يبدو رهان العمل الروائي المستلهم للتاريخ، على إحداث العلاقة بين الواقع والمتخيل، أو النسيج النصي المعتمد في خلفيته على أثر تاريخي ثابت ومعروف ومتداول في الكتب والآثار كواقع من ناحية، ومن أخرى على رؤية الرواية/ التخييل للشخوص الذين من الممكن أن يدوروا في فلك هذا التاريخ وهذا المكان الذي يمثله، وعلاقته بالفترة الزمنية الممتدة، مع التزام النص بعدم الخروج من هذه الدائرة التي تحكم العلاقة بين الزمان والمكان، ليكون للعلاقات البينية هنا دور فعال في تحريك النص الروائي نحو تجسيد هذا الواقع وتضفيره بالمتخيل في لعبة تبتعد بالنص عن التسجيلية/ استنساخ حالة تاريخية بكل عواملها وعناصرها من شخوص قد يكون لبعضهم حق الظهور في خلفية النص كثوابت تؤكد صلة الرواية بالتاريخ، إلا أن المحرك الفاعل للنص الروائي الجديد هو أهمية الدور الذي تلعبه الشخصيات المتخيلة أو الحيوات المتخيلة لشخوص أخرى تنافح عن وجودها التاريخي المنسي أو المفترض وجوده في هذا السياق، وما سيأتي من استبطان لمشاعرها وتصرفاتها الداخلية التي لم يذكرها التاريخ، بوقوفه عند الحالة الساكنة التي لا تستنطق إلا بلعبة الكتابة والتخييل، هذه اللعبة المعقدة التي ينبغي أن نلتفت إليها ونحن نضع أيدينا على نص روائي يلتمس التاريخ أو يستلهمه، وهذه المعادلة التي نبحث عنها عندما نتعرض لعمل أدبي يدخل في تلك المنطقة التي يلتمس فيها باطن التاريخ لا ظواهره الثابتة الماضية ولا الاستسلام لها..
في رواية "العائد" تقتحم الكاتبة "رندا مدين" هذه المنطقة الشائكة من الكتابة المستندة إلى تاريخ عريض، لتلتقط خيطا رفيعا تمتد به الحكاية المستلهمة، والمستهامة في جزئيتها المتعرضة للشخوص، من تاريخ العرب في الأندلس فيما بعد الأفول، لتنسب إليهم فعل البطولة بحسب إهدائها المتصدر للرواية كعتبة بالغة الأهمية: "إلى أبطال لم يذكرهم التاريخ، واحتضنتهم أرض الأندلس". هذا التعميم/ التجريد الذي ترمي إليه مفردة (أبطال) دون تحديد وتعريف محدد يفتح تلك الدائرة لتتسع لكثيرين لا نعرفهم ولم نسمع عنهم، ولم يذكرهم التاريخ أو تغاضى عن أدوارهم ليأتوا في سياق كلمات أو سطور عابرة، ثم التخصيص والتعريف في (الأندلس) أو المكان المختار لهذه الحالة التاريخية التي تريد الكاتبة استعادتها وبلورتها وتقديمها في إطار يجمع بين ما هو حادث بالفعل تاريخيا، وما هو متخيل مستهام تتشكل به الأقدار النهائية التي وضعها التاريخ لهؤلاء الأبطال بشكل عام... حيث تبدو تلك الشخوص دائرة في فلك حالة من القهر المعيش تحت ضغط ووطأة منتقم غاشم يتعامل بعنصريته تجاه من كانوا يمثلون لحمة الأرض في حقبة ليست بالقصيرة، هي حقبة استقرار العرب في الأندلس. تلك الصراعات العرقية والدينية التي ربما توازت مع الحروب الصليبية مع الشرق، فأثارت نزعة الانتقام. وهو ما تمثله الخلفية التاريخية الصرفة للرواية كعمل تنويري كاشف:
"نظر إليها القائد وقال بضحكة صفراء يملؤها الغل: "ما أكثر خيرات هذه البلاد! فحتى أشجارها تثمر أطفالا، احملوها معكم ولا تقتلوها"[1]
