تكتب الناقدة السورية هنا عن أعمال سلام إبراهيم، وتتوقف فيها عند الوتر الممتد بين الخفة والثقل بالمعنى الذي قصده كونديرا، وبين روايتي «حياة ثقيلة» و«الحياة لحظة» في بلورتهما لهذا الوتر المشدود الذي يمكن أن يعتبر في قراءة نقدية ما محورا يضم الكثير من مشاغلة السياسية منها والفكرية وحتى الفنية والروائية.

الحياة بين الخفة والثقل

قراءة في أعمال الروائي سلام ابراهيم

دعـد ديـب

 

هل ثمة خيار في أن تكون حياتك مثقلة بأحلام كبيرة وأماني باسقة متحملًا كوارث لا تحد من أجل ذاك الشعاع البعيد الكابي من الأمل، وبين أن تكون خفيفًا حرًا من كل شيء، من الأسرة والوطن؛ من الالتزام بالقناعات والمبادئ، أن تعيش لحظتك العابرة بكل زخمها. تحت ظلال الخفة والثقل تتأرجح أعمال سلام ابراهيم في روايتيه "حياة ثقيلة" و"الحياة لحظة" في استلهام خفي لفكرة ميلان كونديرا في عمله "خفة الكائن التي لاتحتمل" للسؤال الوجودي الاول عن معنى السعادة والمتعة؛ عن الامتلاء والخواء؛ الثقل والخفة؛ القيم الروحية أم اللذة العابرة، ما هو اللون الأكثر قربًا للذات، ذات الإنسان بصفته الأكثر تجريدًا، وحيرته الأزلية عن معنى الحياة، عندما تمضي أيامه بتكرار مهدور، ومعنى اقتناصه من العمر لحظة بارقة.

ربما تنضوي أعمال سلام إبراهيم تحت اسم أدب السيرة الذاتية، هو الناجي من ميتات متعددة، بما فيها ظروف حياته واعتقاله في العراق ومشاركته في الكفاح المسلح بالشمال، ومصرع أخيه الرسام الذي أفرد رواية خاصة له تحت اسم "إعدام رسام" وما تضمنته من كشف لأعماق الذات الساردة من نبل وخذلان، قاع النفس الحقيقي، والاعتراف بسقطات مرتبطة بالضعف الإنساني بعيدة عن نفاق العقد الذكورية والانتصارات الخيالية عند الآخرين، في رحلة غربته إلى موسكو في طريقه إلى منفاه الاضطراري بالدانمرك بعدما سدت بوجهه سبل الحياة في بلده، تلك الحياة الثقيلة بهمومها ومآسيها والحميمة لدرجة الوجع العاصي عن السلوى، وحتى فرحه الطارئ لسقوط الديكتاتور لما يطول، عندما تعود به ضفاف الذاكرة ليُصدم مجددًا بالأصنام الجديدة التي تسيدت واجهة المشهد، معيدًة احتقانات وصراعات مذهبية من عمق الأحقاد المترسبة، غير غافلٍ عن دور الاحتلال الذي ساهم بإيقاظ الروح المتوحشة لدى الكائن المقهور، فأتى انتقامه خبط عشواء.

ثمة تساؤل ماذا بعد السيرة الذاتية تلك التي لم يتخلَ فيها حتى عن الاسم الحقيقي له؟ ماذا عن المخيال والتخليق ونسج حدث مغاير؟ هل الواقعية مطلوبة لهذا الحد؟ ماذا عن المتعة في اصطياد اللقطة والموقف والحس الدرامي؟ ربما كان لاختمار تجربته الحياتية وقع بارز لتدوينه ذكريات وأحداث مرّ عليها أكثر من عشرين عامًا، لعلاقتها الوطيدة بالحاضر المعاش، ولعل تفكيكه لبنية العنف وعقلية إلغاء الآخر، توضحت بشكل جلي في تصويره رفاق السلاح المناضلين ضد الطغيان وردود أفعالهم على الضحية التي تقع بأيديهم، حيث رسم ببراعة في جلسات المكاشفة مع رفاق القضية، تلك الازدواجية التي تعيشها شخصية ذات مبادئ تحمل جلادًا بأعماقها، ما إن تتاح له فرصة الانتقام من عدوه المفترض "أصوب بندقيتي نحو صدر جندي عراقي ابن جلـدتي. مسكين وقع في كمين .. أرديته قتيلًا وكنت فرحـًا. .. نحن المشوهون .. نحن يا سلامي .. نحن الحثالة"..

ذاك المسار العنيف والقاسي، ماهو إلا ظلال خطوط في لوحة منـسية، فما قيمة مصرع أخيه وأحبائه تحت التعذيب؟ من أجل حلم تتبدى في نهاية المطاف عبثيته وأفول أنواره؟ وقفة مسائلة للتاريخ وتجارب العمر وخيبته، العمر الذي نذر للقضية قضية المسحوقين، وتجربته في العمل السري والكفاح المسلح مع الأكراد في الجبال، في حمى العمل الثوري مهتدين بالبوصلة اليسارية، منارة الكفاح ببلد الساحات الحمراء؛ وهو يومض لهم من بعيد، بكل ما خزنته الذاكرة من أشعار بوشكين وأبطال تولستوي ودوستوفيسكي وغوركي، لينتهي بهم المطاف إلى البلد الحلم؛ إلى البلد المثال؛ الذي تغنوا بتجربته؛ ليصدموا بواقع الحال الذي وصل إليه، ورؤية ذاك الواقع عن قرب، وهم الذين أوهموا نصف الكرة الأرضية بأنهم بنو المدينة الفاضلة.

