في مراجعة للجزء الأول من سيرته "أن تحلم في زمن الحرب"، مذكراته التي كتبها في السنين الأخيرة من عمره في هذا العدد، أشرنا إلى غياب الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو مؤخرا، هنا حوار مترجم معه، يضيء الكثير من أفكاره عن الكتابة والمنفى وعلاقة الكاتب بالسلطة، وشيء من سيرته.

نغوجي وا ثيونغو: الناس العاديون أكثر من أهتم بهم

إدريـان فـيال

ترجمة وتقديم: إسكندر حبش

 

في مراجعة للجزء الأول مس سيرته "أن تحلم في زمن الحرب"، مذكراته التي كتبها في السنين الأخيرة من عمره في هذا العدد، أشرنا إلى غياب الكاتب الكيني نغوجي وا ثيونغو. هنا، حوار مترجم معه أجراه أدريان فيال ونشرته مجلة "أفريقيا XXI"عقب صدور الترجمة الفرنسية من كتابه هذا، في عام 2020. ونقتطف منه بعض المقاطع التي تلقي ضوءا أكثر على سيرة هذا الكتاب، كما على أدبه بشكل عام. والمعروف أن وا ثيونغو، وبينما كان يقبع في أحد سجون كينيا في عام 1978، تعهد بألا يكتب مجددًا باللغة الإنكليزية، "لغة السلطة" التي فرضها الاستعمار البريطاني، بل بلغة الكيكويو، لغته الأم. خيار نادر، لا يندم عليه، جعله كاتبًا بارزًا في تاريخ الأدب الأفريقي. تُعدّ الترجمة الفرنسية للمجلد الأول من مذكراته، "أحلام في زمن الحرب"، فرصةً للتأمل والعودة معه إلى حياةٍ حافلةٍ بالنضال.

***

(*) أدريان فيال: تُرجمت مذكراتك إلى الفرنسية. كيف خطرت لك فكرة كتابتها؟
لطالما قاومتُ فكرة كتابة السيرة الذاتية. ككاتب وروائي، أشعر وكأنني بذلتُ قصارى جهدي في رواياتي لأنها مبنية على تجاربي الخاصة. لكن زوجتي أقنعتني بتجربة ذلك. لدينا طفلان صغيران وُلدا هنا في الولايات المتحدة، وكانا متشوقين لمعرفة ما مررتُ به. من أجلهما، بدأتُ بكتابة المجلد الأول من مذكراتي "أن تحلم في زمن الحرب"، التي تروي طفولتي. ثم كتبتُ "في منزل المترجم" و"ميلاد حائك الأحلام".

(*) هل كان من الصعب عليك الغوص بعمق في ماضيك؟
من المُفاجئ أن ذكريات الطفولة هي أكثر حياة من ذكريات الأحداث الأجد. على سبيل المثال، هي أكثر دقة من ذكرياتي كطالب في ماكيريري [في أوغندا]. أعتقد أن تجربة شيء ما لأول مرة تترك انطباعًا يدوم طويلًا. لم أضطر حتى للقيام بأبحاث حتى أكتب هذا الكتاب الأول من مذكراتي، أما في الثاني والثالث، فاعتمدت على الأرشيف وكتابات لأجد طريقي. حتى اليوم، أتذكر أمي وهي تسألني إن كنت أرغب في الذهاب إلى المدرسة كما لو كان ذلك بالأمس. لماذا؟ لأنني لم أتوقع ذلك! كنت أحلم بالذهاب إلى المدرسة، لكنني لم أتخيل ذلك. لم أصدق عندما اقترحت ذلك، وأصبح هذا السؤال الجملة الأولى في روايتي الأولى "لا تبكِ يا صغيري".

(*) كان العنف الاستعماري في كلّ مكان أثناء طفولتك، ولكنك قررت أن تحكي قصة حياتك اليومية ورغبتك في التعليم، بدلًا من نضال شقيقك، غود والاس، ضد المحتل...
من البديهي أن النضال من أجل التعليم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضية الاستعمارية. عندما تقرأ مذكراتي، تعلم أن القتال جارٍ، لكنك لا تراه؛ لا أصفه مباشرةً. تروي الفقرة الأولى من الكتاب مشهدًا عشته. في المدرسة، انتشرت شائعات عن شخص هرب من الشرطة الاستعمارية البريطانية. أطلق الجنود النار عليه، فهرب، وسقط، ثم نهض، وهرب إلى الجبال هربًا من الرصاص. سمعت هذه القصة من أطفال آخرين في طريق عودتي من المدرسة. وعندما عدت، علمت أن الشخص الذي هرب من الشرطة كان أخي.