يشكل حضور الأنثى من خلال تلك الشخصية الآبقة من مجزرة وحشية تنصبها قوة غاشمة، للبشر المسالمين، لتبدأ رحلة الفتاة الصغيرة مع هذا المشهد الدموي الذي تمثل فيه العودة إلى المكان أو "حلم العودة" إلى مكان الأجداد، وما تأتي به درامية العمل الروائي في هذه الشبكة الدقيقة المعقدة التي يتكون منها نسيج النص الروائي، من خلال شخصية الأمير العائد، وكتيمة لها جذورها في السرد، تكرس للقيمة المضافة التي يأتي بها عنوان الرواية كعتبة أولى سابقة، لها علاقتها العضوية بالبناء السردي للرواية، وهو ما اعتمدت عليه الرواية/ الراوية، كي تميط اللثام عن أحداث جسام ربما كانت شخصية فردية لكل من الطفلة الصغيرة التي دخلت في نطاق التحول الديني من جهة والأمير من جهة أخرى، ولكنها تتجه وتصب في قضايا إنسانية ووجودية مرتبطة بخطر الإبادة كمثال لقضية من قضايا حقوق الإنسان، والمساس بالهوية المرتبطة بالوطن والعقيدة معا، ومن ثم سمات التحول/ التشويه التي يمارس بها البشر حياتهم مكرهين
"مرت الأعوام، وفاطيما (لويزا) تعمل كخادمة، وتنتقل من قصر لآخر حسب رغبة سيدها، حتى استقر بها المقام أخيرا في أحد القصور، وكانت سيدتها أرملة لم تنجب، وكانت كريمة لينة الطبع فأحبتها وأخلصت لها، كذلك السيدة شعرت ناحيتها بمثل ما تشعر به الأم تجاه ابنتها، فقربتها منها وجعلتها وصيفتها الخاصة وبالغت في إكرامها."[2]
هذه التركيبة الجديدة التي تبرز سمات التحول، والتنصر من حلال الاسم الجديد في شخصية الفتاة الأندلسية العربية، في مقابل حالة الاستيعاض التي لا تمثل استمرارا على مدار الارتباط والحكاية كنوع من الميلودرامية التي تخترق الأحداث، التي تمثلها علاقة السيدة المالكة لها بها، وما لها من أثر معنوي يؤثر بالطبع في مسارات الشخصية في النص الروائي/ الحكاية المروية أو المستبطنة التي يأتي بها التخييل ليصنع الأحداث بزخمها، التي ترتبط بالظرف التاريخي الذي تنحصر داخله الرواية وتنصب أوتاد خيمتها، وسط حالة من الترقب يصنعها النص كي تمثل خلفية إنسانية لما يدور في تلك الأثناء، وكنوع من إضافة الجو النفسي الذي هو من ركائز عملية التخييل ومحاولة سبر غور العلاقات، ولإكمال عناصر الصورة المروية وتكاملها لترتبط بالواقع العام، ولتأتي جذور الحكاية/ الحدث لتضع لبنة لما سوف يكون عليه الحال في قادم الأحداث/ الفترة الزمنية المقتطعة من ذلك التاريخ، وكتحول من العنصر الثابت/ المكان، إلى العنصر المتحول/ الزمن:
"وبدأ الجميع في التفكير ومحاولة رسم وتخطيط المستقبل المبهم الغامض، فالبعض فضَّلوا الرحيل إلى دولة المغرب للفرار بدينهم، فعجلوا بتحميل الحمير والبغال كل غال ونفيس، وحملوا معه كل ما يمكنهم من متاع استعدادا للرحيل إلى منفاهم المجهول، يقتلعون أقدامهم اقتلاعا، ويذرفون الدموع الغزيرة على وطنهم الغالي، والبعض الآخر فضلوا التمسك بتراب غرناطة، وذكرى ورفات الأحباب الماثلين بسلام في القبور، فقرروا البقاء وليكن ما يكون"[3]
أسباب متعددة للسقوط:
هذه العلاقة البينية للبشر والمكان، وإشكالية الهوية، والعلاقات الطردية والعكسية التي تحكمهم بها، وهذه النزعات المتغايرة والتي تضرب في أعماق مأساة وجود، تحملها الرواية لتطوف بها في أركان المكان، والتشبع به سواء من الناحية المادية بالبقاء فيه، أو بالناحية الروحانية بالارتحال منه على أمل العودة من جديد إليه.. تبدو من خلاله فلسفة العودة وفلسفة النص في تجسيد تلك المشاعر المتناقضة، التي تبقى من خلالها فئة تعاني الكثير ارتباطا بالوجود بتراب الوطن، لتشع منها الحكايات، والموروثات من التاريخ التي تطفو من خلال حضور شخصية أنثوية أخرى، كنموذج للتسلط والرغبة في السيطرة على الحكم من خلال المخاتلة:
