في هذا المواجهة الواسعة مع الخبير السياسي الفرنسي في الشؤون الإسلامية، نتعرف على وجه مغاير للفكر الفرنسي الذي تسعى القيادة السياسية إلى أخذه من جديد في طريق الاستعمار والعنصرية والتحالف مع دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والتي تشد الغرب كله إلى اليمين والتطرف والتخلي عن قيم العدل والحرية.

فرانسوا بورغا: إسرائيل تريد الأرض لا السلام

الغرب يخطئ حينما يناهض الإخوان المسلمين

بوعلام رمضاني

 

المفكّر السياسي المستعرب الشهير، فرانسوا بورغا، ينتظر بثقةٍ في النفس، وبروحٍ مسؤولة لا تلين، الحكم القضائي النهائي الذي سيتّخذ في نهاية شهر مايو إثر اتّهامه بـ"تمجيد الإرهاب". إنّها التّهمة التي أُلصِقت به بعد آخرين في سياق تحليلٍ أكاديميٍّ ثاقبٍ لإبادة غزّة التي أصبحت شامخةً بتجلّياتها الأخيرة حتّى عند كتّابٍ وفنّانين عالميّين غربيّين ويهود على هامش مهرجان كان السينمائيّ الدوليّ، ولو بتعبيرٍ يحول دون ذكرهم الوصف الذي يمكن أن يؤدّي بصاحبه إلى الاستنطاق الأمنيّ في بلد حرّيّة التّعبير، كما حدث معه.
بورغا أكّد في حديثه المطّول هنا توقيعه وإصراره على تحليلٍ يتقاطع جوهريًّا مع مثيله عند كتّابٍ وناشطين سياسيّين غربيّين يهودٍ وغير يهود، لكنّه لا يرقى إلى مستوى المنظور الشّموليّ وغير المُجزّأ الذي يتبنّاه بورغا وغيره من الكتّاب القلائل عند مقاربة مفاهيم العدل والسّياسة والتّاريخ والقانون والأخلاق والكرامة من دون ازدواجيّة معايير لا تسمح بحرّيّة التّعبير، وخاصّةً حينما يتعلّق الأمر بفلسطين على حدّ تعبير آلان غريش.
هنا يجد القرّاء تحليل مفكّرٍ أبدع في تحليل خلفيّات ما طُبِخ غربيًّا على نارٍ هادئةٍ ــ وحتّى عربيًّا في كثير من الحالات ــ لاختلاق وصنع مناوراتٍ تُفيد بأنّ الإسلام وحده سياسيٌّ بحكم هويّته دون الدّيانات الأخرى، ومنها اليهوديّة السّياسيّة التي يُبيد باسمها بنيامين نتنياهو الشّعب الفلسطينيّ في غزّة، والمسيحيّة السّياسيّة (المسيحيّة الصّهيونيّة بحسب المحلّل جان بيار فيليو في كتابه "لماذا فقدت فلسطين ولم تنتصر إسرائيل").
لأنّ ملاحقة بورغا أيديولوجيّة الخلفيّة والهدف في تقديرنا، لكن باسم "القانون السّياسيّ النّاعم"، منحته هذه المقابلة فرصة التّعبير بعمقٍ وأريحيّة عن مقاربته الشّاملة التي انطلقت من بلده الذي يُقارب فيه المهاجرون العرب وغير العرب، كما يُقارب الفلسطينيّون منذ عقود، كبشرٍ "متخلّفين ومتوحّشين" يرفضون حرّيّة وحقوق وطرق عيش الغرب وممثّلته العليا إسرائيل كما تُروّج لذلك دعاية إعلام فرنسيّ مسيطر، وعلى حدّ تعبير جهابذة الصّهيونيّة الخارجة من رحم يهوديّةٍ يرفض كثير من اليهود أنفسهم توظيفها ضدّ الفلسطينيّين (راجع كتاب "إسرائيل ضدّ اليهود" لسيلفان سيبال).
استنادًا إلى كلّ ما سبق ذكره، اقتضت الضّرورة المهنيّة نشر حديث فرانسوا بورغا في سياق طرحه الفكريّ الشّامل الذي لا يمكن تقديمه بشكلٍ مُجزّأ جدليًّا وعلميًّا.

Several books on a white surface

AI-generated content may be incorrect.