والمفارقة الحاصلة بين هروب الشيوعيون إلى موسكو وهجرة اليهود إلى فلسطين، وبين واقع يائس لعمال يرغبون بغياب كحولي عن الواقع، وجرعة طارئة من العاطفة، ليعيد التفكير بالكثير من النظريات والقناعات، بما فيها من استنتاج وعبثية وخواء فكرة إفراغ المرء من قناعاته الدينية، لأنها موئل الإنسان في حالات ضعفه وما أكثرها، حيث الكثير من المسلمات التي قُوضت في عقله، والكثير من الثوابت فقدت بريقها، لم يعد الموت المؤدلج قريبًا من روحه، لقناعته بابتعاده عن الحس الطبيعي للإنسان، بالخوف من مجهول لا يعرفه ولا يعرف ما ينتظره فيه، وينظر بريبة لأفكاره التي تغيرت. كيف تحول إلى كائن يكره اليهود؟ خالطًا بينهم وبين الصهيونية، إلى حد لم يتصور بأن لليهود أغاني أو مقطوعات لحنية! كيف أعمته النصوص الثورية عن رؤية واقع العمال في موئل الثورة؟ وهم المدينة الفاضلة التي عرشت وبنت قصورًا لها في الروح والوجدان، ذاك المكان الأمنية؟

لطالما تغنوا بانتصاراته ومحاكاة تجربته لينتهي بالحقيقة الفاجعة، حيث بؤس الإنسان واحد في كل العالم، وهنا تأتي عبارة صديقه شاكر ميم "الحياة فقاعة .. حاول ان تصورها بسرعة قبل ان تنفجر" المفهوم الذي اختاره عنوانًا لروايته "الحياة لحظة" بعد كل هذه الخيبات ما قيمة الحياة؟ ما ثمن النضال؟ وهل من بقية للحلم؟ ليصل الى حقيقة مرة، إن الحياة ثقيلة ومتعبة، عشها بخفة ولا تأخذها على محمل الجد؛ واقتنص سعادة اللحظة. الإنسان الذي يتنفس فضاء الحرية عندما ينعتق من كافة قيوده الفقهية والعائلية والأيدلوجية ليطفو الإنسان على سطح المشهد، الإنسان العاري من كل أحماله، في حقيقة مكاشفة مع النفس والذات عما يريد. ما لذي يريده الإنسان؟

بعد عناء العمر الكل يبحث عن ساحل لسلامه الداخلي، فشيركو الشاعر الذي يعيش بسوريالية وفوضى الفنان، ويرى النساء الروسيات بصورة القاع المتخم بالألم، والمتعطشات لحنان إنساني يخرجهم من فقر حياتهم المسلوبة كصورة للبؤس المزدوج. ليأتي السؤال الوجودي في الخاتمة، عندما يستقر به الحال في بلد اللجوء، بحياة منظمة وهادئة وكريمة "ماذا أفعل بوقتي؟" هذا الإنسان المشروخ في وعيه وثقافته، وقد تحرر من الخوف ليرى نفسه ملقيًا في الفراغ في مجتمع لم يستطع التآلف والانسجام فيه. بيئة لا مشاكل فيها ولا هموم، في بلد لا يد له ولا لأمثاله في حضارته وأمانه ورقيه، في إيماءة مواربة لعبثية اللجوء والعيش عالة على المجتمعات الأخرى، لتبقى كلمات اليوناني كافافيس ترن في الروح والذاكرة :

وتقول لنفسك: سوف أرحل

إلى بلاد أخرى .. إلى بحار أخرى

إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه

من كل جمال في الماضي عرفته

لا أرض جديدة يا صديقي هناك

ولا بحرا جديدا : فالمدينة ستتبعك

وفي الشوارع نفسها سوف تهيم إلى الأبد

وضواحي الروح نفسها سوف تنزلق

من الشباب إلى الشيخوخة

وفي البيت نفسه سوف تشيخ ثم تموت

لا سفن هناك تجليك عن نفسك

آه ألا ترى

أنك يوم دمرت حياتك في هذا المكان.

فلقد دمرت قيمة حياتك في كل مكان آخر على وجه الأرض.

 

نبذه عن الكاتب:

سلام ابراهيم كاتب عراقي من مواليد الديوانية بالعراق لعام 1954، بدا بالكتابة القصصية في سبعينيات القرن العشرين ونزلت أول قصة له في صحيفة التآخي وكتب في العديد من الدوريات العربية واصدر أول مجموعة قصصية له علم 1994 تحت عنوان "رؤيا اليقين" و"رؤيا الغائب" عام 1996 و"الارسي" عام 2008 وبعدها "الحياة لحظة" عام 2010 وفي "باطن الجحيم" عام 2013 و"حياة ثقيلة" عام2015 و"رواية "إعدام رسام" لعام 2016

من المعروف أن الروائي ابراهيم عاش حياة عنيفة في وسط يلفه العنف السائد في المجتمع وينتمي لأسرة وطنية ناضلت في العهد الملكي ضد الانكليز والحكومات المتعاقبة بعده، ميوله اليسارية قادته إلى الهجرة القسرية عن الوطن، ليعيش مرارة الوحدة والبعد، وقد ضمنت اغلب كتاباته همومه الوجدانية والوطنية.