يشكل رحيل الكاتب الكيني المرموق علامة مهمة في مسيرة الأدب الأفريقي، وفي موقف الكاتب من الاستعمار، ولغته المهيمنة. خاصة وأنه حاول مواصلة مسيرة فرانز فانون في تعرية ما يرسبه الاستعمار من ممارسات يمارسها المستعمر بكسر الميم ويستبطنها المستعمر بفتحها، دون وعي منه بالانخراط في أنشوطة شرورها.

نغوجي وا ثيونغو

أن تحلم في زمن الحرب

إسـكندر حبـش

 

غيّب الموت في 28 مايو/ أيار 2025 في "بوفورد" (ولاية جورجيا في الولايات المتحدة الأميركية) الروائي والكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو، عن عمر يناهز 87 عامًا – مواليد 5 يناير/ كانون الثاني 1938 (أي زمن "العصر الاستعماري") في قرية شمال غرب نيروبي، التي كانت آنذاك تحت الحكم البريطاني. وهو يُعدّ واحدًا من أبرز الكتّاب الأفارقة، حيث عرف عبر مجموعة استثنائية من الروايات والأبحاث التي كتبها باللغة الإنكليزية أولًا قبل أن يعيد نقلها بنفسه إلى لغة الكيكويو (لغته الأم)، كيف يفرد لنفسه مكانة على خارطة الأدب في العالم، وقد أجبر على العيش في المنفى منذ عام 1982، حيث انتقل بداية إلى المملكة المتحدة (بريطانيا) ومن ثم إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث شغل منصب أستاذ اللغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا، إيرفين.

يُعدّ وا ثيونغو مثقفًا متعدد الأوجه، وناشطا في القضية الأفريقية، في "كفاحه – [الثقافي واللغوي] – ضد الإمبريالية"، وقد ورد اسمه مرارًا كواحد من المرشحين "المنتظمين" والدائمين لنيل جائزة نوبل للآداب. لم يقتصر أدب وا ثيونغو على نوع محدّد، إذ عرف كيف يتنقل من الرواية إلى المقالة، ومن القصة القصيرة إلى المسرحية إلى أدب الأطفال، وأخيرًا إلى المذكرات، التي كتب عبرها سيرة حياته في ثلاثة أجزاء. هنا قراءة في الجزء الأول الذي حمل عنوان "أن تحلم في زمن الحرب: ذكريات الطفولة" (صدر في عام 2011 وصدرت ترجمته الفرنسية في عام 2022 عن منشورات Vents d’ailleurs).

*****

يعود نغوجي وا ثيونغو في هذا الجزء الأول من مذكراته – التي تقع في ثلاثة أجزاء كما ذكرنا– إلى "ظلّ الحرب العالمية الثانية"، ليتحدث فيه عن طفولته ومراهقته، حيث شكلت وقائعها أحداثًا وشكلت "تاريخًا أقرب إلى الوطن"، كما يصفها. ففي سرده "للحياة الطبيعية غير الواقعية التي تحياها حيوات عادية في أوقات استثنائية في بلد في حالة حرب"، يصف الكاتب الظروف الاجتماعية الصارمة التي عرفها مصيره، وقدره كشاب ينتمي إلى إثنية الكيكويو ومجتمعها الخاص، ومن ثم "الشرّ الاستعماري" المتزايد الذي أصاب هذا "العالم المعقد" (عالمه) الذي تتقاطع فيه التأثيرات العدائية التي جسدها – على وجه الخصوص – بعض كبار السنّ المنتمين إلى "هذه العائلة الكبيرة". من هنا، يبدو كتابه هذا، وكأنه يأتي ليوضح لنا قوة "هذا العهد" الصارم مع اللغة والكتابة، المبرم مع الأم، لنرى فيه تشابك الأحداث الكبيرة والصغيرة لهذا الوجود الذي أصبح – شيئًا فشيئًا – واعيًا بذاته وبيئته، عبر تداخل شائعات التاريخ الكبير المدوية واضطرابات العالم الاستعماري الأكثر ضراوة "لأنه يعيش لحظاته الأخيرة".

