يتجلى المكان في هذه القصة الطويلة كمسمى لا يكافئ الموجودات ولا هو معادل موضوعي للزمان، بل هو كيان مادي مرسوم هندسياً بالخيال ومهيأ بيئيًا لتوجيه السرد وتحدي التاريخ والتقاطع مع المنطق. والحرب مأساة، وأول تبعاتها ما يتركه صراع البشر من أضرار على المكان كبيئة مخربة وطبيعة مدمرة ومعها تتدمر الموجودات والبشر.

الخيال البيئيّ في السرد غير الطبيعيّ

نادية هناوي

 

تعالج هذه الدراسة موضوعاً من موضوعات السرد ما بعد الكلاسيكي هو السرد غير الطبيعي، من ناحيتين: الأولى استعادته لصورته التي كان عليها في الحكايات والقصص القديمة التي وصلت إلينا من عصور غابرة، والثانية دور "الخيالية" في تبئير المكان كواقع موضوعي معيش في ظل الحرب وتأثيراتها المدمرة للبيئة المادية وانعكاسات ذلك كله على السارد ومسروداته. وسنمثل على هاتين الناحيتين بـ(الصلصال) وهي قصة طويلة للكاتب العراقي خضير عبد الأمير، والقصة تحفل بالخيالية في محاكاة المكان واعطائه سمته الفيزيقية وبمحمولات رمزية تعبر عن الواقع الموضوعي للبيئة البغدادية الملوثة بآثار الحرب وبقايا المعارك.

البيئة والخيالية/

ليس بجديد على السرد العربي القديم ـــ الذي أرسى أسسه السردية على دعائم الخيالية ــــ أن تكون له أساليب ""السرد غير الطبيعي"" نفسها وطرائقه التي بها يتحوّل غير الحقيقي واللاموجود وغير المقبول واقعياً إلى عكسه، وبما يمنح الشخصية غير الآدمية أبعاداً إنسانية ويضفي على الجوامد حركة دينامية، موظفاً اللامعقول من الأحداث مبتكراً زماناً ومكاناً مُختلقين، يتجاوزان حدود العقل من جانب ويخضعان لمنطقية السرد من جانب آخر، والمحصلة قصة أو حكاية تكشف عن سلبيات الواقع وتشخص أمراضه.

وكلما كان الحكاء متوغلاً في الخيال كان ألصق بالواقع وأكثر قدرة على مستوى السرد والمسرودات لأن يجعل اللامباشرة واللامنطقية واللاطبيعية طاقة تحفّز القارئ على ممارسة التأويل، محوِّلاً ما هو خيالي إلى واقعي. وبذلك تكتمل دورة السرد القديم بادئة بالسارد/الحكاء ومنتهية بالقارئ/ السامع وما بينهما عناصر السرد المطوعة فنياً من أجل توصيل قيمها الموضوعية.

ولنا أن نسأل عن السبب الذي جعل السرد العربي القديم بنوعيه الدخيل والأصيل ينحى هذا المنحى الموغل في الخيال؟ أ هي رغبة المخيلة السردية في أن تضاهي المخيلة الشعرية؟ وإذا كان الحكاء بهذه المهارة في التعامل مع السرد وبناء عناصره، فلماذا فضّل عدم المباشرة في محاكاة الواقع الموضوعي وما فيه من صور ومشاهدات؟ وما غاية القاص القديم من التخفي وراء حكاء يستقل به عن الواقع متجنبا أي حضور يدلل عليه أو يوحي بأنه يقف خلفه؟

قد يطول الشرح ونحن نبحث عن أسباب إيغال السرد القديم في الخيال، وقد نختلف إزاءها ولكننا لن نختلف حول حقيقة أن هذا الإيغال السردي لم يكن تهويمياً بلا أسس أو عبثياً بلا مقاصد، بل كانت له أسسه الفنية ومقاصده الواقعية المتغلغلة في أدق تفاصيله وأكثرها خفاء وسرية لخطورتها ولأنها تتماس مع المسكوت عنه رسمياً والمحظور طرقه علانيةً.

ولا مراء في أن الشعر العربي على طول تاريخ كتابته ينزاح عن المألوف في المتداول اللغوي إلى التعامل الاستعاري مع اللغة، مما رسخته الحاضنة الأدبية في عمود الشعر مستمدة صرامتها من السلطة السياسية فضلا عما في بنية الشعر نفسه من قيود تفرض عليه هذه الصرامة أيضا.