(*) لقد تبنيت وجهة نظر الطفل الذي كنت عليه.
نعم، أردتُ أن أروي القصة كما حدثت لي. كنتُ طفلًا صغيرًا، لم أستطع القتال في الجبال، لكن آثار الحرب كانت على الجميع.

(*) كيف تعاملت مع حقيقة أن بعض أفراد عائلتك ناضلوا ضد الاستعمار بينما تعاون آخرون مع المحتل؟
هذه هي حقيقة اللحظات التاريخية. الأمور ليست بسيطة وواضحة أبدًا. بين الكينيين، كان هناك متعاونون ومناضلون من أجل الاستقلال، وقد يحدث أن يكون هناك كلاهما في العائلات، كما كانت الحال في عائلتي. كان لأبي أربع زوجات، وكان لي أربع أمهات، وكنا قريبين جدًا. بينما انضم أحد إخوتي إلى المقاومة، تعامل آخرون مع البريطانيين.

(*) هل تمكنت من التغلب على هذه الاختلافات؟
هذا أحد أسباب كتابتي لمذكراتي: محاولة فهم هذه الآليات. عندما كنت في كينيا، كانت هذه الأسئلة تُطرح يوميًا، لكن لم يكن لدينا وقت للتفكير فيها؛ استمرت الحياة. هل قُتل أحد؟ هل جُرح؟ استمر! تقدم! لكن عندما وصلتُ إلى ماكيريري، أوغندا، عام 1959، استطعتُ الجلوس والتفكير في الأمر وسؤال نفسي: "ماذا حدث لي؟" كان أحد إخوتي يعمل لدى البريطانيين، وقُتل آخر على يد البريطانيين. كان أصمّ، فطلبوا منه التوقف، لكنه لم يكن يسمع. كان يركض، وكان الجنود يصرخون: "توقف! توقف!". لم يتوقف، فأطلقوا النار عليه. كانت الطلقات التي قتلته هي الطلقات التي سمعتها عند عودتي إلى المنزل لتناول الغداء، ولم يكن هناك ما آكله، فقررت العودة إلى المدرسة، وكانت أختي تقول لي: "لا تذهب! لا تذهب!". كنت مصممًا على الذهاب، فقد وعدت أمي ألا أغيب عن المدرسة أبدًا. أما الرصاصات التي سمعتها فهي التي قتلت أخي.

(*) عندما كنت طفلًا، كنت مفتونًا بالكلمات... وبالقطارات!
نعم، كانت القطارات محورية في حياتنا! القطارات مثيرة للاهتمام للغاية. لقد سمح خط السكة الحديد بفتح كينيا على الداخل. تاريخيًا، لعب القطار نفس الدور في فتح المناطق الداخلية الأميركية كما فعل في المناطق الداخلية الروسية. على سبيل المثال، القطار مهم جدًا في رواية تولستوي "آنا كارنينا". في كينيا، كانت أرصفة المحطات نقطة التقاء. قلة من الأفارقة كانوا يستقلون القطار، لكنهم كانوا يذهبون إلى هناك لمشاهدة توقفه ودخول الأوروبيين وخروجهم. لقد وقعت العديد من القصص على تلك الأرصفة.

(*) في جامعة ماكيريري، آنذاك، كانت هناك نقاشات أدبية ثرية. هل كان الوضع أعقد من كينيا؟
أجل، أعتقد ذلك. عُقد أول مؤتمر أفريقي للمؤلفين الناطقين باللغة الإنكليزية في القارة في ماكيريري. دُعيتُ إلى هناك كمؤلف شاب عام 1962. كان الأمر مثيرًا للغاية في ذلك الوقت. كينيا التي نشأت فيها اتسمت بالعنف والتوترات العرقية والموت، لكن كامبالا، التي كانت أيضًا تحت الحكم الاستعماري، كانت أكثر سلامًا. كان الناس يتجولون في العاصمة كما لو كانوا في وطنهم. أما في كينيا، فكان الوضع عكس ذلك تمامًا. ففي المدن الكبرى، لم يكن الكينيون يشعرون بأنهم في وطنهم. كان من الممكن أن تُطلق النار عليك في أي لحظة.