(*) كيف تنتظر نفسيًّا الحكم القضائيّ النّهائيّ ضدّك في نهاية الشّهر بعد أن مثُلتَ لأوّل مرّة أمامه في الخامس والعشرين من الشّهر الماضي، وهل أنت واثقٌ في عدالة وطنك؟
أوّلًا، أُشير إلى أنّني لستُ المواطن الفرنسيّ الوحيد الذي تعرّض للحملة السّرياليّة التي قادتها الحكومة الفرنسيّة، بوجهٍ عامٍّ، ووزيرها للعدل، إريك دوبو موريتيه، بوجهٍ خاصٍّ، غداة السّابع من أكتوبر 2023. أشخاص كُثر جمعهم الانتساب إلى الإسلام دينيًّا، أو ثقافيًّا، أُدينوا بأحكامٍ ثقيلة انطلاقًا من ملفّاتٍ فارغة ارتبط مضمونها بعلاقةٍ ما مع هجوم حماس، وبإشكاليّة مقاومة الاحتلال العسكريّ.
أُضيف ــ من دون الحدّ من ثقل وثمن هذه الملاحقات، والحكم مسبقًا على القرار القضائيّ اللّاحق من المنطلق نفسه، أنّ أحد الزّملاء قال لي ساخرًا: "فرانسوا... من لم يُحبس بعد اتّهامه بتمجيد الإرهاب يُعد اليوم من الفاشلين في حياته نوعًا ما". في الوقت نفسه، أنا مصاب بخيبة أمل نتيجة صمت المؤسّسات العلميّة، وخاصّة المركز الوطنيّ للبحث العلميّ (CNRS). لقد بدا لي أن مسؤوليه لم يتحلّوا بالشّجاعة لتجديد موقفهم الحازم جهرًا، كما حدث حينما طلبت منهم دومينيك فيدال، وزيرة البحث العلميّ، توثيق الآثار المترتّبة في الجامعات، جرّاء انتشار ما أصبح يُسمّى "باليسار الإسلامويّ". اتّخاذ تقاعدي كذريعة لتبرير ذلك بصفةٍ غير رسميّة لم يكن أمرًا جادًّا (فرنسوا بورغا متقاعد). لم أكن متقاعدًا يوم صدور كتابي "فهم الإسلام السّياسيّ"، الذي تضمّن فصلًا رأت فيه النّيابة "مديحًا مطوّلًا لحماس"، الأمر الذي أدّى إلى حبسي.

(*) ألا تعتقد أنّ مُلاحقتك قضائيًّا كان أمرًا متوقّعًا قبل السّابع من أكتوبر، لعلاقته بتحليلك لما أصبح يُعرف "بالإسلام السّياسيّ" الذي تُمثّله حركة حماس؟
السّابع من أكتوبر مثله مثل اعتداءي الباتكلان "القاعة الفنّيّة الباريسيّة"، ونيس. ويمكن القول إنّه أضحى أمرًا زاد من سرعة اتّجاه ظاهرٍ منذ أعوام عدة، وهو الاتّجاه المسجّل في الدّيناميكيّات السّياسيّة الدّاخليّة والأجنبيّة لفرنسا، والتي اتّخذت طابعًا مزدوجًا بتغيير اليمين المتطرّف وأطياف كاملة من اليمين لكبش الفداء.
قبل الحرب العالميّة الثّانية، كان يهود فرنسا وأوروبا كبش الفداء، وأخذ مكانهم لاحقًا العربيّ، ثمّ المسلم، وأخيرًا المستعمَر (بفتح الميم)، في سياق تصفية الاستعمار. الدّيناميكيّة المذكورة شملت اليسار وراء واجهة مختلفة المبرّرات، وذلك ليس بوصم المسلمين كورثة للشّعوب المستعمَرة، لكن باسم حماية العلمانيّة الفرنسيّة التي أصبحت مهدَّدة بوجودهم.

(*) لربط ردّك الأخير بسؤالٍ سابق... أريد تعليقك على ازدواجيّة المعايير الغربيّة يمينًا ويسارًا حينما يتعلّق الأمر باليهوديّة السّياسيّة التي جعلت من إسرائيل دولة ثيوقراطيّة (دينيّة) يدعمها علمانيّون يساريّون نظريًّا وعمليًّا. أليس كذلك؟
كنت سآتي على ذكر ذلك. التّبرير الذي تحدّثت عنه مُشيرًا إليه كواجهةٍ يتميّز بهشاشةٍ على أكثر من صعيد، وأصل الهشاشة يعود إلى ازدواجيّة المعايير حينما يتعلّق الأمر بالأديان. الدّفاع عن العلمانيّة لا يُشهَر كعامل تجنيد حينما يتعلّق الأمر بدعم عددٍ كبيرٍ من يهود فرنسا اللامشروط، وصبغ أفعال دولة إسرائيل التي أصبحت ثيوقراطيّة بالشّرعيّة. ولعلّ تحالف الاستعماريّين المتديّنين مع نتنياهو أَسطع دليلٍ على صحّة ذلك.
في تقديري، هنالك انقسام مركزيّ يتسبّب في عزل "فرنسا المسلمة"، بسبب صبّه في جذور كولونياليّةٍ وغير دينيّةٍ فقط. نحن لسنا في صدد منافسة بين الأنبياء، لكن بصدد تجديد رفض الاستعماريّين القدامى طيّ صفحة السّيطرة السّياسيّة والعسكريّة والرّمزيّة على المستعمَرين.