أما السرد في شكليه الرسمي والشعبي فينزاح عن المألوف بالتجريب في ما هو غير مألوف من أجل التعبير عن الواقع الموضوعي المعيش لكن من دون صرامة في التقاليد. ولذلك ظل سردنا القديم في جانبه الشعبي بعيدا عن سطوة المؤسسة الأدبية ممارسا تقاليده الخاصة التي سمحت له بتجريب ما هو مبتكر وغير معتاد، وبالفعل تمكن الحكاؤون من طرق موضوعات والتأشير على ظواهر وكشف مخبوءات لم يكن الكتّاب الرسميون قادرين على تناولها أو الوقوف عندها.

وظل حال السرد العربي على هذا المنوال إلى حدود القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر اللذين شهدا قصصا وأخبارا وحكايات لا تختلف من ناحية الإيغال في الخيال السردي ولكنها تمازجت أيضا مع ظواهر الواقع المعيش أكثر من ذي قبل.

ومع مجيء عصر النهضة الأدبية والتأثر بالآداب الغربية صار السرد العربي الحديث يتبع الأصول الغربية في كتابة القصة والرواية وأهمها الواقعية في التمثيل السردي فتقيد الخيال بمحاكاة الواقع وتقلصت من ثم توجهاته التخييلية الحلمية والرومانسية وتحددت قيمته الموضوعية في ما له صلة مباشرة بالمجتمع وإصلاحه.

بهذه الطريقة تخلى سردنا العربي الحديث عن كثير من تقاليده السردية القديمة في بناء الأحداث وتخليق الشخصيات وصار معيار التقييم عند أغلب مؤرخي الأدب القصصي ونقاده ولاسيما في التأشير على الريادات مرهونا بمدى التمسك بالأصول الغربية وإتباع أساليب القص الحديث والتخلي عن تقاليدنا السردية مع أنها الأقدم.

هكذا غدت الواقعية مطلب قصاصينا وروائينا مجربين مختلف أشكالها، وشذَّ عن هذه القاعدة نفر قليل من الكتّاب ممن بقي مشدودا إلى السرد القديم وبعضهم راح يجرب بعيدا عن الواقعية وبعضهم الآخر اختار الفنتازيا والغرائبية وكتابة قصص الخيال العلمي. 

واليوم يشهد النقد الأدبي الغربي وتحديدا المدرسة الانكلوامريكية عودة إلى تلك الجذور الخيالية للحكايات والقصص الخرافية من خلال الاهتمام بالروايات والقصص التي شطت عن الواقعية وغالت في الخيالية وهي تعبر عن الواقع المعاصر الذي صار معولماً وتداخلت فيه العلوم والفنون وتعددت التخصصات وصارت علاقة العقل بالسرد حتمية حتى غدا السرد علما كسائر العلوم الإنسانية.

وصار منظرو السرد يصفون نظريتهم بأنها ما بعد كلاسيكية، مهتمين لا بالأعمال المعاصرة التي هي نتاج العولمة وما بعد الاستعمارية حسب، وإنما اهتموا أيضا بأعمال سردية كلاسيكية لم يهتم النقد البنيوي وما بعد البنيوي بالكشف عن قيمها الأخلاقية والاجتماعية، بل لم يعرها بالا. 

ومن ضمن التوجهات ما بعد الكلاسيكية في دراسة السرد ظهور (علم السرد غير الطبيعي) الذي وجّه نقاده الانتباه مجدداً إلى خيالية السرد القديم، مسلطين عليه الأضواء النقدية التي بها يستعيد اعتباره فترفع عنه الاتهامات بالطفولية واللافنية وتتأكد بعد ذلك قدرات الحكاء القديم وما امتلكه من براعة في اللعب على الواقع ومخاتلة القوى الصانعة له والمؤثرة فيه مما حوته حكايات الجاحظ وأخبار التوحيدي ومقامات الهمذاني والحريري وغيرهم.

وواحدة من المسائل التي للخيالية دور كبير في تقريب أبعادها الواقعية مسألة البيئة وتأثيرها في البناء القصصي مما حصرته النظرية السردية الكلاسيكية في عنصر المكان الذي عادة ما تتم دراسته ممتزجاً بالزمان تحت مسمى(الزمكانية) التي أعطت بعض المركزية للمكان ودينامية تفاعله مع سائر عناصر السرد الأخرى.

ولأن الواقع منظور له بوجهات نظر موضوعية تنغلق في تحليلاتها على وجهة النظر ومرآوية الانعكاس وسوسيولوجيا رؤيا العالم وقد تتعداها إلى انفتاحية التعدد الصوتي والحوارية والتداخل النصي، فإن ما يطال المكان من اهتمام يظل في إطار ما يتركه من أثر في الشخصية وطبيعة منظورها أو مقدار ما يساهم به من دور في تمتين نسج الحبكة وتعقيدها.

