تفرّد حسن بحراوي في الميدان الثقافي الأدبي في المغرب بخصائص تميزه عن غيره. فهو، بدايةً، من الجيل الثاني لأساتذة الأدب والنقد الحديث في الجامعة المغربية، ممن حصلوا على تكوين متين في هذا الاختصاص، واستطاع مع زملاء له منهم سعيد يقطين، عبد الحميد عقار وبشير القمري، أن يُرسِّخوا أكاديميّاً هذا الدرس ويدقّقوه، ويجددوا نهجه السردي. يلي هذا عنايته بالأدب والفنون الشعبية، وتقاليدها التراثية، بتصانيف مرموقة، ومواكبة نابهة، يستحق عليها كرسي الأدب الشعبي الذي لم تنضج جامعة محمد الخامس لإقراره على رغم توافرها على باحثين أعلام أبرزهم الراحل العلاّمة عباس الجراري (1937 - 2024). وإلى جانب ترجمة أعمال أدبية وأنتربولوجية في تاريخ المغرب، يغمِس حسن بحراوي قلمه بين الفينة والأخرى في دواة الرواية، لا نعلم بهواية "كُتاب يوم الأحد"، أم يعتنقها تعبيراً أساساً له.
نحتكم إلى الظاهر، صدرت له أخيراً روايته "مائدة العلماء" (منشورات أبي رقراق، الرباط ،2025) وهي أنها تتنزّل مع مجموعة رواياتٍ لكتابٍ مغاربةٍ صاعدين يطرُقون باب الرواية أو ينتقلون إليها من الشعر، ويتّسع جلباب النثر عندهم لمتعدِّد القول، ويستدعي الغربال. يريد بحراوي أن يتميز عنهم، فيفرش لعمله ديباجة يتساءل فيها عن الجنس الأدبي، عارضاً أدواتِ صناعة الرواية، من قبيل الحبكة والأسلوب والسارد، متلاعباً بطريقة العارف، أستاذ المادة، ساخراً ضمناً، كأنها حذلقات، ليخلُص إلى أنه بعد بحث طويل لم يعثر على من يسرد قصته ليتولاها بنفسه. نجد تبرير خطاب العتبة هذا في محكيّ الرواية، والعالمِ المرصود، وشخوصِها.
لا بد لقارئٍ ذي مرجعية، من أن يفطِن أو سيفترص أن "مائدة العلماء" مكتوبةٌ على طرس "المأدبة" أو"المائدة" (Le Banquet) الكتاب الحواري لأفلاطون (نحو 380 ق م)، وبعده صورة موائد فنّ المقامات للهمذاني والحريري، وكثيرةٌ قصص العرب عن أدب المائدة (يُنظر: سعيد العوادي، الطعام والكلام، أفريقيا الشرق)، سيقوده ظنّه إلى استكشاف عالم خصوصي في العام، فضاء مستقلٍّ في مدينة الرباط قائمِ الذات مجتمعاً، أخلاقاً، وثقافةً، وعلاقاتٍ، وخطابات (حواريات تحيل إلى البانكي الأفلاطوني بمواضيعها هي)، وأكلاً وشرباً (مقامات بشكل مختلف)، والمكوّن الأخير هو مركز استقطاب رواية بحراوي، يقدم إلينا مجتمعاً تتعفّف الرواية العربية عن تصويره، وشبه محجوب فيها بحكم موانع دينية: فضاء الحانة وأجواء السكارى (سنتذكر مجموعة "خمّارة القط الأسود" لنجيب محفوظ، 1969؛ وكذلك قصة بديعة لمحمد زفزاف "حمار الليل يضرب سكّيرين" من مجموعته "الأقوى" 1978).
هنا قرر اللعب، وهذا مضمار السرد، وبؤرة الحياة التي تعيش فيها مجموعةُ أفراد من مشاربَ مختلفة يلتقون كلّ مساء في مكان عبارة عن نادٍ ومقصف للشرب والأكل اسمه "منتصف النهار"، وهم يؤمُّونه ابتداءً من أول المساء عندما ينتهون من أعمالهم اليومية، محاضراتِهم، فجلهم أساتذة جامعيون. يشخَص أمامنا الانزياح الثاني للرواية بعد فضاء الخمّارة غير المحمود، يتمثل في الثنائية الطِّباقية للعنوان وموضوعه (عالمه المغلق) كما هي في الثقافة المغربية والإسلامية، فالعلماء عندنا اسم آخر لـ"الفقهاء" وهم يحبون المائدة فعلًا، لكن يجتمعون حولها بعد أن يفرغوا من فقه الدين.
