في جولة عبر الزمان نتعرف على أهمية العمل عند المصري القديم، ونطالع بدقة أول قانون عمل في العالم ينظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل ويحدد حقوقه وواجباته.

برمهات: وعيد العمال

بسمة الصقّـار

 

جميع فلاحي مصر يحفظون ذلك المثل الشعبي الذي يقول ( برمهات روح الغيط وهات ) والذي يصف ببلاغة ما يمثله الحصاد من اهمية كبري لدي المصريين ، والذي صادف موعده اواخر شهر ابريل واول اسبوع من شهر مايو ، تُري ما هي المصادفة التي جمعت بين تلك التواريخ المصرية ، وتاريخ الاحتفال العالمي بعيد العمال في الاول من مايو تخليدا لكفاح العمال في شيكاجو فيما يعرف باضرابات ١٨٨٦ مطالبين بتقليل ساعات العمل علي ألا تزيد عن ثمان ساعات يوميا ؟

هيا بنا نذهب في جولة عبر الزمان لنتعرف علي اهمية العمل عند المصري القديم ونتطلع بدقة علي اول قانون عمل في العالم ينظم العلاقة بين العامل وصاحب العمل ويحدد حقوقه وواجباته .

لقد آمن المصري القديم بقيمة العمل لدرجة انه اعتقد ان المكافأة التي سيحصل عليها في العالم الاخر تتمثل في كونه يقوم باعمال الزراعة في حقول اوزوريس المقدسة والتي تسمي (يارو) اي الجنة، وليس مجرد التنعم بحياة الكسل الرغدة في جنان واسعة دون عمل وكد !

وقد ادرك ان نهر النيل هو الهبة الالهية التي خص بها الاله ارض مصر المقدسة فعمل علي استغلاله والاستفادة منه في كافة المناحي الاقتصادية فنجد نقش هام  لاحدي الصلوات المصرية يقول ( ايها الاله الواحد .. يا من خلقت البلاد الاجنبية ذات الجبال وخلقت سهول مصر .. يا من خلقت منابع النيل في (دوات) العالم السفلي ثم اتيت به الي ارض مصر كي تمنح الحياة للبشر …….. )

وهذا يؤكد ان المصري القديم كان حريص علي معرفة منابع النيل وكان يعلم جيدا ان مياهه تهطل علي هضاب البلاد الاجنبية .

فأصبحت الزراعة هي الحرفة الاساسية للمصريين والذين حرصوا علي تنظيم دورتها طبقا لتغير منسوب مياه النيل وكان لموسم الحصاد اهمية بالغة علي المستوي الشعبي والمستوي الرسمي فكانت الاحتفالات تملأ بر مصر كله

حيث كان حصاد القمح والشعير في مصر القديمة من الأشياء الهامة المقدسة المرتبطة بطقوس خاصة بها ، ويشرف عليها الملك بنفسه في حضرة “النترو” الكبار ” الكائنات الإلهية” ، وكان أهمها المعبود “مين” رب الخصوبة ، فكان الحصاد يتوافق مع الإحتفالات بعيد (مين) .

و كان يتم الإحتفال “بعيد تجلّي (مين) إله الخصوبة في كل معابده في كل الاقاليم المصرية مع بداية موسم المحصول ، وكان الكهنة يحملون تماثيله على أعمدة وتتبعهم مجموعة أخرى صغيرة من الكهنة حاملة معها لفائف الخس ، وهو النبات المقدس للإله “مين” . و كان يتم اقتياد ثور أبيض في الموكب ، بينما تُحمل تماثيل الملك ورموز أو علامات الآلهة مرفوعة على السواري ، وفي البداية يعتلي الملك المقصورة الملكية ويقوم بتقديم حزمة من باكورة محصول القمح لرب الخصوبة (مين)، وتطلق اربعة طيور لأركان المعمورة حاملة الرايات المكتوبة لتبشر ارض مصر ببداية موسم الحصاد  .

ذلك الاحتفال المهيب لم يكن مجرد احتفال طقسي فقط بل كان تتويج لعمل مؤسسي منظم ومتكامل ، فكانت اعمال الزراعة في الدولة المصرية محكومة بنظام صارم للري ومكافحة الافات ومواعيد الحصاد وحصر لكمية ونوعية المحصول المتوقعة من جملة الاراضي المنزرعة بالدولة ويكون كل هذا مدونا في سجلات خاصة بالديوان الملكي يشرف عليها الوزير بنفسه ، ذلك علاوة علي تسجيل جميع الصناعات والنشاطات المرتبطة بالزراعة ، من ثروة حيوانية وصناعة النسيج حيث كان هناك ديوان خاص لتسجيل عدد رؤوس الماشية الموجودة في مصر وكانت عملية الاحصاء يشرف عليها كبير الوزراء .