وبناء على هذه التوجهات النقدية، فإن السرد مهما ارتفع في مخيلته المكانية إلى آفاق لا واقعية، يبقى المكان ذائباً في العناصر الأخرى وعلى وفق صورة من صور الواقعية المعروفة.

ولو عدنا إلى السرد القديم لما وجدنا المكان منصهراً بأبعاده الواقعية مع عناصر السرد إلا بعد الإيغال في تخليقه خياليا كبيئة يصنعها الخيال ويرسم جغرافيتها داخل عالم غير حقيقي.

من هنا عمد منظرو السرد ما بعد الكلاسيكي إلى استعادة الخيالية ــ التي عدها المنظرون الكلاسيكيون صورة من صور طفولة السرد ــ وركزوا عليها مداخلين علوم البيئة المادية ونظريات الجغرافيا بعلم السرد، وغدت لمفردات( الواقع والفضاء والعالم والمكان) دلالات معمارية مختلفة في محمولات كل بعد من أبعادها.

فالبيئة ليست عنصرا في مجموع، بل هي المجموع الذي منه تتولد العناصر وهي المنجم الذي فيه تترى صور المناخ وفصوله وأرصاد الطقس وأنوائه وأشكال الحياة الآدمية والحيوانية والجوامد وكل ما له صلة بالبقاء على قيد الحياة وكوارث الطبيعة المتوقعة وغير المتوقعة الوشيكة الوقوع مستقبلا أو لا.

هذه المسائل وغيرها لا تنطبق على قصص الخيال العلمي والروايات التشيئية حسب، بل تنطبق أيضا على الروايات والقصص التي واقعيتها تقليدية وسردها كلاسيكي مما لم تلق أبنيتها المكانية اهتماما بقدر الاهتمام الذي يلقاه التحبيك وبناء الشخصيات والزمكانية.

البيئة البغدادية:
على الرغم من أن المنظور النقدي العام لسردنا القصصي الحديث والمعاصر هو واقعي والمعالجات النقدية بمجملها واقعية اجتماعية وبعضها يأتي في خضم المعالجات البنيوية، فإن ذلك لم يمنع القصاصين والروائيين من تجريب صيغ جديدة، بعضها انصب على المكان وطريقة تخليقه الخيالية أي الارتفاع بالمكان تخييليا ليكون هو البيئة التي تلف السرد بمعطفها التخييلي، مضفية اللاواقعية على ما هو واقعي أو جاعلة الواقعي مصطبغاً باللاواقعية. 

وفي الأدب القصصي العراقي نماذج كثيرة على ما تقدم كسرديات تحفل بالخيالية التي تعطي المكان سمته البيئية فتنعكس تأثيراتها المركزية على الشخصية وتجعلها هي الأخرى خيالية لا ثبات واقعياً لها منطوية على استعارية ذات محمولات رمزية تعبر عما في الواقع الموضوعي من خرابوبرؤيا ايديولوجية للعالم تلاشت فيها معالم المكان التاريخية أسطورياوفنتازياوغدت محض ماض لا آثار تدل عليه. ويعد القاص خضير عبد الأمير([1])واحداً منالكتّاب الذين شغلتهم فيزيقية المكان في جوها البيئي الملوث بآثار الحرب وبقايا المعارك، وهو الذي أثّرت فيه البيئة البغدادية تأثيراً قد لا يضاهيه فيه سوى الروائي غائب طعمة فرمان الذي تمركزت في رواياته البيئة البغدادية بأشكال وصور واقعية مختلفة ومتميزة.. بيد أن ما يميز خضير عبد الأمير هو أنه رسم جغرافية المكان بمعمارية تتعدى وصفه عنصرا يندرج في الزمان، بل كبؤرة مركزية من خلالها يتجلى التمثيل السردي.

وإذا كان الإنسان المستلب بالحرب هو البؤرة، فإن البيئة هي المحيط المبأر الذي يتخلق من خلال الحرب كآلة تطحن الإنسان تاركة آثارها التدميرية على الاثنين البيئة والإنسان. وجنون الحرب يصنع الخوارق التي تفوق الخيال وتنتهك كل ما هو منطقي، فذهنية الحرب نفسها ذهنية الإرهاب التي فيها يختلط الواقع بالخيال، من هنا تساءل جان بودريار: ماذا إذن عن الحدث الواقعي إذا كان الواقع يحقن باستمرار بالصورة والسرد المتخيل والافتراضي ؟ وهل يفوق الخيال الواقع حقا؟ وبنى تساؤله الاخير على واقعية ما حصل في نيويورك عام 2001 بانهيار برجي المركز العالمي للتجارة، وأجاب:( إنه إذا بدا كذلك فلأنه امتص طاقة الخيال وصار هو نفسه خيالا حتى يمكننا القول إن الواقع يغار من الصورة وما يجري هو تبارٍ بينهما وسباق على من يكون من بينهما الأكثر تجاوزا للخيال)([2]).