(*) ألا تعتقد أنك الاختصاصي الفرنسي الوحيد في الإسلام السياسي، وربما في العالم، الذي فّنّدّ أُطروحات أغلبية السياسيين والمثقفين الذين يرون في "الإسلام السياسي" نازية جديدة؟
هنالك خطٌّ أحمر يجب عدم تجاوزه، في العالم بوجه عام، وفي فرنسا، بوجه خاص، عندما يتعلق الأمر بالبحث الفكري في هذا المجال. ومفاده رفضُ التجريم الخالص والمبدئي والمختزل لظاهرة "الإسلام السياسي". من هذا المنطلق، يمكن القول، فعلًا، إنني واحدٌ من الباحثين الأوائل من غير المسلمين الذين تجاوزوا الخط الأحمر، علمًا أنَّ هذا الموقف غير استثنائي في البحوث الأنجلو ساكسونية. تأكيدًا لصحة كلامي، أضيف أنه رغم تأثُّر المجتمعات العربية بأنظمة سياسية تسلطية ــ الأمر الذي ينتج أدبًا تجريميًا مبسطًا واختزاليًا للإسلام السياسي، عدد كثير من الباحثين المسلمين (ثقافيًا) لم يقعوا في مطب الأدب السياسي الغربي، بوجه عام، والفرنسي، بوجه خاص.
A book with a blue ribbon and yellow text

AI-generated content may be incorrect.

 

(*) تُوقِّع وتُصرُّ على القول بأنَّ الغرب يُخطئ حينما يناهضُ الإخوان المسلمين بهدف محاربة الإرهاب الذي تمثله داعش وجماعات أُخرى في تقديرك. الغربُ الذي ترى أنه مُخطئ في هذا الصدد يرى في طرحك دفاعًا عن الإرهاب، وتمجيدًا له، وِفق التُّهمة الموجهة إليك، علمًا أنّك لا تفعلُ ذلك في حدود فهمي لتحليلك الذي أعرفه جيدًا. هل يُمكن لك وأنت تُخاطب قرَّاءَنا الذين لم تسنح لهم الفرصة لقراءة كتبك الهامة الرد على هذه التهمة الخطيرة غير المؤسسة في تقديرك؟
مبدئيًا، يجب التأكيد على قوة تنوع الإسلاميين الذين يشملهم خطاب التجريم في شكل تعميمي، رغم أنَّهم يُمثلون شريحةً واسعةً ما دامت تنطلِق مثلًا من البغدادي الزعيم السابق لداعش، وتصل إلى راشد الغنوشي، الزعيم السابق للبرلمان التونسي المسجون حاليًا. إذا استندنا إلى المرجعيَّةِ الغربية، نجدُ أنَّ كثيرًا من المثقفين والسياسيين الغربيين والفرنسيين، بوجهٍ خاص، غير قادرين على الخروج من منطق الهيمنة الاستعمارية التي ساهمت في تكريس الثقافة المسيحية، باعتبارها المُصدِّرِ الوحيد للمنتوج الفكري الإنساني. وعليه، نجد أنَّ أصحابها يلغون مصادر الثقافات الأخرى التي أضحت عندهم مجرد إكسسوارات فولكلورية.
المركزية الثقافية الأوروبية المتعالية والرافضة للآخر المختلف امتدت للأسف الشديد جهويًا ودوليًّا من خلال معظم الأنظمة العربية التي ترى كلَّ حركة احتجاجية شرعية من شأنها أن تُهدد وجودها السياسي الأبدي. انطلاقًا من المقاربة الغربية نفسها، يعد "الإسلام السياسي" خطرًا أيديولوجيا حقيقيًّا استنادًا إلى الموقف نفسه المُتَّخذ حيال راديكاليي داعش، وجماعات أخرى متنوعة. أخيرًا، وليس آخرًا، تسعى الدعاية الصهيونية إلى إفراغِ الاعتداء الإسرائيلي التَّوسعي في الشرق الأوسط من محتواه السياسي، بتأويلِ مُقاومة الشعب الفلسطيني دينيًّا، وتحديدًا إسلاميًا، وليس سياسيًا، نتيجةَ تعرُّضهم لاحتلالٍ وتنكيلٍ بشعين. ألم يقل الجنرال شارون غداة هجمات الحادي عشر من سبتمبر: "لكم بن لادن، ولنا ياسر عرفات". في ظل ما قلتُ سلفًا، يمكن أن أضيفَ أنّ تغذية التحالف العالمي الغربي لتجريم كل الإسلاميين، وربطهم بداعش، كطائفةٍ إقصائية، ليس أمرًا جديدًا، ويعودُ تاريخه إلى عُقودٍ ماضية عدة. من ناحيتي، لا أتردَّدُ لحظة واحدة في التنديد، ومن دون الحد الأدنى من الغموض بداعش، التي تُنكِّلُ مثلًا بالمؤمنين الإيزيديين، ليس بسببِ ما يفعلون، ولكن بسببِ هويتهم، أي ما هم عليه. ما أرفضه هو الخلطُ بين طائفةٍ إقصائية يجب أن تُدان، وبين أغلبية ممثلين في إسلاميين قطعوا الصلة بها.