A person sitting next to a book

AI-generated content may be incorrect.

"أن تحلم في زمن الحرب: ذكريات الطفولة" (صدر في عام 2011 وصدرت ترجمته الفرنسية في عام 2022)

تكمن واحدة من نقاط القوة الكبيرة في سرد وا ثيونغو، في مذكراته هذه، في استعادة وجهة نظر الطفل الذي كان عليه، والتي يتم تسليط الضوء عليها أحيانًا بفضل الزمن السردي العائد للحاضر، حيث يرافقها بشكل خفي، من دون أي عملية تعليم ثقيلة أو وازنة عليه من خلال المعرفة وأساليب التفسير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي تسمح بفهمها وتضخيم فهمها. ثمة رقصة باليه في كتابته (فيما لو جاز القول)، الباليه بين رؤية الكاتب المتعلمة (الذي يعيش في الولايات المتحدة، حيث نشر نغوجي وا ثيونغو النسخة الأصلية من هذا المجلد من الذكريات في عام 2009) والخيال اليقظ العائد لهذا الصبي الصغير الذي نجده بدءًا من الفصل الأول.

يبدأ الكتاب باسترجاعٍ مُزدوج: بعد سنوات، وفي ضوء قصيدةٍ لــ ت. أس. إليوت، يستذكر الراوي حادثةً مهمةً تعود إلى عام 1954، وهو العام الذي ودّع فيه الشاب، الذي سيُصبح في فترة قريبة لاحقة، طالبًا في المرحلة الثانوية، العالمَ المندثر الذي سيُعيده هذا المجلد الأول من المذكرات إلى الحياة. ففي قلب هذه الحادثة، نجد شخصيةٌ ملموسةٌ بقدر ما هي أسطورية، والاس موانغي، المعروف باسم والاس الصالح، الأخ الأكبر المُحسن الذي ذهب إلى الأدغال، مُحاطًا بهالةٍ من الشجاعة والبطولة. ومن حوله ينجذب حاكم استعماري وحشي، وأزقة خلفية مليئة بالأولاد الجائعين للكتب والقوت اليومي، الأرضي، ومصنع باتا (للأحذية) و"مكب النفايات المطاطية النتن"، والسكك الحديد التي تؤدي إلى أماكن أخرى، وقطار الأساطير الذي يتشكل حول مصير الأخ الأكبر باعتباره متمردًا.

"لماذا تترك بعض الأحداث المعينة أو بعض الأشخاص المعينين ذكرى حيّة فيك بينما لا يترك آخرون أي أثر"؟- يتساءل الكاتب وهو يقوم بعملية مسح لسرد يتحرر بحرية من الترتيب الزمني ومن دون أن يقع في أي تناقض أو عدم اتساق، إذ ترتبط هذه الذكريات التي لا تزال حيّة بشخصيات "وصائية" تكون أحيانًا خيّرة – مثل شخصية الأم "ويدها الخضراء" الأشبه بالمعجزة، وقدرتها على التحمل، وقوة عقلها وحنانها، والأخ الأكبر، المثقف الذي أصبح نجارًا ماهرًا نقل إلى موظفيه أخلاقيات العمل المنجز جيدًا – والتي تكون مخيبة للآمال في بعض الأحيان – كذلك شخصية الأب، الذي كان مصابا ببهرجة دائمة، في البداية، قبل أن يصاب بالإحباط والمرارة بعد أن انقلب حظه انقلابًا جذريًا، ناهيك عن شخصية الجدة (لأمه) المصابة بـــ "بخل في اللطف".