ولعل تطبيقات هذا التصور للواقع وتخيله تتضح عند القاص خضير عبد الأمير وهو يتّبع استراتيجيات معينة في تمثيل ما هو واقعي خيالياً داخل خطاب قصصي فيه البيئة هي الفاعل الذي تسند إليه عملية توزيع الأدوار على سائر عناصر السرد بدءاً بالمؤلف وانتهاءً بالقارئ، راسماً أبعاد المكان، محتبكاً على وفق مخططات ورسومات وهندسيات خططت له فضاءاته باللامحاكاة، مما يستلزم من القارئ مشاركة المؤلف الإنتاج السردي من خلال تأويل الأحداث الخيالية وتلمس تبعاتها الحقيقية والواقعية.

وما اهتمام القارئ بالمشاركة التأويلية سوى تدليل على رغبة المؤلف في جذب هذا القارئ نحو التفاعل مع العملية السردية وبكل ما فيها من أفكار وخيال وقيم ذات علاقة بالإنسان وبيئته ومدى تأثيره فيها خيرا وشرا.ومن تلك الاستراتيجيات إستراتيجية التخطيط الهتروتوبي[3] لبيئة حربية فيها أصبحت المدينة مكانا غير أليف يخاتل الإنسان ويماريه، مستنفذا قوته ومستفزا قدراته بسلبية تجعله مكينا بلا كيان فلا هو بالموجود السعيد أو الحزين، ولا هو بالحي ولا الميت؛ يعيش ما بين الوهم والحقيقة، يحلم يقظاً، وليله مثل نهاره، وكل ما حوله غير حقيقي ولا واقعي.

وهو إذ يرى الموجودات ويشمها ويسمعها ويتحسس قربها منه وبعدها عنه، فإنه عاجز عن أن يثبت صدق مرآها من زيفه أو يدلل على ثبوت صورتها من عدمه. وهذا التوهان واللاثبات هو نوع من التربص يمارسه المؤلف الضمني مع سارده والسارد بدوره يتربص بالقارئ الذي يشعر أنه في حالة تحد وعليه أن يوظف مرجعياته الجغرافية والبيئية كي يتمكن من مشاركة المؤلف قصته.

ولقد تمثّل خضير عبد الأمير هذه الإستراتيجية في قصته الطويلة( الصلصال مشاهد من زمن الحرب) 1996 ولا يخفى ما في كلمة( الصلصال) من دلالة على اختزال خلق الحياة، اختزلها المتن القصصي بالسارد والمدينة/ بغداد وبينهما الحرب تتخلق خياليا في أعلى درجاتها العدوانية تضادا مع الحياة.

ويؤدي السارد الذاتي دور البطولة شاهد عيان على البيئة التي شوهتها الحرب لكنه شاهد ساهم وهائم، كأنه أتى من زمن غير زمنه الحالي، ينظر إلى المدينة التي عشقها بعينين لا واقعيتين فيراها في صور محبوباته وذكرياته معهن وكيف عكرت الحرب صفو حياته فصار مقاتلا يحارب بنفس يشدها الحنين إلى الأمان. وهو إذ يترك هذا الاسترجاع فإنه يعود مكرها إلى الواقع الحالي للمدينة مستحضرا مشاهدات زمن الحصار التالي لزمن الحرب.وفي كلا الزمنين هو وحيد لا هيأة جسدية تدل عليه ولا رغبة واضحة لديه في الاستمرار بالحياة( كان المكان خاليا من نأمة لإنسان أو حركة لحيوان لا حياة فيه لا إنسان يتجول ولا سيارة تمر ولا حتى حيوان مشرد ..أحسست بأنني وحيد وعلي ان أكون داخل المدينة.. يا لوجودي المتحدي لكل شيء حيوي كيف أكون وحدي واغترف من منابع الهواء ومن مدى الرؤية والمدينة خائفة مهجورة؟)([4])