(*) كيف ترُدُّون على الذين يعتقدون أنّ الإخوان المسلمين لا يؤمنون بالديمقراطية؟ وهل من توضيح أكبر للذين لم يفهموا تحليلَكم، أو تعمّدوا عدم فهمه، وللذين لم تَكن لديهم فكرة عن كتبكم، وعلى المثقفين والسياسيين الغربيين والعرب الذين يُحاربون الإخوان المسلمين كشَرٍّ مُطلَقٍ مثل إسلاميي "داعش"؟
يجبُ التفرقةِ بين حالة النُّخَب العربية العلمانية، وبين مثيلتِها الغربية، من مُنطلق اختلاف المسار. الأنظمة التَّسلطية في العالم العربي واجهت في البداية المعارضة اليسارية بمختلفِ أطيافها، وحين فشل اليسارُ في تعبئة الشارع بعمقٍ، خُصوصًا منذ تسعينيات القرن الماضي، تحوّلت تلكَ الأنظمة إلى استهداف الإسلاميين الذين تفوَّقوا على خصومهم عبر صناديقِ الاقتراع. جزء من اليسار العربي ــ كما في الجزائر ومصر مثلًا ــ لم يتحمّل هذا التفوق، ففضَّلَ التعاون مع الأنظمة التسلطية بدلًا من مبدأ التداول السلمي.
اليوم، يقف كثير من المثقفين اليساريين بين سندان التنديدِ الأيديولوجي بالإسلاميين وحيادٍ يَخدِم سلطاتٍ قمعية. ومع ذلك، كان من اللافت أنَّ بعض رموزِ اليسارِ، مثل طارق البشري، وعادل حسين، أعادوا قراءة الإسلاميين بعيونٍ أقلَّ عدوانية، مُتخلِّينَ عن ترسّخهم الأيديولوجي السابق. ورغم تراجعِ المقاربة الكاريكاتيرية لدى بعض المُثقفين، فإنَّ الانقسامَ المزمن بين اليسار والإسلاميين لا يزالُ أحد أبرز عوائق الانفتاح الديمقراطي، كما يتَّضح في الحالة التونسية، حيث تحوّلَ الخلافُ إلى أداةٍ في يد السلطة.

(*) اسمحوا لي أن ألعبَ دور "محامي الشيطان"، بروحٍ صحافية (ما دام الإخوان والإسلام السياسيُّ يُمثِّلون "الشيطان" في الخطاب الأوروبي عمومًا والفرنسي خصوصًا)... هل تُدافعون عن الإسلاميين باسم التحليل الفكري، كما يظنُّ بعضهم، أم أنَّ تحليلكم يخدمهم بطريقة غير مباشرة، حتى وإن كانوا، كما يُقال، غيرُ ديمقراطيين؟
قلتها صراحة قبل أسابيع في إسطنبول أمام جمهور مُعرّب في إطار تجمع دولي حول فلسطين: "ما سأقوله قد لا يرضيكم، لكنني هنا لا لأدافع عن العرب، أو المسلمين، أو الفلسطينيين، بل لأدافِعَ عن القيم الإنسانية الأساسية التي تجمعنا كبشر، أيًا كانت انتماءاتنا". لا أتبنّى الدفاع عن فئة بعينها، بل عن الحق في التمثيلِ السيَّاسي والعدالة، ورفضِ الأحكامِ المُسبقة التي تخلِطُ بين التيارات الإسلامية التمثيلية، وتلك التي تنتهج العنف كداعش.

