار توبقال، الطبعة الأولى، الدار البيضاء، 2005.

[ii] - برنار (سوزان)، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس ومراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1996.

[iii] - أيت لعميم (محمد)، قصيدة النثر: في مديح اللبس، منشورات بيت الشعر، الطبعة الأولى، 2017، ص.50. (نصوص مُترجمة مع مقدمة للمُترجِم).

[iv] - منصر (نبيل)، الخطاب الموازي، للقصيدة العربية المعاصرة، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2007، ص.182.

[v] - المرجع نفسه، ص. 117.

[vi] - المرجع نفسه، ص. 31.

[vii] - يمكن لمس تلك اللغة لدى عدد من نقادنا وباحثينا المعاصرين، منهم على سبيل التمثيل: أدونيس مشرقا وبنيس مغربا. ويمكن الوقوف على هذه اللغة الشعرية في هذه العبارة الاستعارية لبنيس "(...) ثم الكتابة الجديدة أخيرا، وقد اخترقت الحقل النقدي بسرعة نجم راحل إلى حيث لا ندري"، الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها (الشعر المعاصر)، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1990، ص. 20.

[viii] - سعيد (خالدة)، الملامح الفكرية للحداثة، مجلة فصول (الحداثة في اللغة والأدب)، المجلد الرابع، العدد الثالث، أبريل- ماي- يونيه، 1984.

[ix] - العدد الأول بعنوان "الشعر العربي المعاصر" خريف 1996، والعدد الثاني بعنوان "أفق الشعر" صيف 1997.

[x] - بنيس (محمد)، المرجع السابق، ص. 20.

[xi] - داغر (شربل)، الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر، منتدى المعارف، الطبعة الأولى، بيروت، 2018، ص.55.

[xii] - موريه (س) يتبنى تقسيما سوسيو- ثقافيا بين مجموعتين: الأولى مسيحية (ومن سار على نهجها) والثانية مسلمة (ومن سار على نهجها أيضا، مثل أمين الريحاني).

[xiii] - موريه (س)، الشعر العربي الحديث، تطور أشكاله وموضوعاته بتأثير الأدب الغربي، ترجمة وتعليق شفيع عبد السيد وسعد مصلوح، دار الفكر العربي، القاهرة، 1991، ص. 427.

[xiv] - من بين تلك المصطلحات المُستعملة، حسب بعض ما وقفنا عليه عند س. موريه، يمكن الإتيان على ذكر ما يلي: - ألبير أديب استعمل: الشعر الرمزي المنثور –م يخائيل نعيمة: الشعر المنثور والقصيدة المنثورة – أمين الريحاني: الشعر الحر والمُطلق والطّلق.

[xv] - برنار(سوزان)، المرجع السابق، ص. 38.

[xvi] - موريه (س)، المرجع السابق، ص.444.

[xvii] - يبدو أن مصطلح الناقد نجيب العوفي، مُمثلا في "النثيرة"، أفضل من مصطلحي " قصيدة النثر" و"القصيدة بالنثر"، لولا أنه جاء متأخرا زمنا.

 

[xviii] - برنار (سوزان)، المرجع السابق، ص.137.

[xix] - المرجع نفسه، ص. 143.

[xx] - ايت لعميم (محمد)، المرجع السابق، ص. 49.

[xxi] - برنار (سوزان)، المرجع السابق، 117.

[xxii] - أيت لعميم (محمد)، المرجع السابق، ص. 5.

[xxiii] - نفسه، ص. 37.

[xxiv] - الديوان، ص. 24.

[xxv] - نفسه، ص.25.

[xxvi] - نفسه، ص48.

[xxvii] - نفسه، ص. 41 .

[xxviii] - نفسه، ص. 44.

[xxix] - نفسه، ص.26.

[xxx] - منصر (نبيل)، المرجع السابق، ص. 177.