وها هو يطوف في مدينة بلا حياة، دمرتها حربان إحداهما أشرس من الأخرى؛ الأولى جعلت الحياة فوضى والأخرى حولت الفوضى إلى صمت، فغدت المدينة بيئة تخلو طبيعتها من الحياة سوى السارد الذي وجد نفسه فجأة على الجسر غريباً والحرب تصطلي في ذهنه متقدة( نزلت قلب المدينة أفتش عن الناس فما وجدتهم.. سوى أصوات خافتة وقد حلت محلها همهمات أضاعتها سطوة الآلة الجبارة التي تقهر وجود الإنسان وتأخذه نحو صمت مرير لا تصل إليه العين)([5]) حتى باتت البيئة كائنا خرافيا يغتال من السارد إنسانيته ويعاديه ويعيد تخليقه من جديد ( لم أواجه يوما بمثل هذه الدقائق برغم أنها كانت متمثلة في ذهني كشيء خيالي صعب التصديق وبرغم أنها بعيدة التصور إلا إنها كانت قريبة ومتمثلة مثل حلم مروع لا يكاد النائم يبلغ شيئا سويا من مدياته بعد الاستيقاظ سوى رهبة الواقع المختفي والمتحول إلى فراغ لا تصل إليه حتى العين)([6]).

وبالإصرار على الوجود يحاول السارد التآلف مع البيئة لا الهروب منها، فهو وإن كان مرعوبا بالحرب فانه أيضا مفتون بالمدينة التي ولد فيها وتعلم فيها حتى عرف دروبها وأزقتها لكنها اليوم تغيرت وغدت غريبة بكل اصطخابها وغموضها وعتمة المستقبل الذي ينتظره بلا انبلاج. ويتم تخليق بيئتها بهتروتوبية تجعل كل ما هو لا واقعي ولا منطقي واقعا معيشا وعلى الإنسان التعايش معه بكل ما يغص به من أجواء الذعر والتلظي بأنواء الخوف وفقدان الأمان وبتماسات مباشرة مع لحظات الجنون والتشظي وسخرية البقاء على قيد الحياء تحت وابل المدافع وأزيز الطائرات وهدير الدبابات.. وهكذا تغدو المدينة بيئة طاردة وغريبة.

ويفكر السارد محاولا أقلمة وجوده مع هذا المحيط غير المعقول قائلا:( حتى في مجالات الإيهام أو الحقائق تنتصب الرؤية بكل أبعادها وكأنها ذوات متعددة لأناس فقدوا الإحساس بالمرارة فصاروا في كل مكان كالجثث لا يهمهم من الحياة شيء)([7]) فالحرب ماكنة لها عجلات جبارة تسحق الحجارة وتحولها إلى نثار كما تسحق البشر وتحيلهم إلى رماد أيضا. وقد رمز الكاتب إلى هول هذه الماكنة بشخصيتي المجنونة والأعرج جاعلا السارد يسترجع في ذاكرته زمان الصبا الجميل الذي انمسخ بزمان الرجولة المشوه. ولعل في تحول السرد من ضمير الأنا إلى ضمير النحن إشارة إلى جماعية الفعل الذي تتركه الحرب على البيئة والإنسان فتوة وشبابا والزمان ماضيا وحاضرا أرضا وسماء(وجودنا وقبضاتنا كانت بلون الحجر المترب الداكن .. مرت الساعات ثقيلة التصقت فيها البطون بالظهور وتيبست أوعية الدماء وران على الوجوه والأجساد اصفرار مباغت)([8])

ولكل حرب صانعون يحوكون مؤامرتها التي تصب شرورها على بني جنسهم ومعهم تتضرر البيئة بكائناتها كلها الجامدة منها والحية. فكانت محصلة ما تقدم الصمت إزاء واقع أغرب من الخيال( هذه ليلتي حيث رأيت نفسي وكأنني امشي على الماء وأطير في الفضاء فاستعذبت تلك الرؤية.. وأفاعي الفضاء تلقي بفحيحها من صواريخ وقنابل على أماكن واسعة فسيحة وبدت المقاومات تهدر وانحطت الأصوات وشل الرعب الخوف وجمده حتى أوقفه في الصدور ثم سحبه حتى البطون والأرجل)([9]). وهذا ما عاشه الإنسان العراقي في خضم حروب متناسلة، وكلها لم تخلف سوى الدمار والعنف .