(*) لكن اللوبي الصهيوني لا يعترفُ بتلكَ القيم حين يتعلّقُ الأمرُ بالفلسطينيين، بل يربط بين مقاومتهم المشروعة، وبين تُهمتي الإرهاب ومُعاداة السامية، كما حصل معك شخصيًا. أنصار "فرنسا الأبية" متهمون بذلك، وريمَا حسن استُجوبت أمنيًا على الخلفية نفسها. ما تعليقك؟
أثناء حبسي، لم تُوجّه إليَّ تُهمة معاداة السامية رسميًا، بل اقتصرت التهمة على "تمجيد الإرهاب". غيرَ أنَّ تهمة مُعاداة السامية طُرحت ضمنيًا في خطاب بعض الجمعيات المدنية، مثل "المنظمة اليهودية الأوروبية"، و"لا ليكرا". ويا للمفارقة حتى من قِبل جمعيَّةِ "محامون بلا حدود". هذا يعكس ببساطة مدى اختراق اللوبي الصهيوني لبعض الجهات الحقوقية التي يُفترض بها أن تكون حيادية، لكنه نجح في تحويلها إلى أدواتٍ لخدمةِ أجندته السياسية.

(*) أخيرًا، حتى نختم هذا الجزء من الحديث المعمّق، هل ترى أن اليسار الفرنسي خان قيَمَه التاريخية باصطفافه مع اليمين واليمين المتطرف، بينما تُباد غزّة على مرأى ومسمعِ قادته؟ باسكال بونيفاس استقال من الحزب الاشتراكي، وجان لوك ميلنشون وُضع تحت مقصلة الإعلام...
من البديهي القول إنَّ اليسار الاشتراكي الفرنسي هاجر تدريجيًا نحو مواقفِ اليمين المتطرف، وظهور برنار كازنوف في لقاء حضره أحد رموز حزب إريك زمور مثالٌ ساطعٌ على هذا الانزلاق. الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند كان أول من أطلق شرارة هذا التحول، إذ كان المدافع الأول عن مشروع نزع الجنسية، كما صعّدَ من شأن إيمانويل فالس الذي دمّر ما سُمي بـ"الربيع الجمهوري". إن انهيار اليسار هو أحد أبرزِ مَظاهِر الأزمة الأخلاقية والسياسية التي تعصف اليوم بالمشهد الفرنسي.

بالمناسبة، ولمن لم يُتابع المستجدات، فإنَّ الحكم النهائي في قضية بورغا صدر يوم الأربعاء (28 أيار/ مايو)، وجاءت النتيجة كما ينبغي أن تكون في بلد جعلَ منها شعارًا تاريخيًا: تبرئة كاملة من تهمة تمجيد الإرهاب. بورغا لم ينتصر وحيدًا؛ بل انتصرت معه الكلمة الحرّة على محاولة تحويل القضاء إلى أداة تخويف وترهيب. كما انتصر معه كل من أمن من البداية بحقه في التعبير، في وجه من حاولوا إسكات كل صوت خارج سرب الصهيونية المنتشرة عالميًا عبر وكلاء يتقاسمون روحها الاستعمارية والعنصرية.

(*) نبدأُ، إذا سمحت، بجديد مطاردة فرنسا للإخوان المسلمين الذين قلتَ عنهم في الحلقة الأولى: "الغربُ يُخطئ حينما يُناهضهم بهدف محاربة الإرهاب". في التقرير الذي أعلن عنه الإعلام الفرنسي يوم الثلاثاء (20 من الشهر الماضي)، أكدت وزارة الداخلية التي يديرها برونو روتايو، الذي أصبح مؤخرًا قائد حزب الجمهوريين بعد فوزه الساحق ضد منافسه لوران فوكيييه، أنهم في صدد اختراق المؤسسات الفرنسية. ما تعليقك؟
إنها خديعة "ماكرونية" جديدة في مجال الاتصال، جاءت في قلب سياق طقوس العربدة الإجرامية في غزة، عربدة كشفت، بشكل غير مسبوق، عن تأثيرِ الدعاية الإسرائيلية على أجهزة الدولة الفرنسية، وعلى المؤسسات الأوروبية. التجرؤ على القول بأن الإخوان المسلمين يسعون لتطبيقِ الشريعة الإسلامية في فرنسا ما هو إلا محضُ كذبٍ من دون خجل، في تقريرٍ أُريدَ له أن يصدر عن وزارة الداخلية في قالبٍ صادم. يا له من أمرٍ مثيرٍ للغثيان.