"عائشة الحرة، زوجة السلطان أبي الحسن، وأم أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة، شهدت أحداث سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، لقبت بالحرة لأنها كانت الأرفع نسبا بين نساء القصر، إذ كانت تنتمي لأسرة بني نصر، وهي ابنة محمد التاسع الأيسر الحاكم النصري الخامس عشر على مملكة غرناطة، جاء زواجها من أبي حسن تدعيما لنفوذه، وحتى يكون له الحق في تولية العرش لاحقا"[4]
يبدو هذا الإبحار في التاريخ تأكيدا على تلك الوشيجة التي تربط الرواية وشخوصها بالحالة النفسية الملازمة لتلك الشخوص نزوعا نحو التخييل الذي يملأ تلك الفراغات التي يتركها الحدث التاريخي، وهو ما يأتي هنا من خلال تلك الشخصية المؤثرة التي تبدو كعلامة في فضاء المكان والنص/ الحالة المؤكدة على الزوال والخروج المرير من المكان/ غرناطة كقطعة مهمة وأخيرة من الأندلس، وهو ربما كان ناتجا من صراعين مهمين متوازيين داخلي بين الأشقاء، وخارجي مع الأعداء الذين يريدون استعادة الأرض، في حين ينمو صراع آخر يعكس وجها مغايرا تماما لما تعانيه الشخصيات الأقل شأنا على مستوى الواقع، من خلال تلك الأحداث التي تقلب الأمور ناحية المغتصبين الجدد، ومن ثم التحولات التي تنتاب الشخوص بنزع أقنعتهم وارتدادهم إلى ما كانوا عليه في لعبة توافيق وتباديل، حيث تبدو الشخصية الضد/ الغريمة/ الشريكة، لرمز الحكم والنضال، وهي شخصية القشتالية التي ارتدت إلى ديانتها لتحارب في صفوف القشتاليين:
"كانت ثريا تدور ضاحكة مستبشرة بقدوم القشتاليين، وبعودتها لاسمها القشتالي القديم (إيزابيل دي سوليس) وديانتها التي اجتهدت في تعليمها سرا لولديها، فما كان الدين لها إلا سلما حريريا تصعده لتملك قلب الملك، لتستطيع بعد ذلك أن تجبره بدلالها ومكرها لينصاع لرغبتها بتولية أكبر ابنيها العهد من بعده"[5]
عبر نماذج أنثوية أخرى تقارب الرواية هنا أسباب السقوط من ناحيتيها: الداخلية والخارجية، ومن خلال سبل المكر والخداع والانخداع على حد السواء، فشخصية المرأة القشتالية هنا كامنة كي تساهم في تجهيز المشهد للسقوط الأخير لتلك الجماعة التي حكمت الأندلس مئات السنين، تتحين الفرصة لتنضم إلى معسكر ذويها بالسياسة الخادعة ودهاء المرأة، وانغماس الحاكم في الملذات والمغريات، والوقوف على حد الصراعات التي تكفل للحاكم أن يستمر في مكانه ويتشبث به، ويجعل منه ملاذا لكمونه وأفكاره الهاربة من وطأة الصراع على الأرض التي يتربص بها القشتاليون بلا هوادة.
"استقر الملك أبو عبد الله بالعيش في منطقة يسكنها المسلمون تسمى (البشرات) وكان مطمئنا لعيشه الجديد، قانعا بما لديه من صلاحيات محددة تضمنها المعاهدة، إلا أن هذه الصلاحيات أصبحت تزعج السلطات خوفا من تجمع الثوار حوله فتقوى شوكته من جديد فطلبت منه الرحيل مقابل ما يستطيع حمله من ذهب، فباع لهم قصوره وأراضيه بأبخس الأثمان وذهب إلى وهران"[6]
فهكذا تطوى مرحلة، وتبدأ مرحلة جديدة تمضي معها الرواية بروح المقاومة والعناد التي يتشبث بها أبطال النص/ الشخصيات التي تنبت من الوعي الإبداعي لتكمل الصورة، ليسدل الستار على هذه الحقبة بالتحول الحادث على مستوى الشخصية الأنثوية المتمردة/ الآبقة، والأكثر التصاقا بالنص "فاطيما" كمفصل من مفاصل الرواية ربما سعت بدراميتها إلى الاتجاه نحو العودة إلى ديانتها بالهروب العكسي إلى الدير:
"فكان لها ما تمنت وذهبت للدير تخفي بصدرها إيمانها، فما زادها الدير والعزلة إلا إيمانا ويقينا بالله مهما تظاهرت"، لتمثل نوعا من البطولة الفردية/ المضادة لكل تلك النماذج الأنثوية التي عبرت جسد النص وعبرت عنه، التي ربما أشارت لها الرواية في مفتتح الكتابة، وليبدأ النص حكاياته الجديدة، وما تحمله من مفارقات!!