كل هؤلاء كانوا يحافظون على ذكريات الظروف الاستثنائية، بشكل سليم، من دون أن تصاب بأي خدش، ومنها الختان الذي جعل الطفل يقفز "فوق جدار غير مرئي من جانب الحياة إلى جانب آخر"، كما امتحان القبول في المدرسة الثانوية، الذي يلعب بدوره الدور عينه – أي الانتقال من جانب إلى آخر من جوانب الحياة – ليضع بذلك حدًّا لهذه الذكريات العائدة إلى مرحلة الشباب المبكر. كذلك أيضًا تحافظ مذكرات وا ثيونغو على تلك اللحظات التي لا اسم لها، عبر هذه القوة الخام والمهيمنة والعائدة لأحاسيس ومشاعر طفل يعذبه الجوع في أغلب الأحيان، والذي تدفعه أحلامه وقوة تلك القصص التي تدور من حوله (القصص الشفاهية)، كما تلك التي كان يجدها ملقاة في صفحات الكتب النادرة، المجعّدة، التي كان يمكنه الوصول إليها.

يمكن القول إن هناك ثلاثة خيوط تنسج قصة الكاتب الشخصية. بداية، نجد أن نغوجي وا ثيونغو قد نشأ في مجمع عائلي يضم عدة أكواخ، وهو مجمع عائلة ممتدة ومتعددة الزوجات، حيث هناك العديد من الشيوخ الحاضرين فيه، وحيث كانت العلاقات بين الأمهات معقدة. ومن ثم، عندما طُردت والدته، ولم تتحقق المصالحة المأمول منها وفقًا للطرق التقليدية، طُرد بدوره من هذه الدائرة العائلية، ليضطر إلى العودة وحيدا إلى منزل الوالد، التي كانت تحكمه ظروف مادية صعبة. أما الوالدة، التي كرست كل طاقاتها لإعالة أطفالها، فنجدها تقف بشجاعة في وجه العسكرة التي تُشنّ على أكبر المقاومين سنًا، وتُحفز أصغرهم على النجاح الدراسي. وبعد أن عاش طفولةً عارية، سيكبر هذا الأخير "عبر مراحل من الملابس": أولًا، رداء القطن البدائي المربوط عند الكتف الأيسر، والذي يرفرف حول الجسم بينما يلعب الأولاد الصغار على الجسور؛ ومن ثم السراويل والقمصان المدرسية التي تُغسل مرة واحدة في الأسبوع، ولكنه كان دائمًا حافي القدمين؛ وأخيرًا الزي المدرسي الثانوي بما في ذلك الأحذية والجوارب الطويلة، والذي تم الحصول عليه على حساب تضحيات عائلية كبيرة.

أما المسار السردي الثاني، فيتبع مسار التفوق الأكاديمي الذي خُلق في وعيٍ غامض، والذي يُدركه بعض الكبار. ويتجذر هذا التفوق في العهد الذي قطعته الأم عندما اختارت إرسال ابنها إلى المدرسة: "ابذل قصارى جهدك". وسيفي الطفل بوعده. وعلى الرغم من "الخوف من المجهول والقلق" الذي انتابه عشية الامتحانات الانتقائية بشكل متزايد (لم يتم قبول سوى عدد قليل من الطلاب لمواصلة الدراسات الثانوية: كان نغوجي هو الوحيد من منطقته الذي تمكن من الوصول إلى أعرق مدرسة ثانوية في الإقليم)، وعلى الرغم من العقبات المادية الهائلة التي كانت تعترض هذه الفترة من التعلم، فقد انتصر الصبي في المعركة الفريدة بين "أنا ودفاتري": "لكن في اللحظة التي وضعت فيها القلم على الورق، استولى عليّ نوع من الهدوء الحيوي".