(*) ردُّك يكشف عن هوية مُطارديك، والذين يرونك مُناضلًا إسلاميًّا، رغم أنك أكدت لي في الحلقة الأولى أنك مفكر سياسي فرنسي، إنسانيُّ النزعة، غير مسلم، تنطلق من أبسطِ قواعد التحليل الأكاديمي، وتستند إلى وقائع وأدلة علمية قائمة، وتحتكِمُ إلى القانون. وأكّدت أيضًا أنك لستَ الوحيد من المُثقفين الذينَ يرفضون شيطنة الإخوان المسلمين في خلطٍ منهجي وبحثي يربطهم بالإرهاب. وقلت: "كُثر هم الكُتّاب الذين يؤكدون صحة طروحاتي في البلدان الأنغلوساكسونية". الأخطر اليوم، في تقديري، يكمن في صعوبة، بل استحالة، قبولِ طرحِك في سياقِ عزم إسرائيل على تصفية إخوان حركة حماس. ما ردك؟
كنتُ واضحًا في الحلقة الأولى من هذا الحوار، لكن أعيد وأكرر، وشكرًا لك على منحي فرصة جديدة لتوضيح الأمرِ لقُراءٍ عرب لم تصلهم ربما أصداء مواقفي وكتاباتي. المسألة تتعلَّقُ بالفكرِ في مجال العلوم السياسية، وهو فكر قائم على التحليل العقلاني، وليس على ردود الفعل العاطفية والمناورات والمصالح السياسوية الضيقة، كما يفعل اليوم نتنياهو في غزة، مُضحيًا بأمنِ شعبه، ومرتكبًا إبادة أصبحت مثار رفض عدد من قادة أوروبيين.
تحليلي يقُضّ مَضاجع الذين يجدون في شيطنة الإسلاميين، في كل الحالات، مُبَرَّرًا لتمرير أجندات اتصال سياسوي، تتقاطع من خلالها مصالح مشتركة تجمع قوى حكومية غربية وعربية تسلطية بإسرائيل.

 (*) هل يُزعجك الأمر إذا قارنتُك بالمفكر طارق رمضان، الذي ما زال ملاحقًا إعلاميًّا وسياسيًّا، كأحدِ أحفاد حسن البنا ـ في تصوري المتواضع ـ وليس ككاتب ومُثقف بارز ومُتمكن تلقَّى دعمَ كثيرٍ من المثقفين اليساريين الفرنسيين قبل محاكمته في شبهة الاعتداء الجنسي؟ وهل تتفِقُ معي بالقول إن المقارنة تفرضها اتهامات الخطاب المزدوج، التي يمكن أن تنطبقَ عليك في نظر أعدائكم المشتركين، بشكل أو بآخر، رغم تباعدكم الفكري المبدئي؟
كانت لي فرصة الاستماع إلى طارق رمضان أمام جمهور مُتنوع التوجهات والحساسيات الفكرية، في فرنسا، ومصر، والنيجر. في كل مرة، كان منسجمًا مع نفسه، وواضحًا في الزمان والمكان. تهمة "الخطاب المزدوج" طبخة نقاشات سياسية قديمة، يلجأ إليها الفاقدون لقوة الحجة، بخلفية رهانات معروفة.
محاربة الإسلاميين دينيًّا ليست مثل التعامل مع اليهود التوراتيين الذين يُبررون إبادة غزة بمُباركة غربية شبه شاملة. والحديث عن الإسلاموفوبيا يعني، في نظر معتنقي الخطاب الفرنسي الطاغي اليوم، منعَ نقد التطرف الإسلامي. علمانيون كُثر يزُكون هذا الطرح، وهم العلمانيون الذين قال لي عنهم المستعرب لوييه بلان، في حديث سابق: "إنهم يختفون وراء العلمانية للتغطية على عنصرية تستهدف المُسلمين باسم معاداة الإسلاميين".

(*) إلى أي حد يمكن القول إنَّ الأمر يُعدُّ خصوصية ثقافية فرنسية يكيل أصحابها بمكيالين في الزمن الصهيوني المسيطر؟
فعلاً، هنالك خصوصية فرنسية مرتبطة بتاريخها الثوري. للأسف الشديد، فإن السعي الشرعي لثوار عام 1789 لحماية العلمانية من تأثير الكنيسة، الحليفة التاريخية للحكم الملكي المطلق، لم يعد كذلك اليوم. لقد تمّ تحويل مجرى هذا السعي نحو موقفٍ يعادي الدين بوجه عام. وفي واقع الأمر، لا يُعد هذا الموقف إلا تعبيرًا عن إسلاموفوبيا موصوفة. وتتجلى هذه الحقيقة بشكل صارخ حينما يفقد التنديد بالدين معناه، استنادًا لازدواجية معايير أصبحت مكشوفة لعامة وخاصة الناس.
هذه الازدواجية الانتقائية غائبة عن ساحة النقاش، خاصةً إزاء دولة إسرائيل: "شعب الأنوار يُحارب شعب الظُّلمات"، من غير اليهود. الخطاب العلماني الفرنسي يدور أساسًا في فلك منع ارتداء الحجاب، وهو أمر تمّ تجاوزه في البلدان الأنغلوساكسونية، حيث يمكن التعبير عن الانتماء الديني بحرية (ألا يحمل الدولار في الفضاء العمومي عبارة "نؤمن بالله"؟).