العودة:
تمثل عودة حفيد آخر الملوك (كشخصية روائية) إلى غرناطة نقطة تحول مهمة وبارزة على مستوى الحدث الروائي المتخيل/ الموازي للتاريخ، عملا على الولوج في منطقة الصراع التي تفرضها تداعيات الأمور، وهو الاستهلال الجديد الذي يبدأ به النص الروائي مرحلة جديدة تتوازى مع ما يحدث داخل أرض الوطن الضائع، ليحدث هذا التوازن الدرامي الذي تسير فيه خطوط السرد لتتلاقى في نقطة يشتعل معها الجزء المتخيل من الحكاية والذي تستمر به مسيرة السرد في الرواية:
"انقضى الوقت سريعا وآن للغريب أن يحط رحاله على شاطئ مسقط رأسه، الذي لطالما حلم أن ينعم برؤياه ولو لساعة فتنطفئ نار لوعته، ويهدأ شجنه، عندما اقتربت السفينة من الشاطئ، أشرق وجهه متهللا، وقال بصوت مسموع ملؤه الشوق والحنين: "أنا آت يا غرناطة.. آت يا حمراء". أخيرا رست السفينة على رصيف ميناء ملقا، ثم انحدر منها إلى غرناطة، متنكرا في ثوب تاجر عطور عربي."[7]
هكذا تمكن الرواية شخصيتها الرئيسة من ولوج أرض الوطن، تستعرض بها وصفا متجاورا مع حالة من الحنين تنتاب المسرود عنه/ حسن الذي يخترق هذا الفضاء بالمزيد من المخاتلة والحيلة، تلك التي ربما توازت مع مخاتلة الخروج العظيم من أرض الأجداد وإقصائهم عن بكرة أبيهم ربما إلى حيث يعيدون ترتيب أوراقهم، أو ليقضى عليهم إلى الأبد كفلسفة وجود وعدم، لتبدو من خلال السياق السردي شخصية أنثوية أخرى هي شخصية "ألفيرا" التي تلتقي العائد على شرف الإنسانية والمواساة والتوحد في حالة الاضطهاد التي يعانيان منها في وطن تشكلت فيه مأساتها هي الأخرى، بفقد أبيها كمثال للعقلانية والتوسط.
"تعلم جيدا تورط السلطات في قتل أبيها، فكانت تكرههم أشد كره، كلما تقدم أحد منهم يطلبها للزواج ترفض، عاشت في قصرها عيش الزاهدات المتبتلات، لا تخرج منه إلا إلى الكنيسة، أو لتتمشى في مروج غرناطة وبساتينها، أو تزور آثار الدولة البائدة، وتتأمل عظمة مبانيها وجمال شوارعها وحوانيتها. تسير بين الناس هادئة محبة وديعة، جميلة، فأحبها الناس وأطلقوا عليها الراهبة الجميلة"[8]
لم يمنع الاختلاف العقيدي من وجود سمة التعاطف والتسامح التي تميز العلاقة مع الآخر المشارك في أرض واقع مغتصبة، ولا شبح الصراع القائم بين عقيدتين تحولانه إلى صراع على العقيدة والأهلية للبقاء في الأرض، وهو ما تأتي به تداعيات العلاقة بين الأمير العائد والفتاة القشتالية النصرانية، وسط الأحداث المتشابكة التي تلقي به في آتون المكان بشواهده القديمة وظواهره الجديدة التي تعمل على إذكاء شتى المشاعر المتضاربة، والتي جبلت عليها نفسه، وهو المطارد الذي لا يعرف عنه أحد شيئا، وكنموذج للبطل الذي يتهيأ لصناعة أسطورته الخاصة من رحم أسطورة بائدة، فتبدو السمات والنوازع الإنسانية لاستمرار الحياة وتحقيق الهدف/ حلم العودة والتمكن، وسط كل الظروف المناوئة والرياح المعاكسة التي يضعها الواقع/ النص الروائي أمام الشخصية لترسم ملامح بطولتها ربما غير المكتملة أو التي لا تقوى على مجابهة رياح البطش والتمكن، ولا مواجهة هذه الحالة من