 (*) بعد الاستقلال، سُجنتَ لمدة عام في عهد دانيال أراب موي. ما هي ذكرياتك عن ذلك؟
كما تعلم، عندما أجد نفسي في موقف صعب، أحاول دائمًا أن أجعل منه شيئًا إيجابيًا. احتُجزتُ في سجن كاميتي شديد الحراسة عام 1978 بسبب مسرحية كتبتها مع نغوجي وا ميري بلغتي الأم، الجيكويو، وقدّمها قرويون وعمال. تم حظر المسرحية، "سأتزوج عندما أريد"، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 وتم اقتيادي إلى السجن في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1977، ولم يتم نشرها إلا في كانون الأول/ ديسمبر 1978. ولكن في ذلك الوقت قررت تغيير علاقتي باللغة. فكرتُ في مشكلة اللغة والاستعمار، وقلتُ في نفسي: "لا، لا، لا، لا أستطيع الاستمرار في الكتابة بالإنكليزية!". ستُكتب رواياتي، وقصصي، وشعري، ومسرحي، منذ ذلك الحين، بلغتي الأم. وفي السجن، كتبتُ روايتي الأولى باللغة الجيكويو، على ورق التواليت. لذا لا أتذكر السجن بمرارة، بل أتذكر اللحظة التي اتخذتُ فيها هذا القرار الذي غيّر حياتي للأفضل.

(*) عندما تكتب بلغة الجيكويو، هل تفكر بهذه اللغة؟
أجل. المثير للاهتمام هو أنني اليوم، وأنا أترجم أعمالي القديمة إلى لغتي الأم، أُدرك أنه حتى عندما كنت أكتب بالإنكليزية، كنت أترجم ذهنيًا من لغة الجيكويو. ونتيجةً لذلك، أصبحت الترجمة سهلة للغاية.

(*) كيف تفسر أن عددًا قليلًا جدًا من الكتّاب الأفارقة اليوم يختارون الكتابة بلغتهم الأم؟

يعود ذلك إلى التكييف الاستعماري للعقل. في الإنكليزية، أُسميه "تطبيع الشذوذ": عندما يصبح ما هو غير طبيعي هو القاعدة. الأمر نفسه ينطبق على جميع المجتمعات الاستعمارية، الفرنسية والإنكليزية والبرتغالية... كان الأطفال يتعرّضون للعقاب بسبب تحدّثهم لغتهم الأم، وفي بعض الأحيان كانوا يتعرّضون للعقاب البدني، ولكنهم كانوا يتلقون التصفيق والثناء لأنهم يتحدثون لغة المستعمر بشكل صحيح. لقد سمح هذا التكييف لبعض اللغات بأن تصبح لغات السلطة في الإدارات والأنظمة التعليمية، ولا تزال حتى اليوم لغات السلطة في القارة. الفرنسية في مالي والسنغال، والإنكليزية في كينيا. مع كل اللغات الأخرى، لا جدوى من التقدم لوظيفة! لذا، لا أستغرب استمرار الكُتّاب الأفارقة في الكتابة باللغات الأوروبية، وكون معظم الناشرين ينشرون بهذه اللغات، حتى لو كانت أفريقية. عندما أكتب بالجيكويو، يقول لي الناشرون: "يا إلهي..." وينزعجون. وإذا كتبت بالإنكليزية، يفرحون!

(*) ما هي النصيحة التي تقدّمها للكاتب الشاب؟
أؤمن باللغة الأم قبل كل شيء، مهما كانت لغة السلطة. تحدثتُ مؤخرًا مع سيدة فرنسية قرأت كتابي "تصفية استعمار العقل"، وكانت تُجري بحثًا حول ما حدث للغات في فرنسا، وخاصةً في بروتاني. وأخبرتني أن أطفال بروتاني يُهانون أيضًا لعدم تحدثهم الفرنسية. أعتقد أنه يجب علينا، في جميع أنحاء العالم، إيجاد طريقة للتخلي عن فكرة أن الأمة يجب أن يكون لها لغة واحدة فقط. من الممكن وجود لغة تسمح للجميع بالتواصل، ولكن يجب أيضًا أن نسمح بوجود لغات أخرى. إنه ضمان للإبداع. لا أريد أن أكره لغتي لأكون فخورًا باللغة الإنكليزية أو الفرنسية.

(*) هل تعتقد أن الكتّاب البيض يستطيعون الكتابة عن الاستعمار أو العبودية؟
تأثرت معظم المجتمعات، وخاصةً المجتمعات الأوروبية، بالرأسمالية. وقد بُنيت الرأسمالية الحديثة على تجارة الرقيق. ولا توجد دولة أوروبية لم تُبنَ مدنها الكبرى على أرباح العبودية. استثمر معظم ملوك أوروبا في العبودية، حتى ملكة إنكلترا! على الكُتّاب البيض تناول هذه القضية، بالطبع! لا يُمكن أن تكون أوروبيًا وتتجاهل قضية العبودية. حتى لو كتبتَ عن عصر التنوير، عليكَ أن تُدركَ جانبَه المُظلم؛ وإذا كتبتَ عن الثورة الفرنسية، عليكَ أن تأخذَ الثورة الهايتية في الاعتبار.