وفي الإطار ذاته، يمكن إيراد ما جاء في كتاب برنار عن بودلير "كل هذه الأشياء"، أمام منظر بحري،  تفكر عبري وأنا أفكر عبرها"، المرجع السابق، ص. 63.

[xxxi] - الكتابة المقطعية، يمكن مقاربتها ضمن مسألة حجم قصيدة: الطول والقصر (الإيجاز والتكثيف). والعناية بهيكلة النص إلى مقاطع، كانت قد شكلت أسلوبا واضحا لدى برتران ألوسيوس ومن بعده شارل بودلير. إن ما قالته ناتالي فانسون مونيا جدير بالتسجيل في هذا السياق: "وبصفة عامة، فشعراء النثر الأوائل يتميزون بإرادة حساسة لإدماج نصوصهم في شكل القصيدة: من خلال توضيب كتابي (الفقرات، بياضات) مُقطِّعين النص إلى مقاطع صغيرة، عبر مؤثرات التأطير (بنيات دائرية، حضور اللازمات، تحديد السياق...) وبواسطة وحدة الأثر"، أيت لعميم (محمد)، المرجع السابق، ص. 15.

[xxxii] - نفسه، ص. 41.

[xxxiii] - نفسه، ص. 46.

[xxxiv] - الديوان، ص، ص. 31- 32.

[xxxv] - نفسه، ص. 39.

[xxxvi] - موريه (س) سمى أشكالا عدة من التوازي في كتابه آنف الذكر: توازي الترادف، توازي التضاد، توازي التكامل، توازي الذروة.

[xxxvii] - منصر (نبيل)، المرجع السابق، ص. 188.

[xxxviii] - الديوان، ص، ص. 14- 15.

[xxxix] - نفسه، ص، ص. 27- 28.

[xl] - حرية الشكل، بالنسبة لقصيدة النثر، يذهب إلى حد استقبال "كل النبرات وكل الأنواع، ويضمنها تلك التي تتاخم حدود التقرير المجرد، أو التأمل الأخلاقي"، برنار (سوزان)، المرجع السابق، ص. 80.

 

[xli] - عبارة من قصيدة "ارم النرد" لبوكوفسكي.

[xlii] - الديوان، ص. 27.

[xliii] - نفسه، ص. 17.

[xliv] - نفسه، الصفحة نفسها.

[xlv] - أيت لعميم (محمد)، المرجع السابق، ص. 15.

[xlvi] - نفسه، ص. 15.

[xlvii] - نفسه، ص. 59.

[xlviii]- نفسه، ص. 18.

[xlix] - نفسه، ص. 36.

[l] - نفسه، ص. 43.

[li]- نفسه، ص. 18.

[lii] - بقدر ما كان الشاعر يعري ذاته، عبر الكشف عن تناقضاتها الحادة، كان يعري المدينة التي دخلها أعزل..مثل ذلك الشاب الذي "يبزغ فجأة من أطراف المدن يمتطي قصيدة موهوبة". الموقف ذاته كان تيبوديه قد وصفه بدقة "تعرية روح في مدينة كبيرة" و"تعرية روح مدينة كبيرة"، عن برنار (سوزان)، المرجع السابق، ص. 64.

[liii] - الديوان، ص، ص. 75- 76.

[liv]- نفسه، ص. 65.

[lv]- بودلير الذي كان "يعبر عن شخصيته الخاصة، ومصادماته، وشكوكه وفرضياته المتناقضة، فهو يعبر عن الروح الحديثة في كل تعقيدها، مثلما صاغتها حياة العاصمة المحمومة، اللاهثة، المصطنعة"، برنار (سوزان)، المرجع السابق، ص.64.

[lvi] - نفسه، ص. 21.

[lvii] - نفسه، ص. 13.

[lviii] - باعتبارها "السمة الجوهرية لعصرنا الحديث"، برنار (سوزان)، المرجع السابق، ص. 53.

[lix] - نفسه، ص، ص. 51- 52.

[lx] - نفسه، ص. 48.

[lxi] - الديوان، ص. 23.