العشق المبرح التي تنمو وسط الأشواك والجحيم، وهو ما يتراءى لتلك الشخصية التي ربما انسلخت لحظيا عما جاءت من أجله، ليشتبك التاريخ مع الحاضر مع الخوف والرهبة من مستقبل مظلم في يقين الأمير العائد، لتشكل له الفتاة القشتالية عقدة جديدة من عقد وجوده، ومن ثم تحولات النص الروائي وانقلاباته، وسط هواجس الشخصية وجنوحها في مهب رياح وأمواج عاتية، وكملمح نفسي مهم يطل من ثنايا النص الروائي الذي يجنح إلى تصوير/ إبراز جماليات اللقاء الملتحفة بالمكان ومميزاته وعبق ما فيه من آثار قديمة، وملامح جديدة خلابة تأسر العقل والروح كما تجذبها آليات الحنين إلى الماضي حيث عطر الأجداد والأسلاف، وهو ما تؤكد عليه اللغة الوصفية التي تحاول الرواية تصديرها لتغلف الأحداث المادية القاسية التي يمر بها شخوصها الفاعلة والمفعول بها وسط هذا الحصار المادي والمعنوي:
الصراع الوجداني والصراع المادي:
"كيف له من وسط بنات حواء أجمعين أن يحب قشتالية نصرانية؟! كيف يعشق فتاة من هؤلاء الذين اغتصبوا بلاده، شردوا شعبه، نفوا أهله؟! يعلم جيدا ألا يد لها في ذلك، ولا حتى كانت راغبة في ذلك، لكن هل يستطيع أن ينسى أنها من سلالتهم؟!.. ماذا لو حدث هذا؟ كيف يكون رد فعل العرب؟ بل كيف يكون رد فعل عشيرتها؟ حتما سيكون هلاكهما معا، حتما سيقودونه وأبو عمر وزوجته لمحاكم التفتيش. ماذا لو علم أحد بأمره وأمرها فمنعهما من اللقاء مجددا؟ كيف يحيا بدونها؟ وقد أصبحت له كما الهواء لا حياة له إلا بها؟"[9]
تبدو سمات الصراع الوجدانية تنمو إلى جوار الصراع الدائر على العودة للوطن التي ربما اتخذت هنا منحى جديدا ومغايرا لماهية ما أتى من أجله البطل الجديد الذي تحول لعاشق متيم إلى جوار عشقه لأرض وطنه وملكه الزائل، تلك الإشكالية الدرامية التي يقدمها النص عبر قصة العشق المتخيلة تفاصيلها التي تعانق روح التاريخ وروح البشر الفرقاء الذين تحتويهم هذه الأرض، فتلفظ أحدهما وتستقطب آخر في جدل العلاقات المتضادة والمتحكمة فيها أطماع ومطامح على حد السواء، كما تجتمع فيها المذاهب والطوائف التي حلت بالمكان/ الوطن المسلوب، لتجعل كل ذلك حسرة في القلب، وهي ترصد مشاهد التحول والتغيير:
"ساروا حتى قصر الحمراء الذي شيَّده جده، وبالغ في الاهتمام به وتزيينه، ليصير تحفة معمارية إسلامية تشهد بعظمة المكان والزمان، انفطر قلبه عندما سمع الناقوس المعلق بأعلى المئذنة يدق، نظر لأعلى، رأى صليبا فضيا ضخما معلقا بدلا من الهلال، تحول المسجد لكنيسة أسموها (سانتا ماريا)"[10]
إلا أن رياح المواجهة تعمل على إجهاض الأحلام والتطلعات من خلال رموز المغتصب التي تتحكم في المشهد العام والخاص على حد السواء، لتبدو صورة البطل المنتظر تحت المجهر، وفي قبضة جلاديه وقاتلي أهله وذويه، استكمالا لمسيرة من التنكيل وإضرام النار في صراع غير متكافئ، بهذه الكيفية القدرية/ الميلودرامية التي يتجه بها النص الروائي نحو معادلته ونهاياته الدالة على الانغماس في السقوط في وهدة هذا الظلم الكبير الذي يتعرض له المطرودون من جنة الأندلس.