وكثيرا ما يركز السارد على هذا الواقع من خلال إطلالات بيئية بخيالية تتضاد فيها فتنة الطبيعة مع مأساوية عواقب الحرب كما تندمج بهجة النفوس بالمخاوف من زمن قادم، غارق إلى حد بعيد بالخيال فيغدو الواقع أكثر رعبا.. ولكن ماذا لو تم التعبير عن بغداد مكانا سرديا بلا حرب، فهل يجعل الخيال البيئة تخطط للمدينة هتروتوبيتها المكانية ؟

سيناريوهات الخيال البيئي غير الطبيعية:
من الممكن أن نجد، في روايات واقعية كثيرة وفي مقدمتها روايات غائب طعمة فرمان، بغداد مكانا مشدودا إلى الواقع في صورة مدينة دستوبية أو يوتوبية وربما هتروتوبية، ترسم أبعادها ذهنية شخصية ما بمخيلة ذات أحاسيس داخلية وخلفية اديولوجية، لكن المكان في هذه الحالة لن يظهر إلا كجزء من الشخصية والأحداث والزمان، وهو ما لا نجده في بغداد خضير عبد الأمير التي تحولت من كونها جزءا من كل إلى بيئة هي المدينة المنسوجة بالخيال والمحتدمة بالحرب. وعلى الرغم من مخاوف السارد الذي بدا ميتاً تطوف روحه فوق العالم باحثة عن مكان لها في هذه الأرض لعلها تجد مسكنا، فانه ظل متيما بحب مدينة صارت موبوءة بآثار الحرب العسكرية التي خربت البيئة وأعطبت الأجساد( ترتجف بطونهم وحلوقهم ويقف منهم شعر الرأس ويحس الكبار بالرعشة المميتة حيث ينقطع الفكر عن الباصرة وتموج الأعين بشتى الرؤى..وتكون الارتجافات على الأرض وتحت الأغطية المتلفعة تلك الكتل الآدمية الصامتة ببطانيات يندثر فيها الوجود والحس..الصبي الذي كان خائفا من الأصوات هناك هو نفسه يتلفع بخوف الصمت الآن ولا فرق بين الزمنين)([10]).

وتتبدى مخاوفه من مدينة عنيفة في صراعاتها لا عهد له بها من قبل الحرب حين كانت الحياة يوتوبيا وهو يمارس تجاربه العملية ومغامراته العاطفية بحسن نية وصفو بال..لكن مع الحرب صار كل شيء ماضيا كذكريات وديعة لا أمل في استعادتها من جديد في ظل دستوبيا الواقع المرير الذي ترك صوره الشرسة على البيئة والإنسان. وغدا الوهم بديلا عن الحقيقة التي ما صادفها السارد الذاتي وهو يتجول ميتاً في المدينة سوى حين وصل إلى سور المرقد فتبددت وحشته وهدأت روحه وسمع انبعاث أصوات لا يعرف مصدرها( تلفتُ يمنة ويسرة وتطلعتُ إلى أمام حاولت ان أتكلم لا احد يستمع لي أو استمع إليه ..لا وجود لغيري لا احد في الساحة لا أحد في البستان سوى الشجر العطشان..لا ثمرة تسقط ولا نسمة هواء لا احد في الطريق سوى العودة إلى كثافة من ذكريات طيف فتاة السنوات البعيدة والمتصلة لذاتها لكأنها الحاضر)([11])

ومن السيناريوهات التي اتبعها السارد في تصوير تأثيرات الحرب على البيئة البغدادية هي تخليق مشاهدخيالية لا معقولة ترسم صورا للوضع الفوضوي الذي يمكن للحرب أن تخلّفه عبر مشاهد درامية توحي باستحالة العيش في بيئة بورنوجرافية( وصفية) تحاكي الحرب لا في عنفها حسب، بل في دناءة تكرارها وتناسلها كهذا المشهد السردي(رأيت نفسي أعود أدراجي هكذا وجدت الأشياء التي تحيط بي كأنها اللون الترابي الغاطس في لجج لا أول لها ولا آخر من الطين والرطوبة ومن التوحد ومن الشعور بالمرارة)([12]).

وتجدر الإشارة إلى أن بودريار كان قد تأمل العواقب المدمرة التي سيخلفها هذا التناسل في حرب الخليج، قائلا:( الوجه البورنوجرافي للحرب يتمثل في الحلقة العراقية الأخيرة من يراهن على المشهد ليهلك بالمشهد. تريدون السلطة بواسطة الصورة إذن ستهلكون بعودة الصورة.)([13]) ثم تساءل باستنكار: هل هناك أسبقية للفكرة على الحادثة؟ فأجاب: يخامرنا الانطباع أن الحدث كان هنا على الدوام حاضرا بالاستباق وانه يجري بأسرع ما يجري الفكر، خالقا من حوله الفراغ فجأة ومجردا العالم من كل حدث راهن، لا نعيشه كما لو انه قد تم حقا، بل كمشهد خارق مع القلق الاستعادي ألا يكون قد وقع([14]) .

