تكشف هذه الدراسة حقيقية الرأسمالية الوحشية، وكيفية تعاملها مع أزماتها الدورية، بصورة تعري حقيقتها الراهنة، وتكبيلها الشعوب بالديون، ديون الدول والأفراد على السواء. وكيف أن ديون دول العالم الذي كان مستعمَرا، هي التجلي الراهن للاستعمار الجديد، كما قال الزعيم الأفريقي سنكارا، لأن من يقرضوننا المال هم من استعمرنا.

الدمار والديون والخصخصة

الرأسمالية المذعورة تُطارد الساحرات

زيــنــب نـصّـار

 

حكمُ القضاء الأميركي بإبعاد طالب جامعة كولومبيا محمود خليل، والدكتورة رشا علوية من جامعة براون، والباحث الهندي بدر خان من جامعة جورج تاون، ودفع رئيسات جامعات أميركية عريقة للاستقالة، بحجة معاداتهن جميعاً للسامية، يُعيد مشهد مطاردة الساحرات في القرون الوسطى. فهل هؤلاء فعلاً يشكّلون خطراً على أمن المجتمع الأميركي الليبرالي؟ أم أنهم يشكّلون الضحية المناسبة؟ فيُقدَّمون كبش فداء للمنظومة الرأسمالية العنصرية المذعورة، لترويع الجميع وتحذيرهم، إن في الولايات المتحدة أو في خارجها. هكذا يُستعانُ بالرأسمالية الأكاديمية -التمويل الخارجي للبحوث الموجهة للسوق- لتتدخّل ضد ذاتها، وبالوكالة عن السلطة الرأسمالية، التي تُهدد النخبة الأكاديمية. يُحاكم التعبير قمعاً للتفكير ولو بمجرد بوست مع فلسطين، لحرف الأنظار عن الواقع.

وهذا دأب الرأسمالية، فهي تاريخياً، وعند كل أزمة، تضبط الداخل استعداداً لمواجهة الخارج. وهي تواجه اليوم، واحدة من أشدّ أزماتها المركّبة، سقطت معها كل الأقنعة والمسمّيات: الليبرالية بقديمها وجديدها، وإنجازات مؤسسات الحداثة من: حقوق الإنسان والديموقراطية، وقواعد الحروب وغيرها، وقد فقدت هذه كلها صلاحياتها، في سوق السلع والصراعات. هذا الانكشاف الحادّ، تظهّر مع تباطؤ النمو الاقتصادي، ثم تفجّر في أزمة عام 2008، مع انهيار أكبر المصارف وشركات التأمين الأميركية آنذاك، وتدخّل الدولة العميقة بأموال دافعي الضرائب، لإنقاذها، دون تحميلها أي مسؤولية، لا مالية-اقتصادية، ولا قانونية، بل حُمّلت خسائرها للمجتمع، إضافة إلى طرد مَديني قروض الرهن العقاري المتخلفين عن الدفع، من منازلَ لم تكن لتصبح يوماً ملكاً لهم، فتمّت معاقبتهم لأنهم فكروا بالتملّك اقتراضاً بفوائد مُتدنّية لم تكن أصلاً موجّهة إليهم، ولكن قروضهم الصغيرة أمّنت خدمة تدفقات الأموال إلى فوق وتحويلها إلى رساميل مالية.

يقول Marazzi في عنف الرأسمالية المالية، إن الاحتياجات الجديدة المالية تتطلب توسيع قاعدة البحث عن الائتمان؛ «لتحقيق الأرباح، يحتاج التمويل إلى إشراك الفقراء أيضاً، فالرأسمالية تحوّل الحياة العارية إلى مصدر مباشر للربح». يختبر المودع اللبناني حالاً مماثلة، وقد يتحمّل وحده أعباء الخسائر بما يتجاوز حجم ودائعه، ما يعني مصادرة ملكيته الخاصة. هذا يؤكد أن برامج الدعم المالية، التي تقدّمها الحكومة الرأسمالية، هي بالأساس برامج لتمويل ودعم رأس المال. في هذا السياق، تتلاحق تهديدات ترامب، منذ عودته رئيساً، بضم جزيرة في أوروبا، وإلحاق كندا وشراء غزة، وحرب رفع التعريفات الجمركية، رغم اعتراض كبار الاقتصاديين الأميركيين؛ في محاولة للعودة نحو القومية الاقتصادية الحمائية في مرحلة تحلل الدولة العميقة.

