يسعى هذا المقال الذي قدمه وترجمه الباحث الجزائري هنا إلى تقديم تعريف لهذا الجنس الأدبي الجديد الذي مازال يتأرجح في كثير من الآداب والثقافات بين مجال النثر والسرد من ناحية، والشعر وبعض صيغ قصيدة النثر من ناحية أخرى. ويموضعه في أكثر من ثقافة، ويربطه بسياقاتها وبصيغ المجاز فيها.

الميكروقصّة والمجاز

جاك فوينتالبا

ترجمة وتقديم: سيدي مُحمَّد بن مالك

 

تقديم:
جاك فوينتالبا (Jacques Fuentealba) من كُتّاب الميكروقصّة باللّغة الفرنسيّة، وهي شكل من أشكال القصّة القصيرة جدًّا، التي اتّخذت أسماء عديدة، اختلفت باختلاف الجغرافيّات واللّغات والثّقافات وأعراف الكتابة الأدبيّة الخاصّة بهذا النّوع السّردي، الذي تعاوَره الكتّاب إبداعًا ونقدًا، مصطنعين له تسميات إسبانوفونية وفرانكفونية وأنجلوفونية، عبَّرت كلٌّ منها عن نظرتهم لماهية الصّنوف التي اهتدوا إليها، من حيث السّماتُ التي تسِم أدبيّة هذا النّص الوجيز والعناصرُ التي تكوِّن بنيته، من إخفاء ومُفارَقة وسرديّة، ومسحة سحريّة عجائبيّة، وأثر واقعي مبتذل أو مفعَم بالعاطفة، وسوى ذلك من سمات وعناصرَ. ويبدو أنّ كاتبَ هذا المقال، الذي يتألّف من ثلاثة أجزاء، قد انحاز إلى مصطلح الميكروقصّة في صيغته الفرانكفونية التي استحدثها الكاتب الكَنَدي الكيبيكي لورون برتيوم، على الرّغم من وجود صيغ فرنسيّة أخرى حاولت تمييز هذا الشّكل من أشكال القصّة القصيرة جدًّا؛ على صعيد الإيجاز، حيث ينبغي لكاتِب الميكروقصّة، مِن منظور لورون برتيوم ومَن حذا حذْوه، أن يُنشِئ نصّه في حدود مائة كلمة أو أقلّ.

وهو ما لم يتقيّد به جاك فوينتالبا في تأليف كتابه "Scribuscules" الذي ضمّ ثلاثَ مائة وخمسًا وستّين ميكروقصّة (كما جاء في تعريف الكتاب في الأنترنت، بحيث لم يتيسّر لنا الاطّلاع عليه). في حين، مضى، لا شكّ، إلى توظيف الخصائص العامّة التي تمثّل جوهر القصّة القصيرة جدًّا في نصوصه تلك، ولعلّ أهمّها الإخفاء الذي يُعدُّ أحد التّعبيرات المجازية الرّئيسة في هذا النّوع السّردي، والذي يخصّه الكاتب بالتّعريف والتّمثيل في الجزء الأوّل من مقاله الموسوم "في الميكروقصّة وتقنيات كتابتها". وهو ما دفعنا إلى التّصرُّف في ترجمة عنوان المقال نفسه، مؤْثرين عنوانًا آخر يوائم مضمونَ ما أراد الكاتب بيانَه، وهو "الميكروقصّة والمجاز".

نصّ التّرجمة:

ما هي الميكروقصّة؟

من دون الشّروع في تعريف جامع مانع يمكن أن يكون موضوعَ مقال كامل لا يُلِمُّ بسماتها ومُميِّزاتها، نقول، باختصار، إنّها قصّة قصيرة جدًّا. بضع كلمات، وبضعة أسطر، وفقرة أو فقرتان، لا أكثر. إذا كانت جائزة (Pépin) تحدُّ النّصوص التي يمكن أن تتنافس بـ 300 علامة، بما فيها العنوان؛ فإنّ بعضهم، نظيرَ لورون برتيوم (Laurent Berthiaume)، ومثلما يشير إليه مقال ويكيبيديا حول الميكروقصّة (La micronouvelle)، أكثر «تساهُلًا» ويعيِّنون الحدّ الأقصى بمائة كلمة.