وهذه العلاقة بين استباق الفكرة واسترجاعها هي التي بها وجه القاص بطله نحو تجسيدها فجعله يواجه بيئة مستحيلة موضوعيا وغير معقولة واقعيا دامية بالحرب وواعدة بالإرهاب، موظفا سيناريوهات بانورامية تعطي انطباعا كالحا لشراسة الحرب التي عاثت في البيئة فسادا( احترقت جذوع الأشجار واقتلعت أكثرها في الضواحي وعلى جانبي الطرقات لتتحول إلى حطب للتدفئة. كانت أجواء المدينة ملفعة بالدخان غمامات تتصاعد وتنتشر وتقف ثابتة في مكانها يتصاعد بياضها المتحول إلى هواء راجف بالحركة البطيئة وسماء المدينة تتعفر .. ثم يزول الدخان وتبقى الروائح في مجالات الريح متفرقة وباهتة ثم تتكون شعل جديدة يتصاعد دخانها في محاولة جادة لتعتيم الأجواء وإضافة مسحة تمويه)([15])

وكثيرة هي الأوصاف البانورامية لأجواء الحرب، فمن صفارة الإنذار إلى تجمع الناس في الملاجئ وتخلل ذلك كله الأوصاف والمشاهد والأسماء التي تدلل على مدى التغلغل الهتروتوبي لمناطق بغداد وساحاتها في نفس السارد، فيصف حال الناس وهم بين سماء تحوم فيها الطائرات وأرض لا تحمي أجسادهم( ذلك الصوت الليلي الذي يدوي في دواخل رؤوسهم لكأنه يخترق السقوف ويعرض هاماتهم إلى فتحة السماء الواسعة والى نزف الريح التي كانت تقتلع الدفء والطمأنينة من النفوس وعن ذلك الاختراق المندفع الذي تحولت رؤيته إلى أصوات زاعقة عالية أقوى من الانفجار. انه اختراق الطائرات لحاجز الصوت)([16])

والإنسان في هذا كله لا حقيقة له وقد انتزعت كرامته شكلا وجوهرا فصار موهوما بالمدينة المرعوبة بالإرهاب الذي سببته آلات الحرب الرهيبة وكل شيء بسببها مزيف ومزور وغير واقعي ومشكوك فيه. وعلى الرغم من هذا الإرهاب، فإن المدينة حنون بقبابها ومآذنها وطبيعتها الوادعة. فينفرج التحبيك ويشعر السارد بالراحة واجدا نفسه عند المرقد مرة ثانية وعبر عن هذا الشعور بصورة وصفية ملونة قائلا:(شرعت انثيالات حسية مريحة تشدني لذلك المكان المقدس القريب الرابض في وسط المدينة القديمة حيث تصاعد أذان المغرب وبدت الشمس باهتة في الأعالي منطفئة ومتحولة وشرعت الألوان الرمادية الداكنة الأسود المغبر والأزرق النيلي بالسطوع فوق الشرفات وعلى حافات الأفاريز وحجر الجدران وعند أعمدة الشوارع وكانت وجوه المارة في الشارع القريب من المرقد متحولة من الظلمة الكابية إلى السطوع وبالعكس..وبدأت ارتكن إلى الظل الأسمر العميق الندي وأتنفس الهواء)([17])

وبعد هذه الشحنة من الإحساس بالصفاء والأمل يعود السارد ـ الذي بدا مثل شبح لا ظل له ولا وجود ـ إلى الموضع نفسه الذي ابتدأ منه عند تجواله في المدينة وهو الجسر، متأثرا بطقس رهيب مارسه عبر تذكر الماضي ثم استحضار معايشته من جديد،( انظر إلى ظلال السياج الحديدي المخضر وأرى ارتجاف الظل فوق حركة المياه المعتمة التي تحيل إلى السواد. عندما هدأت روحي رفعت نظري من جديد فوجدت السماء مشرقة بالضوء الساطع ثم وجدت نفسي وحيدا أقف على الساحل ومن حولي صمت المدينة وأصوات الطيور وحركة المياه وثمة أحجار مبعثرة وأشواك ونباتات طبيعية مهجورة )([18]) وهو ما أضفى عليه مزيدا من الأسى فتعمق اغترابه كروح لا هناءة لها سوى ما تبثه إشعاعات المرقد المقدس.