(*) ننتقل، كما اتفقنا، إلى جوهر الجزء الثاني من الحوار: الإبادة في غزة. إسرائيل لا تعترفُ بها، وتراها ردًّا حربيًّا عقابيًّا على مرتكبي ما تصفها بأنها "مجزرة" السابع من أكتوبر، رافضةً جملة وتفصيلًا السياق التاريخي الاستعماري لفلسطين، والذي يبرر حق الفلسطينيين في المقاومة، التي تُسمّى "إرهابًا" عند أعدائهم. أولًا، هل كنت تتوقع هجوم السابع من أكتوبر؟
لا، لا... لم أكن أتوقعه. كنت يومها في سراييفو للمشاركة في مؤتمر عربي أشرف على تنظيمه الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي. أستطيع الجزم أن كثيرًا من الحاضرين العرب لم يترددوا في إبداء دهشتهم وهم يتناولون فطور الصباح. لكن، في المقابل، كان الجميع يعرف أن القضية الفلسطينية قد بلغت ذروة السوء الناتج عن تاريخِ مُعاناتها، لا سيما بعد الخيانات المتتالية للموقّعين على "اتفاقيات إبراهام". كنا نعرفُ أيضًا أن حماس قد استنفدت كل وسائل الاتصال والاستراتيجيات لإنهاء الحصار الشنيع المفروض على الشعب الفلسطيني، في ظل المُزايدة الإسرائيلية التي كانت وراء عنفٍ ما يزال يتمّ بتواطؤ عالمي غربي.

(*) الصحافي والكاتب سيلفان سيبال، المراسل السابق لصحيفة "لوموند" في إسرائيل، وصاحبَ كتاب "إسرائيل ضد اليهود"، قال لي في حوار نشرته معه "أثبت السابع من أكتوبر أن القضية الفلسطينية لم تمت، خلافًا لما كان يعتقده مُعظم السياسيين والمتخصصين في الشرق الأوسط، غربيين وعربًا". ما هي قراءتك لقوله؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمُكن اعتبار هذا الكلام تفسيرًا لمعنى السابع من أكتوبر، بعيدًا عن الدعاية الصهيونية التي ترى فيه حربًا على إسرائيل، وتُبرِّرُ فيه الإبادة المستمرة على الشعب الفلسطيني باسم محاربة إرهاب الإسلاميين؟
أوافق تمامًا على وجهة نظره. ومهما كان الثمن الاستثنائي الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في هذه اللحظة من إجراء الحوار، فإن السابع من أكتوبر، والرد الإسرائيلي غير المسؤول، أعادا القضية الفلسطينية إلى قلب المشهد العربي والإقليمي. ولا دليل على ذلك أوضحَ من اضطرار المملكة العربية السعودية إلى تأجيل اعترافها بدولة إسرائيل في إطار مسار التطبيع، رغم الازدواجية السياسية لقادتها.

(*) سيبال نفسه، رغم مناهضته لليمين المتطرف الإسرائيلي ومعارضته الشرسة لنتنياهو، لم يُعجبه سؤالي: "هل ترى السابع من أكتوبر فعلًا إرهابيًّا مثل إرهاب الدولة الإسرائيلية؟". طرحت عليه هذا السؤال مُؤكّدًا أن رفيقَ دربه، الصحافي والكاتب الشهير آلان غريش، يرفض اعتبار السابع من أكتوبر فعلًا إرهابيًّا، ويقبل به كوصف فقط شريطة وصف إسرائيل بأنها دولة إرهابية. أين أنت من هذين الصحافيين الفرنسيين اليهوديين المعروفين بمناهضتهما الشرسة ـ بدرجات متفاوتة ـ للصهيونية كاستعمار استيطاني؟
الفارق البسيط الذي تحاولون إيجاده بين موقفي سيبال وغريش ليس أساسيًّا في تقديري. الفلسطينيون يستطيعون، بل يجب أن يبتعدوا عن الممارسات الإسرائيلية التي لا تُفرّق بين المدنيين والمقاومين، ولا تتجنب العزَّلَ بشكل عام، والأطفال بشكل خاص. وانطلاقًا من المبدأ نفسه، يمكن التنديد بما وقع في السابع من أكتوبر نتيجة إيقاعه ضحايا مدنيين، كما تم التنديد سابقًا بضحايا مقهى "ميلك بار" في الجزائر عام 1961، من دون أن يُسقط ذلك وصف الإرهاب عن المسار التحرري، اللصيق تاريخيًّا بحركة حماس، وبجماعات فلسطينية مسلّحة أخرى.