إذًا، فالميكروقصّة، التي تسمّى، أيضًا، ميكرورواية (Microroman)، وميكروتخييل (Microfiction)، وقصّة قصيرة جدًّا (Very short story)، وومضة تخييلية (Flash fiction)، وما إلى ذلك، نصّ نثريّ قصير، يتضمّن بنية سرديّة دنيا. حتّى في شكلها الأكثر تكثيفًا، تحافظ الميكروقصّة على هيكلِ بنيةٍ؛ مقدِّمة أو عرض، وتوسيع ونهاية. ينبغي أن نوضِّح بأنّ بعض الميكروقصص، من صنف الحِكَم أو الأمثال المستعارة، يمكن أن يفتقر إلى هذه البنية، حيث يفضي إيجازُ الميكروتخييلات، في مناسَبات معيَّنة، إلى أنْ تجد المقدِّمة/ العرض نفسها مُختزَلة إلى أدنى حدّ، و، أحيانًا، موحى إليها فحسب. أضِف إلى ذلك أنّ الإخفاء (L’ellipse) هو أحد التّعبيرات المجازيّة الرّئيسة لهذا الشّكل.

تعبيرات مجازيّة:
إنّ الميكروقصّة، في الواقع، مختبَرُ عالِم مجنون لكلّ كاتب يرغَب في تطويع اللّغة كيْ تبوح بأسرارها الصّغيرة السّمجة. إنّها، إذًا، الشّكل المثالي لتجريب عدّة تعبيرات مجازيّة من كلّ صنف، وليس الإخفاء فحسب.

لنلقي نظرة على هذه التّعبيرات المجازيّة، على الأقلّ تلك التي تتكرّر في أغلب الأحيان. وليكن الإخفاء، تحديدًا، بما أنّنا نتحدّث عنه. ضربةُ مقصٍّ، واثنتان، وثلاث، ونحصل على نصّ أكثر قصرًا ممّا كنّا نعتزم كتابته في البداية. فضلًا عن أنّ النّص المشرَّح يصبح أكثر غموضًا، وأنّ فكّ سَنَن المعنى يغدو، أحيانًا، تخمينًا، بل يمكن أن ينفتح على تأويلات متعدِّدة. والمثال الجيِّد هو نصّ أوغستو مونتيروسو (Augusto Monterroso) القريب من أسلوب هيمنجواي([i])، من حيث تمديدُه في الإسبانيّة (7 كلمات): "الديناصور"؛ «حين استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك».  

يمكن أن يُؤوَّل النّص بطرُق مختلفة؛ فقبل إعداد هذا المقال، تصوّرت أنّ ثمّة حكاية كيانٍ نائمٍ ألفى حين استيقاظه أنّ ديناصورًا، كان يأمل أن ينقرض عندما يفيق، لا يزال على قيد الحياة. لقد التفتُ إلى «هو» الذي لم يكن في النّص، تمامًا كما أوَّلتُ «لا يزال هناك» بإكسابه معنى «على قيد الحياة». على أيّ حال، فإنّ النّص يخبرنا بأنّ الديناصور كان لا يزال هناك، وليس بأنّه على قيد الحياة. وحتّى لو مضيْنا قدمًا في التّحليل، فمن المحتمَل أنّ هذا الديناصور لم يكن، أبدًا، على قيد الحياة في هذه الميكروقصّة، سواء حين استيقظت الشّخصية لأوّل مرّة، أو حين كانت نائمة، أو حين استيقظت من جديد.

كان يمكن، كذلك، أن نعتقد أنّ الأمر يتعلّق بطفل لديْه صديق مُتخيَّل يتخّذ شكل ديناصور؛ فيقول لنفسه، في أحد الأيّام، قبل أن يخلَد للنّوم، إنّ صديقه المتخيَّل هو مُجرَّد وهم، لا ينبغي أن يوجد سوى في مُخيِّلته، وأنه سيختفي حين يستيقظ. ولكنْ، حين يستيقظ الطّفل، سيظلّ الديناصور هناك.