لكن اهتزاز أسواق السندات الأميركية، بما تمثّله من ملاذ آمن، دفعته إلى التراجع المؤقت. هذه ليست مخاطرة المستثمر الصناعي الرأسمالي، ولا قرارات الدولة الراعية، إنه أداء مقاول صفقات الربح السريع النيوليبرالي، في اقتصاد الهشاشة وإخفاقات النظام الرأسمالي، يستثمرها بخلق أعداء وهميين متوحّشين، ونشرهم حول الذات لعزلها، تُستعمل معها وسائل العنف كافة لحماية السلطة الرأسمالية المستبدة.

ولادة النظام الرأسمالي: تطويق الأراضي وعبودية الديون
تحرّر الفلاحون الإنكليز من القِنانة في المدة 1200-1350، نتيجة وصولهم الحرّ للمشاعات، عارض النبلاء ذلك، واعتبروه مصدراً للكسل والفوضى، فتم تطويق المشاعات وتجريم السكن الحرّ للأراضي غير المملوكة والاستيلاء عليها، بلغة اليوم: «الخصخصة». وفُرضت سياسات ضريبية تعجيزية، قضت بدفع جميع الضرائب بالعملة المعدنية، النادرة آنذاك. ما اصطنع «أزمة ديون» أدخلت الفلاحين في دورات هندسية من الديون، مقابل محاصيلهم المستقبلية، ودفعتهم إلى بؤس غير مسبوق. بالتوازي تراجعت الكنيسة، أكبر مالك للأراضي، عن موقفها من الربا. فجسد الإعدام والسجن واستعباد المَدينين المتخلفين، أشكال استيفاء للديون. بيّن Delumeau في كتابه «تاريخ الخوف في الغرب»، أن «الذعر الأسود» (الطاعون)، وموت ثلث سكان أوروبا في العصور الوسطى، ولّدا تفسيرات دينية، اعتبرت الوباء غضباً من الله. فسلّم الفلاحون «الخطأة» بقدرهم، وحرمانهم من وسائل الوجود، وإخضاعهم لعبودية الديون.

تبادلت الكونيات الأخلاقية للدَين والربا أماكنها: أصبح الربا حقيقة من حقائق الطبيعة، بينما أصبحت الديون المالية وحتى الوجودية حالات انحراف وذنوب، اقتضى التكفير عنها العمل بالسخرة، كفعل إيمان العامل سعياً إلى خلاص مؤجل. مهّدت هذه الظروف لولادة الرأسمالية في 1500-1650، ونشأة البروتستانتية، الذراع الأيديولوجية للرأسمالية العقلانية، حسب ماكس فيبر. فأخلاق العمل الجاد والفضيلة الشخصية البروتستانتية تُكافئ بتحقيق الثروة، دلالة على نعمة اصطفاء إلهية، وهذا فعل إيمان الرأسمالي وخلاصه، بالإخلاص للرأسمالية المتحضرة. ويصبح أي معارض مذنباً، تلاحقه محاكم التفتيش، تتساوى أمامها الهرطقة الدينية، وفلسفة عصر التنوير، الذي نادى بسلطة العقل وتحرير إرادة الإنسان. نُفذت العقوبات في الساحات العامة ترويعاً للجميع، وأبرز المعاقبين العالِم غاليلي، لدحضه ما آمنت به الكنيسة لقرون حول مركزية الأرض.

يرى Graeber أن التدمير التدريجي للمجتمعات من قبل السوق -تحويل اقتصاد الائتمان إلى اقتصاد الفائدة أي الديون- أدّى إلى التحلّل التدريجي للشبكات الأخلاقية الاجتماعية، بفعل تدخّل القوّة القمعية للدولة. لتفرض معها الرأسمالية روحها الثقافية النفعية، باعتبارها البعد الإنساني الوحيد المتسامي. تُستعاد اليوم تلك الإعدامات بإبادة غزة مباشرة على مسرح العالم ومرآه، لإخراس الجميع، وقد أصبح قول الحقيقة جريمة والسكوت فضيلة. يُنكر الدِين الرأسمالي كل ما نعيشه جميعاً، من وحشية نظام، يرتهن حياة غالبية المليارات، باستعباد الكينونة البشرية واختزالها إلى الشيء المطلوب للسوق، وتلقى عليهم لعنة الاستهلاك عبر الحاجة القهرية والاغتراب، والإغراء بدخول جنة الاستهلاك غير المحدود بالديون، ويكون العقاب مواجهة النقص، في حين يتم إنتاج الفوائض.