سيخفف من هذه الصدمة أن "العلماء" ينفصلون عن العالم الحقيقي (النمطي) ليلتحقوا بـ"الاستثنائي الشاذ" في حركة أولى من "خارج" إلى "داخل"، وفي حركة ثانية من داخل مشترك (النادي) إلى داخل خاص (مجلسهم الخاص، مائدة العلماء) ثم منه إلى حركة ثالثة تتجزأ إلى مجموعة من الدواخل، بعدد الشخصيات التي تجتمع حول المائدة كل منها على حدة. في ديباجته قدمهم المؤلف أساتذة جامعيين متبايني الاختصاصات، وبعضهم شغل مناصب في دواوين وزارية، يراهم جديرين بأن يكونوا مصدراً مهماً لمعاينة مجمل الظواهر (...) مما عاشته بلادنا في العهد الأخير من حكم الحسن الثاني (التسعينات)"، ويصفهم بقوله: "عِظام الأفكار، نبغاء في ميادين العلم والثقافة، يقضون سحابة يومهم في العمل الأكاديمي والكدح الإنساني" ليجمعهم المساء في حانة منتصف الليل. هكذا هم يحملون أسماء اختصاصاتهم: الأستاذ الأندلسي؛ أستاذ الرياضيات؛ الأستاذ عالم الدواجن؛ الأستاذ عالم الرّي؛ أستاذ الجيولوجيا. بموازاتهم شخصيات على هامش المائدة.
يجمع بين هذه الشخصيات سمر الليل باحتساء عدد من قناني الخمر بانتظام، وتبادل الأحاديث في شؤون مختلفة من اختصاص كل منهم مع جدل ومناوشات، تتقاطع أحياناً مع مرتادين آخرين يحتسون في زوايا أخرى من المشرب. هذا المكان الروائي، الواقعي في آن واحد باسم شائعٍ له في مدينة الرباط (شاربان) زبائنه معلومون؛ وأسماء وعناوين في خريطة العاصمة، بما يصنع الطابع التوثيقي للتوظيف الروائي قصداً. بل أن بعض القراء يمكنهم الاهتداء إلى الأسماء الحقيقية لشخصيات الاختصاص، ومصادر محكيات رائجة على الألسنة، ما يدمغ هذا الطابع بقوة نراه يقلص المسافة بين الواقعي والتخييلي باقتراح صيغة مغايرة للرواية تعيدها إلى إلى مرآة استاندال العاكسة لما ترى في الشارع، ودور الروائي هو السرد والوصف وترتيب الزمن، والحبك للحدث إن وُجد، وهذه معضلة بحراوي وجد لها مخرجاً إذ لا يكفي لإنتاج رواية أن يلتم مساءً أصحابٌ ويحتسون ويتجادلون، لا بد من أزمة.
اقتضى نظره أن يُفرّعها إلى أزمات، فعقد فصلاً لقصة كلّ شخصية، وإذا بنا أمام قصص وحيوات ترسم مسارات ومصائر، تتسم جميعُها بالعصامية والمثابرة والانطلاق من القاع للوصول إلى ذروة علمية أو وظيفية، بعد تضحيات وتقلبات. تنتهي بهم في الأخير إلى مشرب "منتصف النهار" ليجتروا سأم الأيام في منحدر منعرجات الكلام، بعد أن تعلموا وطافوا في العالم ونبغوا انتهوا إلى كرسيّين: واحد في الجامعة، وثان في خمّارة، والمضمر ماذا أفاد علمُهم؟ وهل هذه نهاية المطاف؟ يعوض حسن بحراوي، وهو السارد، والمؤلف، والأستاذ، غياب الحبكة التقليدية في روايته بشحنها بمادة معرفية دسمة في مجال اختصاص كلّ شخصية، حتى لنحسب أننا بصدد موسوعة، وهو مجهود إذا أضفناه إلى المعاني المبثوثة والحوارات المتبادلة والرؤية العامة للعمل، يجعل من "مائدة العلماء" رواية تعليمية، وشهادة بانورما أطروحتها معلنة، بل أطروحات، وهذا اختيار لكاتب متعدّدِ الرؤى ومجتهد.