وكانت هناك مصانع لنسيج الكتان تابعة للدولة لها نظامها الصارم ومشرفيها الذين يتدرجون في المراتب طبقا لعلو وسمو مناصبهم الي ان يصل الي كبير المشرفين علي النسيج في القصر الملكي .

لم يقتصر العمل في مصر علي حرفة الزراعة وفقط ،

بل كان للعمال في كافة المجالات منظومة خاصة بهم وتدرج وظيفي ورؤساء لهم طبقا للدرجات الوظيفية المعروفة بالدولة ، وقد وجدنا هذا بالدليل القاطع المدينة العمالية المتكاملة للعمال الذين شاركوا  في بناء الاهرامات بمنطقة (حيط الغراب) جنوب شرق جبانة الجيزة والتي تحتوي علي مساكن ومقابر هؤلاء العمال وتحتوي ايضا علي جميع متطلبات الاعاشة من مخابز ومطابخ ومستشفي وبقايا عظام طيور واسماك وابقار من بقايا غذائهم ، مما يؤكد ان هؤلاء العمال كانوا يتمتعون بكافة الحقوق من مسكن ملائم وغذاء وعلاج ، كما كان يوجد ايضا معبد للقيام بالطقوس الدينية ، ومقابر خاصة تتدرج طبقا للمستوي الوظيفي من عامل لمشرف لكبير مشرفين لمهندس لكبير مهندسين

ونلاحظ ان جثث العمال المدفونة كان بعضها يعاني من كسور ملتئمة مما يؤكد ان اصابة العمل التي حدثت للعامل اثناء قيامه بعمله تم علاجها بشكل كامل وقد استأنف عمله بعد تمام الشفاء .

ومما يؤكد ايضا مؤسسية العمل في بناء الاهرامات ما يعرف ( ببرديات وادي الجرف ) والتي تم اكتشافها في مغارة بجوار ميناء العين السخنة ، عام ٢٠١٣ والتي يذكر فيها احد كبار الموظفين في عصر الملك خوفو يدعي ( مرر ) قوائم باعداد العمال الذين يشاركون في عمليات التشييد لهرم خوفو واماكن المحاجر التي تم قطع الاحجار منها  في منطقة طرة وقوائم بحسابات الاجور الخاصة بهؤلاء العمال وعدد ساعات العمل الاسبوعية  وتعد تلك الاكتشافات دليل نفي دامغ لاثنتين من اكبر الاكاذيب التي لا يمل اعداء التاريخ المصري العظيم من تكرارهما ، اولها ان الاهرامات بُنيت عن طريق السخرة وثانيها ان من قام ببناء الاهرامات هم العبيد من غير المصريين !!

واذا دققنا في تلك القوائم نستطيع ان نستنتج بمنتهي الوضوح ان قانون العمل ومؤسسيته كان معروفا منذ الدولة القديمة اي ما يزيد عن خمسة الاف سنة قبل الميلاد .

واذا ذهبنا معا لتفقد ما تركه اجدادنا من تاريخ النضال العمالي في (دير المدينة) وهي مدينة عمالية متكاملة لعمال بناة المقابر الملكية في طيبة الغربية اثناء الدولة الحديثة نجد ان تاريخ ذلك النضال وتلك الاحتجاجات التي كانت ضد عمدة طيبة لعدم صرفه اجور العمال لمدة عشرين يوما والذي لم يعط  لتلك الاحتجاجات وتلك المطالب  اي اعتبار ، مما اضطر العمال الي عمل اعتصام مفتوح عن العمل ، وقتها شعر رئيس الشرطة (نب - سنب) بخطورة الموقف فارسل لكبير الوزراء بالعاصمة فارسل للملك رمسيس الثالث الذي كان علي رأس حملة لصد غزوات شعوب البحر فكلّف جميع وزرائه بتحقيق مطالب المعتصمين كاملة. وأمر برفع الرواتب الشهرية لكل عامل من الحصص الغذائية، لاحتواء غضب الجموع، ووعدهم بانتظام صرف الرواتب". وقد سجلت ودونت تفاصيل تلك الاحتجاجات علي شقفات الفخار وسجلت ايضا في بردية هاريس وبردية تورين  .

 وعبر تلك الرحلة التي رأينا فيها مناجل فلاحي مصر وفرحتهم بالحصاد ! ومعاول عمالها وهي تنحت الصخور لتصبح تماثيل تكاد تنطق من فرط الدقة ! وانوالهم وهي تغزل من خيوط الكتان ا

أثوابا رقيقة رقة الحرير !

نعود ومعنا دلائل عديدة علي ان تاريخ العمل وحقوق العمال حتي احتجاجاتهم وتلبية مطالبهم كاملة من قِبل ادارة الدولة بدأت من هنا من ارض مصر الابية ،

ارض العلم والعمل والعطاء علي مر العصور .