ومن السيناريوهات أيضا وقفات التأمل التي فيها تندمج ذات السارد بذات المؤلف فيغدوان واحدا، من ذلك مثلا التفكير في ثنائية الواقع/ الخيال( تستطيع المخيلة أن تتعايش مع اليومي وبجميع حالاته وعند ابتعاد الأخطار التي تحيق تستطيع هذه المخيلة أن تراكم الأحداث التي جرت ثم تحولها إلى حكايات وإلى أفعال حيث تولد الأساطير مصوغة ببراعة الفكرة التي لا تقف أمامها أية حدود لأنها ستكون داخل الذاكرة وعند حدود تأمل الإنسان) ([19])

وساهمت الارصادات الشخصية للأجواء والمشاعر والأوصاف المشهدية والبانورامية للمدينة في تمتين نسج الحبكة القصصية، ففقد المكان عنفوانه داخل الذات وخارجها وبلا بوصلة تدل عليه في خضم مدينة هتروتوبية تتجلى على أرضها دراما بشرية تجمع المتضاد وتفرق المتوافق، لا يسكنها أحد. فلقد أحرقت آلة الحرب كل حي وجامد وصار الواقع لا واقعا، حورب بدوره بالحرب أيضا فتبادلا المواقع، فتحول الواقعي خيالاً والخيالي واقعياً.

الخاتمة/

يتجلى المكان في القصة الطويلة ( الصلصال) كمسمى لا يكافئ الموجودات ولا هو معادل موضوعي للزمان، بل هو كيان مادي مرسوم هندسياً بالخيال ومهيأ بيئيًا كأرض وفضاء وتحت الأرض وما وراء الفضاء لتوجيه السرد وتحدي التاريخ والتقاطع مع المنطق. والحرب أية حرب هي مأساة سواء انتهت بالانتصار أو لاذت بالخسران، وأول تبعات مأساتها ما يتركه صراع البشر من أضرار على المكان كبيئة مادية مخربة وطبيعة مدمرة ومعها تتدمر الموجودات والبشر بوصفهم جزءاً من الطبيعة يصيبهم ما يصيبها. وبسبب ما يسفر عنه الخيال البيئي من كوارث وتشوهات وتلوثات وجفاف وفيضان وتناقص في الموارد ولا نظام في الحياة تتشتت رؤية السارد للعالم، فيبدو كل شيء بلا حقيقة ولا قيمة ولا أهمية.

 

 

([1])صدرت أول مجموعة للقاص عام 1964 بعنوان (حمام السعادة ) ببغداد ثم مجموعات: (الرحيل)1968 و(عودة الرجل المهزوز) 1970 و(كانت هناك حكاية)1974 و(خيمة للعم حسن) 1974 و(الفرارة) 1979 و(رياح شتائية دافئة) 1982و(نجوم في سماء النهار) 1985 و(عاشقان من بغداد)1986 و(حكايات الشتاء القصيرة )1993. وأول رواية له هي( ليس ثمة أمل لكلكامش) 1971 وبطبعة ثانية 1985 و(رموز عصرية) 1976 و(هذا الجانب من المدينة) 1984 وعشرات القصص والحكايات للأطفال والفتيان منها( الحطاب والعصفور والناعورة) و(سبع حبات من البذور) واغلبها مطبوعة في بيروت.

([2])ينظر: ذهنية الإرهاب لماذا يقاتلون بصوتهم، جان بودريار وجاك دريدا ، ترجمة بسام حجار( بيروت: المركز الثقافيالعربي، ط1، 2013)، ص33.

[3] الهيتروتوبيا Heterotopia مصطلح مكاني وسطي وهجين ما بين اليوتوبيا والدستوبيا بوصفها انتباذا فيه تتغاير الأمكنة كتصورات تلائم المدينة الحديثة اليوم وكوجود حقيقي في الواقع المادي المعيش الذي هو معقد إلى درجة التناقض.

([4])الصلصال مشاهد من زمن الحرب قصة، خضير عبد الأمير، ( بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، ،1996 ) ص9ـ 10.

([5])القصة، ص12

([6])القصة، ص7

([7])القصة، ص50

([8])القصة، ص18

([9])القصة، ص17ـ18

([10])القصة، ص19ـ20

([11])القصة، ص51

([12])القصة، ص8

([13])روح الإرهاب، جان بودريار، ترجمة بدر الدين عرودكي( القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010 ) ص98

([14])ينظر: المصدر السابق، ص44ـ45

([15])القصة، ص73

([16])القصة، ص55

([17])القصة، ص93

([18])القصة، ص92

([19])القصة، ص72