وبذلك ننتقل إلى الخيط السردي الثالث، إلى عالمه المضطرب الواقع بين هزات الحرب العالمية الثانية، الارتدادية المحلية، وبين صعود القومية الكينية، وتمرد الماو ماو، وتفاقم القمع الاستعماري الذي بدأ يكشف عن كنهه تدريجيًا وبوضوح بالنسبة إلى هذا الصبي. عندها يدرك أن "شيئًا غير عادي، ذا أبعاد تكاد تكون خرافية، يُحرك البلاد". في تلك المرحلة، يُفتَن بشخصية جومو كينياتا، التي يحلم بلقائها، بيد أنه لم يتعرف إلا لاحقًا على شخصية المهاتما غاندي، المرسومة على جدران أكشاك التجار الهنود. لقد كانت وحشية هذا العالم تُهدد باستمرار بإنهاء أحلام الشاب، مثلما يخبرنا في إحدى القصص الأخيرة: فبعد اجتيازه امتحان القبول النهائي للمدرسة الثانوية، رفض أحد العملاء الاستعماريين السماح له بالصعود إلى قطار الركاب الذي سيقله إلى هناك، إذ لم يكن لديه تصريح مخصص لأعضاء مجتمع الكيكويو. في نهاية المطاف، يعود الفضل في نجاح هذا الشاب إلى لطف وعصيان نائب رئيس المحطة، حيث تمكن من ركوب قطار شحن للوصول، في حالة حرجة وسرية، إلى المدرسة المرموقة التي تنتظره.

في السابق، لاحظنا "التغيير الدقيق" في طريقة التدريس ومحتوى التدريس، عندما سيطرت القوة الاستعمارية بقوة على البرامج التي لم تعد كينيا تظهر فيها باعتبارها "بلد الرجل الأسود"، بل كبلد جلب فيه الأبيض "السلام والتقدم والطب". في حين كان من الممكن في السابق أن تتعايش اللغة الإنكليزية مع لغة الكيكويو، فإن المبادئ التوجيهية الجديدة تشجع على استخدام الرمز (كائن يعمل كرمز، مصحوبًا أحيانًا بعبارات مهينة مثل "أنا غبي") ضد أولئك الذين يتحدثون اللغات الأفريقية في المدرسة. وهنا أيضًا تكمن القوة الكبرى لهذا السرد والتي تتمثل في مشاركة القارئ في حالة الكمون، "في مكان ما بين الواقع والخيال، بين القصص والتاريخ"، والتي يغمر فيها خيال الصبي الصغير الذي تعلم القراءة من نسخة مهترئة من "العهد القديم".

فرواة القصص الذين كان يبجل خبرتهم بدأوا يتراجعون تدريجيًا، ليبحث مكانهم عن مصادر مكتوبة أخرى، وعن بقايا ورق مستعمل، وصحف كانت استخدمت كأغلفة ليتعقب فيها المراهق "آثار تاريخ قيد الصناعة" والصياغة، على بُعد خطوات من مدينته ليمورو. ويلاحظ قائلًا: "ليس من السهل ربط شظايا المعلومات معًا لتكوين قصة متماسكة. كل ما أريده هو ربط الحقائق كما فعل غاندي، الذي ربط بين المحلي والوطني والدولي". لكن وقبل أي شيء آخر، ما كان نغوجي يرغب فيه هو أن يتبع مسار أحلامه: "لا شيء يشبه الحلم في توليد المستقبل". هكذا تأتي العبارة الأولى في الكتاب، وهي عبارة مستعارة من رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو.

أدى التزام نغوجي وا ثيونغو إلى سجنه في بلده، ثم نفيه إلى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. دعا إلى الكتابة بلغة أفريقية (وفي حالته لغة الكيكويو) كما جاء في كتابه "تصفية استعمار العقل" (صدر بالعربية عن "مؤسسة الأبحاث العربية"، بترجمة سعدي يوسف، ضمن سلسلة "ذاكرة الشعوب")، وقد طبق ذلك قبل أن يعود إلى اللغة الإنكليزية كما هو موضح في مذكراته. أن تحلم في زمن الحرب"، كتاب "سلس" للغاية، يمنحنا حرية كاملة في رسم عالم بعيد، كينيا في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، حيث يتعايش نظام التعليم التقليدي، وأمسيات رواة القصص، ومدارس البعثات البروتستانتية المتنافسة، حيث يصبح المتعاونون مقاتلين للمقاومة، وحيث يرتفع النجار، الذي هو أيضًا أخ، إلى مرتبة البطل الأسطوري. إنها أفريقيا التي لا تزال تحاول لغاية اليوم أن تقوم بعملية "تصفية استعمار العقل"، على الأقل فيما نشاهده اليوم من أحداث جارية في عدد من بلدانها.