حكاية انتصار مهزوم
تُواجه الرأسمالية منذ تشكّلها أزمات دورية، تنخفض معدلات النمو، يتدهور الاقتصاد. ولا تزال أزمة الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن العشرين أكثرها رعباً في ذاكرة النظام الرأسمالي. والأخطر من الأزمة، كان اعتماد كينزية الدولة التدخلية في الاقتصاد الحر، بحجة مواجهة النازية والشيوعية في الحرب العالمية الثانية، وقد فجّرت هذه الأخيرة النظام الرأسمالي، ولكنها شكّلت، بالنتيجة، خلاصاً للاقتصاد، بإنفاق الدولة على الحرب، والانتصار بها دون خوضها، كدأب الولايات المتحدة. ارتفعت معها معدلات النمو، وأدت إلى توظيف فوائض رأس المال في إعادة إعمار أوروبا، والسيطرة عليها. تعمَّمت، بالنتيجة، قناعة مجتمعية بعدم وجود بدائل للنظام الكينزي القائم، وأصبحت هذه هي مشكلة الرأسمالية الحقيقية. تنكّبت مجموعة من عتاة المفكرين الليبراليين في أوروبا وأميركا، ضمن جمعية مونت بيليرين 1947، لمواجهة الكينزية، استعادوا خطاباً من الماضي، يقدّس حرّية الفرد والملكية الخاصة، ويحصرهما بالمشروع التنافسي الحرّ، تحميهم الدولة المحايدة والقوية الضامنة لعمل الأسواق. هكذا تبلورت أيديولوجيا التفوق النيوليبرالية الهلامية، مُطلقة هجومها الطبقي العنيف على الأجور وعلى مكتسبات المجتمع التاريخية.

كان من السهل إنتاج الأفكار ولكن من ينشرها؟ يجيب Hayek أنهم «تجار الأفكار المستعملة»: الصحافيون والأكاديميون والكتّاب، الذين يملّون النشاط الفكري لمصلحة الأمّة. فهم عاطلون عن العمل، لا ينتجون جديداً، بل يروّجون لبشاعة مُستعمَلة. تموّلهم الشركات الكبرى، يواكبهم الإعلام العاصف، بضخّ أفكارهم وتسييلها عبر برامج تلفزيونية شعبية، تنشرها كبريات الصحف لتشكيل منظور الجمهور، بتمجيد السياسات الليبرالية، وجناتها الاقتصادية. ولكن ما السبيل لتحقيق ذلك فعلياً؟ في ذروة الحرب الباردة، بين السوفيات والأميركان، نشأت المكارثية، وهي حملة مطاردة ساحرات الشيوعية، باعتبارها دِيناً يسعى إلى القضاء على المسيحية. عممت المكارثية حالة إرهاب فكري، ضد الجميع موظفين حكوميين، ومفكرين وفنانين، تُوجت بإخضاع النخبة العلمية (أهم ضحاياها أوبنهايمر أب القنبلة الذرية)، لنخبة رجال الأعمال التجارية والمالية والعسكرية والحكومية/ البيروقراطية، ما أضفى على العنف طابعاً مؤسساتياً رمزياً.

بنتيجتها تم إخضاع المجتمع الأميركي برمته، بتقوية التعصب الأبيض، وتجريم المعارضة، وتخوين النقابات العمالية، وخسارة الوظائف بلا ذنب واضح. انتهت المكارثية بعدما أدّت دورها. لكن هذا كله لم يكن كافياً. بيّن شيخ النيوليبراليين فريدمان (مستشار ريغان وتاتشر لاحقاً) أن صدمة فقط يمكنها تحرير المجتمع، بإنقاذ الاقتصاد الحر من الكينزية وتدخل الدولة. حدثت أزمة الركود التضخمي  (Stagflation ظاهرة لم يختبرها النظام قبل سبعينيات القرن الماضي. وهي عاصفة متكاملة من الأوضاع الاقتصادية السيئة، تشمل، في الآن معاً، بطء النمو الاقتصادي وارتفاع البطالة والتضخم. تلتها صدمة نيكسون، 1971، إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار إلى الذهب، واكبها رفع أميركا لأسعار الحبوب، 1972، استدرجت العرب بالمقابل لرفع أسعار النفط في حرب أكتوبر 1973. إذاً، إنها اللحظة المناسبة لتنحي الدولة، كان تحضير البدائل هو مهمة الاقتصاديين النيوليبراليين، انتهازيي الفرص. سعوا إلى تطهير آثار التجربة الكينزية. بينت نعومي كلاين في كتابها «عقيدة الصدمة»، أن سياسات السوق الجديدة التي تدعمها المؤسسات الدولية كصندوق النقد وأخواته، تمكنت من الهيمنة عالمياً عبر استغلال القوى الرأسمالية للأزمات والكوارث لفرض سياسات اقتصادية نيوليبرالية.