إنّني، بطبيعة الحال، أبالغ في التّأويل. ولكنْ، لأنّ النّص مكتوبٌ بشكل ضمنيّ، فمن الطبيعي جدًّا أن يكون ردّ فعل القراءة هو الرّغبة في ملء الفراغات لجعْله مفهومًا. يمكن، بلا شكّ، العثور على كثيرٍ من التّأويلات الأخرى.

في الواقع، ومن خلال القيام ببعض الأبحاث حول الميكروقصّة، ألفيْت ما ذكره موقع ويكيبيديا باللّغة الإسبانيّة: «لقد استُخدِمت ميكروقصّةُ الديناصورِ للإحالة إلى السّياسة المكسيكيّة للحزب الثّوري الدستوري الذي حَكَمَ البلاد خلال أكثر من سبعين سنة، والذي يُشبَّه بسبب تقادُمه بالديناصور: يتمّ، بشكلٍ متواصلٍ، تمثيل الحزب وأعضائه في التّحليلات السّياسية واللّقاءات والرّسوم الكاريكاتورية في شكل هذا الحيوان. ما يعني أنّ هؤلاء يستخدمون، باستمرار، هذه الميكروقصّة».

من المهمّ أن نرى أنّه يمكننا ملء فراغاتِ هذا الإخفاء بهذه الطّريقة. بقي أن نعرف ما إذا كان هذا هو ما كان يدور في ذهن المؤلّف عندما كتب هذه الومضة التّخييلية. 

هنا، نواجِه إخفاءً لا يتّكئ على أيّ إحالة شائعة ومعروفة لسدّ الثّغرات. الجميع، بالتّأكيد، يعرف ما هو الديناصور، وما هي السّمات الرّئيسة المسنَدة إليه (غموضٌ يكتنف حجمه الضّخم، ونوع منقرِض، وزاحف.). ومع ذلك، لا تسعِف أيٌّ من هذه السّمات (باستثناء حقيقة أنّه عَمَرَ الأرض قبل ملايين السّنين، وأنّ بقاءَه، من ثمّ، يستند إلى مدّة حياةٍ خارقةٍ للطّبيعة أو مُخالفةٍ لها في النّص الذي يعنينا) في تقديم قراءة مقنعة.

في حالات كثيرة أخرى، تشتمل إخفاءات الميكروقصص على إحالات تنير، في حالِ تبيُّنها من لدن القارئ، النّص عبر تقديم مفاتيح استيعابٍ، أو، على الأقلّ، مساراتٍ، من خلال اللّعب، في أغلب الأحيان، على عنصر المفاجأة، وحلّ «مباغت» نظيرَ «لقد وجدتها» (Eurêka).

ذلك هو سبب انشغاف كُتّاب الميكروقصص باستدعاء شخصيّاتٍ من الحكايات والمحكيّات الخرافيّة أو الأساطير المشهورة في نصوصهم (عقلة الإصبع، وذات الرّداء الأحمر([ii])، وهرقل، والمستذئبون، ومصّاصو الدّماء، والأشباح.)، وشخصيّات من الأدب (دون جوان، وغريغور سامسا «شخصيّة المسخ لفرانز كافكا»([iii])، وأليس في بلاد العجائب([iv]).)، وشخصيّات من كتابات سِيَرِ القدّيسين (L’hagiographie) (اختصاصُ كاتبِ الميكروقصص الأب ديزوفري Le père Désœuvré)([v])، أو شخصيّات من التّاريخ.

 

أستاذ النّقد المُعاصِر/ المركز الجامعي مغنيّة – الجزائر

 

المصدر:

Jacques Fuentealba : « De la micronouvelle et de ses techniques de rédaction ». https://espacescomprises.com/micronouvelle01/ 

الهوامش:  

 

([i]) L’Hemingway est un format très court de micronouvelle (6 mots, ni plus ni moins).

([ii]) Dans le recueil de José Luis Zárate Petits Chaperons Rouges (éd. Outword/Kymera) par exemple !

([iii]) Il a fait l’objet d’un certain nombre de short short stories sur le blog de Químicamente Impuro.

([iv]) Avec notamment Desconstrucción Alicia, de Santiago Eximeno (nanoediciones).

([v]) Dont on trouvera quelques microblasphèmes ici.