"ودعته ألفيرا، وذهب وهو يود لو يطوي الزمن ساعاته فيجتمع بها في أقرب وقت، ما كاد يمضي حتى أحاط به الجنود، قبضوا عليه، اقتادوه للمحققين بتهمة محاولة تغيير ديانة فتاة من النصرانية للإسلام، هي عندهم من أبشع الجرائم، اقتادوه إلى سجن غرناطة بالقرب من قصر الحمراء"[11]
هذه البداية نحو نهاية عاجلة يدفع بها النص الروائي بطله المنهزم، كي يؤكد على انعدام القيمة في ساحة للظلم ينصبها المغتصب ويتحكم فيها من خلال محاكم التفتيش التي صارت معلما رئيسا للاضطهاد والتنكيل، وكجسر عبرت عليه الرواية كي تضع تلك النهاية المأساوية/ التراجيدية للبطل المنتظر، والذي لم تسعفه كل الآمال ووقفت أمامه كل المجهضات دون علم حتى بأصله ووجاهته القديمة المتوارثة، والتي لم يبق منها سوى آثار ربما كان للعاشقة القشتالية دور مهم في الحفاظ عليها بعد الخلاص منه بتهمة التحريض على تغيير الديانة، في مقابلة صارخة وازدواجية مرضية مقابل حالة التنصير التي قام بها القشتاليون لمن كان على غير ديانتهم النصرانية، وهو ما يبرزه النص من خلال حوارات كثيرة تمثل مجالس محاكم التفتيش وقراراتها البشعة، لتكون النهاية/ البداية الجديدة كأثر على نحو ما تقول الساردة:
"ضمت الأندلس قبور ملوك بني الأحمر من قبل، ثم احتضنت الحفيد، تزينت غرناطة بقبر جميل وسط مقابر بني الأحمر، تم كساؤه بالرخام الأزرق الصافي، يتوسطه حفرة تتجمع فيها الأمطار فترتوي منها الطيور العطشى، فيكون القبر مكانا تهوي إليه الطيور، تؤنس ساكنه، وضعت على القبر لوحة رخامية مزخرفة دون عليها بكلمات: (هذا خبر آخر بني الأحمر) من صديقته الوفية بعهده حتى الموت (ألفيرا كريس)[12]
نهاية يوحد النص الروائي بين مصير الفتاتين (فاطيما، ألفيرا) كشخصيتين رئيستين مؤثرتين في صناعة الحدث الروائي، آبقتين من عذاب التنصير والتنكيل، والدخول في حالة الزهد، والحالة الروحانية المتوحدة كجوهر لكل العقائد: "انخرطت ألفيرا في خدمة الدير، تجد فيها راحة وسلوى تنسيها مشاغل العالم، أحست بأمان وسلام لم تكن تشعر بمثلهما من قبل، ما كان يعكر صفو سعادتها إلا عندما تخلو بنفسها، تتذكر أميرها وما حدث له، لم تكن صورته تذهب عن مخيلتها، تتخيله لا يزال حيا، يتجدد /لها بلقياه، ثم لا يلبث ذلك الأمل أن يضمحل، فتعود إلى البكاء عليه مجددا في خلواتها، ويختلج قلبها وصدرها، تتذكر أشجانها"[13]
تمثل شخصيتا: "فاطيما"، و"ألفيرا" ذاكرة قوية للرواية، تلك التي ارتبطت بنهايات دفعت بإحداهن للذوبان في هامش المكان، كمعادل ضمني لروح التسامح والمحبة والفداء، في حضن الدير كنوع من الهروب/ الخلاص رفضا لواقع أليم مزدوج ومخاتل، وتكريسا لذكرى الأمير/ العاشق في الوجدان، وتخليد قصته في قلبها، كما خلدته على شاهد قبر/ رمز، ربما أعاد له الاعتبار، وقد نسبت له بطولة استشهاده مغدورًا على أرض وطنه، وهي إحالة ضمنية نجح النص في التلويح بها لربط الماضي بالوجدان، والتاريخ بالحاضر الشاهد لنقل الصورة إلى مستقبل غير معلوم، كرسالة ضمنية للنص، وإن كانت الإشارات الأخيرة لتوحد الراهبتين في الحالة والظرف النفسي والقهري، أتت من الخارج، ولم يتم تفعيلها على أرض واقع الرواية المتخيل، الذي تحكم فيه صوت سارد خارجي/ راو عليم، بمستوى واحد للسرد، فلم يستفد النص من تقنية تعدد الضمائر لخلق حالة من المرونة والمراوحة والحيوية وإمكانية الدخول في زوايا نفسية حادة معبرة أو مواجهة ومحاكمة، للتعبير عن دواخل النفس من خلال تقنيات السرد المتعددة.