تمرّدت الجامعة فعوقبت بالخصخصة:
استعادت الجامعات الأميركية دورها في الستينيات، نشط الحراك الطالبي اليساري، المناهض لحرب فيتنام وأداء السلطة، والرافد لحركات التحرر من الاستعمار، وحراك الطلاب والعمال في أيار 1968 في باريس. أثار هذا كله رعب الشركات، وكانت تواجه انخفاض معدلات أرباحها، ما استدعى تدخل اليمين الجديد، وشكلت مذكرة محامي الشركات L. F. Powell  في أغسطس 1971، للغرفة التجارية الأميركية، لحظة محورية، في التحذير من الجامعة كمركز خطير سياسياً، على «نظام المشروع الأميركي الحرّ». دائماً ما دعمت الدولة التعليم العالي باعتباره صالحاً عاماً، ومع ازدياد طلب السوق عليه ارتفع سعره وتحوّل إلى بضاعة ذات منفعة خاصة في سوق العمل، فتوجّبت خصخصته. هكذا انقضّت النيوليبرالية على الجامعة، لتوجّه البحوث إلى خدمة الصناعات المعرفية الخاصة. ما شكّل تحوّلاً في مهمة السيطرة على العلماء والمثقفين، من الدولة الأمنية الوطنية، إلى السوق ويده الخفية، بوصفه هيكلاً تأديبياً أكثر فعالية يفرض قيوداً بطريقة غير شخصية، ترسخ بالنتيجة اتجاه أن يصبح دعم الدولة للتعليم صفراً.

تعمّم مذّاك شعار معروف لتاتشر «ليس هناك بديل»، لا بد من تقليص القطاع العام، وخصخصته، لكن هذا ليس ملكاً خاصاً للحكومة، بل يخص المجتمع ويشكّل موروثاً له، إذاً المطلوب هو حل الدولة العميقة، ونكوصها عن مسؤولياتها تجاه المجتمع. دائماً ما أمّنت الدولة الرأسمالية الظروف لعمل السوق بفعالية. ولكن مع النيوليبرالية، حصلت تحولات جذرية، دفعت الدولة إلى إنشاء أسواق جديدة للأعمال التجارية الخاصة، في القطاع العام. تخلّت بموجبها الحكومة عبر الخصخصة عن مزايا مطلقة عامة تحتكرها، لمصلحة قطاع خاص لا يتمتع بمزايا نسبية تمكّنه من المنافسة، فدعمته باتباع سياسات تقشف، خفّضت معها الإنفاق العام، وتعمّدت إضعاف القطاع العام. فقامت الدولة، وفق بورديو، بدور «الباطرونا». بحجة تحسين جودة الخدمة وتعزيز اختيار المستهلك.

تعتمد القوة الرأسمالية على ما سمّاه غرامشي «الهيمنة» – أي هندسة الموافقة وفقاً لما تمليه مجموعة معينة. نسخة الليبرالية الحديثة هذه نجومها ليس الباحثون الأكاديميون، كما في الأمس، ولكن أثرياء وادي السليكون ماسك، وزوكربيرغ، وبيزوس. يتحالفون دفاعاً عن مشروعهم، عبر التزوير، والتهشيم المتعمد، بهدف كي الوعي، دفعاً نحو سحق المجتمع وهزيمته. هكذا يكون لكل فترة مكارثيةٌ خاصة بها. في الخمسينيات، عنت انتقادك للنظام، كان سؤال «هل أنت شيوعي؟» كافياً لتصبح في اللائحة السوداء. في السبعينيات، أقرّت مطاردة الإدارة العمومية. في الثمانينيات، الإسلاموفوبيا وإرهاب الآخر. أمّا المكارثية الجديدة اليوم، فهي عنصرية تصل أنت إليها، تراقبك عبر وسائل التواصل. ألّا تدين «حماس» تعني حصراً أنك معاد للسامية. لم تستطع الدولة الرأسمالية تحمّل الحركة الطالبية الاحتجاجية السلمية، رغم أنها تعبّر عن قيم الرواية الرأسمالية حول حرية الرأي والمعتقد، ولكن يبدو أنها أصابت مقتلاً، في لحظة حرجة، حتى إن غزة تفوقت على روسيا، من حيث أهمية المواجهة ضمن حدود النظام الرأسمالي، بكشف زيف ادعاءاته. لذلك كانت هذه المذبحة للحريات الأكاديمية والسياسية، والإرهاب يطال الطلاب في مصيرهم، والأكاديميين في رأيهم، والموظفين في لقمة عيشهم.