(*) يصفك البعض بأنك كاتب "ماركسي فانوني - نسبة إلى فرانز فانون". ما رأيك؟
(يضحك)! هذا وصف لم أستنبطه بنفسي، لكنني أعرف ما أدافع عنه. دعوني أوضح: أنا أدافع عن سلطة العمال، أينما كانت. إذا ذهبتُ إلى فرنسا، على سبيل المثال، فلن أنظر إلى البلاد من منظور أقوى شركاتها؛ بل سأنظر إلى الفرنسيين العاديين. كما هي الحال في كينيا أو الولايات المتحدة، أهتم بالناس العاديين. لا أنظر إلى ناطحات السحاب، بل إلى من يمشون تحتها ويكسبون عيشهم. من لا يستطيعون الوصول إلى المستشفى، ومن يموتون في الشوارع، كما هي الحال في لوس أنجلوس، مع أن البلاد غنية جدًا.

(*) هل كان كارل ماركس وفرانز فانون مهمين بالنسبة لك؟
نعم، كان كلاهما بالغ الأهمية بالنسبة لي. ساعداني على فهم آلية عمل المجتمع. فتح ماركس عينيّ على آليات النظام الرأسمالي، وفانون فتحهما على البنية الطبقية للمجتمع الاستعماري. كانت كينيا مستعمرة للمحتلين البيض، وكنا نرى كل شيء إما أبيض أو أسود. كان الأبيض رمزًا للسلطة والاستغلال، والأسود رمزًا للفقر. في الواقع، كانت هناك انقسامات داخل هذه المجموعات، ازدادت وضوحًا في عالم ما بعد الاستعمار. أدركتُ أنها تفصل بالأساس بين من يعملون ومن يستفيدون من عمل الآخرين.

(*) أنت تتبنى وجهة نظر نقدية للغاية بشأن اقتصاد السوق...
الرأسمالية سرطان. لا تسيئوا فهمي، لها جوانب إيجابية، لكنها لا تضمن الحدّ الأدنى الضروري. انظروا إلى الولايات المتحدة، هذه الدولة الغنية حيث يموت الناس في الشوارع لعدم قدرتهم على الحصول على البنية التحتية الأساسية، والتعليم، والرعاية الصحية، والسكن اللائق... لقد أصبح الربح إلهًا يُعبد مهما كلف الأمر. حتى أننا نستطيع خوض الحروب وقتل الناس لمجرد أنه يُدرّ الربح!

(*) الانتخابات الرئاسية في كينيا على الأبواب (المقرر إجراؤها في 9 آب/ أغسطس 2022). هل أنت مهتم؟ هل تخطط للتصويت؟
لا، ليس تمامًا، فأنا لا أتابع السياسة في كينيا بتفصيل. لا أصوّت هنا (في الولايات المتحدة) لأني لست مواطنًا أميركيًا، لديّ فقط بطاقة إقامة دائمة (غرين كارد) وأحتفظ بجواز سفري الكيني. أفكر في العودة إلى هناك لقضاء فترة تقاعدي.

(*) حقًا؟
نعم، أريد التقاعد في كينيا، ولكن تعلمون كيف هم الكُتّاب... لقد عشتُ هنا طويلًا، أكثر من ثلاثين عامًا. وصحتي لا تسمح لي بالسفر. عمري 84 عامًا!

(*) كيف كانت تجربتك خلال سنوات ترامب؟
يا إلهي! في الواقع، كتبتُ عنه مرةً، قبل أن يصبح رئيسًا، لأنني كنتُ ألاحظ بالفعل بعض التوجهات آنذاك. ما أعرفه هو أن الرئيس الذي يكذب علانيةً لا يُفيد المجتمع. لا يُمكننا أن نُشيد بالكذب، حتى لو كان شائعًا في التاريخ، كما كذب الغربيون بشأن العبودية والاستعمار. ليس من الحكمة أبدًا أن نقول إن الأخضر ليس أخضر، بل إنه أحمر!

(*) هل تكتب كتابًا جديدًا؟
لديّ كتابٌ سيُنشر قريبًا، وهو عن الترجمة التي أسميها "لغة اللغات". الترجمة هي لغة اللغات المشتركة، لغة جميع اللغات. لقد أتاحت لي قراءة رابليه وبلزاك وتولستوي، رغم أنني لا أتحدث الفرنسية ولا الروسية. ترجمتُ بنفسي مسرحيتين لموليير إلى لغة الجيكويو، وأسعى للعثور على ناشر. أودّ أن تُترجم أعمال الكُتّاب الأوروبيين المتميزين إلى اللغات الأفريقية، وأسعى لإطلاق حملة بهذا الاتجاه.

 

عن (ضفة ثالثة)