(*) نتنياهو نفسه، وكثير من المحللين الأجانب والإسرائيليين والعرب، رأوا السابع من أكتوبر بمثابة "11 سبتمبر" إسرائيل. إلى أي مدى تقبل بهذه المُقارنة، ولماذا؟
إنها مقارنة وجيهة جدًا. الهجوم العنيف الذي تمّ ضد السيطرة الأميركية على العالم الإسلامي تسبب في عنفٍ قمعي مضاد غير متكافئ إطلاقًا. وأنا شخصيًّا أفضل مقارنة السابع من أكتوبر بما قام به ثوار الجزائر عام 1945 ضد الاحتلال الفرنسي، حين كانوا يحتفلون بانتصار الحلفاء على النازية. ردًّا على مقتل طفل كان يحمل العلم الجزائري وسط المتظاهرين، شنّ الجزائريون هجومًا أدى إلى مقتل عشرات الفرنسيين الاستيطانيين (نوع من "السابع من أكتوبر"). من جهته، الجيش الفرنسي لم يتردد في رده، حيث استعمل الأسلحة الثقيلة، والطيران، للقيام بمجزرة أودت بحياة ما بين 35 ألف و45 ألف ضحية.

(*) إريك رولو، الصحافي الفرنسي الراحل الشهير، واليهودي الآخر (كان مراسل "لوموند" في مصر والجزائر، ومقربًا من الرئيس عبد الناصر، وحاور حسن البنّا عام 1946)، قال لي في حوار عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر: "الأميركيون بحثوا عن الحادي عشر من سبتمبر". إلى أي حد يمكنُك قول الشيء نفسه عن السابع من أكتوبر في سياق المقارنة المذكورة؟
لا سابع من أكتوبر من دون عقود من الاستعباد الإسرائيلي للفلسطينيين. الأمر بديهي جدًّا. كما أنه لا أحد عشر من سبتمبر من دون القبضة الأميركية المُتغطرسة على أقسام كاملة من العالم الإسلامي، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية.

(*) ما هو الحل الأقرب إلى التطبيق في تقديرك لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي اتخذ بعدًا إباديًّا من شأنه ـ كما يقول المفكر برهان غليون ـ تأخير كل أنواع الحلول بعقود لصراع عربي شامل؟
قلت مرارًا، وكرَّرت، إنَّ وجهة نظري تتضمن حلّين لأزمة نتجت عن تأسيس إسرائيل عام 1948، وتوسعها الاستعماري اللاحق. الحل الأول هو ما أسميه الحل الجنوب أفريقي، الذي يتم ـ بغض النظر عن الشكل الدستوري ـ عبر دولتين، أو دولة واحدة، إثر تصالح سياسي يضمن طموحات وأجندات الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني. لكن للأسف، كل المؤشرات اليوم تُثبت أن إسرائيل تقومُ بكل ما يحول من دون ظهور أدنى أفق لأي حل. الأيديولوجية الصهيونية، التي يجسّدها جزء كبير من النخبة الحاكمة، ومعظم قادة المعارضة الحاليين لنتنياهو، تُعدّ عائقًا مبدئيًّا أمام أي حل. صهيونية اليسار لا تختلف عن صهيونية اليمين إلا شكليًّا، وهي نفسها بنيويًّا عند اليمين واليمين المتطرف. إنها أيديولوجية طائفية وعنصرية مشابهة لداعش، بحكم عدم قبولها أي شكل من أشكال التعايش.
أما الحل الثاني فهو الطريق الروديسية (نسبة إلى روديسيا، زيمبابوي اليوم)، أو الجزائرية، والذي ينص على رحيل، أو سيطرة، طرف ما بشكل كامل. وهو، فعليًّا، ما انتهجته إسرائيل، باعتبارها دولة أفلتت من العقاب منذ تأسيسها. إسرائيل لم ترغب في السلام. هي تريد الأرض، بكل السبل، بما فيها غير الشرعية، في ظل الدعم الأعمى الذي تتلقاه من شركائها الغربيين.
السابع من أكتوبر تسبب في بروز مسار من الممكن ـ فقط ممكن ـ ألا يسمح لإسرائيل بالاستمرار في نهج حلول اختزالية تتحدى القانون الدولي وأبجديات المبادئ الإنسانية.
أخيرًا، لا يمكن إغفال معطى امتلاك إسرائيل للسلاح النووي، واحتمال تمكن إيران منه بدورها. وهو الأمر الذي يجعل التلويح به كورقة تهديد حقيقية في المنطقة.
أتوقف هنا لأنني لست في موقع تقديم حل جاهز. لكن، من الواضح أن ما هو قائم حاليًّا لا يمكن أن يقود إلى شيء سوى الكارثة.