طريق واحد إلى روما: الدمار وخصخصة الدولة والديون:
شكّلت شمولية الديون أهم إنجازات النيوليبرالية. قيّدت دول العالم الثالث في ثمانينيات القرن الماضي فدمّرت اقتصاداتها، وأفقرت شعوبها. انتشرت، بالتوازي، ديون الأفراد الاستهلاكية في الدول الغربية. شكّلت نسبة الدين في السبعينيات 100% من الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات المتقدّمة، في حين بلغ الدَين الإجمالي العالمي 318 تريليون دولار في نهاية 2024، مسجلاً مستوى قياسياً بنسبة 328% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي البالغ 109.5 تريليونات دولار فقط، وفق معهد التمويل الدولي. أي إن إجمالي الديون يعادل ثلاثة أضعاف حجم الاقتصاد العالمي، ونصيب كل فرد من سكّان العالم، وعددهم حوالى 8.1 مليارات، سيكون حوالى 39,000 دولار.

هذا النمو المفرط للديون، شكّل تحوّلاً نوعيّاً في تراكمه بشكل مستقل عبر ديناميكيته الخاصة، الارتهان، وسبّب تشوهات اقتصادية شديدة، ورفع الديون إلى مستويات مستدامة. لقد كف الدَّين عن تشكيل رافعة للنمو الاقتصادي وتحوّل إلى وسائل استحواذ على مقدرات الدول حاضراً ومستقبلاً. ومكّن النيوليبرالية من تشكيل السلطة العالمية الجديدة، وفرض هيمنتها بعيداً من أي شرعية. سبق للزعيم الأفريقي سنكارا أن أوضح: إن الدَين هو استعمار جديد، من يقرضوننا المال هم من استعمرنا. يواجه لبنان، ككل الدول النامية الحدودية الصغيرة، وضعاً معقّداً، وتُختصر المواجهة بمحاولة تسريع استلحاق مسيرة الخصخصة، التي تعثّرت ضمن برنامج إعادة إعمار لبنان منذ أكثر من عقدين. رغم الإهمال المتعمّد للقطاع العام، وانهيار الوضع الاقتصادي، تطلّب الأمر حروباً عدوانية مدمّرة للجنوب والضاحية والبقاع، حتى أصبح ممكناً تطبيق برنامج «العلاج بالصدمة» لـ«صبيان شيكاغو» النيوليبراليين.

لم تعد هناك حاجة ملحّة إلى إقناع الجزء المنهك من الرأي العام، بفعل العجز والتباطؤ وترك الناس لمصيرهم، كقصاص لتمرير خطط «إنقاذ» يقدّمها صندوق النقد الدولي. وقد تعمّم في البلاد خطابٌ موحّد يرقى إلى مستوى البديهيات: إما «رعاية» صندوق النقد أو الجحيم. وتطرح معه أسئلة تهديدية، تمتحن مدى جدارتنا بثقة «المجتمع» الدولي، دون إمكانية السؤال عن الشروط المطلوب التقيد بها، أو تفاصيل الكلفة العامّة، وأي أجيال ستتحمّلها. انتهى الأمر، أصبح الجميع جاهزاً، السياسيون، والإعلاميون، والاختصاصيون، وعامّة الشعب، مع تفعيل الأسس القديمة، وقد أصبح تعاضد ممثلي الطوائف السياسية، ورأس المال المالي، أقوى. هي فرصة للتطهر، ليتبرأ الجميع من دم التجربة التي فتكت بالبلاد قبل عدوان الكيان الأخير، لإنجاز التحوّل التامّ إلى النيوليبرالية. وهذه الأخيرة، للمفارقة، ليست في أحسن أحوالها؛ تدلّنا أوضاع الدول المتطوّرة إلى تعميم التدهور الاقتصادي العام غرباً وشرقاً. في هذا السياق تأتي محاولة الرئيس الأميركي تحميل الجميع ثمن تأزّم النظام بزيادة عنفه والإنفاق العسكري بنشر الحروب، وقد أصبحت ثمناً زهيداً لإنقاذ النظام، وتأجيج الصراعات سعياً إلى إبقاء أميركا أولاً، في وقت لم تعد فيه وحدها.

 

* أستاذة جامعية

 

عن (الأخبار اللبنانية)